عبد الرحمن الكواكبي
"المستبد عدوّ الحق، عدو الحرية، والحق أبو البشر، والحرية أمهم، والعوام صبيةُ أيتام نيام"
عبد الرحمن الكواكبي
بقلم: عبد الله يوركي حلاق
آل الكواكبي من أعرق أسر حلب، ومن خيرة أهلها علماً وفضلاً وأدباً وجاهاً، نبغ منهم رجال وأشياخ تولّوا مناصبَ الإفتاء والقضاء والإدارة والتدريس، وتولّى بعضهم الوزارةَ والنيابة وعضوية المجمع العلمي العربي بدمشق، وانحصرت في هذه الأسرة نقابةُ الأشراف مدة من الزمن، ثم انتقلت من بيت الكواكبي إلى آل "الصيّاد" المعروفين بآل الصيّادي. وكان لآل الكواكبي مساجد وأوقاف ومدارس لا تزال تُعرف باسمهم إلى اليوم.
وقد اختلف المؤرخون في أصل تسمية هذه الأسرة باسم الكواكبي، فقال بعضهم: "إن السيد أبا يحيى عُرف باسم الكواكبي لأنه كان يعمل في الحدادة، ويُتقن صُنع المسامير التي تسمى الكواكب لاستدارتها ولمعانها، فنُسب إليها، ثم سلكَ مسلك المتصوفة، فنبه فيها شأنه، وتوافد عليه التلاميذ والمريدون ومنهم أمراء ورؤساء"(1)
ويُقال إن أبا يحيى كان يسمى "البيري" نسبة إلى "البيرة" على القرب من حلب. ويقول الأستاذ كامل الغزّي(2) في مجلة الحديث الحلبية: "إنه عُرف بالكواكبي لاتصال أحد أسلافه بآل الكواكبي من جهة النساء المعروفات بعراقة النسب".
وجاء في كتاب "إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء" تأليف محمد راغب الطبّاخ، المطبوع بحلب عام 1342هـ - 1923م والواقع في سبعة مجلدات ضخمة ما يفيد أنَّ عبد الرحمن الكواكبي ينتسب من أبويه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
والذي لاشك فيه، أن الأسرة الكواكبية، عريقة الأصل، كريمة المحتد، امتاز كثير من أبنائها بسعة العلم، وسموّ الخلق، ونزاهة القصد، وصدق الوطنية، ومحبة الخير والإحسان.
في هذه الأسرة الكريمة وُلد عبد الرحمن الكواكبي. وهناك اختلاف واضح في تاريخ مولده، فالأوراق الرسمية تقول إنه وُلد حوالي سنة 1265هـ - 1848م. أما ابنه الدكتور أسعد فقد قال: "إن أباه وُلد بعد ذلك بسنوات، وطلب تصحيح تاريخ المولد لدخول الانتخابات، وإنما كان مولده الثابت من سجلات الأسرة في سنة 1854م – 1271هـ(3).
ووالد عبد الرحمن، هو الشيخ أحمد الكواكبي، وكان رجلاً ذا صفات علمية وخُلقية عالية حببته إلى الناس، وجعلت له بينهم مكانة محترمة، وقد عني بتربية ولده وتثقيفه وزوّده بأكرم المناقب والسجايا، وبصفوة العلوم الدينية التي كان يجيدها ويلمُّ بأصولها وقواعدها.
أما والدة عبد الرحمن، فقد توفيت سنة 1276هـ - 1859م وهو صغير، فاحتضنته خالته صفيّة، فأقام عندها في أنطاكية إلى عام 1282هـ - 1865م. ثم رجع إلى حلب، ودخل المدرسة الكواكبية، وتابع الدراسة التي بدأ بها في مدينة أنطاكية، وكان يدرس على بعض أصدقاء أبيه اللغتين: التركية والفارسية ومبادئ الرياضيات، فاتّسعت معارفه، وقويت ثقافته العامة، ولكنه لم يقف عند هذا الحد، بل عكف على دراسة القوانين دراسة مكّنته من أن يبدي عليها بعض الملاحظات والانتقادات، وجعلت الحكومة بعد ذلك، تعيّنه عضواً في لجنة امتحان المحامين.
في تلك الحقبة من القرن التاسع عشر، وعلى وجه التحديد في الثلث الأخير منه، كانت معظم البلاد العربية ترزح تحت أعباء الحكم العثماني، وتقاسي من جور الحاكمين وعسفهم ما كاد يقضي على العروبة، فلغة الضاد التي سادت جزيرة العرب وشمال إفريقيا وبلاد الشام والعراق بضعة قرون، والتي امتدّت من حدود الهند شرقاً، إلى قلب الأندلس غرباً، والتي كانت لغة العلم والأدب والفلسفة والمنطق في بيت الحكمة ببغداد، وفي المسجد الأزهر بالقاهرة، وفي جامعات قرطبة وإشبيليا والزهراء، دبَّ إليها الضعف، وانتابها الوهن، ولم تعد تسمع في قصور الخلفاء، ودواوين الحكومة غير اللغة التركية، لغة السلاطين المتربعين على عرش آل عثمان.
في ذلك العصر الذي بلغت فيه الدولة الحاكمة أوجَ عزّها، بدأت أذهان العرب تتفتّح على آفاق الوعي القومي، وراحت هممهم تتحفّز للوثوب على أولئك الذين قيّدوهم بسلاسل الظلم، وعملوا على خنق لسانهم الحبيب وتفريق عنصرهم الواحد.
في زحمة هذه الفوضى الاجتماعية الصارخة، وفي هذا الغليان الفكري العنيف، اشتدّت معارضة الساخطين على ذلك الوضع السياسي الشاذ، وأطلّ من أفق الإنقاذ، مصلح صادق، وعربي صميم، آلى على نفسه أن يناضل في سبيل الحق والحرية والعروبة والإسلام، ولا يُبالي بعد ذلك، عاش أو مات، فحياة الذلّ موت، وميتة العزّ حياة، والمناضلون المجندلون على أقدام الواجب الوطني والإنساني، أحياء عند ربهم يرزقون.
بهذه العقيدة العربية الصادقة، نزل عبد الرحمن الكواكبي إلى ميدان الجهاد، وبهذه الروح النبيلة اندفع إلى مثله الأعلى. فأمّ اللغات يجب أن تظلّ جليلة القدر، والقومية العربية ينبغي أن تبقى مصونة من كيد الكائدين وعبث العابثين، فعلى مفكري العرب إذن، أن ينبّهوا الأفكار، ويشدّوا العزائم، وأن يعملوا بكل ما أوتوا من جهد وعلم وإخلاص، على إبعاد المحتل، ونيل السيادة والاستقلال.
والكواكبي خير مَن يعمل في هذا الحقل، فقد حلاّه الله بالجرأة وطلاقة اللسان وطهارة الوجدان، وهذه المزايا الثلاث، من أبرز مستلزمات الزعامة ومؤهلات القيادة.
ولم تكن المجاهرة بالحق أمراً يسيراً، في زمن كان الناس يعتقدون فيه، أن السلطان من صُلب الآلهة، وأن بين يديه رقاب العباد، ومقدّرات البلاد، غير أن الكواكبي أطلق صيحته من أعماق قلب أقوى من الفولاذ، وحمل على الطغاة والمستبدّين حملات صادقة ما زالت تذكر له بمنتهى الإعجاب.
أول ما سعى إليه عبد الرحمن الكواكبي، هو إصلاح مجتمعنا الذي كان يسوده الفساد، وتسيطر عليه ألوان قاتمة من الخرافات والتقاليد البالية والبدع المغايرة لتراثنا الأصيل، ولمبادئنا القويمة. ثم أخذ يكافح بلا هوادة مظالم العثمانيين واستبدادهم ومغالاتهم في القضاء على حرية المواطنين العرب، ومحاولات تتريكهم والعبث بحقوقهم، وسلب أرزاقهم وخيرات بلادهم، والتفنّن في فرض الضرائب الباهظة عليهم، وسجن أو تعذيب أو مصادرة أموال من كان يتأخّر أو يمتنع عن تأدية تلك الضرائب التي كثيراً ما تكون فوق طاقة المكلّفين بها.
وكان الكواكبي يرى أن الخلافة هي من حق المسلمين العرب، لا من حق العثمانيين الغرباء عن اللغة العربية التي أنزل الله بها القرآن الكريم. ولهذا كان يدعو إلى الخلافة العربية القرشية، ويعمل جاهداً على إضعاف خلافة عبد الحميد، ولعل هذه الفكرة دفعته إلى وضع كتابيه المشهورين: "أم القرى" و"طبائع الاستبداد" أما الكتاب الأول فقد تخيّل المؤلف فيه مؤتمراً سريّاً إسلامياً انعقد في مكة المكرمة، بحضور مندوبين يمثّلون المسلمين في الأقطار العربية، والبلدان الإسلامية كالأفغان والباكستان وإيران، وفي كل أمة تضم شعوباً ينتمون إلى الدين الإسلامي كالهند والصين، وجعل كل مندوب يبيّن حالة أبناء ملّته في القطر أو البلد الذي يقيم فيه، ويقترح ما يجده مفيداً لهم وللإسلام كافة.
وخلاصة ما يمكن أن يقال في هذا الكتاب الذي هو باكورة أعمال الكواكبي القلمية، إنه دعوة صريحة إلى جامعة إسلامية تشدّ أزر الإسلام وتهتدي بهديه، وتقف في وجه التيارات المنافية لدستوره وأحكامه، وقد عرض الكواكبي في كتابه هذا، آراءه الدالة على تعلّقه الشديد بشريعته السمحة، وبما يجب أن يكون عليه المسلمون من تكاتف وتآلف وتمسّك بأهداب العلم، وبكل ما يجعلهم أمة قوية يحسب لها ألف حساب في الميزان الدولي.
وذكر معاصرو الكواكبي كالشيخ كامل الغزي، أن الكواكبي ألّف كتابيه "أم القرى" و"طبائع الاستبداد" قبل سفره إلى القطر المصري في منتصف شهر تشرين الثاني 1898م – 1316هـ وقد أيّد ذلك حفيده وسميُّهُ الدكتور عبد الرحمن الكواكبي في الطبعة الأخيرة من كتاب "أم القرى" التي أصدرها سنة 1959 فقال: "إن جدي رحمه الله، ألّف "أم القرى" و"طبائع الاستبداد" قبل هجرته إلى مصر، وكان عمي الدكتور أسعد الكواكبي يتولى تبييض "أم القرى" له في حلب". وقد صُودرت بعض طبعات هذا الكتاب، ولكنّ الناشرين أعادوا طبعه لكثرة إقبال الناس على مطالعته.
والمعروف أن كتاب "طبائع الاستبداد" يتضمن انتقادات لاذعة موجهة إلى حكام الآستانة الذين استأثروا بالخلافة العربية، وقد اتهمهم بالتواطؤ مع الدول الأجنبية على التنكيل بمسلمي الأندلس ومسلمي الإمارات الآسيوية(4).
ويعدّ هذا المؤلف آية الكواكبي وزبدة تفكيره الإصلاحي، وكان قبل طبعه في كتاب، يتألف من سلسلة مقالات نشرها لأول مرة في جريدة المؤيّد لمنشئها الشيخ علي يوسف الذي عُرف بشيخ الصحافة الإسلامية في عصره(5) وكان الكواكبي يتناول في كل حلقة من حلقات هذه السلسة الانتقادية، لوناً من ألوان الاستبداد، فيذكر مساوئه ويظهر خطره على الأفراد والجماعات، ويعدد تأثيره في تأخر الأمم وتفكك الشعوب، وتدهور الأخلاق، والقضاء على الحق والعدالة، ولم يفته أن يمهّد لمنشوراته بتعريف الاستبداد، وبما هدم من صروح حضارية باذخة.
ومما جاء في "طبائع الاستبداد" قول مؤلفه: "ما وجد من مخلوقات الله من نازع الله في عظمته، فالمستبدون من الإنسان ينازعونه فيها، والمتناهون في الرذيلة، قد يقبحون عبثاً لغير حاجة في النفس، حتى قد يتعمدون الإساءة لأنفسهم".
وكان من البديهي أن يحدث هذا الكتاب، ضجة عظيمة في المملكة العثمانية كلها، فقد بلغت الشجاعة بصاحبه حداً لم يخش معه نقمة السلطان، ولا غضبة أعوانه من الوزراء والولاة والحكام.
ولم يكن الكواكبي غريباً عن النقد البنّاء، ولا عن مهاجمة الظالمين والمستغلين ومحبّي الرشوة، وكان يدأب على بث تعاليمه ونشر آرائه ونظرياته السديدة في الدين والوطنية والأخلاق، وعندما عمل في الصحافة في مسقط رأسه وقبل رحيله عن بلده، سخّر صوتها الجهير لخدمة الحق وإنصاف المظلومين من إخوانه وأبناء جنسه، وكانت كتاباته دروساً قيّمة، يطالعها قرّاؤه بشوق وشغف، وتتناقلها الأيدي لتتلى في بيوتات وجوه القوم، وأصحاب العقيدة العربية الخالصة.
وفي 10 أيار 1877 –أي منذ مائة سنة ونيّف- صدرت جريدة "الشهباء"* أسبوعية عامة، لصاحب امتيازها هاشم عطار، وطُبعت في المطبعة العزيزية، ثم انضمّ إليه عبد الرحمن الكواكبي وميخائيل بن أنطون صقال، واشتركوا معاً في إصدارها(6) وهي أول صحيفة صدرت في حلب بعد الصحيفة الرسمية "الفرات" التي أنشأها جودت باشا والي حلب سنة (1284هـ - 1867م).
وما كادت الحكومة تلمس في صحيفة الشهباء بعضاً من النقد والتأنيب حتى أمرت بتعطيلها، ولكن الكواكبي لم ييئس، بل أصدر في 25 تموز 1879 جريدة "الاعتدال" واعتقد أولو الشأن يومئذ أنه سيلزم خطة الاعتدال كما يشير إلى ذلك اسم جريدته، بيد أنه بقي مثابراً على توجيه النقد وتنبيه الأذهان إلى المطالبة بما كان يعتقده حقاً وصواباً، ولهذا لم تعش جريدة "الاعتدال" أكثر مما عاشت أختها صحيفة "الشهباء".
في ذلك الحين الذي حيل فيه بين الكواكبي وبين مواصلة جهاده في مضمار الأدب والإصلاح، شدّ الرحال إلى سواحل آسيا الغربية، وزار بعض موانئ الهند، ثم زار السودان وشواطئ أفريقيا الشرقية، وطاف في الحبشة وزنجبار ودخل قلب الجزيرة العربية، وأخيراً قصد القاهرة وطبع فيها "أم القرى" و"طبائع الاستبداد" وهما كتابان ألفهما في حلب، وخرج بهما منها، ثم أضاف إليهما ما خطر له من أفكار، قبل أن يُقدم على طبعهما.
وفي مساء يوم الخميس 14 حزيران 1902م الموافق 5 ربيع الأول 1320هـ بينما كان جالساً كعادته في مقهى (يلدز) قرب حديقة الأزبكية مع نخبة من أصدقائه وخلاّنه شعر بألم في أمعائه فقام حالاً وقصد داره مع ابنه كاظم وظل يقيء إلى قرب منتصف الليل، وعندئذ أصيب بنوبة قلبية اشتدّت عليه حتى سلبته حياته.
وحينما زرتُ القاهرة في شهر نيسان 1974 بصحبة جمعية العاديات التي يرئسها حفيده القاضي الكبير الأستاذ سعد زغلول الكواكبي، ذهبتُ معه ومع الصديق الأستاذ محمد كامل فارس، فزرنا ضريح المرحوم عبد الرحمن الكواكبي، وهناك في سفح المقطّم وفي مدفن باب الوزير وقفنا بخشوع أمام مثوى ذلك المناضل الأبيّ، وقرأنا على الصفحة المرمرية المحيطة بالضريح هذين البيتين اللذين نظمهما خصيصاً له شاعر النيل حافظ إبراهيم:
هنا رجل الدنيا، هنا مهبطُ التُّقى هنا خيرُ مظلومٍ، هنا خير كاتبِ
قفوا واقرأوا أمَّ الكتابِ وسلّموا عليه، فهذا القبرُ قبرُ الكواكبـي
حقاً لقد كان عبد الرحمن الكواكبي بطلاً من أبطال الأدب والإصلاح الاجتماعي، حارب الفساد، وكافح الانقسام، وصقل الأفكار، وسعى إلى توحيد كلمة العرب والمسلمين، ولم يبال بما لحقه من ظلم، وبما أصابه من جور وتشريد، بل ثبت وصبر وتابع تأدية رسالته المشرفة، فاستحقَّ الإجلال والإكرام.
(1) الرحالة "كاف" عبد الرحمن الكواكبي بقلم عباس محمود العقاد ص 32.
(2) مؤلف كتاب "نهر الذهب في تاريخ حلب" وكان عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق.
(3) الرحالة "كاف" عبد الرحمن الكواكبي ص40.
(4) كتاب الرحالة "كاف" ص 86.
(5) ولد الشيخ علي يوسف عام 1863 وتوفي بالقاهرة عام 1913.
(6) تاريخ الصحافة العربية تأليف الفيكونت فيليب دي طرازي ج2 ص200
* كتب هذه الترجمة في مجلته: "الضاد" الحلبية عام 1977.