د. عدنان النحوي

        د. عدنان النحوي            بقلم: حسني أدهم جرار

الدكتور عدنان النحوي مهندس شاعر من رواد الشعر الإسلامي المعاصر في فلسطين.. وأديب ناقد ومفكّر داعية، صاحب عطاء ثرّ في الشعر والنثر قاربت كتبه على الستين كتاباً في الأدب والشعر والفكر والدعوة إلى الله.. إنه أديب إسلامي.. بل هو مثال الأديب الإسلامي، فكراً، وشعراً، وأدباً، وسلوكاً، وأخلاقاً..

حياته:

وُلد عدنان النحوي في مدينة صفد في فلسطين عام 1928م، ونشأ في بيت علم وجهاد.. فوالده علي رضا النحوي من أعيان صفد ومن المجاهدين البارزين الذين قادوا الثورة ضد الإنجليز في الثلاثينيات من هذا القرن، فلاحقه الإنجليز ونسفوا بيته خلال ثورة 1936م.. وأسرته تنتسب إلى عالم جليل اشتهر بين الناس بصفته العلمية "النحوي" وصارت تلك الصفة علماً له ولأسرته من بعده.

في قلعة صفد الشامخة التي تطلّ على نهر الشريعة تربّى عدنان، وفي أحضان الطبيعة الجميلة كانت طفولته المبكرة، وفي مدارس صفد وعكا أنهى تعليمه الابتدائي والثانوي، والتحق بالكلية العربية في القدس القائمة على جبل المكبر سنة 1944م حيث كان يجتمع فيها الأوائل من مدن فلسطين، وحصل على شهادة الاجتياز إلى التعليم العالي بامتياز سنة 1946م ثم على مترك لندن بالدرجة الأولى سنة 1947م، ثم على دبلوم الكلية العربية (دار المعلمين) سنة 1948م.

ولم تكن سنوات دراسة عدنان لتمر بهدوء، فقد كان الاستعمار البريطاني يجثم على أرض فلسطين، وكانت بريطانيا تعتبر فلسطين بلداً بلا شعب، وتستهدف أن يكون شعبها من اليهود، فقد سنّت قانون الهجرة اليهودية الذي فتحت به أبواب فلسطين لليهود من جميع بقاع الدنيا وسائر أنحاء الأرض.

ومضت السنون ثقيلة الخطى مليئة بالأحداث الجسام، وقدّم أبناء فلسطين كثيراً من التضحيات في معارك غير متكافئة ضد قوى عالمية.. وحلّت النكبة الأولى بأبناء فلسطين عام 1948م، وذاق عدنان وأهله وأبناء وطنه طعم التشرد واللجوء، وأُبعد عن وطنه وأُخرج من دياره، واضطر مكرهاً أن يعيش في مختلف البقاع يرنو بأبصاره إلى أرضه ومقدساته، وينتظر اليوم الذي تبدأ فيه جولة الحق وينتصر فيه جنود الإيمان وتعلو كلمة الله.

لقد كانت آماله أن يواصل درب العلم، ولكن الأحداث المبيتة مع انتهاء الانتداب البريطاني أدّى إلى تسليم البلاد إلى اليهود، فنزح مع أهله إلى دمشق وعمل مدرساً فيها مدة خمس سنوات، ثم تعاقد مع الكويت وعمل مدرساً لمدة ثلاث سنوات. وفي عام 1956 توجّه إلى القاهرة ودرس الهندسة الإلكترونية وتخرّج فيها عام 1961م، وعاد إلى سورية وعمل مديراً لإذاعة حمص، وفي عام 1964 تعاقد مع وزارة الإعلام السعودية وتوجّه إلى الرياض وعمل مديراً للمشاريع الإذاعية مدة تزيد على خمسة عشر عاماً..

وخلال هذا العمل زار الأقطار العربية في شمال إفريقيا، وطاف عدداً من البلدان الأوربية، ودرس اللغة الفرنسية في فرنسا من خلال دورة علمية فنية.. وكان خلال هذه الفترات يقوم بدراسات خاصة في الأدب والقانون والشريعة الإسلامية.

وقد مُنح الجنسية السعودية في سنة 1978م.. وفي تلك السنة دخل في صراع مع المرض في شرايين القلب، وأجريت له عدة عمليات، واتجه إلى العمل الحر، ثم توقف عن العمل، وتفرّغ للدراسة والبحث والتأليف.

وكانت تلك الفترة أغنى فترات العطاء في حياته، وأغنى سنوات الدراسة والبحث في علوم شتى.. فقد تابع دراسة مذاهب الفكر الأوروبي، ودراسة الأدب ومذاهبه، وتابع التحصيل العلمي في هندسة الاتصالات، فنال شهادة الماجستير والدكتوراه في ذلك، وتابع دراسة الأدب العربي في النقد والشعر، ودراسة القرآن والسنّة والتاريخ الإسلامي، وبعض العلوم الأخرى، ودراسة الواقع وأحداثه من مراجع عربية وأجنبية..

هذا موجز عن حياة شاعرنا النحوي، يلقي ضوءاً عن نشأته وشبابه وكهولته.. وعن المعاناة التي مرّ بها، والميادين التي خاضها، والبلاد التي زارها أو عاش فيها.

نشاطه:

عدنان النحوي.. أديب متعدد النشاط، وداعية جمع بين القول والعمل.. بدأ نشاطه الفكري والسياسي مع بواكير نشأته، وربما كان للبيئة أثرها في ذلك، فنشاط والده السياسي والسفر والترحال، وكثرة اللقاءات والاجتماعات، ومكتبة العائلة وتراث الأجداد، والاتصال بعدد من أهل الرأي والفكر، كل ذلك أثّر في نشأته واتجاهه، ظهر نشاطه في الأربعينيات –وهو حديث السن- في أجواء الطلبة في لقاءات ومظاهرات واتصالات مع رجالات فلسطين وقادتها، ونضج هذا النشاط على صورة أوسع مع الهجرة إلى دمشق ومرارة اللجوء، وأخذ الصورة الإيمانية مع عام 1953 حين بدأ النشاط في الدعوة الإسلامية.. ومن هذا المنطلق كان الجهد والعمل والإنتاج في الكويت ومصر وسورية.. ومن هذا المنطلق كان الإنتاج الفكري في الكتب التي صدرت، والإنتاج الأدبي في الدواوين والملاحم..

هذا هو عدنان النحوي.. داعية مفكر يدعو المسلمين إلى منهاج واضح قائم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.. يدعوهم إلى الجهاد، ويدعوهم إلى التفاهم والتلاقي في ميادين الدعوة.. وتحسّ في دعوته هذه: سمو الروح، وتلهّب العاطفة، والعقل الواعي، والقلب الذكي، والإيمان العميق الراسخ، وشموخ المسلم في وجه الأعاصير، ورؤية واضحة، يرسم من خلالها الطريق ليكون لاعباً، ويضع على جانبيه المعالم والصُّوى حتى لا يضل السائرون.

وهو كاتب مجدّ وجاد من الطراز الأول، وقارئ مجد وجاد من الطراز الأول كذلك.. يقرأ ما تصل إليه يده، قراءة الدارس الواعي، ويعلق على ما يقرأ ويقدّم النصيحة..

لقد امتد نشاطه مع الحياة.. فكان في الشعر والأدب والدراسات الإسلامية والسياسية والاجتماعية والتاريخية.. وكان في المراكز العلمية والفكرية والأدبية والسياسية التي انتسب إليها وشارك فيها، ومن هذه المراكز:

- مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية في عمان – الأردن.

- الندوة العالمية للأدب الإسلامي – لكنهو – الهند.

- رابطة الأدب الإسلامي العالمية.

- رابطة الأدب الحديث – القاهرة.

- نادي الأهرام للكتاب.

- الهيئة العربية العليا لفلسطين.

- معهد المهندسين الكهربائيين في لندن.

- دار النحوي للنشر والتوزيع – التي أسسها وصار مديراً لها.

وقد زار عدداً من البلدان العربية والإسلامية والأجنبية، وحضر عدداً من المؤتمرات والندوات في تلك البلدان، وألقى محاضرات أدبية وفكرية وإسلامية في الأندية والمؤسسات الثقافية والجمعيات، وشارك في عدد من البرامج في الإذاعة والتلفاز، وقد قام عدد كبير من الأدباء والكتاب بالكتابة عن مؤلفاته الفكرية والأدبية في كثير من الصحف والمجلات والكتب والإذاعات.

مؤلفاته الفكرية:

أصدر عدنان النحوي ستة عشر كتاباً في الدعوة إلى الإسلام.. تحدّث فيها عن النهج العام والنظرية العامة في الدعوة الإسلامية، بعضها بالإيجاز وأكثرها بالتفصيل. وقد ترجمت بعضها إلى لغات أخرى، وأصدر خمسة كتب عرض فيها أهم قضايا التوحيد في واقعنا المعاصر، وعشرة كتب وضّح فيها بعض القضايا الفكرية في الواقع.

إنتاجه الأدبي:

أولاً: له ستة كتب تدرس الأدب الملتزم بالإسلام والنقد الأدبي، وترد على المذاهب الأخرى، وهي:

1 – كتاب الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته.. عرض فيه نظرية الأدب الإسلامي وخصائصه وأهدافه، وأسس النصح والنقد فيه، وعرض في دراسة مقارنة مذاهب الأدب العربي والحداثة وخطرها، وقدّم فيه دراسة إيمانية عن الجمال ونظريته في الإسلام، وقدّم تصوراً جديداً للملحمة في الأدب الإسلامي، وعرض نظرة جديدة لولادة النص الأدبي وجماله، والأسس التي توفر للأدب الإسلامي عالميته وإنسانيته.

2 – كتاب النقد الأدبي المعاصر بين الهدم والبناء.. عرض فيه لتاريخ النقد الأدبي ابتداء من عصر اليونان وتاريخ النقد عند المسلمين حتى عصرنا الحاضر، ثم عرض القواعد الأساسية في النقد الأدبي من خلال التصور الإيماني ليكون النقد نصحاً وعاملاً بانياً لا هادماً.

3 – كتاب أدب الوصايا والمواعظ في الإسلام.. منزلته ونهجه وخصائصه الإيمانية والفنية.

4 – كتاب لماذا اللغة العربية.. يبحث فيه منزلة اللغة العربية في الإسلام، وتميزها من سائر اللغات.

5 – كتاب الحداثة من منظور إيماني.. يتحدث فيه عن الحداثة وعن نشأتها وحركاتها، وعن أخطارها وعن تسللها إلى المجتمع الإسلامي.

6 – كتاب تقويم نظرية الحداثة وموقف الأدب الإسلامي منها.

7 – ديوان الأرض المباركة.. وهو أول ديوان للشاعر يجمع شعره منذ بواكيره الأولى سنة 1942، ويحتوي على قصائد في الوصف والرثاء، وقضايا الأمة المسلمة.

8 – ديوان موكب النور.. يحتوي على قصائد تدور حول أحداث العالم الإسلامي.

9 – ديوان جراح على الدرب.. يحتوي على قصائد تصف سقوط أمة.

10 – ديوان مهرجان القصيد.. يحتوي على قصائد متنوعة في ميادين الحياة.

11 – كتاب ملحمة فلسطين.

12 – كتاب ملحمة الأقصى.

13 – كتاب ملحمة الجهاد الأفغاني.

14 – كتاب ملحمة البوسنة والهرسك "الجريمة الكبرى".

15 – كتاب ملحمة الإسلام في الهند.

16 – كتاب ملحمة القسطنطينية.

17 – كتاب ملحمة الغرباء.

رحلته مع الشعر:

نشأ عدنان مفطوراً على الشعر، وبدأ نظمه مبكراً، فكان ينظم أبياتاً من الشعر منذ كان يدرس في الصف السادس أو السابع الابتدائي في مدينة صفد ومدينة عكا، حين كان بعض زملائه الطلاب يطلبون منه أن ينظم لهم أبياتاً شعرية في مناسبات تخصهم، وكان يدعى لإلقاء بعض القصائد من الأدب العربي أو الأدب الإنجليزي مما كان يحفظه أمام طلاب المدرسة أو في بعض المناسبات المدرسية واحتفالاتها في صفد وعكا، وكان ذلك بين سنتي 41 – 1942م.

وكان منذ صغره شغوفاً بالمطالعة والقراءات الخاصة في أوقات الفراغ وفي الإجازات المدرسية.. كان يقرأ للمنفلوطي والرافعي والعقاد وغيرهم من الكتّاب. وكان شغوفاً بقراءة ديوان الحماسة لأبي تمام، وأشعار محمود سامي البارودي وشوقي وحافظ والأخطل الصغير.. وكذلك أشعار المتنبي والمعري وابن الرومي والمعلقات العشر، وغير ذلك مما يقع بين يديه.

وكان يقضي ساعات غير قليلة مع كتب اللغة والأدب في مكتبة والده ومكتبة آل النحوي.. فقد كانت مصادر العلم والثقافة حوله غنية، ينهل منها بشوق ومتعة على قدر ما يسمح به سنّه آنذاك.

أخذ ينظم الشعر قبل أن يدرس العروض، وكان يردد بعض الأبيات مع زملائه في النزهات وأوقات اللهو والمرح، ولم يكن ينشر ما ينظم من شعر مع أهمية موضوعاته، وكثير منه كان سياسياً يواكب أحداث البلاد الهائجة..

ولم يكن حريصاً على نشر ما ينظم من شعر، وربما كان ذلك لعدم وجود صحف محلية في صفد وعكا، أو لعدم توافر وسائل التشجيع.. وكان أول ما نظم من شعر خلال السنوات 1941 – 1943م، وقد فقد معظمه، ونشر ما بقي منه في ديوان الأرض المباركة.

وبعد أن أنهى دراسته الثانوية، وقع عليه الاختيار للدراسة في "الكلية العربية" في القدس.. وهناك حيث الموقع الساحر الجميل، والحدائق الغنّاء، والمناظر الطبيعية الخلابة، نما الشعر عند عدنان وامتد عطاؤه، وكان الأستاذ الذي يدرّسهم الأدب والعروض يشجعهم على نظم أبيات من الشعر في أي موضوع يرغبه الطالب، فنظم عدنان أبياتاً في وصف الكلية العربية فسرّ بها المدرّس، وواصل عدنان نظم الشعر في تلك السنوات (1944 – 1947).

ولما وقعت النكبة عام 1948، هاجر مع أهله إلى دمشق، وحمل معه بعض أوراقه وشعره، وأخذ الشعر يلحُّ عليه بصورة أقوى بعد أن وضحت المأساة وتكشّفت الجريمة التي حلّت بشعب فلسطين.

وعمل عدنان مدرّساً في دمشق، ثم انتقل إلى الكويت عام 1953م وكانت الكويت في لك الفترة تموج بشتى الاتجاهات الفكرية.. وكانت فرصة له يطلع من خلالها على عدد من الكتب الفكرية.. ووضحت السبيل أمامه بعد دراسة وتأمل وحوار واستماع، ونما الفكر الإسلامي عنده حتى أصبح منهج حياة بعد أن كان عاطفة قليلة الزاد، وأخذ الزاد ينمو ويزداد مع مسيرة الحياة ومتابعة دراسة القرآن والسنة والإطلاع على أبواب متعددة من العلوم والفكر.

ونما الشعر عنده واستقر دربه، حتى أصبح بما فيه من جمال وكلمة طيبة عُدّة وسلاحاً في درب الحياة.. وانطلق الشعر بعد ذلك وهو يحمل له مفهوماً مجدداً نابعاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأصبح له من خلال هذا المفهوم الإيماني رسالة ومهمة تدفعه إلى بناء حياة الإنسان في الأرض على طهر وأمن وعزة وجهاد.. ونما الشعر على هذا النهج مع نمو الزاد في مسيرة الحياة مع العودة إلى سورية، ثم الانتقال إلى الرياض حيث استقر به المطاف، ولما ترك العمل والوظيفة على أثر المرض، وبعد أن نشر ديوانه الأول "الأرض المباركة" تدفّق الشعر وتدفّق النثر عنده.. وأصبح الشعر والنثر يعملان معاً على نهج واضح محدد، نهج مشرق بالإيمان..

ومضى الشعر مع عدنان وصفاً ورثاءً وسياسة وملاحم، وفكراً وأدباً وغير ذلك من أبواب الشعر، في رحلة طويلة استغرقت أكثر من خمسين عاماً، وما زالت مستمرة، خاض فيها ميادين واسعة في الحياة، كلها مفتحة للشعر والنثر.

شعره:

عدنان النحوي شاعر أصيل، يتميز بتجربة شعرية عميقة، وموسيقى شعرية جميلة عذبة، وعاطفة شعرية صادقة.. الشعر عنده ليس معاناة احتراف، ولا محاولة لإثبات وجود في كل مناسبة تسنح، وإنما هو نبض وجدانه، ومعاناة عاطفته، وفيض مشاعره، وذوب فكره، إنه يسري في جسده مسرى نفسه، فليس عنه غناء، وليس منه بد..

إنه شاعر إسلامي من طراز رفيع.. معانيه إسلامية، وموضوعاته بين الوطنية والإسلامية، وخياله وصوره وأساليبه كلها تدور حول الإسلام وتأخذ من القرآن، وتستمد أصالتها من روح الدين.. إنه أحد أفذاذ شعراء فلسطين، وشعراء العرب المعاصرين.

معظم شعره يدور حول فلسطين، وحول قضايا العالم الإسلامي.. شعره في فلسطين ومأساتها شعر خالد، وشعره الإسلامي والوطني صورة رائعة لحاضرنا الدامي..

وله شعر ملحمي، تاريخي وسياسي تحدّث فيه عن الأحداث التاريخية، والمآسي المؤلمة، وله شعر اجتماعي تحدّث فيه عن العادات الاجتماعية واللمسات الإنسانية، وله شعر جميل في الوصف والمراثي، وغير ذلك من فنون الشعر.

عدنان النحوي.. والأدب الإسلامي:

النحوي أديب شاعر.. له مجموعة كتب تحدّث فيها عن رسالة الأدب الإسلامي.. وقدّم من خلالها مفهومه للأدب ومفهومه للشعر.. وعرّف الأدب الإسلامي بقوله(1):

"الأدب الإسلامي هو ومضة التفاعل بين الفكر والعاطفة في فطرة الإنسان، تمدّها الأحداث والتجارب والزاد والحصاد بالشحنات التي تنمو على الفكر وعلى العاطفة، يروّي هذه كلها الإيمان والتوحيد اللذان يطلق نبعَهُما صدق النيّة وإخلاصها، حتى تحين اللحظة المحددة بقدر الله فتطلق الموهبةُ التفاعلَ بين شحنتي الفكر والعاطفة، فتنطلق الومضة الغنية من هذا التفاعل عملاً فنياً ونصاً أدبياً، تحمل معها عناصر الجمال الفني، ليشارك الأدب الإسلامي الأمة المسلمة في الوفاء بأمانتها وأداء رسالتها وتحقيق أهدافها، وليسهم الأدب الإسلامي في عمارة الأرض وبناء حضارة الإيمان".

والأدب الإسلامي عند شاعرنا هو أدب الجمال، وهو أدب الإنسان، وهو أدب الإيمان.. فالجمال يبدأ في نفس الإنسان، في داخله وذاته.. والجمال في فطرة الإنسان يرتوي من الإيمان والتوحيد، ويتغذى بتعاليم الإسلام، ويلتزم بالمنهج الإسلامي.. ومن هذا التصور يصل الأدب الإسلامي الماضي والحاضر والمستقبل نوراً يهتدي به الإنسان، ويصبح الأدب قوة في رسالة ودعوة، وعدّة في وثبة وجهاد، وعزّة في أمن وسيادة، وحاجة ملحة للإنسان على الأرض..

وهو يرى أن الأدب الإسلامي أدب جهاد في سبيل الله، تفتحت له كل ميادين الكون، ليرتفع بالبيان الرائع إلى دورة الأدب الإنساني، وليكون هو الأدب الحق في الحياة الدنيا(2):

عزّة فيه! إنه أدب الإسلام، غرس الإيمان، ريّ العهود، شرفُ القول من هُدى الحق، وسحرُ البيان بالتوحيد. أدب يرتوي البيان لديه، من حديث، من الكتاب المجيد، هو في الكون آية حوّم المجد عليها فعادت روائع من نشيد.

أما الشعر عند شاعرنا النحوي فهو الكلام الموزون المقفّى.. وهو نوع من التعبير الفني له عناصره الفنية الخاصة به، يهبه كل عنصر درجة من الجمال، حتى يرقى إلى المستوى الذي يستحق معه أن يسمّى فناً وأدباً، وتقوم صياغته ويمضي أسلوبه على نحو متميز بسبب الوزن والقافية، ويكون الوزن والقافية على النحو الذي استقرّت عليه قواعد اللغة العربية في تاريخها الطويل.. فالوزن والقافية أمران أساسيان في الشعر العربي، وهو يرى أنهما أساسيان في كل شعر، دون أن يلغي هذا ضرورة الجمال الفني الذي تحمله العناصر الفنية الأخرى، وكل ما يمكن تطويره في هذا الميدان هو تغيير القافية بعد عدد من الأبيات، أو على نسق فني جميل يحفظ للقافية دورها في بناء الشعر، وكذلك يمكن استخدام أكثر من بحر شعري في عمل فني كالمسرحية الشعرية أو القصة الشعرية، وفي كل حالة لابد من المحافظة على عدد التفعيلات من كل بحر على النحو الذي وصلنا في اللغة وتاريخها وعلم عروضها(3).

والنحوي يرى أن الوزن والقافية جزء رئيس من خصائص الشعر الفنية، لأنهما نمَوَا معه من خلال تاريخ طويل حتى نضج شكله واستوى، وفتح مجالات واضحة لتغيّر الوزن والقافية، مجالات كافية لانطلاقة غنية إيمانية، فالوزن والقافية شرف لهذا النوع من القول، وسيبقى شرفاً له ما بقيت اللغة العربية ولا يمكن اعتبار الشعر الحديث، المنثور وصاحب التفعيلة شعراً أبداً.. إنه إذا استطاع أن ينهض لمستوى الأدب فهو نثر لا علاقة له بالشعر، فالوزن والقافية عند الشاعر المتمكن من اللغة مرشدان هاديان لجواهر اللغة ولآلئها.. إنهما يفردان اللغة كلها للشاعر، ويفتحان له كل أبوابها، وينثران أمامه كل جواهرها ودورها، ثم يرشدانه إلى الأعلى الأعلى، والأصفى الأصفى، ليأخذ الشعر جماله الفني المتميز، إن الوزن والقافية عون للشاعر الحق لا عقبة أمامه، وشرف للشعر لا عيبٌ فيه.

وحول هذا المفهوم الواضح للشعر.. ومن خلال الآراء التي أثارها الحداثيون لهدم هذا المفهوم، نظم شاعرنا قصيدة رائعة بعنوان "لآلئ الشعر" ردّ فيها على الحداثيين، وسفّه آراءهم، ودعا إلى الثبات على الأسلوب العربي الأصيل.. وقال في هذه القصيدة(4):

يقـول: ترتجلُ الأشعار تُنشدُها    وزنـاً وقـافية قـيداً  وإعسارا

دع القـوافي والأوزان إنّ بـها    رَجعَ التُراثِ وأغلالاً  وأوضارا

ودعْ بلاغة أجـداد وقـد غبروا    واتبعْ هواكَ وما قد شاءَ واختارا

و"اغسلْ" كلامكَ أو "طهّره" إنّ به    من السنين، من التاريخ، إغبارا(5)

واترك قـواعدَهم واهدمْ دعائمهمْ    واجعل حديثك بين الناس أسرارا

*   *   *

فقـلتُ: ويحكَ! ما قد قلتَ إنّ به    مـن فِتنة الشر أو من وقده نارا

الشعر حـرٌ بـأوزانٍ وقـافيـةٍ    مـلءَ الميادين دفّـاقـاً وزحّارا

إذا تـجرّد منهـا غـاب في ظلم    بيـن المجاهـل  إجداباً وإقفارا

لآلـئُ الشعـر أوزانٌ وقـافـيةً     تشِـعُّ مـن وهج الإبداع أنورا

الشعـر فـنٌ وآلافُ السنين بنتْ    لآلئَ الوزن أو صاغتْ له الغارا

قضية فلسطين في شعره:

عدنان شاعر أحب أهله وأمته، وارتبط منذ صباه ببلدته ووطنه ودينه.. وحب الوطن من الإيمان، والحنين إليه من صفات المسلم الملتزم بإسلامه، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن مكة: (والله إنك لخير أرض الله وأحبُّ أرض الله إلي، ولولا أني أُخرجت منها ما خرجت(6)). والإمام الشافعي كان يردد شوقاً إلى بلده بيتين شهيرين:

وإنـي لمشتـاق إلى أرض غزّة     وإن خـانني بعد التمزق كتماني

سقى الله أرضاً  لو ظفرت بتربها     كحلت به من شدة الشوق أجفاني

ومن هذا المنطلق الإسلامي كان الحنين المتدفق إلى فلسطين من شاعرنا المسلم عدنان.. فكان أول ديوان له بعنوان "الأرض المباركة" وكانت قصائد الديوان حنيناً ملتهباً، وتصميماً وعزماً على العودة الظافرة تحت لواء الإسلام.

انطلق عدنان يتغنى ببلدته صفد ويعيش ذكرياتها الحلوة النابضة بالحياة، فيرسم لنا تلالها ووهادها، وأشجارها وأنهارها، وثمارها وأطيارها، ويتمثلها جنة وارفة الظلال يسميها (عروس الدهر).. فيقول في قصيدته "لوحة من صفد"(7):

صفدٌ عروسَ الدهر دونك فانظري     هذي وفود حواضر وبـوادِ

تسعـى إليـك مـن الشآم شوامخٌ     وجبـال لبنان على ميعـاد

والسهـلُ والنهـرُ البديع وخضرةٌ     ألقـتْ كـأسورة لها  بزناد

وينتقل شاعرنا في أرجاء فلسطين فيكتب شعره في عكا تارة وفي القدس أخرى، ويتغنى بحيفا، ويصف بحيرة طبرية، ويطلق من خلال شعره صرخات يحذر فيها أبناء أمته ويدعوهم إلى نبذ الخلاف، ويبين لهم أن نتيجة التخاذل والتمزّق ستنتهي بفلسطين إلى ما انتهت إليه الأندلس، ويطلب منهم العودة إلى رسالة الإسلام وحمل راية الجهاد للدفاع عن الوطن، ونراه يعبر عن مدى إيمانه بهذه الرسالة فيقول لصديق له:

شكوتَ لي غير أني لم أجد أحداً     أشكو إليه وفـي جنبـيّ نيران

هواك غيد وتشكو مـن لواحظها     لكن هوى أضلعي دين وأوطان

ويعاصر عدنان المؤامرات المتتابعة والأحداث المتلاحقة، ولا يترك حادثة أصابت فلسطين إلا وعاشت في وجدانه وامتزجت بدمائه وأنفاسه منذ بداية الأربعينيات حتى اليوم.. فنراه في عامي 1943 و 1944 يحسّ تمزق أبناء وطنه ويسمع أنين شكواهم ولا يرى عملاً جاداً ولا مغيثاً ولا معيناً، ولهذا نجده يناشدهم الكف عن الدموع والسعي إلى الجهاد، ويستثير هممهم فيقول في قصيدة بعنوان "نذير"(8):

مالي أرى الأرض ثارت من تقاعسنا     ورجَّعتْ بـيننا  صوتاً ينادينـا

كـأنـما اتّـقدت أحشـاؤها  جزعاً     وولولت رهَبـاً من  واقعٍ فينـا

هُبّـوا سـراعاً إلى  حومات معتركٍ    من الجهاد يُـدوّي من روابينـا

هـل تـحسبون بـأنّ الليل مُنعقـدٌ     فـنمتم، وضللتم فـي دياجينـا

لا تـذهبـوا فُـرَصَ الأيـام عاطلة     وقد أتَتْكم حُلاهـا  من أمانينـا

وحققـوا أمـلاً في الصدر مضطرماً     لولاه ما نبضت أعـرافُنا فينـا

وتحلّ النكبة عام 1948 ويصحّ ما توقعه الشاعر وترتسم الكارثة بكل مآسيها في وجدانه، فيبكي سقوط صفد ويبكي ضياع فلسطين كلها، ويبكي شهداء الجهاد الذين سقطوا على أرض المعركة كالشهيد عبد القادر الحسيني بطل القسطل وقائد الجهاد المقدس في فلسطين الذي استشهد في 8 نيسان عام 1948 في معركة القسطل بعد أن عاد من دمشق ولم تمدّه اللجنة العسكرية لجامعة الدول بالسلاح اللازم لتلك المعركة، فخاضها بما لديه من رجال وسلاح قليل.

وصف عدنان هذا الموقف فقال في قصيدة بعنوان "الشهيد عبد القادر الحسيني في القسطل" (9)

عـاد الهزيزُ فما للقلب يـضطرب    وللعيـون وهـذا الـدمع ينسكب

جـاء البشير إلينـا والنّعيُّ  معـاً     كـلاهما خفقةٌ: فالنصرُ والحربُ

لم يقبل القلب غير البِشرِ  من خبرٍ     ولم يـرَ النَّعيَ إلا وهـو يقتربُ

قالوا: الرصاصُ يحيّي بِشْرَ عودته     وهـذه القـدسُ خفّت نحوه تثبُ

لم يعـلم الناسُ هـل حـيٌّ يقودهم    إلى المعاركِ ! أم موت ومُحتربُ

لـم يلمسـوا فيـه إلا أنـه بطـلٌ     حـيٌّ يقـود ولا يُـثنى له أربُ

وبعد خروجه من فلسطين عام 1948 أخذ يتلمس المعاني التي أنشدها في طفولته وفي صباه، وينظر إلى الحال الذي آل إليه أبناء فلسطين في الخيام والشتات، ويفكّر في المستقبل وبطريق العودة، فيكتب قصيدة بعنوان: "عودة لاجئ" بقلم يتنزّى ألماً ووجدان يقطر دماً، فيقول(10):

أنا يا أخـت ضائع لسـت أدري     أيـن قومي وأي أرض أجوب

في ضلوعي أسىً وفي العين دمع     يتنـزّى وفـي الفـؤاد ندوب

وعلـى الـوجـه بسمـةٌُ ظللتها     غبرة الموت واعتراها شحوب

ودبيـب الأيـام يـنـزع منـي     نـفساً خـافتاً  وروحـاً يغيب

ويشتد حنينه إلى وطنه، ويعتصره ألم البعد والفراق، ولا يتوقف صوته ولا تكف جراحه عن النزف منذ بدأت النكبة حتى اليوم، فيقول في قصيدة بعنوان "جرحان"(11):

يُذكي الحنين إلى الطّلول أسىً     عَصَرَ الضّلوع ومزَّقَ الكبدا

جُرحان: تحملُ مـن  نزيفهما     ألمـاً يجـذُّ الروحَ والجَسَدا

جرحان: يعتصرُ الأسى  بهما     عُمـرَ الفتى والشيخ والولدا

جرحان: جرحٌ غار في  جسدٍ     روّت دمـاهُ مـراقدَ الشُّهدا

وكذاكَ جُرحٌ غارَ فـي شرف     ويـدُ النُّزوح تدورُ فيه مَدى

ويمضي شاعرنا في شعره يصوّر الواقع المؤلم وطريق الخلاص.. ويذكر أن السبب الأصيل لهذا الواقع هو إعراضنا عن الله، ولذلك فقد أصابنا الذل والهوان، وأصبحنا نعيش على فتات موائد الأعداء نطلب منهم حقوقنا ونفرح ونتيه للحقير من العطايا ننالها منهم.. فيثور شاعرنا على هذا الواقع، ويستثير مشاعر أمته للعمل من أجل إنقاذ الأرض المباركة، وقد وجد الحل في العقيدة والجهاد، فانطلق يقول:

لا يستعيد حمى الأوطان غير هدى     مـن الكتـاب وعبّـاد لـه دانوا

تشـوّقَتْ لجنـان الخـلد أنفسُهـم     فأرعدتْ في البطاح الحمر فرسان

هذا هو عدنان النحوي في قصائده.. ثورة على الظلم، ثورة على التخاذل والاستكانة.. أما حين يهدأ وقليلاً ما يكون، فهو وصّاف يتأنق في وصفه فيجيد.. استمع إليه وهو يتغنى ببلدته صفد، وهو يعيش في ذكرياتها الحلوة النابضة بالحياة، فيرسم لنا تلالها ووهادها، وأشجارها وأزهارها، ومناظرها الخلاّبة، إنه يتمثلها جنة مورفة، فيصفها ويبدع في وصفها ويقول(12):

يا زهرة اللوز الشهيّ وطلعة    النور البهي وغرسة الأجداد

يا غرسة العنّاب  مدّت كفها     المخضوب من فرع لها مسّاد

كالغادة الحسناء خلف خبائها    دفعـت بناناً للمحبّ الصّادي

يـا أمسيات في الرّجوم كأنها     عطر الشباب  وبهجة الأعياد

والبحرة الزرقاء دون  شعابه      نـزلـت فـأنزلها سواد فؤاد

نَهَدتْ بجنبيها الرّبى وتوثبت      نهـدين مضطربين فوق مهاد

أهدى لها الليل الشجيّ غُلالة      سمراء تخفق في  ظلال سواد

وشّت حواشيها النجـوم لآلئاً      تطوي وتنشر من بريق هادِ

والبدر بين الناهدين كماسـة      مـوصولـة في جيدها  بقلاد

ويسير شعر عدنان مع أحداث فلسطين وما أكثرها وما أقساها من أحداث.. وتتعرّض مخيمات اللاجئين في لبنان لهجوم بعد هجوم، ومجازر بعد مجازر، ولعلها ابتدأت بتل الزعتر الذي طال حصاره وقارب الشهرين في عام 1975م، ثم كانت مجازر صبرا وشاتيلا في عام 1982، ثم حصار المخيمات جميعها عام 1986 الذي طال وتجاوز خمسة أشهر، صارع الناس فيها الموت جوعاً وعطشاً، ولم يسمح خلالها بإدخال الغذاء أو المواد الطبية.

ومن خلال ظلمة المأساة وسواد الفاجعة، التي حلّت بمخيم تل الزعتر حيث وقعت مجزرة رهيبة فاقت مجزرة قبية ودير ياسين.. مجزرة ذُبح فيها الأسرى وبُقرت بطون النساء ودُفن الأطفال أحياء، وشاهد الناس جرافات الحقد تجرف بيوت المسلمين من أبناء فلسطين في تل الزعتر وتحمل معها الأطفال أحياء وتهيل عليهم التراب.. من خلال هذه المأساة ومن خلال ثبات نفر من أبناء فلسطين المجاهدين دفاعاً عن هذا التل.. نظم شاعرنا قصيدة بعنوان "جولة الإيمان في تل الزعتر" قال فيها(13):

رُدَّ السيـوفَ إلـى الأغماد وانتظر     ما ينقل "التل"  من هولٍ ومن خبر

هناك. دُنيا المروءات التي انتفضتْ     عليـك فـي وثبـة وهّاجة الظفر

تَفَـجَّر الحقـدُ أهـوالاً  مُـدمّـرةً     تمورُ  أحشاؤها مَوراً على سُعـرِ

تُـلقـي بـه حمماً سـوداء قاتمـةً     وتنجلي عن لظىً في الدار مُستعر

وأطبقـتْ لُجـجُ الأحقاد  وانتشرتْ     تُقـيمُ حولَكَ مـن سورٍ ومن جُدُر

ومـا دَرَتْ أنَّ عنـد الله كـاشفـةً     لكل  منغـلقٍ مـن كيدهـا القـذر

أما الأقصى الجريح.. فقد خصّه عدنان بمجموعة قصائد دوّنها في كتاب ملحمة الأقصى.. عرض فيه قضية فلسطين في صورتها الإيمانية الصافية "الصورة القرآنية" ورسم فيها معالم الدرب إلى فلسطين، وقدّم موجزاً تاريخياً للمسجد الأقصى.

قضايا العالم الإسلامي في شعره:

لم يعش عدنان لمأساة فلسطين وحدها.. وإنما كان يجول بمشاعره وأحاسيسه في عالمه العربي والإسلامي يتتبع قضاياه في الحرية والجهاد، ويشد أزر المجاهدين بروح المتفائل المؤمن برسالة الإسلام.. فنراه يقول في قصيدة بعنوان "أخي" وجهها إلى إخوانه في العقيدة والجهاد في بلد من بلدان الإسلام:

أخي! لا تبال فهذي القلوب    وهـذي السواعد ثارت معكْ

فلا ظلمة السجن تخشَ ولا    جنـونَ السياط برى أضلُعَكْ

ولا العيـدَ حطمـهُ كبـريا    ؤكَ! قطّعته دون أن يقطعَكْ

وجـلادكَ الوحش أذلـلتهُ     وقد كان يبغي هنا مصرعَكْ

ولما تعرضت الحركة الإسلامية في مصر عام 1954 لمؤامرات خبيثة وتصفيات دنيئة عبّر عنها شاعرنا بقصيدة "دماء بريئة" قال فيها(14):

أدمٌ يُراقُ وفتيـةٌ يتساقطون    وعُصبةُ الطاغوت فيهم تحكمُ

والشعبُ مسكين  يُجرّد فوقه    سيفٌ تشلُّ به اليدان ويُلجَـمُ

وتُردُّ أبواب السجون وخلفها    جسـدٌ يغيـب وهمّـةٌ تتقدّم

ونرى عدنان يطوّف بأرض الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها.. من روابي الصين إلى شواطئ الأندلس، يصوّر الهجمة الشرسة التي شنها الحاقدون على أرض الإسلام في كل جزء من أوطانه.. وفي وقفة له في عرفات يتذكّر قادة الإسلام الذين فتحوا الدنيا ونشروا فيها عدل الإسلام.. وأمام هذا المشهد الكبير في عرفات، وأمام هذه الذكريات التي تنسكب منها دموع الأمل بالعودة إلى الإسلام وإلى أيام أمجاده الخالدة.. نظم قصيدة رائعة بعنوان "لم يبق في عرفات إلا دمعة" ارتقى فيها شعره إلى مرتبة كبيرة من الإحساس وقوة التعبير، قال فيها(15)

الذكرياتُ الخالـداتُ بـوارقٌ     يطـوي لوامِعُ برقهنّ دخانُ

رُدّي روابي الصّين أين محمدٌ     والسّورُ  تنهدُ حوله الفرسانُ

حَمَلتْ إليه مـن تُرابك حفنـةً    صيـدٌ يـجرُّ أُنوفها الإذعانُ

ليـدوسَها  ويبرًّ بالقسم العظيم     وينثنـي مـن كفّه الإحسانُ

فـإذا به يُلقي عليكِ من الهُدى     ألقـاً ويعـلو بعـد ذُلٍّ شان

                            *  *  *

رُدّي روابي الهند أيـن شريعة    الرحمن من سلطانها السلطان

كم كان يبرقُ في ديارك نورها     أمنـاً! فغابَ فأين منكِ أمانُ

فتقطعت منـكِ الرُّبا  وتمزّقتْ     منـكِ الرُّؤى وتناثر الإيوان

ولما تعرض شعب البوسنة والهرسك للإبادة الجماعية، وهام الأطفال والنساء والشيوخ على وجوههم في الفيافي والقفار هاربين من مجازر الصرب، وصف عدنان هذا الحال فقال(16):

تدفّق منهـا كـل  يوم قـوافلٌ     تشقُّ دُروباً بالأسـى والتظلّم

دُروبَ لجوءٍ في الفيافي تقطّعت    على دمعـة أو حسرة أو تندّم

يميـلون بالطرف  الذليل لعلهم     يَرَون وراء الأفق طلعة مسلم

قوافلُ تمضي بين أفواج رُضّعٍ     وأحـزانِ ثكلى أو تباريح أيِّم

هذا شاعرنا.. كلما اشتدّ الكرب ووقع البلاء بأمة الإسلام صاح منذراً:

يا أمة الإسلام قد عظم البلا        واربدّ في ساحاتك الطغيانُ

ولم يقف عدنان عند إطلاق النذير.. وإنما يقرر طريق الخلاص لهذه الأمة، فيبيّن أنه العودة إلى الله ليس غير، فهذه العودة تحيي النفوس الخاوية، وتردّ الطمأنينة إلى القلوب، وتقيم في الحياة الاستقامة.. وهذه العودة إلى الله هي التي تدفع إلى الجهاد، وتُرجع الأمة إلى سدة القيادة، وتعلي راية الحق، فيقول(17):

أُمتي عودةٌ إلى الله تحيـي     ميت الأرض والنفوسَ الخواءَ

أمتي عودة  تردّ إلى النفس     ضيـاءً يُـمـزّق الظـلمـاء

عودة ترجـع الجهاد وتُعلي    رايـة الحـق واليقين عـلاءَ

ولم يترك عدنان قضية رئيسية من قضايا العالم الإسلامي إلا ونظم فيها شعراً مؤثراً، موجهاً وناصحاً.. وقد أصدر مجموعة من الملاحم الشعرية التي تحكي هذه القضايا.. ومن هذه الملاحم الني صدرت حتى الآن:

- كتاب ملحمة الجهاد الأفغاني.. عرض فيه سيرة الشعب الأفغاني المسلم، ومسيرة جهاده وثباته، ثم تعرض للفتنة الدامية التي وقعت بين الأفغان.

- كتاب ملحمة البوسنة والهرسك.. قدّم فيها نموذجاً للملحمة في الأدب الملتزم بالإسلام، وعرض فيه تاريخ أرض البوسنة والهرسك، وكيف دخل إليها نور الإسلام، ثم عرض هول الجريمة الكبرى التي حدثت وكيف دارت أحداثها.

- كتاب ملحمة الإسلام في الهند.. استعرض فيه دخول الإسلام إلى الهند، وقيام الدول الإسلامية المختلفة، حتى قضاء الإنجليز على دولة المغول.

- كتاب ملحمة القسطنطينية.. عرض فيه تاريخ الأتراك العثمانيين بإيجاز، وتحدّث عن جذور الإسلام الضاربة في أرض تركيا، وعرض الطريقة العبقرية التي فتح فيها محمد الفاتح استانبول، ثم عرض موقف السلطان عبد الحميد من هرتزل..

وبعد استعراضنا لشعر عدنان النحوي نرى أنه امتاز بسهولة الألفاظ، وبالنفس الطويل في كثير من قصائده، وبالشكل العمودي للقصيدة، فلم نجد له أي قصيدة من الشعر الحديث.

مختارات من شعره:

اخترنا من شعره ثلاث قصائد:

1 – مهرجان القصيد أو الأدب الإسلامي: هذه القصيدة نظمها الشاعر وألقاها في مؤتمر الأدب الإسلامي في لكنهو الهند الذي عقد خلال الفترة (25 – 27) ربيع الثاني 1406هـ الموافق (7 -9) كانون الثاني 1986 لبناء رابطة الأدب الإسلامي، وكانت هذه القصيدة تحية لهذا اللقاء الأدبي "مهرجان القصيد" وتعبيراً عما كان فيه من عبق كلمة وطيب ندوة وصفو وداد..

هذه القصيدة تحدّث فيها عدنان عن الأدب الإسلامي الذي يصوغه الإنسان المؤمن نثراً أو شعراً، ليسهم في أداء الأمانة وحق الخلافة وواجب العمارة لهذه الأرض من خلال العبودية لله رب العالمين.. ومن هذا التصور الإيماني يتدفق الجمال الفني من الأدب، ليكون إشراقة نور، وبركة خير، ودعوة حق للناس جميعاً..

وتعرض القصيدة جمال العطاء في الأدب الإسلامي.. فهو أدب غني يبعث الحياة في النفوس، وهو أدب دعوة وجهاد.. وتعرض أيضاً صورة مؤلمة من واقع العالم الإسلامي اليوم، بما فيه من ظلم وعدوان، وذل تشرد، ولوعة مصاب، وتقارن في ختامها بين الأدب الإسلامي وبين غيره من الآداب، وتقرر أن كل أدب يفنى مع الزمان إلا أدب الإسلام فإنه سيمضي شعلة نيّرة في الوجود.

2 – الشراع الدامي: في ليلة الخميس 5/4/1408هـ، الموافق 26/11/1987م انطلق أربعة من أبناء فلسطين إلى أرضهم، أرض فلسطين المغتصبة، انطلقوا وهم يستخدمون طائرة شراعية خفيفة مزودة بمحرك صغير، فبلغوا هدفهم، واقتحموا معسكر الأعداء، معسكر اليهود.. فأبلوا بلاء حسناً، وقتلوا من الأعداء من قتلوا، وارتفعوا إلى حيث يرفعهم إيمانهم وعملهم، وعاد من نجا منهم إلى موقعه.. فنظم شاعرنا هذه القصيدة وقدّمها إلى هذه الأرواح المؤمنة بالله، المجاهدة في سبيله.

هؤلاء الشباب وضعت أمامهم كل الحواجز والسدود فاجتازوها، ولم يعدموا الوسيلة في الوصول إلى أرضهم والدفاع عن حقهم.. سُدّت في وجوههم منافذ الأرض، فوثبوا إلى العلا، وارتقوا في الفضاء فكان ارتقاؤهم سُلّماً إلى الجنّة..

هؤلاء الشباب لم يصبهم الوهن كما أصاب غيرهم.. إنهم شباب مجاهدون آمنوا بإحدى الحسنيين النصر أو الشهادة.. فكانت عمليتهم خطوة رائدة من خطوات التحرير واستعادة الحق المسلوب.. إنهم أباة عرفوا كيف تخترق الحواجز وتُقتحم الميادين، فنفضوا أشرعتهم ومدّوها في الفضاء، واقتحموا معسكر الأعداء.. إنهم صقور التحرير ونسور الجهاد.

عبروا الفضاء فلا الحدودُ تصدُّهم    عنهم ولا وهنُ القريب المُرهقِ

وأتـوهـم بالمـوت يسحقُ أنفساً    مـا بين مُنقضّ هناك ومُطبق

3 – زخرف وحقيقة: منذ جاءت رسالة الإسلام والمسلمون يعيشون بظلها في أخوّة وتعاون وتكافل وتراحم.. وتتابعت المسيرة الخيّرة مع الزمن، وكلما كان المسلمون مع إسلامهم شاعت بينهم هذه المعاني الطيبة.. وكلما انحرفوا انتشر بينهم الفقر والجهل والمرض، واستعبدهم الظالمون وامتصوا خيراتهم..

واليوم وقد ازداد الظلم، وانتشر الفقر والجهل، وتمزّقت الأرحام وقطعت حبال الودّ.. أصبح التسوّل بسمَةً مألوفة من سمات المجتمع.. وأصبح المجتمع بحاجة إلى دعاة خير يردّون الناس إلى الفطرة السليمة.. وهنا يبرز دور الشعراء الإسلاميين الذين يعملون على إشاعة المعاني الإنسانية بين الناس، ويدعون إلى ترسيخها في المجتمع.. فما أطيبها من معان حينما يفقهها الناس وتتربّى عليها الأجيال.

يا أخي في الهند أو في المغرب    أنـا منـك أنـت مني أنت بي

لا تسل عن عنصري عن نسبي    إنـه الإســلام أمـي وأبـي

وشاعرنا النحوي كان في زيارة أدبية إلى الهند عام 1997م، فوقعت عيناه أمام الجامع على شيخ عليه بقية من ثياب، أنهكه الجوع حتى برزت عظامه، فتخيّل أنه دار بينهما حوار، وكانت هذه القصيدة..

جاءت القصيدة لتعرض الحالة البائسة التي وصل إليها فقراء المسلمين في بلادنا الإسلامية.. ولتصف مقدار التحمل الذي يتمتع به هذا الشيخ العجوز، فهو يصبر على الفقر ولا يمدّ يده إلى حرام، كي ينال الجزاء من الله..

فالشاعر الإسلامي إنساني بسلوكه، مرهف الإحساس، لديه قدرة فائقة على تحسس مشكلات الحياة والاهتمام بها، فهو يدعو إلى عمل الخير، ويساهم بنفسه في هذا العمل.

مهرجان القصيد أو الأدب الإسلامي(18)

الشراع الدامي(19)

أطـلِقْ  شِراعَكَ في السماءِ iiوحلّقِ   واصـعدْ  كما يَهوى إباؤُك iiواخفقِ
وارفـعْ مـيـاديـنَ الجهاد iiفحَقُّها   وثـبـاتُ  صَـعّـادٍ ولهفةُ iiمُرْتقِ
ضاقتْ  بها الساحاتُ فانفرجتْ iiلها   سُـبُـل الـفـضاء وعالمٌ لم يُغلقِ
وتـواثـبت فيها الصقور iiوحوّمت   فـيـهـا النسورُ وهمّةٌ من iiمُعْرق
وانـهـض فهاتيك الذّرا قد iiلوَّحتْ   لـلـصـادقـين  وأشرقت iiللمتّقي
ودَعَـتْ  وفـودَ الطارقين iiوزيّنتْ   حُـمـرَ  الـدروب بطَيِّبٍ iiوبشيِّقِ
وتـفـتّحت خضرُ الجنانِ على iiدمٍ   حـرّ ودفـقٍ مـن عروقكَ iiمشرقِ
وانـهـضْ  لعهدكَ ما أجلَّ iiوفاءَه:   شـتـان  بـيـنَ مُكذّبٍ iiومُصدّقِ
الـعـهـدُ لـلرحمن يصدُقُهُ iiالفتى   فـيـنـالُ من زهو النعيمِ iiالمُورقِ
لـلـه  مـا تـبـني النفوسُ iiنقيّةً   يـجـلـو الهدى من بِرِّها iiالمتألقِ
قالوا سقطتَ، وما دَرَوا، لو أنصفوا   قـالـوا وثـبتَ إلى عُلا لم iiيُسبَقِ
الـمجدُ ما بنتِ النفوس وما iiرعتْ   شـرفـاً  ومـا وهبتْ بكفٍّ مُغدقِ

       

يـا  شـرَّ مـا فعلَ اليهودُ بظلمهمْ   فـغَـفـوا  على وهمٍ وكبرٍ iiمُوبقِ
حـرسـوا  الحدودَ به وظنّوا iiأنهم   أمـنـوا،  وأيـن أمانُ عادٍ iiأحمقِ
فـإذا وِثـابُ الـزاحـفينَ iiيهزّهم   هـزاً،  ويـرمـيـهم بشرٍ iiمُحدقِ
عبروا  الفضاء فلا الحدودُ iiتصدّهم   عـنـهم ولا وهنُ القريب iiالمرهق
وأتـوهُـمُ  بـالموتِ يسحقُ iiأنفُساً   مـا  بـيـنَ منقضٍّ هناك iiومُطبق
ورمـوا نـهـارَ الـظالمين iiبغُمّةٍ   جـعـلـتـه كالليل البهيم المُغسِق
جـعـلوا الليالي الحالكات iiزواهراً   مـن  وَقْـدِ عـزمِهمِ وَوَقدٍ iiمحرِق
وكـأنَّ  أنـجُـمها وجوهٌ iiأزهرتْ   بـالـبُـشـريات وبالدم المترقرق
تـحـنـو السماء وتنتقي من بينها   غُـرَّ الـجـواهر من شباب iiريّق
فـتـضـمـهـا وتُعيد من iiلألائها   نـوراً يـشـقُّ من الظلام المُغرق
ويـشـقُّ  للإنسان من سبل الهُدى   سُـبُـلاً ومن درب الجهاد iiالمُونِق
لـم  يـكـتسب ألقاً ولم يزكُ iiالفِدا   إلا  عـلـى وهـج الـدم iiالمتدفقِ
لـلـه تـبـذلُـهُ الـنفوس iiسخيّةً   تُـوفـي بـحـقٍ صادقٍ iiوبمَوْثِقِ
لـولا  هدى الإيمان لانقطع iiالرَّجا   ولـجـفَّ كـلّ عـطائه iiوالمِرْفَقِ
ولـعـاد أصـحابُ الفِعال جميعُهم   مـن  مـفـلسٍ في سعيه أو مُمْلِقِ

       

بـطـلٌ  عـزيـمته لهيبُ iiمسعرٌ   وخُـطـاهُ  زحـفُ كتيبةٍ أو iiفيلقِ
وشـراعـهُ  مـلأ الـفضاءَ iiكأنهُ   نـورٌ سـرى مـن وهجه iiالمتألقِ
ووثـابُـهُ فـجـأ الـعـدوّ iiبناره   ورمـاهُ  فـي شركٍ وزحمةِ iiمأزقِ
فـتـراهـم  ما بين منطلقٍ iiجرى   فَـزَعـاً وآخـرَ في الرياح ممزَّقِ
وقـفـتْ  لـه الـدنيا لتبصر iiآيةً   مـن هـمـةٍ تـعلو ووثبٍ iiمُطبقِ
يـا يـومَ أن أدّى الـتحيّة ii"مجرمٌ"   لـجـلال جُثمانِ وعزٍّ iiمُحلّقِ(20)
مـا نـال من شرف الحياةِ جميعها   إلا تـحـيـتـه ووقـفـةَ مطرقِ

       

يـا  يـومَ "قبيةَ" لم تزل iiأصداؤها   مـلءَ الـزمـانِ دويّـها لم iiيُخْنَقِ
كـم فـرحـةٍ قُتلتْ على iiأعراسها   وصـبيّة  ذُبحتْ على عرضٍ iiنقي
كـم غُـصّـةٍ دُفنتْ بصدر كريمةٍ   وكـريـمـةٍ دُفـنتْ بغصة مُشفقِ
ودويّ  صـيـحاتِ الكُماةِ iiيضمّهم   شـرفُ  الردى أو وثبةٌ في iiخندقِ
شـهـداءَ  "قـبيةَ"! والمواكبُ هذه   إشـراقُ رُوّادٍ وطـلـعـةُ iiسُـبَّقِ
حـملتْ  لكِ البُشرى على iiأمواجها   نـصـراً  تُـجـلـله وآيةَ iiرَوْنقِ
وتـفـتّحت  أكمامُ روضكِ من iiدمٍ   عَـبِـقٍ  عـلى زَهَرٍ هناك iiمُنَمَّقِ
وتـلـفّـتَ الزيتون بهجةَ iiخضرة   راقـت وغصن في ربوعك iiمورِق
والـبـرتـقـالُ الحلوُ في iiنفحاته   لـفـتـاتُ  أمـجادٍ وسحرُ iiتشوُّقِ

       

يـا أمـة الإسـلام طالَ لكِ المدى   وشِـراعُـكِ  الـمطويّ لمّا iiيخفقِ
فـثـبـي لآفـاقِ الجهادِ iiوجلجلي   مُـدّي  شراعَكِ في الفضاءِ iiوحلّقي
وردي  حـياضَ الموت موجاً دافقاً   يَـروي الزمانَ من الحياض iiالدُّفَّقِ

زخرف وحقيقة

وقف مع صحبه أمام الجامع الأحمر في دلهي في الهند، فتدافع نفر من إخواننا المسلمين المستضعفين الصابرين، فوقعت عيناه على شيخ عليه بقيّة من ثياب، أنهكه الجوع حتى برزت عظامه، فتخيّل أنه دار بينهما الحوار التالي:

مـددتُ  يَـدي كـيما أجود iiبدرهمٍ   عـلـيـه  فـحـيّاني وبشَّ وأقبلا
عـلـيـه  بـقايا من ثيابٍ iiوخرقةٍ   أغـارَ  عـلـيـها الدهرُ ثم iiتحوّلا
وقـد بـرزتْ منه العظامُ! iiعرفتها!   عـظـامٌ! ولكنْ رابَ نفسي iiوأذهلا
بـقـايا!  وأشباحٌ! وشيءٌ! فبعضُها   تَـوارى ومـنـهـا ما أطلَّ iiونُسِّلا
عـرفـتُ من الأحناءِ صدراً iiمنسّقاً   ومـن سـاعـديه خِلْتُ شيئاً iiتهدّلا
ومـن  وَهَـنِ الساقين أشباهَ iiهيكلٍ   وبـطـناً  رماه الذعرُ دهراً iiفأجفلا

       

فـقـلت له: مَنْ أنتَ؟ قال iiجهلتَني   وإنـي  أنـا الإنسان أصلاً iiومَنزلا
أبـي آدمٌ خـرَّتْ مـلائـكة iiالسما   سـجوداً له! مَن كان أعلى iiوأفضلا
وكـرَّمـنـي  بـي! فـيا iiلفضيلةٍ   ووسّـع فـي رزقٍ فأعطى iiوأجزلا
ولـولا الـطغاة المجرمون iiوظلمُهُمْ   لـما  كنتَ تلقى في الورى iiمُتسولا
فـذاك ابـتـلاءٌ لا أشـك iiبـعدلِهِ   فـأصـبر كي ألقى الجزاء المؤجّلا
وأسـعـى جـهاداً في الحياة وربما   طـغـى  ظـالـمٌ فيها فآذى iiونكّلا
وأعـظـمُ  ما عندي يقيني iiبخالقي   وصـبري على ما قد قضاه iiوعجّلا
وأمـضـي مـع الدنيا أُؤدي iiأمانةً   وأطـلب  في الأخرى نجاةً iiومؤئلا
ولـكـن تُرى مَنْ أنت؟ فيم iiسألتَني   وأنـكـرتـنـي؟ هلاّ عرفتُك iiأولا
عـلـيـكَ ثـياب قد تخفّيت iiخلفَها   وطـيبٌ! فهل أوفيتَ ما كان iiأجملا

       

فـحِـرتُ  ولـم أدر الإجابةَ iiعلّني   سـمـعـتُ مـقالاً ما أجلَّ iiوأعدلا
وما  كنت قبل اليوم راجعتُ سيرتي   ولا  سـألـتْ نفسي السؤالَ المعلّلا
ظـنـنـتُ  بـه جَهلاً فلما iiسمعته   عـلـمـتُ بأني كنتُ أعيا iiوأجهلا
وعـدتُ إلـى نفسي! فكم كان iiمثله   يـجـاهـد كي يلقى رغيفاً iiومَنزلا
مـلايـيـنُ  كالقطعانِ سِيموا iiمذلةً   وأُلـقـوا  على وجهِ البسيطة iiنُحَّلا
وعٌصبةُ إجرامٍ على الأرضِ أُتخمتْ   لـتـبـنيَ  من دنيا الجريمة iiمعقِلا
وحـشـدُ سُكارى في دياجير iiظلمةٍ   فـأهـوى  بـه طول النِّفاق iiوذَلَّلا
فـيُـعلونَ  من دنيا الشعارات iiرايةً   تُـخـدِّر  شـعـباً أو شباباً iiمُؤمَّلا

       

فـعُدتُ  لهُ: من أنتَ؟ قال: iiجَهلتني   نـسـيتم  عُراً شُدّت وعهداً مُفصّلا
أخـوكَ  أنـا في الله لو كنتَ ذاكراً   مـن  الـديـن حقّاً لا يَغيبُ iiمُنزَّلا
فـمـا  أنـا إلا مـن بـقـيّة iiأمةٍ   هـوى مـجدُها من بعد عزٍّ iiوحُوّلا
لـقـد  كـانت الدنيا تسير iiبركبهم   ومـجـدُهُـمُ في الخافقين بهم iiعَلا
إذا  صـدقوا الرحمنَ عزّوا iiومُكّنوا   وإن  نـكثوا أهْوَوا إلى الذل iiوالبِلا
تـمـزّقـت  الأرحامُ فيهم iiوقُطّعتْ   حـبـالٌ وجـالَ الشرُّ فيهم وأوغلا
وتـلـك ديـارُ الـمسلمين iiتناثرتْ   فـأضـحوا بها مستضعفين iiوعُزّلا
فـكـم عصبةٍ مرَّت علينا iiوأوعبت   لـتـنـهشَ  لحماً أو تُقطّع iiمِفصلا
يَـهـيِّـجُـهـم سحرُ البلاد iiونهمةٌ   مـن  الله تجري في المرابع iiسَلسلا
يـسـيـل لعابُ المشركين iiلخيرها   فـهـبّـوا إلـيها جحفلاً ثم iiحجفلا
وحـسبُك  غدرُ المجرمين iiوبطشُهُمْ   يـعـبّـون  عبّاً أو يُصيبونَ iiمَقتلا
يـنـالـون شـهداً من نعيم iiديارنا   ويُـبـقونَ  سُمّاً في الديار iiوحنظلا
ومـا تـركوا ظِلاً على الناس iiآمناً   ولا تـركـوا ريّـاً نـقـيّاً iiومَنهلا
وكـم هـدمـوا عـلماً بنينا iiقلاعَهُ   فـأهـووا  به للأرض ناراً iiومِعْوَلا
وكـم  أشـعـلوا ناراً تلظّى iiوفتنةً   تُـمـزّق أرحـامـاً وتُطلق iiمُرمِلا
ولـكـنـنا  نبني مع الصبر عَزمةً   أجـلَّ  وأعـلـى في الحياة وأكملا
نُـرابـط مهما طال من صبرنا هُنا   لـنـرفـعَ لـلـتوحيد مجداً iiمؤثّلا
نُـعـيـد  إلى الإنسان جوهر iiحقه   لـيـحـطـمَ أغـلالاً وقيداً iiمكبّلا
ومـن  كل أرضٍ في البسيطة iiوثبةُ   لـتـجـمع  أشتات القلوب iiوتحفلا

       

رجـعتُ إلى نفسي فكم كنتُ iiجاهلاً   وكـم  عَـرَفَـتْ دنيايَ مثلي جُهّلا
رأيـتُ  فـقـيـراً شـقّ لله iiدربَهُ   رضـىً  وغـنيّاً في النعيم iiمُضلّلا

المصادر والمراجع:

1 - ديوان "الأرض المباركة".

2 – ديوان "مهرجان القصيد".

3 – كتاب الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته.

4 – ملحمة فلسطين.

5 – ملحمة الغرباء.

6 – البداية والنهاية للحافظ ابن كثير، ج3.

7 – مجلة الأدب الإسلامي –العدد السادس – 1995م.

الهوامش:

(1) ديوان مهرجان القصيد، ص39.

(2) ديوان مهرجان القصيد، ص33.

(3) كتاب الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته، ص217.

(4) مجلة الأدب الإسلامي –السنة الثانية- العدد السادس- 1995 – ص47.

(5) إشارة إلى قول الحداثيين في أوروبا وما نقله عنهم الحداثيون في بلادنا من أنه ضرورة أن نغسل الكلمة ونطهرها مما علق بها من "غبار السنين".

(6) البداية والنهاية للحافظ ابن كثير، ج3، ص205.

(7) ديوان "الأرض المباركة" ص119.

(8) ديوان "الأرض المباركة" ص60.

(9) ديوان "الأرض المباركة" ص41.

(10) ديوان "الأرض المباركة" ص108.

(11) ديوان "الأرض المباركة" ص88.

(12) ديوان "الأرض المباركة" ص116.

(13) ديوان "الأرض المباركة" ص186.

(14) ديوان "الأرض المباركة" ص135.

(15) ديوان "الأرض المباركة" ص145.

(16) ملحمة الغرباء، ص123.

(17) ديوان "الأرض المباركة" ص32.

(18) ديوان "مهرجان القصيد" ص 64.

(19) ملحمة فلسطين، ص22

(20) إشارة إلى وقوف قائد المنطقة الشمالية اليهودي يوسي بليد أمام جثمان الطيار وأدى له التحية اعترافاً بشجاعته وبطولته. (جريدة الشرق الأوسط عدد 3293 تاريخ 13/3/1408هـ الموافق 4/12/1987م يوم الجمعة).