محمد صالح نازي

في ديوانه: حصاد العاصفة

بقلم: حسني أدهم جرار

محمد صالح نازي شاعر شابٌّ سار في درب الجهاد، وباع دنياه بآخرته، وأقبل على سلعة الله الغالية، وأخلص النيّة، وربأ بنفسه أن يكون مع الغاوين، يسير في ركب الطاغوت.. إنه شابّ خلص إيمانه من كل شائبة، وتحرّرت نفسه من كل خوف، ووطن نفسه على الصبر والمصابرة، والبذل والتضحية، وثبت على طريق الجهاد لا يهادن ولا يساوم، وانطلق يجاهد في الله شوقاً إلى لقياه وحنيناً إلى جنته.

حياته:

ولد الشاعر محمد صالح نازي في مدينة حماة بسورية عام 1957، وتعلّم في مدارسها، وتخرّج في الثانوية الصناعية. وكان منذ نشأته يرتاد مساجد حماة العامرة وخاصة مسجد السلطان، فيجلس إلى العلماء، ويأخذ عنهم العلم ويتربّى على أيديهم.

انتظم محمد في صفوف الحركة الإسلامية عام 1972، وكان صورة للإيمان الواعي، متعطّشاً إلى الحرية والعدالة.. وعاهد الله على السير قُدماً في طريق الدعوة غير عابئ بالعقبات، والتحق بركب المجاهدين، وأبلى أحسن البلاء في مصارعة الطغيان، وأقسم أن يموت مرفوع الرأس على الجبين.. وبّر بقسمه، وقدّر الله له ما أراد، واستشهد عام 1981، وهو لمّا يزل شاباً في الثاني والعشرين من عمره.

نشاطه:

كان محمد صالح نازي متعدد المواهب والقدرات.. فقد نظم الشعر، وكتب الأقصوصة، ومارس الرسم، ورسم الخطوط العربية، والرسوم الطبيعية والكاريكاتورية. وكان الشعر أوّل فن مارسه، وقد تناول فيه معاني الحماسة من شجاعة وإقدام وجهاد في وجه الباطل، وإلهاب حماسة المجاهدين، والثبات على الطريق حيث الغاية النبيلة والهدف العظيم.

شعره:

وكما سطر أبناء الحركة الإسلامية بدمائهم الزكية ملاحم بطولية رائعة، فإنهم سطروا أيضاً بمدادهم صفحات مشرقة بأشكال أدبية متعددة، كان أبرزها الشعر الذي ترجم واقع الحياة اليومية التي يحياها المجاهدون في صراعهم مع الباطل..

وإذا كانت لكل ثورة من الثورات في العالم، أو لكل حركة من الحركات تجربة تسمى بـ(الأدب الملتزم).. وهو التزام الشاعر بما يقول في كل حركاته وسكناته، ومواقفه في صراعه مع الطغاة والظالمين المعتدين، فإن شعر المجاهدين يأتي في مقدمة الأدب الملتزم، إذ أنّ أشعار المجاهدين كادت تكون يومية، مرتبطة كل الارتباط بواقع حياتهم، ترصد خلجات نفوسهم ودقيق مشاعرهم، وتتحدث عن المعارك البطولية التي يخوضونها، فهي ناتجة عن صدق ومعاناة حتى غدت معلماً بارزاً في تاريخ أمتنا وحركاتها الجهادية..

وقضية الالتزام في الشعر وغيره ليست غريبة على الواقع الإسلامي وعلى المجاهدين بالذات، لأن هذه القضية مرتبطة بعقيدتهم في المعنى العام والخاص للالتزام، لذلك لم يرد القول والإيمان في أي آية من الآيات في القرآن الكريم إلا وقرن الإيمان بالعمل، والعمل التزام..

إن الالتزام في الشعر ليس كلاماً مجرداً من العمل، بل إنّ عدم التزام الشاعر المسلم بما يقول في القضايا الإسلامية هو من هفواته التي يؤاخذ عليها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "من بات ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"، والاهتمام يندرج تحت الالتزام بالقول والعمل معاً.

وقد جاء شعر المجاهدين المعاصرين متأسياً بأشعار حسان بن ثابت وكعب بن زهير وعبد الله بن رواحة، حيث رأوا كيف كان الصحابة ينافحون عن حياض الدعوة ويذودون عنها باللسان (الشعر) والسّنان، كما استمدوا معاني الالتزام من إخوانهم المجاهدين الصابرين في فلسطين وفي أنحاء كثيرة من العالم العربي والإسلامي. لقد رصد المجاهدون في أشعارهم معاني الجهاد، والاستشهاد، والنصر، والرثاء، لمن سبقهم من المجاهدين، والمعاناة اليومية في حياة المجاهدين المرابطين، ومعاني الصمود والثبات في أقبية السجون.. والحق أن تلك المعاني تعتبر من أعلى درجات الشعر الملتزم، لأن هذه الكلمات قد روتها دماؤهم، وإن غراسها كان من شلال الدماء المتدفقة على طريق الاستشهاد.

ولقد كان الشهيد محمد صالح أحد أولئك المجاهدين الذين رصدوا معاني الجهاد والاستشهاد، ووقفة الثبات في وجوه الظالمين، كما رصد معاني الرثاء والمعاناة اليومية التي يحياها المجاهدون.. بل وكان أحد أولئك الذين كانوا في مقدمة الصف المؤمن المقاتل، وله في ساحات الجهاد جولات وجولات، رصد بعضاً منها في ثنايا شعره، حيث كان يرفد المجاهدين من ينبوع شعره على طريق الآلام فيخفف عنهم وطأة الملاحقة داخل الوطن وخارجه.

ولئن كان الشاعر مقلاً، إلا أنه كان شاعراً مبدعاً لا يأتي إلا بحسان القصائد وعيون الشعر، ومن ذلك قصيدته التي بايع فيها ربّه عزّ وجلّ، وعاهده على الجهاد والثبات، فقال فيها(1):

بايعت ربّـي يا أخـي لـن أستكينْ

مهما استغاثت بـي جراحي لن  ألينْ

مـا دمـت قـد  أقسمـت لله اليمينْ

سأموت شهماً دون أن أخشى الحرابْ

وقصيدته التي وجهها إلى شباب الأمة الإسلامية بعنوان "نداء" ودعاهم فيها إلى إحياء تراث الجدود، والاقتداء بهم والسير على طريقهم، فقال(2):

هلمّـوا أيهـا الفتيان أحيوا    تراثاً من جـدود خالدينا

ولمّوا شعث رايتنا ورصّوا    صفوفاً من جنود  مسلمينا

وهبّوا واعلموا أن الضحايا    شموعٌ في طريق السالكينا

إذا  عـاهدتم الرحمن  بذلاً   فكونوا في عـداد الثابتينا

وكـونوا واثقين بكل عـزٍّ    إذا كـان الكفاح لكم قرينا

لقد سجّل في شعره مواقف المجاهدين، فكان إما داعياً لجهاد أو راثياً لشهيد.. قال في قصيدة أهداها إلى روح القائد الشهيد الشيخ مروان حديد(3):

أخـي قـد فقـدناك لكننا    على موعد في ظلال السماءْ

ستبقى على العهد أرواحُنا    ولـو بـاعدتنا سهام القضاءْ

فأرواحنا في  ارتباطٍ وثيق   وذكـراك فينـا منارُ الضياءْ

وصوتك دومـاً بنا هاتفٌ    إلـى الموت هيّا جنود الفداءْ

ووصف في شعره الشباب الذين تربّى معهم على تعاليم القرآن الكريم، فقال في قصيدة بعنوان "ثلّة القرآن"(4):

حُبّـي لكم أودعتُهُ  سرّي    وحجبتُهُ عـن أعيـن الغَيرِ

وفَسحتُ  أروقةَ الخيال له    ومـع الدماء  تركته يجري

فالعيـنُ إن أبدت  كوامِنهُ    أغمضتُها من غير أن أدري

وعواطفي إن  أفلتَت خطأً    أمسكتها  واحترتُ في أمري

ماذا يقول القوم إن عرفوا    حُبّي لـكم ، لـلأنجم الزّهرُ

يـا ثُـلّةَ القـرآن  حبّكمُ    وقفٌ على الأطهـار كالطُّهر

ودعا في شعره إلى وحدة المسلمين، فقال في قصيدة بعنوان "لماذا نتفرّق(5):

يُوحّدنا الكتابُ إذا افترقنا    ويـجمعُنا بسنّتـه الرسولُ

وإن كُنّا افترقنا في فروعٍ    من الإسلام تجمعُنا الأصولُ

هذا الشاعر الشهيد "محمد صالح" شاعر أصيل.. لشعره قيمة أدبية وقيمة جهادية.. فشعره فيه من العقيدة نور، ومن الإيمان إصرار، ومن الجهاد عزم.. فإلى قصائده المختارة لنقرأها ونستمتع بها..

آثاره الأدبية: - ديوان "حصاد العاصفة" طُبع عام 1985.

مختارات من شعره(1):

نشيد الفداء

جند الفداء.. جنود دعوة وحرّاس عقيدة، وأبطال جهاد.. لا يعرفون الذّل، ولا يهابون الموت، ولا يولّون الأدبار..

جند الفداء.. رهبان في الليل وفرسان في النهار.. عُبّاد في المحراب وليوث في ساحات القتال، لا تهمهم المتاعب ولا تزحزحهم الخطوب.. يثبتون في الشدّة ويصبرون عند البلاء..

جند الفداء.. جنود حق وتحرير، وهداية وإصلاح.. حملوا راية التوحيد وانطلقوا في دروب المجد، يحطمون الكفر ويزلزلون الإلحاد، ويقيمون العدل وينشرون الإسلام..

جند الفداء.. آساد أبوا أن يلينوا، وإخوان رفضوا أن يهونوا.. تعاهدوا على السير في طريق الجهاد، يصارعون البغي، ويزرعون الخير، وينشرون العدل..

جند الفداء.. لا يعيشون كالعبيد.. ولا ينحنون لغير الله.. يدافعون عن دينهم وأوطانهم بدمائهم وأموالهم.. إن عاشوا فعيشهم لله، وإن ماتوا ففي سبيل الله..

جند الفداء.. شباب مجاهدون، بايعوا ربهم بيعة صدق وإيمان.. بيعة ملؤها العزيمة والإصرار، رغم كل الأشواك والصعاب.. وهبّوا يدافعون عن أمتهم وكرامتهم، وضربوا المثل في الجهاد والاستشهاد في ساحات القتال، والصمود والثبات في أقبية السجون.. وروّوا بدمائهم المتدفقة غراس الحرية والإيمان، ومضوا على الدرب لتزهر آمالهم وتينع أحلامهم، وليقطفوا النصر في نهاية المطاف بإذن الله.

إلى هؤلاء الأبطال الذين رفعوا راية الجهاد، وملأوا الكون بأنغام الكفاح، ومضوا للمعالي قُدماً يدحرون الطغيان ويصرعون البغي ويحطمون القيود ويرجون من الله النصر.. إلى هؤلاء الأبطال نظم الشاعر الشهيد محمد صالح هذه القصيدة عام 1980.

نشيد الفداء(6)

أسمعوا الدنـيا زغـاريد السلاح

واملـؤوا الـكون بـأنغام الكفاح

واغمروا الميدان من راح الجراح

وازحمـوا  الجوزاء يا جند الفدا

       

نـحـن آسـادٌ أَبـينا أن نلينـا

نحـن إخـوان رفضنا  أن نهونا

وتعـاهـدنـا بأنـا لـن  نكونا

أو نرى في "الساح"  راياتِ الفداء

       

يسعـد الـكون بنـا لمـا يرانا

نصـرع البغـي ونرديـه مهانا

نـزرع الخيـر  وترويه دمـانا

فينادي : عـاش إخـوان الفـدا

       

قـد مهرنا النّصْر منا كل غالي

قـد مهـرنـاه بمـال ورجال

فـأتـانـا الله فـي ساح القتال

وحـبـانـا منـه نصراً  للفدا

       

أزهـرت آمـالنـا بيـن المنايا

أينعـت أحلامنا فـوق الضحايا

فاستحـال الـكون وضاء الثنايا

وازدهت في الجـوِّ رايات الفدا

مختارات من شعره (2)

أمّاه

نظم الشاعر هذه القصيدة عام 1976، على لسان شهيد يخاطب أمّه قبل الرحيل.. فجاءت تكبير مجاهد يتحدّى.. وبسمات شهيد يتنزّى.. شهيد لا يخاف الموت وحسب، بل "ومناه أن يُستشهدا".

لقد أدرك شاعرنا أن هذه الدار لن تُبقي على أحد، ولن يُقصّر الإقدام والشجاعة عُمر مجاهد صنديد، ولن يُطيل الجُبن والخَور والتردد من عمر جبان رعديد.. فلا نامت أعين الجبناء.. وصدق الله العظيم: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) الأعراف: آية: 34.. وما أجمل قول الشاعر في هذا إذ يقول:

تأخّرتُ أستبقي الحياة فلم أجد     لنفسي حياة مثل أن أتقدّما

أمّاه(7)

الشهيد يخاطب أمه قبل الرحيل

أُماه قد أزف الرحيل فهيّئي كفن الـرَّدى

أمـاه إني زاحـف للموت  لن  أتـردَّدا

أمـاه لا تبكي عليَّ  إذا سقطتُ  ممـدَّدا

فالموت ليس يخيفني، ومناي أن  أستشهدا

والحـر يأبى أن يلين وأن يهادن  مفسدا

       

الله أكبـر كلـما صـوت القنابل زغردا

الله أكبر كلما صدح الرصـاص وغـرّدا

الله أكبر لن تضيع دماءُ إخـواني سـدى

فالنصر أقبل ضاحكاً والحق زاد تـوقدا

والحور زُفَّتْ للشهيد ومهرها سهـم العدا

       

نأبى الخنوع وهامنا علمٌ  على طول المـدى

نأبى الصَّغار ولو أعدَّ  الذابحون لنا المُـدى

نأبى الركون إلى الطغاة الحاقدين على الهدى

فـليقتلونا إنـنا مهـما الجبـان استأسـدا

سنتابع الدرب الطويل المستقيم الصاعــدا

جُرحُ الفُؤاد(8)

هذه القصيدة من قصائد الرثاء للشاعر محمد صالح.. نظمها وأهداها إلى روح الشهيد تميم الشققي.. وقدّم لها بهذه الكلمات:

"أأنصفك قائداً أم أرثيك أخاً أم أناجيك حبيباً.. وفي كلّ لن أبلغ إلا النزر اليسير مما يتطلبه الوفاء، وتمليه الحقيقة، ويقتضيه الواجب".

نظم هذه القصيدة وفاء للشهيد الراحل.,. وعدّد فيها بطولاته الكثيرة، وتفانيه في الجهاد، وذكر فيها حرقة الألم ولوعة الفراق.. فكان في رثائه صادق الإحساس، جميل التعبير.

جُرحي اليوم قد أصاب فؤادي    وجـريح الفـؤاد ليس يقـومُ

ومصابي  بأعظم الناس عندي    وأعـزُّ الذين حـولي تميـمُ

فاعـذلاني أو اعذرالي بكائي     يـا خليـليَّ فالمصاب أليـم

كـان عندي كل شيءٍ عظيماً    حين يحنو وحين يقسو  عظيمُ

       

حين يرضى وحين يغضب سمحٌ   حين يعفو وحين يجفو كريمُ

كان شمساً إذا رآهـا اختفى البد  ..رُ وتـخبو إذا رأتها النجوم

كـان ليثاً تفرُّ منـه ذئاب الـ   ـغاب جمـعاً إذا رأته يحومُ

ٍكـان شهماً يحبُّـه كـلُّ شهمٍ    كان سيفاً تهاب منه الخصوم

فـاعـذراني إذا بـكيت تميماً    فـتمـيم فـي جانحيَّ مقيمُ

الهوامش:

(1) ديوان "حصاد العاصفة" ص17.

(2) ديوان "حصاد العاصفة" ص74.

(3) ديوان "حصاد العاصفة" ص81.

(4) ديوان "حصاد العاصفة" ص89.

(5) ديوان "حصاد العاصفة" ص51.

(6) ديوان "حصاد العاصفة" ص13 – 15.

(7) ديوان "حصاد العاصفة" ص22 – 24.

(8) ديوان "حصاد العاصفة" ص94 – 95.