شيخ الإسلام ابن تيمية حياته ومناقبه

[3-3]

موسى بن سليمان السويداء / السعودية

[email protected]

تتمـة مختصر كـلام الحافـظ عمـر البـزار عن شيـخ الإسـلام ...

 في ذكر قوة قلبه وشجاعته :

   كان - رضي الله عنه - من أشجع الناس وأقواهم قلباً ما رأيت أحداً أثبت جأشاً منه ولا أعظم عناء في جهاد العدو منه كان يجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده ولا يخاف في الله لومة لائم .

   وأخبر غير واحد أن الشيخ - رضي الله عنه - كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهاد يكون بينهم واقيتهم وقطب ثباتهم إن رأى من بعضهم هلعاً أو رقة أو جبانة شجعه وثبته وبشره ووعده بالنصر والظفر والغنيمة وبين له فضل الجهاد والمجاهدين وإنزال الله عليهم السكينة .

   وكان إذا ركب الخيل يتحنك ويجول في العدو كأعظم الشجعان ويقوم كأثبت الفرسان ويكبر تكبيراً أنكى في العدو من كثير من الفتك بهم ويخوض فيهم خوض رجل لا يخاف الموت .

وحدثوا أنهم رأوا منه في فتح عكة أموراً من الشجاعة يعجز الواصف عن وصفها قالوا : " ولقد كان السبب في تملك المسلمين إياها بفعله ومشورته وحسن نظره " .

   ولما ظهر السلطان غازان على دمشق المحروسة جاءه ملك الكرج وبذل له أموالاً كثيرة جزيلة على أن يمكنه من الفتك بالمسلمين من أهل دمشق ووصل الخبر إلى الشيخ فقام من فوره وشجع المسلمين ورغبهم في الشهادة ووعدهم على قيامهم بالنصر والظفر والأمن وزوال الخوف فانتدب منهم رجال من وجوههم وكبرائهم وذوي الأحلام منهم فخرجوا معه إلى حضرة السلطان غازان فلما رآهم السلطان قال : " من هؤلاء ؟ " فقيل هم رؤساء دمشق فأذن لهم فحضروا بين يديه فتقدم الشيخ - رضي الله عنه – أولاً فلما أن رآه أوقع الله له في قلبه هيبة عظيمة حتى أدناه وأجلسه وأخذ الشيخ في الكلام معه أولاً في عكس رأيه عن تسليط المخزول ملك الكرج على المسلمين وضمن له أموالاً واخبره بحرمه دماء المسلمين وذكره ووعظه فأجابه إلى ذلك طائعاً وحقنت بسببه دماء المسلمين وحميت ذراريهم وصين حريمهم .

وحدثني من أثق به عن الشيخ وجيه الدين ابن المنجا قدس الله روحه قال : " كنت حاضراً مع الشيخ حينئذ فجعل - يعني الشيخ - يحدث السلطان بقول الله ورسوله في العدل وغيره ويرفع صوته على السلطان في أثناء حديثه حتى جثا على ركبتيه وجعل يقرب منه في أثناء حديثه حتى لقد قرب أن تلاصق ركبته ركبة السلطان والسلطان مع ذلك مقبل عليه بكليته مصغ لما يقول شاخص إليه لا يعرض عنه وأن السلطان من شدة ما أوقع الله ما في قلبه من المحبة والهيبة سأل من يخصه من أهل حضرته من هذا الشيخ وقال ما معناه إني لم أر مثله ولا أثبت قلباً منه ولا أوقع من حديثه في قلبي ولا رأيتني أعظم انقياداً مني لأحد منه فأخبر بحاله وما هو عليه من العلم والعمل فقال الشيخ للترجمان : قل لغازان أنت تزعم انك مسلم ومعك قاضي وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا فغزوتنا وأبوك وجدك كانا كافرين وما عملا الذي عملت عاهدا فوفيا وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت وجرت . وسأله إن أحببت أن أعمر لك بلد آبائك حران وتنتقل إليه ويكون برسمك فقال : لا والله لا أرغب عن مهاجر إبراهيم استبدل به غيره . فخرج من بين يديه مكرماً معززاً قد صنع له الله بما طوى عليه نيته الصالحة من بذله نفسه في طلب حقن دماء المسلمين فبلغه ما أراده وكان ذلك أيضاً سبباً لتخليص غالب أسارى المسلمين من أيديهم وردهم على أهلهم وحفظ حريمهم " .

وهذا من أعظم الشجاعة والثبات وقوة الجأش ..

وكان يقول : " لن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه فان رجلا ًشكى إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة فقال : لو صححت لم تخف أحداً - أي خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك – " .

   وأخبرني من لا أتهمه أن الشيخ - رضي الله عنه - حين وشي به إلى السلطان المعظم الملك الناصر محمد أحضره بين يديه قال فكان من جملة كلامه : " إنني أخبرت انك قد أطاعك الناس وأن في نفسك اخذ المُلك ؟ فلم يكترث به بل قال له بنفس مطمئنة وقلب ثابت وصوت عال سمعه كثير ممن حضر : أنا أفعل ذلك ؟! والله إن ملكك وملك المغل لا يساوي عندي فلسين . فتبسم السلطان لذلك وأجابه في مقابلته بما أوقع الله له في قلبه من الهيبة العظيمة : إنك والله لصادق وإن الذي وشيء بك إلي كاذب . واستقر له في قلبه من المحبة الدينية ما لولاه لكان قد فتك به منذ دهر طويل من كثرة ما يلقى إليه في حقه من الأقاويل الزور والبهتان " .

   ولم يزل المبتدعون أهل الأهواء وآكلو الدنيا بالدين متعاضدين متناصرين في عدوانه باذلين وسعهم بالسعي في الفتك به متخرصين عليه بالكذب الصراح مختلقين عليه وناسبين إليه ما لم يقله ولم ينقله ولم يوجد له به خط ولا وجد له في تصنيف ولا فتوى ولا سمع منه في مجلس . أتراهم ما علموا أن الله سائلهم عن ذلك ومحاسبهم عليه ؟ أو ما سمعوا قول الله تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } ؟

   بلى والله ولكن غلب عليهم ما هم فيه من إيثار الدنيا على الآخرة والعمل للعاجلة دون الآجلة فلهذا حسدوه وابغضوه حتى أنه لم يحضر معه منهم أحد في عقد مجلس إلا وصنع الله له ونصره عليهم بما يظهره على لسانه من دحض حججهم الواهية وكشف مكيدتهم الداهية للخاصة والعامة .

 في ذكر قوته في مرضاة الله وصبره على الشدائد

واحتماله إياها وثبوته على الحق إلى أن توفاه

الله تعالى على ذلك صابراً محتسباً راضياً شاكراً :

   كان - رضي الله عنه - من أعظم أهل عصره قوة ومقاماً وثبوتاً على الحق وتقريراً لتحقيق توحيد الحق لا يصده عن ذلك لوم لائم ولا قول قائل ولا يرجع عنه لحجة محتج بل كان إذا وضح له الحق يعض عليه بالنواجذ ولا يلتفت إلى مباين معاند فاتفق غالب الناس على معاداته وجعل من عاداه قد تستروا باسم العلماء وهم أبلغ الناس في الإقبال على الدنيا والإعراض عن الآخرة .

   وسبب عدواتهم له أن مقصودهم الأكبر طلب الجاه والرئاسة وإقبال الخلق ورأوه قد رقاه الله إلى ذروة السنام من ذلك بما أوقع له في قلوب الخاصة والعامة من المواهب التي منحه بها وهم عنها بمعزل فنصبوا عداوته وامتلأت قلوبهم بمحاسدته وأرادوا ستر ذلك عن الناس حتى لا يفطن بهم فعمدوا إلى اختلاق الباطل والبهتان عليه والوقوع فيه خصوصاً عند الأمراء والحكام وإظهارهم الإنكار عليه ما يفتي به من الحلال والحرام فشققوا قلوب الطغام بما إجترحوه من زور الكلام ونسوا أن لكل قول مقاما أي مقام بين يدي أحكم الحكام يسأله هل قلته بحق أو بذام فيجازي المحق دار السلام والمبطل دار الانتقام .. فبعضهم صبا إلى أقوالهم تقليداً وصار في حق هذا الإمام جباراً عنيداً أحس بذلك من العامة قوم قد أصبحوا للحكام عبيدا وتصوروا أن أخذهم بزمام حصول المال يكون شديدا فأصبحوا وهم لهم مصدقين وفي طاعتهم مستبقين .

   فاجتمع من هذا التركيب العتديد بحيث عاداه أكثر السادات والعبيد كل بحسب غرضه الفاسد وهو مع ذلك كلما رأى تحاشدهم في مباينته وتعاضدهم في مناقضته لا يزداد إلا للحق انتصارا ولكثرة حججه وبراهينه إلا إظهارا.

   ولقد سجن أزماناً وأعصارا وسنين وشهورا ولم يولهم دبره فرارا ولقد قصد أعداؤه الفتك به مرارا وأوسعوا حيلهم عليه إعلاناً وإسرارا فجعل الله حفظه منهم له شعارا ودثارا ولقد ظنوا أن في حبسه مشينة فجعله الله له فضيلة وزينة وظهر له يوم موته ما لو رآه واده أقر به عينيه فإن الله تعالى لعلمه بقرب اجله ألبسه الفراغ عن الخلق للقدوم على الحق أجمل حلله كونه حبس على غير جريرة ولا جريمة بل على قوة في الحق وعزيمة .

   هذا مع ما نشر الله له من علومه في الآفاق وبهر بفنونه البصائر والأحداق وملأ بمحاسن مؤلفاته الصحف والأوراق كبتاً ورغماً للأعداء أهل البدع المضلة والأهواء وصنعاً عظيمة من رب السماء لعوائده لخاصة الأولياء أهل المحبة والولاء .

 في أن الله جعله حجة ومعياراً للحق والباطل :

   وهذا أمر قد اشتهر وظهر فإنه - رضي الله عنه - ليس له مصنف ولا نص في مسألة ولا فتوى إلا وقد اختار فيه ما رجحه الدليل النقلي والعقلي على غيره وتحرى قول الحق المحض فبرهن عليه بالبراهين القاطعة الواضحة الظاهرة بحيث إذا سمع ذلك ذو الفطرة السليمة يثلج قلبه بها ويجزم بأنها الحق المبين وتراه في جميع مؤلفاته إذا صح الحديث عنده يأخذ به ويعمل بمقتضاه ويقدمه على قول كل قائل من عالم ومجتهد .

   وإذا نظر المنصف إليه بعين العدل يراه واقفاً مع الكتاب والسنة لا يميله عنهما قول أحد كائنا من كان ولا يراقب في الأخذ بعلومهما أحداً ولا يخاف في ذلك أميراً ولا سلطاناً ولا سوطاً ولا سيفاً ولا يرجع عنهما لقول أحد وهو متمسك بالعروة الوثقى واليد الطولى وعامل بقوله تعالى : { فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر ذلك خير وأحسن تأويلا } وبقوله تعالى : { وما اختلفتم فيه من شئ فحكمة إلى الله } .

   وما سمعنا انه اشتهر عن أحد منذ دهر طويل ما أشتهر عنه من كثرة متابعته للكتاب والسنة والإمعان في تتبع معانيهما والعمل بمقتضاهما ولهذا لا يرى في مسألة أقوالاً للعلماء إلا وقد أفتى بأبلغها موافقة للكتاب والسنة وتحرى الأخذ بأقومها من جهة المنقول والمعقول .

   ولما من الله عليه بذلك جعله حجة في عصره لأهله حتى إن أهل البلد البعيد عنه كانوا يرسلون إليه بالاستفتاء عن وقائعهم ويعولون عليه في كشف ما التبس عليهم حكمه فيشفى غلتهم بأجوبته المسددة ويبرهن على الحق من أقوال العلماء المقيدة حتى إذا وقف عليها كل محق ذو بصيرة وتقوى ممن قد وفق لترك الهوى أذعن بقبولها وبان له حق مدلولها وإن سمع عن أحد من أهل وقته مخالفته في حقه المشهور يكون ممن قد ظهر عليه للخاصة وللعامة فعل الشرور والاشتغال بترهات الغرور ومن أراد تحقيق ما ذكرته فليمعن النظر ببصيرته فإنه حينئذ لا يرى عالماً من أي أهل بلد شاء موافقاً لهذا الإمام معترفاً بما منحه الله تعالى من صنوف الإلهام مثنياً عليه في كل محفل ومقام إلا وراءه من اتبع علماء بلده للكتاب والسنة وأشغلهم بطلب الآخرة وأرغبهم فيها وابلغهم في الإعراض عنها وأهملهم لها ولا يرى عالماً مخالفاً له منحرفاً عنه ملتبساً بالشحناء له إلا وهو من أكبرهم نهمة في جمع الدنيا وأوسعهم حيلاً في تحصيلها وأكثرهم رياء وأطلبهم سمعة وأشهرهم عند ذي اللب أحوالاً ردية وأشدهم على ذوي الحكم والظلم دهاءً ومكراً وأبسطهم في الكذب لساناً .

   وإن نظر إلى محبيه ومبغضيه من العوام رآهم كما وصفت من اختلاف القبيلين الأولين ولقد أمعنت فكري ونظري فيما ذكرته فرأيته كما وصفته لا والله ما أتحرج في أحد منهما ومن ارتاب في ذلك فليعتبر هو بنفسه فإنه يراه كذلك إن أزاح عنه غطاء الهوى وما كان ذلك كذلك إلا لما علم الله سبحانه من حسن طوية هذا الإمام وإخلاص قصده وبذل وسعه في طلب مرضاة ربه ومتابعة سنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه .

 في ذكر وفاته وكثرة من صلى عليه وشيعه :

   أخبرني غير واحد ممن كان حاضرا بدمشق حين وفاته - رضي الله عنه - قالوا إن الشيخ قدس الله روحه مرض أياماً يسيرة وكان إذ ذاك الكاتب شمس الدين الوزير بدمشق المحروسة فلما علم بمرضه استأذن في الدخول عليه لعيادته فأذن الشيخ له في ذلك فلما جلس عنده اخذ يعتذر له عن نفسه ويلتمس منه أن يحله مما عساه أن يكون قد وقع منه في حقه من تقصير أو غيره فأجابه الشيخ - رضي الله عنه - : " بأني قد أحللتك وجميع من عاداني وهو لا يعلم أني على الحق " وقال ما معناه : " إني قد أحللت السلطان الملك الناصر من حبسه إياي لكونه فعل ذلك مقلداً غيره معذوراً ولم يفعله لحظ نفسه بل لما بلغه مما ظنه حقاً من مبلغة والله يعلم انه بخلافه وقد أحللت كل واحد مما كان بيني وبينه إلا من كان عدوا لله ورسوله " .

   قالوا ثم إن الشيخ - رضي الله عنه - بقي إلى ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة الحرام وتوفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه في بكرة ذلك اليوم وذلك من سنة ثمان وعشرين وسبع مئة ( 728 هـ ) وهو على حاله مجاهداً في ذات الله تعالى صابراً محتسباً لم يجبن ولم يهلع ولم يضعف ولم يتتعتع بل كان - رضي الله عنه - إلى حين وفاته مشتغلاً بالله عن جميع ما سواه .

   قالوا فما هو إلا أن سمع الناس بموته فلم يبق في دمشق من يستطيع المجئ للصلاة عليه إلا حضر لذلك وتفرغ له حتى غلقت الأسواق بدمشق وعطلت معايشها حينئذ وحصل للناس بمصابه أمر شغلهم عن غالب أمورهم وأسبابهم وخرج الأمراء والرؤساء والعلماء والفقهاء والأتراك والأجناد والرجال والنساء والصبيان من الخواص والعوام !.

   قالوا ولم يتخلف أحد من غالب الناس فيما اعلم إلا ثلاثة أنفس ! كانوا قد اشتهروا بمعاندته فاختفوا من الناس خوفاً على أنفسهم بحيث غلب على ظنهم أنهم متى خرجوا رجمهم الناس فأهلكوهم !.

   فغسل - رضي الله عنه – وكفن ثم أخرجت جنازته فما هو إلا أن رآها الناس فأكبوا عليها من كل جانب كلا منهم حتى خشي على النعش أن يحطم قبل وصوله إلى القبر فأحدق بها الأمراء والأجناد واجتمع الأتراك فمنعوا الناس من الزحام عليها خشية من سقوطها وعليهم من اختناق بعضهم وجعلوا يردونهم عن الجنازة بكل ما يمكنهم وهم لا يزدادون إلا ازدحاماً وكثرة حتى أدخلت جامع بني أمية المحروس ظناً منهم أنه يسع الناس فبقي كثير من الناس خارج الجامع وصلي عليه رضي الله عنه في الجامع ثم حمل على أيدي الكبراء والأشراف ومن حصل له ذلك من جميع الناس إلى ظاهر دمشق ووضع بأرض فسحة متسعة الأطراف وصلى عليه الناس !.

   قال أحدهم : " وكنت أنا قد صليت عليه في الجامع وكان لي مستشرف على المكان الذي صلى فيه عليه بظاهر دمشق فأحببت أن أنظر إلى الناس وكثرتهم فأشرفت عليهم حال الصلاة وجعلت انظر يميناً وشمالاً ولا أرى أواخرهم بل رأيت الناس قد طبقوا تلك الأرض كلها ! " .

   واتفق جماعة ممن حضر حينئذ وشاهد الناس والمصلين عليه على أنهم يزيدون على خمسمائة ألف ! وقال العارفون بالنقل والتاريخ : " لم يسمع بجنازة بمثل هذا الجمع إلا جنازة الإمام احمد بن حنبل - رضي الله عنه –  " .

   ثم حمل بعد ذلك إلى قبره فوضع وقد جاء الكاتب شمس الدين الوزير ولم يكن حاضراً قبل ذلك فصلى عليه أيضاً ومن معه من الأمراء والكبراء ومن شاء الله من الناس .

ولم ير لجنازة أحد ما رئي لجنازته من الوقار والهيبة والعظمة والجلالة وتعظيم الناس لها وتوقيرهم إياها وتفخيمهم أمر صاحبها وثنائهم عليه بما كان عليه من العلم والعمل والزهادة والعبادة والإعراض عن الدنيا والاشتغال بالآخرة والفقر والإيثار والكرم والمروءة والصبر والثبات والشجاعة والفراسة والإقدام والصدع بالحق والإغلاظ على أعداء الله وأعداء رسوله والمنحرفين عن دينه والنصر لله ولرسوله ولدينه ولأهله والتواضع لأولياء الله والتذلل لهم والإكرام والإعزاز والاحترام لجنابهم وعدم الاكتراث بالدنيا وزخرفها ونعيمها ولذاتها وشدة الرغبة في الآخر والمواظبة على طلبها حتى لتسمع ذلك ونحوه من الرجال والنساء والصبيان وكل منهم يثنى عليه بما يعلمه من ذلك .

ودفن في ذلك اليوم - رضي الله عنه - ثم جعل الناس يتناوبون قبره للصلاة عليه من القرى والأطراف والأماكن والبلاد مشاة وركبانا !

وما وصل خبر موته إلى بلد فيما نعلم إلا وصلي عليه في جميع جوامعه ومجامعه خصوصاً ارض مصر والشام والعراق وتبريز والبصرة وقراها وغيرها .

وختمت له الختمات الكثيرة في الليالي والأيام في أماكن كثيرة لم يضبط عددها خصوصاً بدمشق المحروسة ومصر والعراق وتبريز والبصرة وغيرها حتى جعل كثير من الناس القراءة له ديدناً لهم أديرت الربعة الشريفة على الناس لقراءة القران المجيد وإهدائه له وظيفة معتادة .

وقد رثاه كثير من الفضلاء بقصائد متعددة ولا يسع هذا المختصر لذكرها وذلك لما وجب للشيخ - رضي الله عنه - عليهم من الحق في إرشادهم إلى الحق والمنهج المستقيم بالأدلة الواضحة الجلية النقلية والعقلية خصوصاً في أصول الدين فإن الله انعم على الناس به في هذا الزمان الذي قد ظهرت فيه البدع فأميتت السنن وصار أغلب أهله ممرجين في البدع والحرام من حيث لا يشعرون ومن حيث لا يعلمون .

ومن الله عليهم بما وفقه له من إيضاح أصول الدين وتبيين الحق المحض والاعتقاد العدل وإفراده عن غيره من البدع والضلالات بأمور لم يسبق إلى مثلها وإظهارها على لسانه بما أورده من ذلك في مؤلفاته ومصنفاته وقواعده المطابقة للحق وتقريراته وما أبرزه من الحجج والبراهين الظاهرة الموافقة للمعقول والمنقول مما لم يتمكن أحد من المتكلمين والمناظرين الإتيان بمثله وما أظهره وأورده من كثرة الدلائل العقلية بعد النقلية حتى قطع به جميع المبتدعين وكشف به عوار حجج الشاكين المشككين .