جولة في ذاكرة الراحل هاني الطايع

 (2)

هاني الطايع رحمه الله

باسل الرفاعي

باحث في تاريخ سورية الحديث

[email protected]

وقفنا في الحلقة السابقة على ملامح متميزة من طفولة ونشأة ودراسة "هاني الطايع" الذي وافته المنيّة في الشهر الأول من هذا العام، وسمعنا منه حكاية انتمائه لجماعة "الإخوان المسلمين" التي كان أحد كوادرها النشطة قبل خروجه من سورية في ستينيات القرن الماضي، ومشاهداته المبكرة لمراقبها الأول، وقياداتها المختلفة، وآثار أول انشقاق فيها بقيادة رجل النظام الناصري "نجيب جويفل"؛ كذلك حدثنا "أبو الربيع" عن طبيعة العلاقة المتوترة التي قامت بين الإخوان وخلايا البعث الأولى في اللاذقية، وأسباب الصدامات الدامية التي كانت تقوم أحياناً بين التنظيمين المتنافسين، على الرغم من وقوفهما معاً في صف واحد لدعم قضايا الأمة والوطن التي كانت تجدّ في ذلك الحين.

الانتخابات التكميلية

قاطع الإخوان انتخابات عام 1956 م. التي أعقبت سقوط الشيشكلي، مفضّلين مداواة جروحهم الداخلية التي خلّفها انشقاق نجيب جويفل من جهة، وحظر نشاط الجماعة من جهة أخرى، لكن خلوّ أحد المقاعد الانتخابية في العام التالي، واحتدام المنافسة بين الأحزاب التقليدية من جهة، و"الجبهة القومية" من جهة أخرى، ممثلة للاتجاهات الاشتراكية والقومية واليسارية جميعاً، انتهى بقيام مراقب عام الجماعة د. مصطفى السباعي بترشيح نفسه في مقابل مرشح الطرف الآخر: رياض المالكي.

ولقد اشتد الجدل حول الأسباب التي دعت السباعي لقبول هذا الترشيح الذي اعتبره البعض "توريطاً" من الأحزاب "التقليدية" لضرب خصومهم من البعثيين والاشتراكيين واليساريين بيد الإخوان وسمعة السباعي؛ ورأى آخرون في قبول السباعي دليلاً على مدى هيمنة "معروف الدواليبي" بالذات على مراقب عام الإخوان وقراراته المصيرية؛ لكن هاني الطايع، ومن موقع المعايشة والمشاهدة، ينفي ما تقدّم، ويرى في حديثه المسجّل "أن القوم إذا كانوا قد رغّبوه وحسّنوا له خوض المعركة الانتخابية، فإنه ما كان ليقبل بالأمر لو لم يكن لديه استعداد وشيء من القناعة الداخلية، والسباعي كان يرى وقتذاك أن سورية في وضع مصيري، وربما اعتقد أن نجاحه كان مضموناً، وأن هذا النجاح سيفتح باب التغيير لإعادة التوازن السياسي إلى البلاد والوقوف في وجه الهجمة اليسارية التي كانت تتهددها.."؛ وينوّه الطايع من ثمّ إلى أن السباعي ما رسب في الانتخابات أو تخلّف عن نتائجها لقلة شعبية أو برفض الناس له، وإنما بسبب التزييف الذي حصل، نافياً مرة أخرى فكرة وجود هيمنة للدواليبي ـ أو سواه ـ على السباعي، والاعتقاد بأنه شخص من السهل أن يؤثر به الآخرون فيحملونه على هذا الموقف التاريخي بهذه البساطة؛ وعلى العكس من ذلك، أكد الطايع أن السباعي "رجل كبير جداً، وقد شهده في مواقف عدّة يبدو الكبار بجانبه صغاراً، وأن شخصيته كانت متألقة حتى بوجود الدواليبي الذي كان يمتثل لإشارة يشير له بها السباعي"!

ويروي هاني الطايع بهذا الصدد أنه عندما كان دون العشرين من عمره، حضر من اللاذقية إلى دمشق يحمل رسالة من محمد المجذوب للسباعي الذي استقبله في مكتبه بكلية الشريعة مرحّباً، وأجلسه على كرسي بالقرب منه، ولما أعلمه الطايع باسمه قرأ عليه مداعباً بيت شعر يقول: وطيفهُ الحلمُ الهاني إذا رقدوا... (1)

ويضيف هاني الطايع بأن الدكتور الدواليبي لم يلبث أن دخل المكتب وهو لا يزال على كرسيه بقرب السباعي، فتنحى احتراماً للدواليبي وقدّم له الكرسي القريب، إلا أن السباعي أشار إليه أن يبقى في مكانه، وقال للدواليبي وهو يومي إلى كرسي آخر: تفضل يا أستاذ؛ وامتثل الدواليبي، واستمر المجلس على هذه الحال، وبين كل فينة وأخرى كان السباعي يتيح المجال للطايع ـ على حداثة سنه ـ ليدلي بدلوه في الحديث مؤازراً ومشجعاً.

الوحدة.. والانفصال

ثار كثير من الجدل حول قبول القيادات السورية الوحدة مع مصر عام 1958 م.، وطال بعض ذلك قرار قيادة جماعة الإخوان التي ذاقت شقيقتها في مصر مرّ المحنة بسبب النظام الناصري، ثم ها هي تقبل بالوحدة وبحلّ الجماعة ثمناً لذلك! وفي هذا الصدد يقرّر الطايع أنّ الوحدة كانت في النتيجة "سفينة إنقاذ" لسورية وتركيبتها السياسية، وللإسلاميين فيها على وجه الخصوص"، موضحاً أن حكومة "الجبهة القومية" التي سبقت تلك الوحدة كانت قد حشدت في صفها القوميين واليساريين والكثير من الاتجاهات السياسية "التي إن لم تكن تعادي الإسلاميين فهي لا تبالي بأذيّتهم وإقصائهم، فيما تولى العسكريون إدارة الأمور بشكل عملي، وأخذ اليساريون يقفزون إلى مراكز القوة والتأثير يوماً بعد يوم، الأمر الذي جعل الإسلاميين يعيشون حالة ترقب وتوجس وهم يتوقعون التصفية والسحل في الشوارع"!

ومن جانب آخر يؤكد الطايع أن "فكرة الوحدة كانت شعاراً وأملاً يدغدغ عواطف المسلم ويلبيها بغضّ النظر عن الظرف والاعتبارات الأخرى، ورافق ذلك اجتهاد بأن عبد الناصر على الرغم من اعتباره طاغية ودكتاتوراً، إلا أنه يبقى فرداً واحداً سوف يأتي يوم يزول فيه وتبقى الوحدة بين البلدين، وإضافة لذلك فإن الوحدة قوّة في وجه إسرائيل التي تهدد الجميع، ولذلك فإن قرار الجماعة بتأييد الوحدة كان طبيعياً مهما كانت الكلف والضرائب، وكانت موافقة الإخوان على حلّ تنظيمهم ضمن هذا السياق".

"الاتحاد القومي"

ولقد نوّه الطايع ـ من ثمّ ـ إلى أن صلة الإخوان بالوضع العام للبلاد خلال سنوات الوحدة لم تنقطع على الرغم من حلّ التنظيم، ولفت النظر إلى أن مشاركتهم في انتخابات "الاتحاد القومي" التي دخلوها أفراداً تؤكد ذلك، وقد حقق أبناء الجماعة نجاحات كبيرة في تلك الانتخابات، وساعدهم على ذلك تأذي الناس من التجربة الحزبية السابقة التي كان اليسايون والقوميون عمادها؛ ويعدد الطايع من أسماء من نجحوا من اللاذقية وحازوا نسبة كبيرة من الأصوات: محمد المجذوب، عبد الغفور الطويل، عبد المنعم عقدة، محمد الساعي، وكثيرين غيرهم، ويلفت النظر إلى أنه "كان من المفترض أن يصل من بين هؤلاء الفائزين عدد إلى الرئاسات العليا للاتحاد، غير أن المشكلة الحقيقية كانت في طبيعة الرئيس عبد الناصر الذي تجاوز كل النتائج الانتخابية، وجرى تعيين أناس في مراكز الاتحاد القومي العليا ممن كان بعضهم قد أخفق في النتائج الأولية للانتخابات"!

المناهج قبل الأشخاص

رفضت جماعة الإخوان المسلمين التوقيع على وثيقة الانفصال التي حملت تواقيع وموافقة مختلف الاتجاهات السياسية والتنظيمات الحزبية السورية وقتذاك، لكن الجماعة لم تلبث أن عادت إلى المشاركة السياسية وخاضت غمار الانتخابات النيابية التي شهدها العهد الجديد، واستطاعت الفوز بعدد من المقاعد عن محافظات سورية عديدة؛ ووفق ما يتذكره هاني الطايع عن تلك المرحلة فإن الإخوان "كان لهم نشاط نيابي وسياسي، وهم أصحاب رأي أساسي في تلك الفترة الحافلة بالاضطرابات، وكانوا يُدعون للمشورة والمشاركة في اللجان التي كانت تُشكّل بعد كل محاولة انقلاب أو مشكلة جديدة"، ويضيف بأن ذلك كان يتمّ بشخص "قائد الدعوة" الأستاذ عصام العطار أحياناً، وقد يشترك معه من الجماعة شخص أو اثنان في لجنة سياسية لإدارة البلد من عشر أشخاص".

وعلى الرغم من وصف الطايع حضور الإخوان في مجلس النواب بأنه كان "حضوراً متميّزاً" ، إلا أنه لا يتردد في انتقاد أدائهم خلال تلك الفترة الحساسة واعتباره "مع الأسف حضوراً بأشخاصهم"، موضحاً أنّ التجربة النيابية كشفت عن"علّة قاتلة هي افتقاد المشروع الإسلامي النهضوي، وافتقاد الحلول السياسية لإصلاح الأمور الأساسية في البلاد بعد تجربة الوحدة، كقضية الإصلاح الزراعي، وقضية المؤسسات الصناعية، وقضايا تشريعية وقانونية كانت تحتاج إلى الرأي الناضج والمدروس، بينما بدت طروحات النواب حينذاك متأثرة بالنظرة الشخصية وببيئة كل نائب أكثر من تأثرها بالاجتهاد الفقهي العام للجماعة"؛ الأمر الذي جعله يؤكد ـ في حديثه ـ على "ضرورة صياغة المناهج قبل الأشخاص، لأن الأشخاص سيختلفون كثيراً إذا لم تكن المناهج واضحة وناضجة".

الكفاءات.. والانتماء

يقرر الطايع أن المواطن السوري في ذلك العهد "بات بحكم الممارسة على معرفة بنهايات العهود وملامح التغيير، وصار متوقعاً أن يزول حكم الانفصال لأسباب كثيرة، أولها الدور العظيم الذي كان حزب البعث مهيئاً لإنجازه في سورية، والذي رأينا فصوله في السنين الماضية مع الأسف؛ وللتأثيرات الخارجية لعبد الناصر ثانياً، ثم للخلافات الكثيرة التي عصفت بالحكم ورجال الحكم، وأدت إلى تخلي أهل البلاد عنها، حتى بلغت الحال درجة خطورة مريض العناية المركّزة!"؛ ومن جانب آخر فإن "الدعوة الإسلامية التي تفرّق أبناؤها إلى حدّ كبير خلال عهد الوحدة ـ نتيجة الحلّ ـ فلم يبق منهم إلا مجموعات قليلة مترابطة، ثم جاء هذا الظهور المباغت للحركة ولشخصية الأستاذ عصام في عهد الانفصال، والبلد بحاجة إلى من يملأ فراغها السياسي، مما منح الحركة الإسلامية مكاناً متميزاً، لو أن قيادتها كانت على جرأة ووعي وقدرة على العمل المستقبلي، لكان بإمكانها أن تؤدي دوراً في تاريخ سورية أكبر بكثير مما أدته، ولأمكنها تجنيب البلاد المآسي والحال التي انتهينا إليه"، لافتاً النظر إلى ان الحركة الإسلامية "كانت تملك وقتذاك كادراً شعبياً وفنياً في أجهزة الدولة وخارجها لا تملكه دعوة أخرى"، ويستدل بشهادة شبلي العيثمي ـ في ملفات المعارضة السورية ـ الذي أفاد "أن حزب البعث لما أراد العودة للتنظيم بعد الانفصال لم يكن يملك أكثر من بضع مئات من الأشخاص (2)، فيما كان كادر الدعوة الإسلامية ممتداً وكبيراً، حتى أن بعض كليات جامعة دمشق كانت مغلقة في بعض الفروع على الإخوان بالذات"!

ولا يتردّد هاني الطايع بالمقابل في الاعتراف بأن "دور الإسلاميين في الجيش وفي المواقع الأمنية كان ضعيفاً على الدوام، وأن لديهم قصور في السعي للاستيلاء على السلطة من خلال الجيش"، ويردّ ذلك إلى "عقد نفسية وحالات ذاتية سبّبت النفور من دور العسكر وما عملوه في العالم الثالث وفي سورية بالذات، إضافة إلى شعورهم بحكم انتمائهم المدينيّ (نسبة للمدن) وإلى الأسر التي حكمت البلاد طويلاً من آبائهم وأجدادهم، أنهم أبناء هذا البلد وامتداد للتاريخ العريق لهذا البلد، بينما كان الآخرون ينظرون إلى الجيش على أنه وسيلتهم لافتراس البلد والهيمنة عليه، وفارق كبير بين الدافعين!"؛ وعلاوة على ذلك يضيف الطايع عامل "التربية الإخوانية والتربية الإسلامية عامة التي تُنفّر مما يحدث في الجيش من فساد وانحلال ومباهاة مكشوفة بالإلحاد والممارسات اللاأخلاقية، والتي كانت من شروط دخول الجيش أو الاستمرار فيه"، وينوّه بهذا الصدد إلى أن "سورية لم تعرف الاستقلال في جيشها منذ بداية الانتداب الفرنسي وإلى الآن، وأن جيش الشرق الذي أنشأته فرنسا ليتولى مقاليد الأمور في سورية ولبنان، بقي بصورة من الصور مستمراً حتى اليوم فيها، ولم يستطع أن يكوّن الجيش الوطني الذي يلبي رغبة الشعب بمجموعه وبتطلعاته، وإنما كان جيش فئات متناحرة متدابرة، وجيش مغامرين يقفزون به إلى آمال وغايات مشبوهة، وإنه من المبكر كثيراً أن يكتب تاريخ المشرق العربي الآن"، آملاً أن نعرف حقيقة ما جرى "عندما تباح الوثائق السرّية في يوم من الأيام!".

(1) الشعر لبدوي الجبل في قصيدته : "آلام" وهو عجز بيت يقول فيه:

فذكرُهُ الأملُ الهادي إذا انتبهوا             وطيفُهُ الحلُمُ الهاني إذا رقدوا

والقصيدة في رثاء الزعيم السوري إبراهيم هنانو.

(2) نصّ شبلي العيثمي في مقابلته مع مجلة "الوطن العربي" على أن "الذين انضموا إلى الحزب (بعد الانفصال) كان عددهم قليلاً ولا يساوي عشر عدد الحزبيين الحقيقي.. وفي عام 1963 كان عددنا حوالي 400 شخص، وخلال انقلاب 8 آذار قد يكون زاد قليلاً، ولكننا كنا ضعفاء". انظر: تمام البرازي ـ ملفات المعارضة السورية ـ ص198 ـ مطبعة مدبولي ـ القاهرة ـ 1994 م.