قوْسُ الأمَوي

يوميات شهر نونبر

في حُب فارس مغربي يملكُ قلبا أوسع من الوطن

شعيب حليفي

[email protected]

[حينما  شرعتُ منذ ماي الماضي في كتابة هذه النصوص، متوخيا أن تكون تجربة موازية تضيء بعضا من القضايا المحايثة لفعل الكتابة الإبداعية والنقدية ( ستنتهي خلال شهر ابريل القادم مستكملة دورة سنوية) ) تعمدت أن تكون بسمات سرد اليومي المتعلق بهوية الوجدان، خصوصا في بعض التفاصيل التي تهمني بأشكال مختلفة أو تهم من أحبهم ،بدأت أشعر بإحساس مختلف وجديد لأنني اكتشفتُ أشياء كثيرة لم أكن أُعرها الاهتمام الكافي وأصبحت نظرتي لها أكثر منهجية وقُربا ،فالكتابة تساهم في إعطاء كل ما حولنا حياة جديدة. ]

I

في مسيرة الأفراد والمجتمعات لا تسيرالحياة بشكل خطي وإنما عبر حلقات دائرية ، غير متشابهة ولكنها تكمل بعضها البعض ؛المهم فيها إن كل حلقة تحقق أمرين يجعلانها في الآن نفسه،امتدادا خفيا للحلقات السابقة  كما تبدو أيضا مستقلة ببعض خصوصياتها .

من هنا اعتبر أن حلقة أساسية بدأت في المغرب منذ استقلاله في نهاية الخمسينات من القرن العشرين (والأكيد أن هناك حلقات دائرية صغرى تتشكل وتنتهي ثم تعود لتنفتح داخل هذه الحلقة الكبرى) وهي الآن توشك أو تستعصي على الانغلاق حتى تتيح لنا بدء حلقة جديدة .

في بداية هذه الدائرة ، كانت أخطاؤنا عفوية ..لكننا الآن نعيش ركامات  أخطاء قصدية تتهدد وجودنا الثقافي والاجتماعي والسياسي والحضاري .كل واحد منا يتمنى انغلاق هذه الدائرة التي تحولت بفعل كل ما راكمته إلى بالُون يمتص كل شيء.

يوم دخلتُ المدرسة

كل إنسان يحب ما يريد  وتنمو شخصيته وفق نسيج دقيق ومنطقي من مسارات تستقطبه في كل مراحل حياته  وتؤثر فيه ، خصوصا في جانب الفكر والقيم .

 وقد تعلمت كثيرا إلى جانب والدي محمد بن عبد السلام، مدرستي الرمزية الأولى بمدينتي، وتشبعتُ بأحلام فرساننا ؛ وفي السوق رأيتُ كيف يتم بناء لغة لا علاقة لها بلغة اليومي الذي نعيشه في البيت وخارجه.كما كانت للحقول - وهي صفحة بيضاء- امتداد لأوراقي الخاصة  أكتب عليها ما أشاء .

في الدار البيضاء سيصيح الوعي مرتبا أكثر داخل الجامعة والعمل الصحفي والثقافي والجمعوي .ضمن هذا وغيره من جزئيات وتفاصيل أعرفها ولا أعرفها  من أفكار ومشاعر  في مجال الحياة ، صار لي بترتيب رباني أب روحي سيغير كثيرا من حياتي  في ما يتعلق بالقيم والرؤية إلى المجتمع ، إنه محمد نوبير الأموي..الذي هو مدرسة مفتوحة على الحياة،على العفة والصدق والإيثار على النفس والدفاع عن الحق والحرية بدون حساب. علمني كيف أكون محاربا في معارك أحبها .

وقد كنتُ دون العشرين  من عمري حينما زرته ورأيته أول مرة في ماي 1983  مع وفد من الصحفيين بالسجن المدني اغبيلة بالدار البيضاء ،حيث كان معتقلا عقب إضراب 20يونيو1981 . وقفت إلى جانب الزوار ..ثم فجأة يخاطبني وكان قد قرأ لي  مقالة نشرتها قبل تلك الزيارة بأيام .

حينما أفرجوا عنه في 19 نونبر1983عدتُ لزيارته ببيته بالمعاريف رفقة عدد من الصحفيين والأصدقاء ومنذ ذلك التاريخ صرتُ ابنا روحيا للأموي ، أُحِسُّ إلى جواره بطمأنينة لا حدود لها رغم صعوبة الوضع العام الذي كنا نعمل فيه إلى جانبه بقسم الإعلام .

العمل النقابي والاجتماعي ورشة كبرى، وأعتقد إنه بعد لحظة صاخبة من الوعي وتشكله بالمغرب، وبعد نضج حقيقي للفكر الثوري وللمعرفة عموما- خلال القرن العشرين على الأقل-  حصل تطابق بين الممارسة في تجسيد الأفكار واختبار الشعارات وبين الرؤية النظرية و الوعي بالمجتمع ، بعد تمهيدات عنيفة مع نخبة من المفكرين الثوريين بالمغرب ، مَثَّلهم بشكل صادق المهدي بنبركة ، ولاحقا عدد من رفاقه الذين واصلوا تطوير الرؤية والوعي.

ولأول مرة في تاريخ المغرب الحديث، وفي تجربة فريدة - ما تزال في حاجة إلى بحوث أكاديمية حقيقية تُقَيِّمُها وتستجلي نتائجها - يحصل تطابق بين الممارسة والرؤية  ضمن وعي نقابي،وذلك سنة 1978 في إطار مركزية نقابية عمالية مغربية سُميت بالكونفدرالية الديمقراطية للشغل ، والتي استطاعت  انطلاقا من  هذه الخلفيات  والطموحات المرتبطة بكل آفاق الفكر التنويري والثوري أن تحول مسار الفكر التقليدي ،تصارعه وتقاتله ، وبالتالي ومنذ ذلك الحين حتى نهاية القرن كانت السي دي تي - كما يحلو للمغاربة عموما تسميتها-  وراء كل التحولات الاجتماعية ، إنها مدرسة ثورية مفتوحة على التجريب والإبداع في أرض الواقع ، مفتوحة للتفكير في المجتمع والذات ، وأفخر أني ابن هذه المدرسة وابن أفكارها وقيمها  التي تصب في ما أومن به بخصوص الأرض والفلاحين .

***

أيام نونبر ماطرة وباردة ،الأرض فيها تحضن الزرع وتغذيه بحنين أمومي دافئ.

ما تزال الأزمة الاقتصادية العالمية تنيخ بكلاكلها على الاقتصاديات الهشة غير أننا نسمع مسؤولين هنا وهناك يتحدثون عن سلامة اقتصادنا ومناعته من هذا القدر المحتوم .في حين طلع أكثر من تقرير دولي ومحلي ينبئ بأننا في أسوأ حال ، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا .

- يعني أننا بلد منكوب ؟

- بل نحن في الدرجة القصوى من مستويات النكبة يا سيدي .

- أتقصد السكتة القلبية ؟

- الأمر لا يحتمل كلمات رنانة أو توصيفات سريعة ، وإنما يكفي فهم كيف تحول مفهوم الحياة عند المواطن من الاستمتاع بأيامه ولياليه وبمواطنته كاملة ،إلى الجري وراء العيش يوما بيوم ، ثم صار العبث بالحياة كما لو أنها لعبة يملكها أي واحد يرميها أو ترميه في أي لحظة دون وداع حقيقي .

لم تعد الحياة في جوهرها كما خُلِق الإنسان لها وخلقت له ..فطال حياتنا غبار وسخام وزيف ،حتى بعُدَت عنا وصارت تحتاج منا إلى مجهود ملحمي للتنقيب عنها واكتشافها من جديد.

- أنت يا أخي ترسم نفس اللوحة بما يوافق لحظتك النفسية ومزاجك .

- ربما ولكن أمطار شهر نونبر تذكرني بالأرض كثيرا.واستمتعت خلاله بقراءة ديوان سقط الزند لأبي العلاء بشروحات التبريزي والبطليوسي والخوارزمي.

صورتان بلون الروح

كنت ما أزال طالبا جامعيا بالدار البيضاء حينما ألحقني الأموي للاشتغال بقسم الإعلام النقابي  والدراسات الاجتماعية سنة  1984 إلى جانب الصديق محمد عطيف  ونخبة من خيرة النقابيين ورجالات الفكر منهم علال بلعربي وأحمد أخميس والمرحوم محمد أديب..وغيرهم ممن جمعتني بهم سنوات طوال في العمل الصحفي بالإضافة إلى مسؤولياتهم النقابية والتنظيمية .

محمد عطيف، وهو مثقف نقابي وأديب وصحفي يمتاز بخصال الصدق والعفة والأمانة ،سلوك حفظ له بريق لغته وفرادة صوته ودقة كلماته؛ وقد اشتغلنا منذ ذلك الحين في جريدة السي دي تي العمالية - وهي من أقدم الجرائد المغربية - كما أصدرنا معا أربعة عشر كتابا في المجال الاجتماعي والنقابي  وفي التأريخ لتجربة السي دي تي . ولم ينقطع أبدا بيننا ذلك الحماس للتأليف المشترك والتفكير كيف يمكننا أن نكون بالفعل مثقفين عضويين نرد جزءا يسيرا  من الدين للمدرسة التي منحتنا أفقا نصون فيه قيمنا وحريتنا .

***

محمد نوبيرالأموي واحد من رجال مغاربة معدودين ممن كان لهم دور كبير وفاعل في العديد من الأحداث والتحولات في المغرب الاجتماعي والسياسي خلال القرن العشرين،فقد عاش في فضاءات النزال والصراع أو في أقبية السجون أوقريبا من لحظة اغتيال  كانت في فترات كثيرة  وشيكة به .عاش حياة واحدة تلد كل يوم حيوات جديدة من رحمها  اللاهب، مذ كان شابا يافعا، وفي اللحظة التي سيكلفه فيها المهدي بنبركة وهو في السابعة والعشرين من عمره بمسؤولية نقابية، ليصبح في مارس 1963 على رأس اللجنة العمالية بالرباط لإعادة تصحيح الوضع النقابي في إطار التصدي للقيادة البيروقراطية.

كان المهدي بنبركة، بفكره الثاقب وروحه الخلاقة وقدراته السياسية، يحمل بداخله حلم وجود منظمة نقابية- قاطرة تسحق بهديرها وفعلها كل العثرات والخيبات... وقد رأى في ذلك المناضل الشاب الذي عينه مسؤولا، إطارا ملائما، بعدما تيقن من قدراته، الملفتة للنظر، في ثلاث محطات ومعارك حاسمة.

 فهذا الأموي وهو في خضم التعبئة للإضراب العام للعمال ( 26 دجنبر 61 ) ورغم ما سيتعرض له من اعتداء وحشي وحكم جائر (ستة أشهر)، فإن ذلك لم يزده إلا إصرارا على خوض المعارك الأخرى في الواجهة النقابية، ليقود مسيرة احتجاجية قوية من أجل إرجاع التلاميذ المطرودين، فيعتقل مرة أخرى ويحاكم بستة أشهر أخرى، وكأنه كان يتهيأ لمعركة ثالثة بحماس الشباب المسنود بزعيم أممي مثل المهدي بنبركة، وبوعي محارب عاش وسط المجاهدين، فيدخل معركة مقاطعة الاستفتاء على أول مشروع للدستور بالمغرب ، وقد تربصوا به دون أن ينالوه.

***

في المكتب العُلْوي من بيتي  توجد إلى جانب لوحة تشكيلية كبيرة ، صورة لوالدي محمد بن عبد السلام على لوحة قماشية بريشة الفنان إدريس بنادي والى جوارها صورة للأموي ، رافعا يده اليمنى وهو يبتسم.

حينما كنت أرتب، قبل سنتين ،هذا المكتب  وكان علاء يساعدني في ترتيب الصور سألني عن صورة الأموي. ومن ثمة بات يعرفه. بعد ذلك صحبته ذات مرة معي إلى زيارته.هذه الأيام سمعني وأنا أخبر محمد عطيف هاتفيا بأنني سأكون غدا في النقابة دون أن  أتحدث عما أنا ذاهب لأجله .  في الصباح  وأنا أستعد للخروج من البيت ، قال لي علاء بأنه  يريد الذهاب برفقتي عوض بقائه في البيت، بسبب زكام حاد منعه من الذهاب إلى مدرسته. فأجبته بأنني سأخرجه يوم السبت لما يصبح عفِيَّا .ثم يفاجئني بأنه يريد الذهاب معي عند الأموي بالنقابة .

شعرتُ بأنه استنتج ذلك من مكالمة الأمس،ثم وعدته بأخذه معي لاحقا .وأنا معتز بأن يحب أبنائي من أحب من عائلتي وأصدقائي وأساتذتي . والأموي جزء مني بفكره وأخلاقه ومواقفه وقد شعرت  بتلك الألفة منذ التقيته خلف القضبان وفي بيته والى جواره في النقابة بقسم الإعلام أو حينما حضر زواجي أو خلال حضوره يوم ناقشتُ أطروحتي لدكتوراه الدولة في الآداب ، أو حينما كنت أرافقه يوميا ،على متن سيارته، من الدارالبيضاء إلى الرباط أثناء محاكمته الشهيرة في أبريل 1992 بعدما دبرت له الحكومة المغربية ملفا سياسيا كعادتها معه في ظروف مشابهة من قبل.

تعوَّد أن يأخذ الكلمة منذ اليوم الأول للمحاكمة، وكان إلى جانبه أزيد من 2000 محام من كل المغرب تطوعوا للدفاع عنه،  وكنت أتعلم من مرافعاته السياسية والأدبية..وفي اليوم السادس والأخير من المحاكمة في شقها الابتدائي  يوم سابع عشر ابريل،وخلال قدومنا من الدار البيضاء كان إحساسه بأن الحكم جاهز  وأنهم يريدونه لذلك جاء يحمل معه القرآن الكريم وجلبابا صوفيا ومقدرة عالية للتحدي والدفاع عن قضيتنا جميعا. وصلنا الرباط مبكرين ، وأمام الهيئة تكلم القاضي بألسنته المتنافرة وأعطى للأموي ما اعتقده كلمة ختامية.

تقدم بويا الأموي حاملا بشماله قوسه الحتمي الذي لم يكن ليره أحد غيرنا ، وبيمينه كمش على شيء كمن تهيأ أو هَمَّ ببذره .كانت نظراته حاسمة لا تقبل التفاوض.بسمل وحمدل ثم التفت نحوي في الصف الثاني-  داخل قاعة فيها العشرات فقط ، فيما الآلاف من المحامين والمواطنين ورجال الإعلام في الشوارع الخلفية-  بوجه وضاء يلمع منه نور رباني، فرأيت في ثوان التفاتات الأنبياء إلى أرواحكم السخية ،وأدركتُ انه شجرة وارفة لن تهزها كل الرياح والعواصف .بدأ جملته ثم عاد يوجه كلامه إلى الهيئة التي غاصت في حكم جاهز قبل الفجر:

- " أريد أن أصل إلى القول بأن القوس قد أوتيت باريها وأنا مناضل ومصارع ولا أعرف أين يمكن أن يقف الصراع .

وإني اليوم لأشكر الله واعتبره من خلال هذه المحاكمة انه قد نصر عبده وهزم أنصار الفساد لأنه أتاح لي الفرصة .فقد كنتُ كما لو إني وحيد  فإذا بي أحس بأنني لست وحدي وأمة كلها معي .دخلت وجلا خائفا فإذا بي الآن جريء وأكثر شجاعة .دخلت – وربما- كنت مترددا فإذا بي الآن حاسم في كل شيء.  والآن يرفع أبو غيفارة رأسه وينشر كفنه وقد جئت البارحة بثيابي مطهرة استعدادا ...واني لمرتاح حتى إذا لاقيت الله سوف ألقاه وهو عني راض  وأمتي عني راضية

   أنا إنسان جموح ، وفي بعض المرات أكون شرسا .لقد دخلت وفي صدري وفي نيتي العديد مما التقطته من معاناة واضطهاد طبقي ومرارة مما يتعرض له العمال وعموم الجماهير من قهر لأجعل من هذه المناسبة مناسبة لا للتنديد ولكن لما هو قريب من الثأر ولو على مستوى الحديث ."

من داخل السجن أرسل إليَّ الأموي رسالة من ثلاثين صفحة بلغة فنية راقية تضمنت عددا من الالتماعات وملاحظاته إثر قراءته لروايتي "زمن الشاوية".رسالة تمنعني من إيرادها ملاحظة كتبها في هامش الصفحة الأولى تقول: مراسلة شخصية غير صالحة أو معدة للنشر .

سيرة الضوء

محمد نوبير الأموي الذي انخرط منذ حداثة سنه ، في معارك لاتحصى ، سيكتشف فيه ، المهدي بنبركة مبكرا تلك القدرة العالية على الصمود والأمانة والعطاء ، وعلى التنظيم والتعبئة ، وعلى الخطابة العفوية بلغة عربية فصيحة باذخة بالشعر العربي والأمثال الدالة أو بلغة دارجة شامخة بأبعادها المحلية الموحدة . أو حينما ينتفض فتضيق الأوراق بين يديه ، كما تفر وتختفي الكلمات العادية من قاموسه لتحل محلها الجمل الأكثر صدقا وحقيقة.

ولم يخطئ المحللون لحظتئد في تقييم الأموي وقدراته على تحويل مجرى المغرب الاجتماعي والسياسي وهو يقود سفينة السي دي تي في رحلة المصاعب والمخاطر إلى شطآن الأمان والانتصار.رحلة أطول من رحلة جلجامش بحثا عن نبتة الخلود سيكتبها على ألواح صنع منها قوسه الأبدي.

لو يلتفت ، لهنيهة ،إلى الوشاة والقتلة ، لن يجد خيرا من المتنبي حينا صرخ في وجه من نعوه في مجالسهم :

كمْ قد قُتِلتُ وكم  قدْ مُتُّ  عندكُمُ            ثم انتفضْتُ فَزَالَ القبرُ والكَفَنُ

أو يستحضر القصيدة السادسة عشرة لأبي العلاء المعري (سقط الزند)والتي مطلعها :" ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل".وكأن شاعر معرة النعمان قد كتب قصيده للأموي في زمنه هذا.

 ولد الأموي يوم 21 نونبر1936 بدوار ملكو قبيلة المعاريف إقليم سطات/ الشاوية من والده حمان الأشهب بن عمر الزيراوي ومن والدته عائشة بنت بوعزة المزمزية . وقد حفظ القرآن الكريم بكُتاب القرية ، ثم أخذه أخوه إلى الدار البيضاء ليتابع دراسته الابتدائية بمدرسة اتحاد الحي الصناعي قبل أن يتوجه لمتابعة دراسته في كلية بنيوسف بمراكش فجامعة القرويين بفاس ... رحلة في طلب العلم وتأكيد الذات، وهو ما سينعكس على ثقافة الأموي الموسوعية في مجال الأدب قديما وحديثا والتحليل والتأويل والفقه .

في سنة 1956 سيعمل بالتعليم بالدار البيضاء ثم بالرباط إلى حدود 1964 حيث سيلتحق بمركز تكوين المفتشين ليعمل مفتشا للتعليم سنة 1965 بخريبكة فالرباط.

شارك الأموي كعنصر فاعل ضمن خلايا جيش الأطلس التنفيذي في حركة المقاومة السرية، كما انخرط في وقت مبكر في العمل السياسي ضمن حزب الاستقلال منذ1952 مثلما انخرط في العمل النقابي ضمن صفوف الاتحاد المغربي للشغل فور التحاقه بالتعليم سنة 1957. والتحق عنصرا فاعلا ضمن حركة 25 يناير1959، حيث سينشط نقابيا وسياسيا إلى جانب المهدي بنبركة ، ويقود معارك حقيقية منذ بداية 1961 في حزب القوات الشعبية أو المنظمة النقابية ، وضمن الاتحاد الوطني لجمعيات آباء التلاميذ بالمغرب حيث كان كاتبا عاما منذ ماي 1962 ، وقد قاد حركات إرجاع التلاميذ المطرودين أو مقاطعة الاستفتاء على أول دستور.

 وحينما سيعينه المهدي بنبركة مسؤولا عن اللجنة العمالية بالربط في مارس 1963 من أجل التصحيح والبناء ،ظل يناضل وينظم شبكات للاتصال عبر مختلف التراب الوطني ، كما سيشرف على تأطير الكفاحات العمالية .وسيجري توقيفه عن العمل في ماي 67 لنشاطه النقابي والسياسي وهو آنذاك بخريبكة، فيتم التراجع عن القرار بعد حركة إضراب تضامنية واسعة، وستعمل الآلة القمعية على  تصيده إثر حركة الاحتجاج على مشروع الدستور ويقدم إلى المحاكمة في يوليوز1970.

وكانوا يعتقدون انه سيهدأ ويخفف من حركاته المتعددة فيعمل على المشاركة في تأطير وتوجيه أطول إضراب لعمال الفوسفاط بخريبكة ( أكتوبر 1971) ويترأس تجمعا نقابيا تعليميا بالرباط في (9 دجنبر 72) يهاجمون إثرها ثم يقود مظاهرة احتجاجية إلى وزارة التعليم ، حيث يسقط العديد من الضحايا المصابين بجروح ، وقد أشرف على إضرابات احتجاجية في دجنبر72 تربصوا به واختطفوه في 16 دجنبر72 في الدار البيضاء وأخضعوه لتعذيب وحشي بدار المقري بالرباط لأسبوع كامل، ثم احتفظوا به هناك إلى أبريل 73، لينقل بعد ذلك إلى معتقل سري بالدارالبيضاء مع 700 معتقل من كل أنحاء المغرب ومن جميع الفئات ومختلف التيارات ، وسيطلق سراحه يوم 25 أبريل 1974 في حالة صحية متدهورة، ليستأنف نشاطه السياسي بانتخابه في اللجنة المركزية لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، في المؤتمر الاستثنائي (10 يناير1975) كما سيستأنف نشاطه النقابي لتأسيس مركزية نقابية، عبر تأسيس نقابات في كل القطاعات ويعمل على تأطير إضرابات ربيع 77-78 وصولا إلى المؤتمر التأسيسي للسي دي تي حيث انتخب كاتبا عاما.

***

منذ ذلك التاريخ حتى الآن مذاق آخر للصراع والبناء ، فقد دخل السجن وخرج منه وعاد دون أن يغير ذلك شعرة في مفرقه . ومع مرور الزمن سيصبح صراعه متعددا مع جهات مرئية وأخرى لا مرئية؛  ولعل أسوأ اللحظات التي عاشها الأموي  وتؤلمه هي خيانة بعض ممن كانوا مقربين منه وتحولوا إلى "أعداء مفترضين" ووشاة ولم تعد تقنعهم الحياة إلى جانب البسطاء الذين يبحثون عن أمل الخلاص بدون مفاوضات مدسوسة أو حسابات مخدومة .

II

أقواس الفجر

كنت أسعى منذ مدة لكتابة رواية استلهم فيها سيرة الأموي ..فلم أستطع ثم أردت أن أجرب محكي بورتريه ، فكتبت في 2005 فصلا أولا من رواية لم يُكتب لها أن تكتمل .لم أستطع تحويل المد الهائل من الوقائع والمعارك والتفاصيل إلى تخييل .فقد بدا الخيال  قصيرا وقاصرا أمام سيرته الباذخة بالحياة ..والفصل الوحيد الذي كتبته أو جزء منه بالأحرى توقفتُ عن الاستمرار فيه ، ربما لأن الخيال لم يقنعني في رسم الأموي كما هو ، وعدت لأفكر بصيغة أخرى  لم أهتد إلى صياغتها بعدُ بشكل فني.

 ما أكتبه من حديث وإبداع  ومن تأليف يعبر عن رؤاي ووجهة نظري في كل شيء يحيط بي ويشغلني سواء تعلق بالكتابة أو بالمجتمع أو بالتاريخ عبر نوافذ يومية من حياتي أو حياة من أحبهم ، هي إطارات لجعل السياق موضوعيا . إنني لا أجيد حفر الأنفاق للكلمات  ولكني أحب أن يكون لي نهر استحم فيه باستمرار بمياه متجددة أرمي فيه رمياتي وكل ما أبدعه من سفن وبواخر ..أتركها تسير لتصل إلى شواطئ أخرى يقبلها من يقبلها  ويرميها بالحجارة أو النار من يرميها .

الفصل الوحيد الذي كتبتُ تضمن عنوانا مؤقتا وهو: "قوس الفجر" .كما إني أعطيت للأموي اسم فارس دون الإشارة ،على الأقل في هذا الفصل، إلى الاسم الكامل .

عنونت الفقرة الأولى بما يلي :الفجر يفك أزراره :

"ساعات قليلة على فجر بداية الأسبوع الثالث من شهر نونبر الهادر. ظلام مكثف وغامق تتأبط ذراعاته الهلامية، غيوم ثقيلة هبطت على كافة السهول. وقد استمر فارس يخترق بسيارته الطريق الضيقة، بأضواء لم تُغير من قوتها، وهو متجه نحو خلوته التي اختارها قبل سنوات معدودات، بعيدا عن مدينة الدار البيضاء بنحو مائة كلمتر.

لم يأخذ النوم منه شيئا وهو يسوق بنفسه مخترقا امتداد الظلام والضباب والصمت، وهذا جزء من رمزية حياته التي يريدها بعينين مفتوحتين لأكبر وقت ممكن.. يضغط قليلا على زر المذياع دونما أن يغير من نظراته الملتصقة بشعاعات نور السيارة الممدد مثل لسان مشتعل، ثم ينتبه، وبنفس الحركة يضغط على زر زجاج الباب الأيمن حتى تتسرب منه أدخنة سجائره المتعاقبة.

لم تبق على وصوله سوى خمس كيلومترات في ممر غير معبد يقود نحو بيته في ذلك الفضاء وسط الحقول وبيوت الفلاحين المتناثرة وقبة السماء المنذورة لحراسته.

الساعة تشير إلى الخامسة صباحا، مذيع الإذاعة الوطنية يسرد مجموعة من الأخبار على شكل فلاشات سريعة أهمها كلامه عن مواصلة جلسات الاستماع إلى شهادات معتقلين مغاربة تعرضوا للتعذيب من طرف الدولة المغربية .حول "فارس" من نظرته باهتمام إلى المذياع في لمحة سريعة كما لو أنه يبغي رؤية ما يقال.. ثم يغير، درجه أعلى، من سرعة السيارة، دون أن يتطاير الغبار خلفها. الغبار الذي أحس بثقل عبَّر عنه بالنهوض خلف العجلات مباشرة، قيد أنملة، ثم السقوط مباشرة، فالذرات فوق كاهلها ثوبان من رائحة الظلام والندى.

حينما أوقف محرك سيارته ونزل منها حاملا محفظته وبعض الجرائد والمجلات، لم ينتبه لنباح الكلاب والحركات الأولى الخجولة للدجاج والبط. رفع رأسه إلى السماء ينظر إلى آثار عقود مرت من حياته أثقل من قرون تعود به إلى جهاده جوار الأنبياء،تمزقت ثيابه ونعاله  لكن روحه  مرسومة بخط مغربي لم تستطع الغيوم تغييبها. تقدم دون التفات، وقد نسي أضواء السيارة مشتعلة، فهو ما زال قويا رغم كل الهيتات التي مرت عليه. يحتفظ بجمال هيبته وذكائه الوقاد ونُكَته التي تخفي في أي لحظة جبالا من الغضب السعير.

دخل البيت. طلب فنجان قهوة سوداء، ثم لبس جلبابه الصوفي وطاقية رمادية . هَمَّ بدخول مكتبه، لكنه توقف قليلا أمام الباب، كونه يشعر في كل مرة برهبة وخشوع، فهو يحب أن يصلي الفجر هناك.

لمعتْ عيناه كما لو تذكر شيئا يشدُّه إلى التذكرات حينما دخل المكتب، خصوصا لما التفتَ نحو الصور الأربعة الكبرى المثبتة على الجدار العريض. تقدم منها يتأمل دون أن يشغل ضوء المكتب... جمال عبد الناصر، عبد الكريم الخطابي، المهدي بنبركة، غيفارا...وفي جزء مقابل من المكتب صورة له بالأبيض والأسود وهو دون العشرين، مقتطعة من إحدى المجلات الفرنسية، يبدو فيها وسط مظاهرة شعبية في مواجهة عساكر فرنسيين.

مكتبة مطرزة بكل أنواع الكتب بدءا في السيرة النبوية وكتب المتصوفة والفقهاء إلى تآليف الفلسفة والماركسية والقومية ..والروايات والدواوين الشعرية ؛وفي جزء آخر تتراكم ملفات ومقررات وصور وكاسيتات.

جلس على الكنبة في استرخاء وسط الظلام، وضع رجليه على الطاولة الأمامية، وعلى وجهه ما تزال مسحة خشوع مستمر وهو يتأمل سيولا رقيقة تهبط عموديا على زجاج النافذة المقوسة والمطلة على الحديقة قُبالة شجرة الرمان. همَّ بإشعال سيجارته في هدوء، فلم تسعفه الولاعة ثم يرمي بيده اليسرى باحثا عن عود كبريت على الطاولة.

تمدد مرة أخرى. أرجع رأسه إلى الخلف. أغمض عيناه مثل محارب تاريخي يحمل بيمينه كفنه المُطهَّر، وبشماله قوسه الأبدي. هو الآن في قيلولة ليلية، سيعود بعد قليل إلى ساحاته المفضلة، وهو من خَبَرَ حروب نصف قرن، في كل مرة كان يدخل حربا يهرق على جنباتها كل دمائه، ولا تكاد تنتهي حتى يجد من يدفعه إلى ساحات أخرى فيضطر إلى توزيع دمه حصصا حصصا.

التفتَ يرى ما جرى في البداية

ثلاث سنوات مرت على استقلال البلاد، رآها أطول جنازة صاخبة لتوديع حصة كبرى من الدم والأحلام المعمدة بمشاعره ونواياه، صار يفرك كل ما اعتقده قادما فلا يجد غير حبات فارغة وأشواك تلهو وسط ساحات فارغة.. سقط فيها كل الشهداء - بعلمهم أو بغير علمهم- فسَادَ رسلٌ مزيفون يصنعون الأوهام الأكيدة سعيا لإدخال البلاد من الوهم الأصغر إلى الوهم الأكبر.

- إني أشك هل قاومنا وجاهدنا من أجل الحرية، أم من أجل جزيرة من الدسائس والتصفيات ؟ تساءل بنفس قريبة من الحزن وهو إلى جانب صديقه.

- علينا أن نحفظ بعض الأمل في ما سيأتي...

- (قاطعة وهو يهم بالانصراف) ألم تحضر اجتماعات النقابة ؟ وكيف يستبعدوننا... نحن حطب وتبن فقط...

-  المهم أننا حققنا الاستقلال والنصر.

 (مد يده إلى جيب سرواله يبحث عن شيء ما، وهو يعلم أنه لن يجد شيئا، ولكنه ظل يبحث ليتوقف ويقول) :

- يا صديقي، حققنا النصر الذي يخفي الهزيمة. هيا، إننا نفتقد شيئا عظيما في ما نحسه ولا ندركه.

-ألم تقل لي بأننا مع المهدي سنمتلك حريتنا بأيدينا.

-نعم، هيا الآن، إلى الدار البيضاء فلنا موعد معه هذا المساء.

***

ستكون هذه الرجات المعلومة التي بدأ يحسها فارس بعقله وشعوره بداية تشكل وعيه بالتناقضات وبمجرى الوهم المغربي بشعاراته في واقع لم ينضج وانشغل بأسلوب ضاج بالاقتتال ما دامت مساحة الحوار والإنصات والاختلاف منعدمة.

سيفهم أن الاقتتال بين جزء كبير مما تبقى من رجالات المقاومة  هو حلقة في مرحلة تصفيات عدمية تحركها الأهواء والزعامات والحسابات البسيطة والمعقدة بفعل ذاتي وسلطوي، داخلي وخارجي، وما تبقى أدرك أن أولى ملامح الكآبة سببها السلطة ومن يطمحون إلى الاستحواذ لوحدهم عليها.

شعر فارس أن المهدي بنبركة قد فهم حركات واختلالات المرحلة، لذلك كان يحضر كافة محاضراته بالبيضاء والرباط ويحاول أن يلتقط إجابات عما يجري وماذا يمكن أن يفعله.

كان مأخوذا به وبديناميته و صدقه ورغبته الصريحة في بناء الحلم الجماعي الذي صار يتهدم يوميا. مثلما ظل منبهرا بسيرة محمد الرسول وكافة الأنبياء المجاهدين والعلماء والفقهاء ،وبسيرة الأمير الخطابي وغيفارا وبسير الفلاحين البسطاء الذين إن ضحكوا أوغضبوا، سيان، تهتز الأرض من تحت أقدامهم.

من أكون من بين هؤلاء؟يقول في نفسه ملتفتا نحونا .

 التخمينات التي رسموها أم الأفكار النورانية أم لحظات التملص من الإحباط في صيف اليوم الطويل الصاهد بدون شتاء؟.

كل يوم يمر، تزداد ضراوة العبث في اللوحة دهشة، فالسعار حول السلطة فاض في مجاري لاهبة، والتصفيات اشتعلت في الرطب واليابس ..في الزمن والعباد ..في المكان والحقيقة والأحلام والرماد.

- هل يمكن للثوري أن يتحول إلى مجرم بين مرحلتين ؟ أم إنهم كانوا صورة يمكن لأي مواطن بسيط أن يكونها وأكثر (قال في نفسه).

ثلاث سنوات، بعد الاستقلال، كانت كافية لاكتمال مشهد خارق في فقدان السيطرة على الطموحات وعلى محو كل الخطوات السابقة بارتجاف كبير وجفاف يطال القلب والحلق والرؤية، وفارس في هذه السنوات يسير بخطوات الذهول وسط دورة الزمان الأولى وقد تمخضت عن النصر هزائمه المتربصة بكل الثواني والأيام.

- لم أعد أرى شيئا، ساحة النزال لغير ما وُجدت له. الحرية، جنازتنا المجهولة، فقدوا السيطرة وفقدنا الطريق لا حميدة لا فلوس (عاد، يقول في خاطره).

***

خرج بلباسه الأبيض أمام الباب الكبير المطل على الحقول، وعصارة التعب بادية على وجهه وباقي جسده، لكن نظرته لم تفقد حرارتها. وضع يده اليسرى على شجيرة الخوخ القريبة، وظل يمدد نظراته بعيدا دون أن ينتبه إلى جريان الزمن السريع والمطرد.

 عاد بسرعة إلى مكتبه ينظر في عناوين الجرائد المغربية، ليعود بعد ذلك إلى الكتابة.. يكتب ست صفحات، يقرأها مصححا ومضيفا وحاذفا، ثم يبعثها عبر الفاكس ويجري بضع مكالمات هاتفية، ولا يعود إلا ليحرر بعض الكتابات أو يدون بعض الأفكار في دفتر صغير، وكلما تعب بعد ساعات جارية، ينهض ليطلب فنجان شاي ساخن بسكر قليل، فيتمدد قليلا على الكنبة، يدخن سيجارته ويرتشف شايه.

بقي لفترة متمددا، وفجأة كما لو أحس بشعاعات الغروب تجري إلى مراقدها الأزلية، قام إلى الباحة الخارجية .مشى ثم توقف قرب شجيرة اللوز الناضجة بنوارها القادم . التفت بسرعة فبدت نظرته في اتجاه المساء الشاوي المسفوح ذهبا بعيدا.. بين آخر السماء وحقول محمد بن عبد السلام .كَمَشَ على يديه ثم بسطهما راميا كما يفعل الفلاحون في بذر الزرع.. وأغمض عينيه.

هل يريد أن يزرع التذكر في محاريث النسيان ؟أم يبذر الفجر القادم في عش الغروب القدري ؟