محمود سامي البارودي
محمود سامي البارودي
شيماء محمد توفيق الحداد
وُلِدَ محمود سامي البارودي في 6 أكتوبر عام 1255ه/1839م في حيِّ بابِ الخلقِ في مدينةِ القاهرةِ لأبوينِ منْ أسرةٍ ذاتِ أصلٍ شركسيٍّ لها جاهٌ وَمكانةٌ وَثروةٌ، وَتنحدرُ منْ سلالةِ المقامِ السَّيفيِّ نوروز الأتابكي ( أخي برسباي ). . وَكانَ أجدادُهُ ملتزمينَ إقطاعيَّةَ ( إيتاي البارود بمحافظةِ البحيرةِ ).
تُوفِّي والدُهُ وَهوَ صغيرٌ، فقامتْ أمُّهُ بتربيتهِ وَتنشئتهِ على أحسنِ ما يكونُ؛ حيثُ أحضرتْ لهُ المعلِّمينَ كي يؤدِّبوهُ وَيلقِّنوهُ القرآنَ الكريمَ وَشيئاً وافراً منَ الفقهِ وَالتَّاريخِ وَالحسابِ.. وَكانتْ أحبَّ هوايةٍ إلى قلبِ البارودي تذوُّقُ الشِّعر وَقراءتُهُ..
التحقَ البارودي بالمدرسةِ الحربيَّةِ عام 126ه/1850م ليتخرَّجَ منها ضابطاً كما كانَ أبوهُ، وَعملَ بعدَ ذلكَ في وزارةِ الخارجيَّةِ وَذهبَ إلى الأستانة عام 1857م، وَقدْ أعانتْهُ إجادتُهُ للُّغةِ التُّركيَّةِ وَمعرفتُهُ باللُّغةِ الفارسيَّةِ على الالتحاقِ بقلمِ كتابةِ السِّرِّ بِنِظَارةِ الخارجيَّةِ التُّركيَّةِ وَظلَّ يعملُ هناكَ نحواً منْ سبعِ سنواتٍ ( 1857م -1863م ) عادَ بعدها إلى مصر في فبراير 1863م، حيثُ عيَّنهُ الخديوي إسماعيل معيناً لأحمد خيري باشا على إدارةِ المكاتباتِ بينَ مصر وَالأستانة.
بَيْدَ أنَّ نفسَ البارودي ضاقتْ برتابةِ العملِ الدِّيوانيِّ وَباتَ يتطلَّعُ إلى تحقيقِ ما يصبو إليهِ في حياةِ الفروسيَّةِ وَالبطولةِ، فنجحَ في يوليو عام 1863م في الانتقالِ إلى الجيشِ حيثُ عملَ برتبةِ البكباشي العسكريَّةِ وَأُلحقَ بآلاي الحرسِ الخديوي وَعُيِّنَ قائداً لكتيبتينِ منْ فرسانهِ، وَأثبتَ – خلالَ ذلكَ - كفاءةً عاليةً في عملهِ.
اشتركَ البارودي في حروبِ البلقانِ، كما ساهمَ في إخمادِ ثورةِ جزيرةِ كريت عام 1865م وَاستمرَّ في تلكَ المهمَّةِ لمدَّةِ عامينَ أثبتَ فيهما شجاعةً عاليةً وَبطولةً نادرةً. وَلقدْ كانَ – إضافةً إلى ذلكَ - أحدَ أبطالِ ثورةِ عام 1881م - الشَّهيرةِ الَّتي قامتْ ضدَّ الخديوي توفيق - بالاشتراكِ معَ قائدِهِ أحمد عرابي، وَأُسنِدتْ إليهِ رئاسةُ الوزارةِ الوطنيَّةِ في 4 فبراير 1882م حتَّى 26 مايو 1882م.
تجلَّتْ مواهبُهُ الشِّعريَّةُ في سنٍّ مبكِّرةٍ بعدَ أنِ استوعبَ التُّراثَ العربيَّ وَاطَّلعَ على روائعِ الشِّعرِ العربيِّ وَالفارسيِّ وَالتُّركيِّ وَالانجليزيِّ وَتأثَّرَ بها، غيرَ أنَّ تأثُّرَهُ بالثَّقافةِ العربيَّةِ بدا أشدَّ جلاءً وَظهوراً عنْ غيرها. وَثقافتُهُ تلكَ كانتْ منْ عواملِ التَّجديدِ في شعرِهِ الأصيلِ، إضافةً إلى عنصرهِ الشَّركسيِّ الَّذي أكسبَهُ حدَّةً في المزاجِ وَميلاً إلى حياةِ الفروسيَّةِ وَالحروبِ[1].
وَقدْ سخَّرَ اللهُ تعالى لهُ أحدَ علماءِ اللُّغةِ وَالأدبِ المرموقينَ في عصرهِ؛ وَهوَ الشَّيخُ حسين المرصفي صاحبُ كتابِ: ( الوسيلةِ الأدبيَّةِ ) وَالَّذي جمعَ فيهِ عيونَ الأدبِ وَروائعَ ما قيلَ في الشِّعرِ العربيِّ خاصَّةً ما احتضنتْهُ القوالبُ العبَّاسيَّةُ، وَساعدَ هذا العالمُ تلميذَهُ حيثُ كانَ موجِّهاً لهُ، مشرفاً عليهِ، مشجِّعاً لموهبتهِ، لدرجةِ أنَّهُ وضعَ بعضاً منْ قصائدهِ في كتابِ الوسيلةِ.
لُقِّبَ البارودي باسمِ فارسِ السَّيفِ وَالقلمِ، وَاُعتُبِرَ رائدَ الشِّعرِ العربيِّ الحديثِ الَّذي جدَّدَ في القصيدةِ العربيَّةِ شكلاً وَمضموناً، كما عُدَّ رائدَ مدرسةِ الإحياءِ[2] الَّتي نادتْ بالمحافظةِ على أوضاعِ الشِّعرِ الموروثةِ وَنوَّهتْ بأفضليَّةِ اتِّباعِ منهجِ القدماءِ.
قبضَ عليهِ الانجليزُ وَنفوهُ إلى جزيرةِ ( سَرَنْدِيب ) في ( سيريلانكا) في 3 ديسمبر عام 1882م بعدَ ما قامَ بهِ منْ أعمالٍ جليلةٍ تمثَّلتْ في الكفاحِ وَالنِّضالِ ضدَّ فسادِ الحكمِ وَبغيِ الاحتلالِ، وَظلَّ في المنفى بمدينةِ ( كولومبو) أكثرَ منْ سبعةَ عشرَ عاماً يعاني الوحدةَ وَالمرضَ وَالغربةَ عنْ وطنهِ، وَقدْ بدأَ الهرمُ يغزلُ خريفَ عمرهِ، وَالضَّعفُ يقارعُ نورَ عينيهِ، وَالوهنُ يتسلَلُ إلى إهابِ جسدهِ بعدَ أنْ عجزَ عنِ النَّيلِ منْ إباءِ روحهِ. وَسجَّلَ آلامَ الاغترابِ عنِ ربوعِ الوطنِ وَمشقَّةَ البعدِ عنْ رفاقِ الجهادِ في شعرهِ النابعِ منْ عاطفةٍ إسلاميَّةٍ جيَّاشةٍ مخلصةٍ. قالَ في مطلعِ قصيدتهِ ( سرنديب ):
كـفـى بمقامي في سرنديبَ وَمنْ رامَ نيلَ العزِّ فلْيصطبرْ على فـإنْ تكنِ الأيَّامُ رنَّقْنَ[3] مشربي فـمـا غيَّرتني محنةٌ عنْ خليقتي فحسرةُ بُعدي عنْ حبيبٍ مصادقٍ فـتـلـكَ بـهذي، وَالنَّجاةُ غنيمةٌ | غربةًنـزعـتُ بها عنِّي ثيابَ لـقـاءِ الـمنايا وَاقتحامِ المضايقِ وَثلَّمْنَ[4] حدِّي بالخطوبِ الطَّوارقِ وَلا حـوَّلـتْني خدعةٌ عنْ طرائقي كـفرحةِ بعدي عنْ عدوٍّ مماذقِ[5] مـنَ الـنَّاسِ، وَالدُّنيا مكيدةُ حاذقِ | العلائقِ
وَبعدَ تلكَ المدَّةِ الطَّويلةِ الَّتي قضاها منفيّاً صدرَ في حقِّهِ العفوُ، فعادَ إلى وطنهِ بعدَ أنِ اشتدَّتْ عليهِ وطأةُ المرضِ وَألمُ الغربةِ، وَشدَّ ما كانَ سعيداً مسروراً برجوعهِ إلى بلدهِ، وَطبيعيٌّ أنْ يتحرَّكَ ماردُ الشِّعرِ في داخلهِ عازفاً جوقةَ الفرحِ في أعماقهِ مردِّداً لنشيدِ العودةِ الَّذي قالَ في مستهلِّهِ:
أَبَـابِـلُ رَأْيَ العَيْنِ أَمْ هَذِهِ نَـوَاعِـسَ أَيْـقَـظْنَ الهَوْى بِلَوَاحِظٍ فَـلَـيْـسَ لِعَقْلٍ دُونَ سُلْطَانِهَا حِمَىً فَـإِنْ يَـكُ مُوسَى أَبْطَلَ السِّحْرَ مَرَّةً فَـأَيُّ فُـؤَادٍ لاَ يَـذُوبُ صَـبَـابَـةً | مِصْرُ؟!فَـإِنِّـي أَرَى فِيهَا عُيُونَاً هِيَ تَـدِيـنُ لَـهَا بِالفَتْكَةِ البِيضُ وَالسُّمْرُ وَلاَ لِـفُـؤَادٍ دُونَ غِـشْـيَـانِهَا سِتْرُ فَذَلِكَ عَصْرُ المُعْجِزَاتِ، وَذَا عَصْرُ [6] وَمُـزْنَـةِ عَـيْنٍ لاَ يَصُوبُ لَهَا قَطْرُ؟ | السِّحْرُ!
تُوفِّيَ البارودي في 12 ديسمبر 1904م بعدَ أنْ شغلَ النَّاسَ بشعرهِ وَبطولاتهِ وَنضالهِ المستميتِ منْ أجلِ استقلالِ مصرَ وَحرِّيَّتِها وَكرامةِ شعبها. رحمهُ اللهُ وَجعلَ الجنَّةَ مثواهُ.
منْ قصائدهِ:
إِنَّ ابْـنَ آدَمَ ذُو طَبَائعَ تَـبْدُو فَوَاعِلُهَا علَى حرَكَاتِهِ فَـإِذَا تَغَلَّبَ وَاحِدٌ مِنْهَا عَلَى بَـيْـنَـا تَرَاهُ كَالزُلاَلِ لَطَافَةً أَوْ كَالتُّرَابِ يهِيلُ مِنْ عَقَدَاتِهِ فَإِذَا تَعَادَلَ جَمْعُها، وَتَوَازَنَتْ وَالْـمَرْءُ مَهْمَا كَانَ فِي أَفْعَالِهِ | أَرْبَعٍمَجموعَة ِ الأجزاءِ في أخلاقِهِ فـي بَطشِهِ وسُكونهِ وَنِزاقِهِ أَقْـرَانِـهِ أَدَّى إِلـى إِقْلاَقِهِ أَلْـفَـيْتَهُ كَالنَّارِ فِي إِحْراقِهِ أَوْ كَـالْهَوَاءِ يَجُولُ فِي آفاقِهِ حَـرَكَاتُهَا كَانَتْ دَلِيلَ وِفَاقِهِ لاَ يَـنْـتَهِي إِلاَّ إِلَى أَعْرَاقِهِ |
[1] وَقدْ وُصِفَ الشَّراكسةُ بالقوَّةِ وَالشَّجاعةِ وَالبأسِ.
[2] مدرسةُ الإحياءِ منَ المدارسِ الأدبيَّةِ الَّتي ظهرتْ في منتصفِ القرنِ الثَّالثِ عشر الهجريِّ.
[3] رنَّقْنَ: كدَّرْنَ.
[4] ثلَّمْنَ: كسرْنَ.
[5] مماذق: كاذب مخادع.
[6] طبعاً قال هذا لشدَّة ذهوله من الفرح، وإلا فهو إنسان تقيٌّ مؤمن مجاهد - والله تعالى حسيبُهُ والشاهدُ عليه - .