الشيخ عبد الفتاح الإمام
د. محمد بن لطفي الصباغ
الشيخُ عبد الفتاح الإمام، عالِمٌ مِن علماء بلدنا دِمَشْق، لم يُعطَ حقَّه مِنَ الدِّراسة والتعريف، كان -رحمه الله- سَلَفِيَّ الاتِّجاه، حريصًا على إصلاح أمَّته، مُتَحَمِّسًا جدًّا للإسلام ولِدَعْوة المسلمينَ إلى أن يأخذوا بالوسائل التي تجعلهم منَ المُتَقَدِّمينَ في العِلم والاختراع، وكان يرى أنَّ هذا إنْ تَحَقَّقَ في المسلمينَ سادتِ الأمَّة، وكانتْ في صدارة الأُمم، وهذا الذي ينبغي لها أن تكونَ عليه؛ لأنها حاملةٌ لأعظم رسالة، وتابِعة لخاتَم الرُّسل وأفضلهم، ويبدو أنه كان مُعْجَبًا بالمفسِّر الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري[1] (1870 - 1940)، وقد تأثَّر به، وبِمَنْحَاهُ في التفسير.
وُلِدَ الشيخ عبدالفتاح الإمام في مدينة دِمَشق سنة (1294 هـ، 1877 م)، ودَرَس في مدارس دِمَشْق، وقَرَأَ على المشايخ فيها عُلُوم العربيَّة، والفِقه وأصوله، والحديث، والتفسير، وحَفِظ القرآن، وبعض المُتُون على عادة طُلاَّب العلم في عَصْره.
ثم رَحَلَ إلى إستانبول - عاصمة الخِلافة الإسلاميَّة - ودَخَل المدرسة الحربيَّة فيها، وتَخَرَّج ضابطًا في الجيش العُثماني، وشارَكَ في الحَرْب العالميَّة الأولى، وأُرْسِل إلى البَلْقان، فكان فيها مُدَّة الحرب، وعاد إلى بلده دِمَشْق، فعمل في المكتبة الظاهريَّة بضع عشرة سنة، ثم تَفَرَّغَ للكتابة والتأليف والدَّعوة إلى الله، والحَضّ على تَرْك البِدَع واجتنابها.
وأنشأ جَمْعيَّة سَمَّاها: "لجنة الشُّبَّان المسلمين"، وكان يكتب عن نفسه أنَّه المُبَشِّر بالإسلام، رئيس لجنة الشُّبَّان المسلمين، أنصار الفضيلة بدِمَشق، فقد كتب في كتابه: "الاكتشافات العلميَّة تشهد بالحِكَم البالِغة التي بلغها سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم"، صـ 86 ما يأتي: "نحن - لجنةَ الشبان المسلمين - نَتَحَدَّى العالَم، فنقول: يستحيل أن يوجدَ ما ينفع الفرد أوِ الجماعة، ماديًّا أو معنويًّا؛ إلاَّ وهو موجود في الإسلام، ويستحيل أن يوجدَ ما يضر الفرد أوِ الجماعة إلاَّ وقد مَنَعَه الإسلام، وقد أرْصَدْنا ألف لِيرة[2]؛ جائزة لِمَن يأتينا بجزئيَّةٍ واحدةٍ تشذُّ عما قُلنا، أفلا يحقُّ لنا أنْ نقولَ للإسلام:
سِرْ فِي بِقَاعِ العَالَمِينَ منَاهِلاً وَانْشُرْ عَلَى الآفَاقِ نُورَكَ كَامِلاً
وَابْسُطْ عَلَى الأَرْضِ السَّلاَمَ فَقَدْ غَدَا رُكْنُ السَّلاَمِ بِكُلِّ وَادٍ مَاثِلاً
وشَارَكَ في تأسيس جمعية التَّمَدُّن الإسلامي، وقد أُسِّسَت في دِمَشْق عام (1352 هـ، 1932م)، وكان أول رئيسٍ لها الشَّيخ حمدي السفرجلاني، ثم تَوَلَّى رياستها الشيخ حسن الشطي وآخرون.
وقد عَمِل فيها الأساتِذة الأجلاَّء: محمد بهجت البيطار، وأحمد مظهر العظمة، ومحمد بن كمال الخطيب، ومحمد أحمد دَهْمان، ومحمد سعيد الباني، وسعيد الأَفْغاني، وحمدي الخَيَّاط، وكامل شاشيط، ومحمد أبو الفرج الخطيب الحسني، وزهير الشاويش، وغيرهم.
وقد أصْدرتِ الجمعيَّة مجلتها الشَّهيرة: "مجلة التَّمَدُّن الإسلامي"، وأصدرتْ عددًا منَ الكُتُب يُقارِب المائة، وأنشأتْ عددًا منَ المساجد، وأقامتْ مدرسة التَّمَدُّن الإسلامي، وأقامتْ عددًا منَ المحاضَرات، وقد حضرتُ بعضها، وكان لي الشَّرَف بأن ألقيتُ بعضها، وقَدَّمَتِ الجمعيَّة مساعدات صحيَّة لِعدد كبير منَ المرضى... إلى غير ذلك منَ الإنجازات الطِّبِّيَّة.
وكان الشيخ عبدالفتاح الإمام يَنْشُر في مجلتها – "مجلة التَّمَدُّن الإسلامي" - مقالات إسلاميَّة إصلاحية، وهذه المجلَّة منَ المجلاَّت الإسْلاميَّة الرَّائدة في بلاد الشام، وقد صدر أول عدد مِنْ أعدادها عام 1935م، وقدِ استطاعتْ على قلَّة الموارد المادية أن تُعَمَّر أكثر من نصف قرن، تدعو إلى الله على بصيرةٍ، وتستكتب عددًا مِن علماء العالَم الإسلامي، وكان الأستاذ الفاضل أحمد مظهر العظمة (توفي 1403 هـ - 1982م)، القائم بِشُؤونها تحريرًا وإدارة ومحاسبة - رحمه الله رحمة واسعة.
وكان عددٌ منَ العلماء ينشرون فيها، ومنهم المُحَدِّث الشيخ محمد ناصر الدِّين الألباني، فقد نشر فيها سِلْسلة مقالات، أَضْحَتْ فيما بعدُ كُتُبًا هي: "سلسلة الأحاديث الصحيحة"، و"سلسلة الأحاديث الضَّعيفة"، وفي المجلة الكثيرُ منَ البُحُوث والأفكار الرائدة، وللحديث عن المجلة مجال آخر.
كنتُ أراه كثيرًا وأنا صغير، كان يمرُّ أمام دُكَّان سيدي الوالد - رحمه الله - في سوق مدحت باشا التجاري، وكان يسلِّم علينا كلَّما مَرَّ، وما كنتُ أراه إلاَّ حاملاً كُتُبًا بِيَدِه.
كان - رحمه الله - قصير القامة، نحيل الجسم، أزْرق العينين، ذا لِحية بيضاء، ويلبس عمامة بيضاء على طَرْبوش أحمر، وكان يلبس (بدلة محكمجية) - كما كانتْ تُسَمَّى - ويبدو أنه كان ميسورًا منَ الناحية المادِّية، ولم يَتَزَوَّج.
وكانتْ له غرفة في المدرسة العادلية، التي تَقَعُ في سوق العصرونية، مقابل دار الحديث، التي كان يقيم فيها الإمام النووي - رحمه الله - (ت 676 هـ).
وكان له نشاطٌ جَيِّد في مكافَحَة البِدعة، والدَّعوة إلى السُّنة، وإلى تعلُّم العلوم التَّجريبية؛ حتى تكون أمة الإسلام في مصافِّ الأمم المُتَقَدِّمَة.
كان يدعو إلى ذلك في وسط تَسُود فيه الطرق الصوفيَّة، وكان شديدًا على المخالفينَ، وقد حَدَّثني صديق لي أنه لَقِيه مرةً، فطلب منه أن يَتَرَفَّق في دعوته، فقال له: إنِّي ماضٍ في طريقي لا أخاف في الله لَوْمة لائم، ثم استشهد بقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم: 9]، ومضى على خُطَّته.
وقد أَلَّفَ رسائل كثيرة، تمتازُ عناوينُها بالطول، وكان يطبعها على نَفَقَتِه، ويوزِّع بعضًا منها مجانًا.
ويحسن أن أوردَ ما وَقَفْتُ عليه من أسماء رسائله، فهي تدل على اهتماماته وعلى مستوى تحسُّسه بالواقع الذي كان يحياهُ المسلمون، وبإيمانه بالإسلام، واعتزازه به.
وهذه أسماء الرَّسائل والكُتُب التي وقَفْتُ عليها:
1 - الاكتشافات العلميَّة تشهد بالحِكَم البالغة التي بَلَّغها سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم.
2 - صوت الطبيعة يُنادي بعظمة الله، (وهذه الرسالة في التَّوحيد على الأسلوب القرآني).
3 - العلم والعقل شاهدان بعظمة الله.
4 - سيدنا محمد هو المَثَل الأعلى في الكمال الإنساني بأسلوبٍ جديدٍ.
5 - مؤتَمر الأديان، أو الخصائص المحمديَّة والمزايا الإسلاميَّة.
6 - عظمة الإسلام في شَتَّى ميادين النَّشاط الإنساني.
7 - الكتاب الذي لا بدَّ منه في هذا العصر.
8 - القضاء والقدر ثابتان شرعًا وعقلاً، والاكتشافات العلميَّة تشهد.
9 - الجبر ضلال ومُحال شرعًا وعقلاً، والناس يشهدون.
10 - السلام العالمي لا يتم إِلاَّ بالإسلام.
11 - المسلمون كيف تَقَدَّم الأولون منهم؟ وكيف تأخروا اليوم؟ وكيف يستردون مجدهم؟
12 - بشائرُ الإسلام وخصائصه، نصوص صريحة منَ الكُتُب المُقَدَّسَة عند الأمم تُبَشِّر برسالة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم.
13 - الإسلام والنصرانية، مقارَنة وشهادات بأقلام أقطاب العالَم اليوم.
14 - الحقوق في الإسلام ما بلغتْ أمة في قديم العصور وحديثها ما بلغه المسلمون في الحضارة والعمران.
15 - المرأة في الإسلام، لم تصلِ المرأة الغربيَّة إلى ما وصلتْ إليه المرأة المسلمة منَ الحقوق.
16 - الرِّقُّ والإسلام، ما أنقذ الرَّقيق إلا الإسلام.
17 - الإسلام والعِلم، أمر بالعلم النافع بقوة ما بلغها دين منَ الأديان.
18 - الحضارة الإسلامية لا نظير لها في تاريخ الحضارات قديمًا ولا حديثًا.
19 - الحضارة الحاضرة قَبَس منَ الإسلام.
20 - المستقبل للإسلام، وسيُمَدِّن العالَم أخيرًا كما مَدَّنه أولاً، ولتعلمُنَّ نبأه بعد حين.
21 - تفسير القرآن الكريم كاملاً، التفسير العصري القديم، وقال عنه: هو عصري بِبَيَانِه الواضح، وبرهانه العلمي الجديد، وهو قديم باتِّباعه منهج السَّلَف، وإعلانه الحَرْب على الابتِداع في الدِّين.
22 - مولد عصري.
23 - الإسراء والمعراج ثابتان بالشريعة والعلم والعقل والطبيعة.
24 - حكم الإسلام في بيان الحكمة في: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج.
25 - حكمة المُحَرَّمات في الإسلام.
ثم قال الشيخ عبدالفتاح الإمام عن هذه الكتب: "كل ذلك بأسلوبٍ علميٍّ عصري، يقنع مَن لا يؤمن بالدِّين إذا أنصف وتأمَّل، كل ذلك بتوفيق الله وفضله".
لقد تناوَل - رحمه الله - موضوعات تَتَّصِل بصلة المسلمين بالحضارة الأوربية، وقد جاء دعاة وكُتَّاب مصلحون معاصرون له ولاحِقون، عالجوا الموضوعات التي عالَجَها بأسلوب آخر، وبِفِكْر آخر.
فالسلام العالمي والإسلام عالَجَه الأستاذ العبقري الموهوب سيد قطب - رحمه الله - وله فيه كتاب.
و"لماذا تأخر المسلمون وتَقَدَّم غيرهم"، كتاب كَتَبَه شكيب أرسلان، وقد ذكر أبو الحسن الندوي شيئًا من ذلك في كتابه: "ماذا خسر العالَم بانحطاط المسلمين"؟
وكتب الأستاذ الكبير محمد قُطب فصْلاً عنِ الرِّقِّ، وكيف عمل الإسلام على تحريره[3] في كتابه: "شبهات حول الإسلام".
والمستقبل للإسلام، كتب الأستاذ سيد قطب كتابًا في ذلك عنوانه: "المستقبل لهذا الدين".
توفِّيَ الشيخ عبدالفتاح الإمام في دمشق 1384 هـ - 1964م.
رَحِمَ الله الشيخ الإمام، وغفر لنا وله، والحمد لله رب العالمين.