الأستاذ عابدين رشيد
الأستاذ عابدين رشيد |
حازم ناظم فاضل |
ولد الأستاذ عابدين رشيد احمد سنة 1937 في محافظة كركوك بجمهورية العراق من عائلة متوسطة ، وكانت مهنة والده " صفّـار" ( يصقل الأواني النحاسية بالقصدير ) . أكمل دراسته الابتدائية والثانوية بكركوك وتعين معلماً سنة 1959 بعد ان انهى الدورة التربوية .. ودرس في المدارس الابتدائية والثانوية زهاء ثلاثين عاماً .
بدأ بالكتابة منذ مرحلة دراسته الإعدادية ونشر أول مقالته في مجلة " صدى الشباب" التي كانت يصدرها طلبة إعدادية كركوك ، باسم " نشيد العام الجديد " .
وساهم طيلة نصف قرن بمقالاته في جرائد ومجلات عراقية وغير عراقية في خارج القطر تحت عنوان " خواطر إسلامية " . وترجم العديد من المقالات التركية والكردية الى العربية .
طبع له ونشر حتى الآن :
(1) خواطر في محراب القلم .
(2) رجل وكتاب ( حول الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي ورسائله) .
(3) تأملات صغيرة .
(4) رسالة في الأدب الإسلامي المعاصر .
(5) دور المسجد في حياة المسلمين .
(6) حوار في رسائل النور .
(7) كيف تكون اديباً مسلماً ؟ ( مخطط عام بالفهرست ) .
(8) آفاق وأشواق
(9) خواطر في ظلال القرآن .
(10) أغاني المسلم ( ديوان شعر ) .
مختارات من مناجاته وابتهالاته :
اللّهم يا ربّي العظيم الأعظم والعليّ الأعلى !
ذوّقني معاني أسمائك الحسنى، اللّهم اكشف لي بعض حقائق أسمائك الحسنى ، اللّهم واجعل أسمائك الحسنى مدارج سيري إليك ومعارج قربك حتى أنطرح بين يديك حاضراً ماثلاً في أفق أعلى علّيين مع عبادك المقرّبين يا قادر يا ناصر ، يا حبيب يا قريب!
يا ربّ !
لولا رعايتك لي– ما حُييتُ – إذن لمّا دبّتْ رجلاي على ظهر الأرض لحظة ، ولو غفلتَ عني طرفة عين لنسَفَتني عناصر الكون نسفاً ولمَا بقيَ لي أثرٌ بعد عين ولو بعد حين لإانا لولا رحمتك وعنايتك عدمٌ في عدم ، عماء في عماء .. فشكراً لك شكراً وحمداً لكَ حمداً ملء السمأوات وما بعد السمأوات يا ودود يا ودود !
اللّهم !
كما أن نِعَمكَ عليَّ لا تُعدّ ولا تُحصى فإن ذنوبي كذلك لا تُعدّ ولا تُحصى فاغفر لي وارحمني وتب عليَّ يا تّواب يا وهّاب . يا ستّار يا قهار .
اللّهم أعنّا وأعنْ عبادك الصالحين الصادقين المخلصين من روّاد الجهاد الحق وجنوده في سبيلك وحده حتى يخرجوا للوجود بأساطيلهم الربّانية المتينة المتقنة : دولة الرضوان والجنان ، دولة الإيمان والقرآن .. يا قهّار يا جبّار ياذا الجلال والإكرام !
آمين !
اللّهم يا ربِّي !
إنّي محتاجٌ إليك ، مفتقرٌ إليك ومستغيثٌ بك بقَدَر ما اعطيتني من نِعَمِك ووهبْتَ لي من آلائك ظاهرة وباطنة ؛ فلكَ الحمدُ والشكرُ بِقدَر ما أنعمْتَ وأكرَمتَ مضروباً بنفسه بما لا تُعدّ ولا تُحصى إلى يوم القيامة .
واستغفرك مثله كذلك يا غفور يا غفّار ! .
اللّهم ! ليس لي من عملٍ صالح ذي شأن يُذكر فارضيكَ به إلاّ هذه القطرات من الدموع فاقبلها منّي فإني لا أملك غيرها ، يا لطيف يا كريم .
من خواطره في ظلال القرآن :
دخلتُ المسجد يوماً عند العشاء ؛ فلمحتُ شاباً جالساً مستقبل القبلة يقرأ القرآن الكريم على حامل خشبي .. يقرأ بشوق وسرعة فكأنه في سباق .
فاقتربتُ منه لأسأله بعض شيء للنصح والاطلاع لوجه الله تعالى ، فقلت له برفق وود : منذ متى بدأتَ تتلو القرآن ؟ قال باغتزاز : منذ سنوات . قلتُ ولكن إذا سألتك لماذا تقرأ القرآن ، فهل تستطيع أن تعطينا الجواب الصحيح المبقبول ؟
قال مجيباً بروح شبابية : أولاً لأنه كتاب الله الأقدس .
قلتُ : ثم لماذا ثانياً ؟ قال : طلباً للعبادة وكسباً للثواب .
قلتُ : ثم لماذا ؟ قال : لأتعلم ولأعرف ما فيه .
قلتُ ثم لماذا ؟ قال : لأجل الختمة التقليدية المعروفة ، وأهدي ثوابه لمَن توفي من ذوي قرباي .
قلتُ : ثم لماذا ؟ قال : لأقوي به لغتي وتقويم لساني .
قلتُ : ثم لماذا ؟ قال : لا شيء . بل وهذا كل شيء ألاَ يكفي كل هذه الأسباب ، وهل هناك شيء آخر ؟
قلتُ بارك الله يا بُنيّ ؛ فلقد عددّت شيئاً كثيراً من مقاصد تلاوة القرآن كما يعرفه الناس ويعتادون ، ويعملون به ، ولكن المسلمين نسوا أ, أنساهم الشيطان وجنوده الدجّالون قراءة أخرى هي الأهم من كل ما ذكرتَ ويعمل به خلق كثير من أتباع محبّي القرآن .
نعم يا بُنيّ لقد فاتك شيء مهم جداً من ألوان القراءة المهتدية ، هو أهم من كل ما ذكرتَ كما فات سائر المسلمين أيضاً . قال متعجباً : وكيف ذلك ؟ قلت : هو أن تقرأه لنفسك وكأنه نزل لك وإليك .
وبهذه المناسبة : أذكر أنني قرأتُ في سيرة حياة شاعرنا العظيم « محمد اقبال » شاعر الحضارة الاسلامية الخالدة كما أسمّيه ، قصة يرويها هو عن نفسه وكان غلاماً بعد ، يتدرج في سلّم العمر فقال: « كنتُ أتلو القرآن صباح كل يوم بعد صلاة الفجر وكان أبي يقول : ماذا تقرأ ؟ فأقول – كما ترى – أقرأ القرآن .ومرّت أيام فقال لي ذات يوم :« يا بُنيّ إقرأ القرآن كأنه نزل عليك » . ومنذ ذلك اليوم بدأتُ أتفهم القرآن وأقبل عليه ؛ فكان من انواره ما اقتبستُ ومن بحره ما نظمت »
ثم اردفتُ معلقاً : أتعلم يا بُنيّ أن سبب تأخر وتخلف وسرّ مأساة المسلمين اليوم ، أجل هذا اليوم في العالم كله في هذا العصر ما هو ؟ ولماذا ؟
قال متطلعاً بقلق متلهف : لا .
قلتُ بثقة راسخة : ذلك لأنهم لا يقرأون القرآن هذه القراءة الفعّالة التي تغيّر الأفراد والأقوام والشعوب والأمم وتبدل الأرض غير الأرض والأمم غير الأمم .
وهل تعلم أن القرآن مجموعة من الأوامر والنواهي تصدر من مقر القائد العالم الأعلى ، وهي رسائل تعليمات جاءت للتنفيذ والتطبيق وترجمتها عملياً في واقع الحياة اليومي ، فهي أوامر يومية ومنهج حياة طيّبة مباركة يحقق في حلبة الأرض الممتحنة نقطة نقطة خطوة خطوة ؟
فالقرآن – يقيناً كل الايقان – سرُّ تقدمهم وحضارتهم وعزّهم وانتصارهم ومجدهم وسعادتهم في كلا الدارين : هنا وهناك .
فوافق هذا الشاب كل ما سمع بحماس وانفعال صادقين وعاهد أن يبدأ هو وبعض معارفه الأخلاء مستعيناً على بركة الله أن يقرأوا هذه القراءة الاقبالية الهادفة الجادة التي تنطوي على سرِّ كيمياء التغيير الجوهري من الهزل الى الجدّ ، ومن الوهن الى القوة ومن الذل الى العز ، ومن الظلمات الى النور ، ومن التفرقة الى الوحدة ومن العبودية الى الحرية ، ومن الهاوية الى الذروة ... في حقيقة البلاغ الثوري الحكيم المبين دستور دساتير الانقلاب الإلهي للإنسانية الواعية الراشدة المجاهدة المتحدة للآية الكريمة :(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) ! لأنه الآن أدرك أين تكمن عظمة الأمة المسلمة للصحوة الجديدة العتيدة المستبصرة لتصنيع واخراج الجيل المسلم المثقف المعاصر ارتقاءً الى آفاق قمم النور الأسنى لنيل إحدى الحسنيين بمراحل سليمة سديدة من الوعي والحركة والفقه والتنظيم والجهاد . فإمّا النصر الأكيد المجيد ، وإما الشهادة الكريمة العظيمة ! .
وقبيل أن نفترق استدرك الشاب المؤمن الشهم فقال وكأن كل كيانه تحوّل الى أذن صاغية واعية: ولكن لم تقل كيف أقرأ وكأنه نزل عليّ ؟!
قلتُ حسناً وهذا هو البيت القصيد من كل ما شرحت وبيّنت ؛ وسأضرب لك مثلاً واحداً للفهم والعمل وعليك بالباقي كلّما أردت أن تقرأ القرآن بهذا الروح وهذا النهج .
قال : سمعاً واتّباعاً بتوقيق الله وإذنه !
قلت فاسمع واصغ إذن : (بسم الله الرحمن الرحيم . وَالْعَصْرِ إِنَّ « الإِنْسَانَ » - وهنا اذكر اسمك بدل الإنسان في قدس سرّك – لَفِي خُسْرٍ . إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) .
قال بفرح واندهاش : فهمتُ . فهمتُ جزاك الله خيراً .
ثم افترقنا على أملٍ لقاء قريب جديد إن شاء الله .
وعن واقع أدبنا المعاصر يقول الأستاذ عابدين رشيد :
إن أدبنا المعاصر لا يمثل واقعنا في شيء إلاّ عابراً أو نادراً ، إنه أدب مقلّد ، إنه أدب مطبوخ في غير مطبخنا وبأيدي غير أيدينا وبعقول غير عقولنا ومن ثم بعواطف وأذواق وطبائع غير عواطفنا وأذواقنا وطبائعنا . إنه أدب غريب وبكلمة مختصرة أقوى: إنه أدب أجنبي بكل معنى الكلمة .
وأنا سأضرب مثلاً ملائماً لأدبنا الحاضر ومدى علاقته بنا حتى نتلمس بأنفسنا سخافة هذه الأصداء الكاذبة المفتعلة وهذه الصرخات المسعورة الضائعة ، وهذه الدعوات الخادعة اللقيطة . والمثل هذا ينطبق تماماً على حقيقة مهزلة واقعنا الأدبي الحديث .
فلقد قرأت ذات يوم في مجلة لا أتذكر اسمها ، تذكر في هامش من هوامشها بعض الغرائب من عادات الأفريقيين المتخلفين . فتقول – فيما أذكر – من عاداتهم الغريبة أنه إذا جاء المرأة موعد مخاضها لتضع ولدها ، تخرج من بيتها إلى الفلاة بين الأدغال بعيداً عن الأنظار ، وهناك تلد وبعد ذلك ترجع إلى البيت حاملة طفلها الوليد في حضنها الدافئ ، بينما يظل زوجها في البيت أثناء خروج المرأة – يصرخ ويولول كأنه يتألم هو فعلاً من آلام المخاض ؛ فتجتمع الرجال من حوله يواسونه ويؤنسونه ويخففون عنه آلامه الموهومة الصارخة حتى ترجع المرأة وهي تحمل بين ذراعيها ذلك الطفل الصغير .
ألاَ ما أغرب هذا الرجل ؟ ومن ثم أليس هذا هو موقف أدبنا الجديد الذي يشبه تمام الشبه بهذا المثل المضحك المخزي ؟!
إن أدبنا الآن – عامة – يصرخ ويولول ويملأ الدنيا آهات وعويلاً ولكن لا من ألمه هو ومن معاناته هو وإنما من آلام ومعاناة قوم اركسوا في نجاسات جاهلية الحضارة الغربية المحتضرة بإذن الله في أوروبا . فيا للمهزلة !
لماذ ينصح ؟
وتراه ينصح هذا ويرشد ذاك ويصحح للآخر ، ويحذر الآخرين من وساوس الشيطان ومزالق الطريق ، ويدل على عمل الخير، ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويعلم الجاهل ويرشد الضال بحكمة وروية ، خلوق بشوش ذو ابتسامة يحب الخير للغير ، ودود يحب في الله ، ويبغض في الله ،ويدعو الى صلاح الناس في دينهم ودنياهم . ويسجل مجرياته في خواطر ، والقسم الاكبر منها نشرت في كتب ورسائل ومقالات والقسم الآخر يرنو الى إخراجها من الأوراق لتشق طريقها الى المطابع .
ومن هذه الخواطر ننقل هذه الخاطرة الطيبة :
كانت المبّردات تطحن الهواء العليل طحناً فتقذفه من فتحاتها ومنافذها المشبكة هواءً نسيمياً عليلاً بارداً وسط هجير الظهيرة وهي تملأ بصوتها كالطاحونة القديمة جوّ المسجد ضجيجاً وصخباً .
فما أن أنهيت من صلاة تحية المسجد حتى ألفيت بقرب مني شاباً كريماً يحتضن القرآن ويتلوه في سرّه ولعله كان يحفظ بعض آياته .
وكان المصحف الشريف موضوعاً على ساقيه بشكل وهو يجلس القرفصاء ، ولم أشاء أن أفاجئه بخطأ بل بقبيح ما يفعله ، وما لا يليق بكتاب الله العظيم ممسكاً به بهذه الوضعية ، وأردت أن أستدرجه إلى حديث ذي أهمية خاصة ومهم جداً في الوقت ذاته ، ولذلك ما أن انتهى من تلاوته وقام ليضعه في الرّف المخصص له في مكتبة المسجد الصغيرة ، ودنا مني شيئاً قليلاً حتى طرحت عليه هذا السؤال بهذه الصيغة قائلاً : كيف تقرأ القرآن ؟
قال : أحبُّ أن أقرأه مجوّداً .
فلم يفهم مرادي وقصدي فأعدت عليه سؤالي قائلاً :
إذا سألك أحدهم ما طريقة قراءتك للقرآن الكريم ؛ فماذا تجيب ؟
قال : أقرأ لأحفظ بعض السور وبعض الآيات .. وقد حفظتها فعلاً حتى الآن !
هنا اضطررت أن أدير الحديث معه بشكل آخر ؛ فقلت :
حبّذا لو تقرأ القرآن على أسس وقواعد فنّ التجويد .
قال : لا أعرف هذه الطريقة .
قلت : إنه سهلٌ ، فلو اطلعت على كتاب منه فلعلك تفهم وتتذوق ثم تطبق اكثر قواعده وليبقى الباقي فستلّمُ به على مهلك كلّما استمعت إلى تلاوة القرّاء المجودين المشاهير عبر قنوات الإذاعات والتلفزيون .
قال – مؤيداً وموافقاً – :
ذلك صحيح حقاً !
ثم أضفت قائلاً :
يا أخي الكريم إقرأ القرآن بتدبر وتفكر ، وليكن لك منه كل يوم حصة خاصة ؛ تقرأه لنفسك . وانظر ماذا يقول لك القرآن ؟ وبماذا يأمرك وينهاك ؟ أو ماذا يطلب منك من تكاليف وفروض ؛ علماً وفهماً وخلقاً وذوقاً وعبادة ومعاملة وإيماناً ويقيناً .
فلقد كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين – ذلك الرعيل الأول – كما قال وبيّن سيدنا عثمان بن عفان : (( كنا نقرأ عشر آيات فنفهمها علماً وعملاً ثم ننتقل إلى عشر آيات أخر )) .. وهكذا !
نعم هكذا كانوا يقرأون القرآن ، يقرأونه للعلم والعمل ؛ لا للأجر والثواب فقط ، أو للختمة فقط أو للحفظ فقط كما نفعله نحن اليوم غالباً ويكاد يكون طابع عصرنا وجيلنا ـ إذ لم ينزل القرآن بل ولم يجئ كمثل هذه المقاصد والغايات المجردة فقط كما يفعله المسلمون أو أكثرهم في هذا العصر . بل لقد جاء ونزل ليكون منهاجاً عملياً للحياة وبرنامجاً فعلياً للعمل التنفيذي حتى يكون المسلم وكأنه هو نفسه سور وآيات قرآنية تدب وتتحرك في مناكب الأرض أي نماذج قرآنية متحركة فوق أديم الأرض أسوة حسنة وقدوة طيّبة .
ولئن أنسى فلا أنس إذ قرأت يوماً شيئاً من حياة شاعر الإسلام العظيم المعاصر ، (( محمد إقبال )) صنّاجة الحضارة الإسلامية الخالدة .. إذ يقول – متحدّثاً عن ذكريات عهد طفولته وصباه مبيّناً بعض العوامل القوية والمواقف الكريمة التي أثرت في تكوين شخصيته المرموقة قائلاً :
كنت كل يوم أقرأ بعد صلاة الفجر آيات من القرآن الكريم وكان والدي – كلما رآني – يسألني هذا السؤال : ماذا تقرأ ؟ فأقول له : أقرا القرآن . ولا أزيد ولا هو يزيد . حتى جاء يوم لا أنساه فلقد كان لكلامه ذلك وقع سحري عجيب في نفسي ما جعلني أنظر إلى القرآن بنظرة جديدة خاصة قلّبت حياتي رأساً على عقب . فقد قال لي – بعد ما طرح عليَّ نفس السؤال التقليدي اليومي – فأجبته بنفس الجواب المعهود كل مرّة . ثم قال : أنظر يا بُنَّي ! أريدك أن تقرأ القرآن وكأنه نزل عليك أنت !
فكانت هذه الكلمة تفعل فعل البُراق حيث صعد بروحي إلى أعالي قاصية من أجواء النور والروحانية فقد تلقيت هذه العبارة بأروع ما يمكن وأعظم أثراً ، فكانت سر مفتاح من مفاتيح شخصيتي منذ ذلك اليوم .
وفي عصرنا أضاء أستاذ خبير آخر في فنّ تلّقي القراءة وهو (( سعيد النورسي )) أحد أقطاب دعاة العصر البارزين ، عندما يتحدث في فترة من مراحل حياته العنيفة فوجد كتاباً للشيخ عبد القادر الكيلاني وأغلب ظني إنه (( فتوح الغيب )) .
قال : فقرأته فإذا به يخاطبني أنا قائلاً : أنت في دار الحكمة فاطلب طبيباً يداويك !
فقلت : كن أنت طبيبي .
وهكذا قرأت الكتاب وكأنه مرشدي وشيخي ودليلي .
أجل هكذا ينبغي أن يقرأ المسلم المعاصر عندما يريد أن يقرأ وعندما يريد أن يكون خادماً غيوراً جسوراً أميناً صادقاً لدينه ولأمة رسوله الكريم محمد ، لعل الله سبحانه يرضى عنه وهو أقصى أمانيه في حياة الدنيا وأبهج أحلامه كلها ليخرج منها عبداً مقبولاً ، بل ومحبوباً مشهوراً في السماوات .
وأختم خاطرتي هذه بمسك الختام لأجيب على السؤال الذي ابتدأت به ودبجت به عنوان المقالة (( لماذا أنصح ؟ )) فأقول ؛ وبالله التوفيق والتكلان :
إن ما أرميه من وراء نصائحي بخلوص نيّاتي إن شاء الله هو أن عسى الله أن يوفق أحداً فرداً من أمة سيدنا محمد الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه فيعي ويفهم ويتذوق ويسلم من حرية واختيار وقناعة وإصرار أحسن مني ومن كثيرين من غيري فيلقي أذناً صاغية وقلباً فقيهاً واعياً فتسمو أخلاقه على أخلاقنا وترتقي معنوياته على معنوياتنا وتنطلق أفكاره بأقوم وأصوب من أفكارنا ومن ثم وبكلمة واحدة قيّمة :
لعل الله ربنا سبحانه وتعالى يبلغه إلى أفق شخصية إسلامية بارزة مرموقة متألقة في سماء عالمنا الإسلامي المجيد فتقر بها عيون أمة رسولنا وحبيبنا ومقتدانا محمد (صلى الله عليه وسلم ) بفكره وإيمانه وخلقه ونسكه وعلمه وجهاده فذلك هو مبلغ الآمال ومرتجى الأحلام .. بل ومنتهى المقاصد والمطامح والأمنيات فأسلّم الراية والروح معاً قرير العين مطمئن القلب فأقول غداً باعتذار وخجل كبيرين :
يا ربّي ! ويا ربّ كل شئ .. هذا كل ما استطعت وأحسن ما قدمت لك في نظري ؛ فخذه وتقبله مني يا غني الأغنياء . ويا كريم ويا أكرم الكرماء ويا خير شفيع وخير مجيب !
نعم أعود فأقول أعود وأكرر ، لعل كلمتي الخجولة البسيطة المتواضعة تصادف قلباً كريماً سليماً فيبصر الطريق بمنارات صالحة ومعالم نموذجية قائمة واضحة فيواصل السير الحثيث النشيط نحو قمم الإيمان وشوامخ الخلق وذرى الجهاد الأفضل والأصلح والأقوى ، إتباعاً سديداً شديداً لخطوات النبي الأعظم.. فارس ليلة القدر وليلة المعراج الخالدتين في سننه السنية القويمة المطهرة الزاهرة وصولاً إلى سدرة الرضوان الأمجد . وتلك إذن عندئذٍ أشرف وأسنى رسالتي وأبلغ وأسمى فلسفتي وأفلح وأسعد حكمتي .. شهادة عبد حق لله عز وجل في حلبة الوجود العابر .
وليشهد على ذلك المسجد وأعمدته ، ومصابيحه ومروحاته ، وسجاجيده وشبابيكه .
كل ذلك لأن أمة الإسلام ، أمة محمد رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في ضيق وحرج وفي تخلف وخطر ، وفي عجز وضعف بصورة عامة لا بصورة خاصة .
فهي اليوم قبل كل الأيام ، تحتاج إلى الوعي والنهوض ، وإلى القوة والنشاط ، وإلى التقدم و الأزدهار .
فلا كارثة إنسانية بل وتأريخية عظيمة مدمّرة في حياة الشعوب والإنسانية قاطبة من تهميش دين الإسلام دين الحق المبين وحبسه وقيده بين جدران أربعة في بيوت الله لا غير ، وقد ظهر للوجود ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ،ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام كما كان في فجر طلائعه الأولى .. والله اكبر وله الحمد كله !