الشهيد عبد الوهاب مصطفى

يحيى بشير حاج يحيى

وذكريات انتفاضة الثمانين!!

يحيى بشير حاج يحيى

[email protected]

بعد يومين من استشهاده وصلتني رسالته التي يقول فيها : أخي ! لم يبق أمامنا إلا المواجهة فإما النصر و إما الشهادة ؟!!

لتعود بي الذكريات إلى سنوات مضت ، عرفت فيها الشهيد معلما للرياضة تتناسب مهنته مع بسطة في جسمه ، و قوة في إرادته ! يحبه الجميع و يتمنى الخير للجميع ، و لم يكن يلزم نفسه مع أية جماعة ، و كانت بداية تعميق الصداقة بيننا لما عرض علينا جمع كلمة الدعاة في إطار ثقافي فكري مشترك ، فبدأ بدعوتنا إلى منزله ، و سارت الأمور حتى غدا هؤلاء الأحبة يدا واحدة و قلبا واحدا لُمست آثار ذلك في الانتفاضة و تفجر الأحداث في العاشر من آذار 1980 في منطقة جسر الشغور و ريفها!

كان رحمه الله ذا بصيرة نافذة ينذر و يحذر ، و يطالب بالحشد و الاستعداد لتكون هناك قوة ردع تتناسب مع قذارة المؤامرة التي يعد لها النظام ؟! و ما أكثر ما حذر أصدقاءه من التوسع في أمور الدنيا ، منذرا بأنهم يبنون لغيرهم ، و أنهم  سيتركون ذلك لعملاء النظام و زبانيته من الحزبيين ؟! و هكذا كان ؟!

انتفضت المدينة و سقط عدد من الشهداء رميا بالرصاص في مكتب البريد الذي اتخذ منه المجرمون وكرا و مقرا للمحكمة الميدانية برئاسة عضو القيادة القطرية توفيق صالحة و المجرم الرائد هاشم معلا و مسؤول الحزب محمد أنيس . و نامت المدينة على الجراح ، و  لكن نومها لم يطل فقد استجابت مرة أخرى للنداء الذي أطلقه الشهيدان صالح حسناوي و محمد ديرك لخوض جولة الثأر ، فالتحق الشباب المجاهد بالجبال و صعب على الشهيد عبد الوهاب أن يظل في بيته آمنا ، و إخوانه في الجبال ، فمضى إليهم يتفقدهم و يسأل عن حاجاتهم ! و لكن أحد المخبرين رآه ، فآثر أن يبقى مع إخوانه و قال : لأن أموت في الجبل خير من أن أموت في أقبية المخابرات !

فانطلق مع مجموعة من الشباب الجامعي المُهدد بمستقبله و حياته إلى قاعدة حدودية بين سورية و تركية ، يبذل الجهد في جمع الشمل و توعية المزارعين و إثارة حميتهم في الدفاع عن دينهم و بلدهم .

و كان لنا لقاءات ، أزوره في عرينه  و أنظر إليه فأعجب من قوة و عظمة هذا الدين الذي يجعل شابا منعما وحيدا لوالديه ، ليس مطلوبا في ذلك الوقت ، و يملك راتبا محترما ، و لديه أرض زراعية  تدر على أسرته خيرا وفيرا يترك ذلك كله و يلتحق بالمجاهدين ! و أذكر عند ذلك ما فعله الإسلام في نفوس الصحابة و قد آثر كثير منهم الحرمان على الغنى طالما أنهم يخدمون الإسلام ؟!

أقف معه عند إحدى القواعد ، و قد طبخ الشباب برغلا و وضعوا معه سلطة و لبنا ، فيأخذ بيدي محتدا و يقول : يا فلان ! كم نوعا من الطعام كان النبي صلى الله عليه و سلم يأكل ؟

فأقول : واحدا ..

فيشير إلى ما صنعوه و هو يردد : البرغل يُـكتفى أن يكون معه سلطة أو لبن ؟!

فآخذ بيده ، و أهمس : يا أخي أبا عارف ! هؤلاء شباب في مقتبل العمر ، و أجسامهم تحتاج إلى تغذية ، و لا تنظر إلي و إلى نفسك و قد دخلنا في مرحلة الهرم ..

و أمضي معه في ليلة شاتية ماطرة إلى أبي خالد الذي تحول من مجرد مهرب إلى مجاهد مؤازر ، و قد حصل على عدد  كبير من البنادق الروسية التي كان حافظ أسد يمد بها اليساريين و الطائفيين في تركيا ، قبل انقلاب كنعان آفرين ، فإذا هم يبيعونها و يتخلون عنها لقاء بضعة مئات من الليرات لتكون من نصيب الشباب الثائرين !!

و لكن كيف الوصول إلى أبي خالد و قد فاض النهر الأبيض و لم يعد ساقية كما كان قبل أسبوعين

فأخلع قسما من ثيابي و أرفع بندقيتي فوق رأسي ، و يدخل أبو عارف بلباسه [ البنطال المصنوع من النايلون السميك ] أمامنا يمسك بي و بأحد الأخوة حتى نعبر ، و نمضي و قد لبسنا ثيابنا ، و هو مبتل الثوب و نصل و نستريح و لكنه لم ينتظر سوى سويعات ليعود إلى قاعدته رغم التعب و الجهد و البرد ، و كان ذلك اليوم آخر لقاء بيننا .

و في يوم الخميس 12 / 2 / 1981 يستعد الشهيد و قد كان صائما للقاء أحد المتعاطفين في منطقة بعيدة ، ليذهب وحده بسلاحه الفردي ، و لا يظن أن أحدا يرصده و قد مضى على وجوده أشهر عديدة ..

كان المجرم رفعت أسد قد أعد بعض زبانيته في سرايا الدفاع لمتابعة مجاهدي جبل الزاوية و جسر الشغور ، و يحضر أحد هؤلاء المرتزقة إلى قرية الحسانية الحدودية و قد وعد بخمسين ألف ليرة سورية إذا استطاع قتل عبد الوهاب !

و يشاء الله أن يمضي شهيدنا وحيدا بعد أن أقنعه الإخوة بضرورة الإفطار ، فالمسافة بعيدة ، و بعد أن أشاروا عليه بأن يحلق  شعر رأسه ، و يشذب لحيته و يبدل ملابسه فمضى و كأنه ذاهب إلى عرس !

كان المجرم [ من آل غنوم ] قد أقنع بعض أقاربه للخروج إلى الصيد ببنادقهم فأجابوه و هو في الحقيقة يبحث عن أبي عارف ..

و يشاء الله أن يروا أبا عارف ، و هم يعرفونه فحاول تحاشيهم ، فلحقوا به فالتفت إليهم قائلا : يا ناس ! أنا عبد الوهاب ، و كان لسان حاله يقول : [ لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي و إثمك فتكون من أصحاب النار و ذلك جزاء الظالمين ]  فابتعد عنهم و معه مسدسه و قنبلتان ، و ما ظن أنهم يطلقون النار عليه ، و لكن المجرم أطلق عيارات عديدة أصابت الشهيد في ظهره لتخرج من صدره ، و هوى عبد الوهاب فوق الأرض التي أحبها و أحبته ، و مضى المجرمون بعد أن نهبوا ما معه من سلاح و مال ..

و اتصلوا بأسيادهم الذين خيبوا ظنهم و لم يفوا بوعودهم ، فكان هذا العريف  المشؤوم يردد : [ قتلنا واحدا من الإخوان و لم يعطونا شيئا ]

و يعلم المجرمون أن عبد الوهاب لم يكن يوما من الإخوان وهم الذين يشرفهم أن يُنسب إليهم مثله .

و لم ينل المجرم جائزته الموعود بها  ، و لكن نال الخزي في الدنيا ، و لعذاب الآخرة أشد و أخزى.