هشام الغراوي، نظرة مختلفة للتعارف وتغيير المنكر
(الموضة) السائرة الآن هي محاولة الوصول للغايات؛ دون بذل أي عناء إن أمكن: الطالب يريد أن ينجح - ولو لم يذاكر - والموظف يريد أن يترقى ويتمكن - ولو لم يداوم - والتاجر يريد المزيد من الكسب؛ ولو من غير استحقاق.
وسرى بين الناس منطق الفهلوة والج]عنة، والتجارة شطارة، ومشِّ حالك ماتحبّكهاش؛ حتى طفا على السطح زَبدٌ كثير، وعمّت قيم الإهمال، والتفلّت، والمخادعة، وقلة الجدية، وضعف العطاء.
وعهدنا بالذين يريدون البناء أن يصبروا على رص المبنى - طوبة طوبة – وينتهوا من ذلك مرحلةً مرحلة؛ دون إخلال ولا إهمال؛ حتى لا يسقط المبنى على الرؤوس قبل تمامه.
لكن الدنيا - بطبيعة الحال - لن تخلو من أناس مخلصين، مدقّقين، يحرصون على التجويد والإتقان، غير مبالين - في سبيل ذلك - بوقت، ولا جهد، ولا مال، رغم أن أهل الكسل قد يصفونهم بأنهم "حمير شغل أو حنبلية" ورغم أن الحضارات الساقطة لا تقوم بالصنف الأول؛ بل عمادها هؤلاء المخلصون الذين ربما أصيب أحدهم بـ"الكاروشي" أو الموت من كثرة العمل، على الطريقة اليابانية، بينما يصاب الكسالي بال "كروشي" أو ضخامة البطون، لقلة الحركة والعمل!
وهو - في رأيي - واحد من الصنف الثاني؛ فرغم تقدمه في السن، ورغم البدن الهزيل، الذي يعكس خصومة شديدة مع الطعام؛ فقد كان يعمل مثل خمسة رجال، وكان يمكن أن تجده في المكتب في أية ساعة من الليل أو نهار: في السادسة صباحاً، والثانية ظهراً، والعاشرة مساءً.. لا فرق عنده.. ولم أعلم له دافعاً لذلك؛ غير كونه مبتلىً بحب العمل، وحب التعلم، وحب التعليم.
كانت له فلسفة خاصة، هي الإتقان لحد الوسوسة - إذا صح هذا - رغم ما كان يسببه هذا من سوء تفاهم، وصدام بينه وبين بعض رؤسائه، الذين لم يصبروا كثيراً على حرصه، وتدقيقه، فضيقوا عليه، وأحرجوه.
وكانت له فلسفة خاصة وتأوّلٌ لقوله تعالى:(وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَ بَائِلَ لِتَ عَارَفُوا(، فكان يقول:
- أتظن أن (تعارفوا) معناها: أن أعرف أسمك وتعرف اسمي؟!
هذا تسطيح؛ إن معناها: أن نتبادل المعرفة، أن تعلمني ما تعرف، وأعلمك ما أعرف، فليست القضية هنا إتيكيت، وتبادل (الكارت فيزيت).
كان يقول ذلك، ويعنيه، ويطبقه، وعلى يديه تعلمت الكثير من فنون وأسرار الطباعة، وتشطيب اللوحات الخطية Retouching وتصميم أغلفة الكتب بحماسةٍ كان يغلّفها بابتسامة راضية حانية.
وكان يسخو كثيراً في التعليم - ولو على حساب وقته - دون أن ينتظر شيئاً، بل كثيراً ما كان يُقابل بالجحود والنكران، بل اللوم والمؤاخذة.
وقد عاينت أشياء من ذلك من خلال احتكاكي به، وقلّ من كان يراجع نفسه فيه، ويتراجع عن موقفه معه.
كان يهتم بالعلم - رغم تخطيه السبعين، وانشغاله بالتكوينات الفنية - حتى إنه التحق بالمركز الثقافي الفرنسي ليجوّد فرنسيته، ويكون على رأس المتقدمين جميعاً بامتياز، سناً، ونتيجة!
ومن ولعه بالعلم، وإخلاصه لإظهار ما يمكنه إظهاره، أنه ملك - ذات يوم - محاضرة صوتية للعلامة (أبو زهرة) ألقاها في حلب سنة 1956م في دار الكتب الوطنية، ولم تكن المسجلات منتشرة آنذاك، فأحس أنه أمين على المحاضرة، وأنه يلزمه إخراجها للنور حتى لا يأثم بكتم العلم، فلم يهدأ له بال حتى أخرجها مطبوعة سنة 1987م، أي بعد إحدى وثلاثين سنة من حمله الأمانة، وقام هو بتفريغها، ثم جمعها على الكمبيوتر، وتمكيتها، وإخراجها طباعياً، وتصميم الغلاف، فضلاً عن بعض التعليقات والحواشي التي كتبها بنفسه.
ومما نفعني الله به - عن طريقه - أن عرفني على أستاذي الدكتور المعايرجي رحمه الله، الذي لا أزال أستفيد من عطائه، وهو الذي عرفني على الشاعر الكبير الأستاذ عمر الأميري - صديق عمره - وهو الذي اهتم بإخراج الدواوين الأميرية منذ ديوانه الأول (مع الله) قبل أكثر من خمسين سنة، وحتى آخر ديوان للشاعر الكبير (نجاوى محمدية) الذي أخرجه له في صورة باذخة شديدة الأناقة.
كما عرفني على أعمال الخطاط العظيم بدوي الديراني - رحمه الله – شيخ الخطاطين الشوام بلا منازعة، وقد كانت بينهما علاقة (وتعارف)، فهذا يصمم الغلاف، وهذا يكتب الخطوط، لتخرج الكتب في أشكال بهية، ودام ذلك بينهما عقوداً حتى فرقتهما الأيام.
وكان ذا غيرة شديدة على الحقيقة - ولو من وجهة نظره - ينفعل لها، ويغضب، ويخاصم؛ دون مبالاة لما يمكن أن يترتب على موقفه؛ حتى إنه تصدى ذات مرة للقائمين على أحد المراكز الثقافية الدولية في اسطنبول - وذلك أثناء مسابقة الخط الدولية الثالثة، لما رأى بعض النصوص المقدمة للمتسابقين قد اعتراها التساهل وعدم التدقيق، فهدد بإثارة فضيحة كبيرة وعالمية - تناسب مكانة المركز - إن لم تُسحب النصوص أو تعدّل.
لقد عاش حياة دقيقة أنيقة، شغل معظم ساعاتها بشكل بنّاء، وطوّف في العالم الإسلامي؛ ليستقر به المطاف في تركيا، عاكفاً وسط الثراء التراثي، والخصوبة الفنية، وروح الفن الذي عشقه وأعطاه عمره.
فأين هذا من عطاءات جيل (الكدْب المساوي)؟!
وسوم: العدد 625