المجاهد الكبير، الشيخ عز الدين القسام
ولد الشيخ عز الدين عبد القادر مصطفى يوسف القسام في مدينة جبلة في محافظة اللاذقية في سوريا الحالية يوم 20 تشرين الثاني 1871. ينسب إليه الجناح العسكري لحركة حماس.
والده عبد القادر بن محمود القسام. كان القسام منذ صغره يميل إلى العزلة والتفكير. تلقى دراسته الابتدائية في كتاتيب بلدته جبلة ورحل في شبابه إلى مصر حيث درس في الأزهر وكان من عداد تلاميذ الشيخ محمد عبده والعالم محمد أحمد الطوخي. كما تأثر بقادة الحركة النشطة التي كانت تقاوم المحتل البريطاني بمصر.
لما عاد إلى بلاده سوريا عام 1903 تولى الخطابة في جامع السلطان إبراهيم وأقام مدرسة لتعليم القرآن واللغة العربية في مدينة جبلة. في عام 1920 عندما اشتعلت الثورة ضد الفرنسيين شارك القسام في الثورة فحاولت السلطة العسكرية الفرنسية شراءه وإكرامه بتوليته القضاء فرفض ذلك وكان جزاؤه أن حكم عليه الديوان السوري العرفي بالإعدام. قاد أول مظاهرة تأييداً للليبيين في مقاومتهم للاحتلال الإيطالي وكون سرية من 250 متطوعاً وقام بحملة لجمع التبرعات.
باع القسام بيته وترك قريته الساحلية وانتقل إلى قرية الحفة الجبلية ذات الموقع الحصين ليساعد عمر البيطار في ثورة جبل صهيون السورية ضد الاحتلال الفرنسي (1919-1920). أبلى فيها الشيخ القسَّام بلاءً حسنًا دفع الفرنسيين لمحاولة مهادنته من خلال شرائه، فعرضوا عليه القضاء لشراء ولائه، غير أنه رفض، فأصدر الديوان العرفي عليه حكمًا غيابيًا بالإعدام.
وصل الشيخ القسام عام 1921 إلى فلسطين مع بعض رفاقه واتخذ مسجد الاستقلال في الحي القديم بحيفا مقراً له حيث استوطن فقراء الفلاحين الحي بعد أن نزحوا من قراهم ونشط القسام بينهم يحاول تعليمهم فكان يعطي دروساً ليلية لهم ويكثر من زيارتهم وقد كان ذلك موضع تقدير الناس وتأييدهم.
لجأ القسام إلى فلسطين في 5 شباط عام 1922 واستقر في قرية الياجور قرب حيفا. والتحق بالمدرسة الإسلامية هناك ثم بجمعية الشبان المسلمين وأصبح رئيساً لها عام 1926. كان القسام في تلك الفترة يدعو إلى التحضير والاستعداد للقيام بالجهاد ضد الاستعمار البريطاني ونشط في الدعوة العامة وسط جموع الفلاحين في المساجد الواقعة شمالي فلسطين.
استشعر الشيخ القسَّام مبكرًا خطر الحركة الصهيونية ورأى بفكره الثاقب ضرورة ضرب قاعدة هذا الخطر ممثلة بالاستعمار البريطاني، وذلك في وقت كانت الزعامات والأحزاب الفلسطينية تسعى لمفاوضة بريطانيا وتتجنب مواجهتها.
حتى عام 1935 لم يكن سكان حيفا يعرفون عن عز الدين القسام سوى أنه واعظ ديني ومرشد سوري ورئيس جمعية الشبان المسلمين في مدينة حيفا وكان بنظرهم شيخاً محمود السيرة في تقواه وصدقه ووطنيته كما كانت منطقة الشمال تعرفه إماماً وخطيباً بارعاً ومأذوناً شرعياً في جامع الاستقلال وهو الذي سعى في تشييده.
رغم ريادته في تشكيل منظمة مسلحة تخوض غمار المواجهة ضد المحتل إلا أن المؤرخين الذين أرّخوا لمنظمته أجمعوا على أنه نجح في تجاوز أخطاء البدايات، فأثنَوْا على دقة تنظيمه، وقدراته الفائقة على الاختيار، والكتمان الشديد.
فقد آمن القسَّام أن الاكتفاء بالإضرابات والتظاهرات الاحتجاجية لا يخلف إلا الضوضاء والشهداء والمعتقلين؛ فيما العربة الصهيونية تمضي بهدوء وصمت تحت حراسة حراب المحتل ورعايته، فانطلق يعمل على إعداد الجماهير نفسيًا للثورة، وساعده في ذلك عدد من المجاهدين العرب من أمثال الشيخ كامل القصاب (سوري) وهاني أبو مصلح (لبناني)، فكانت أنشطته العلنية في الوعظ والتدريس ستارًا لعمله الأساسي في بناء الثورة، واختيار الصالحين لها من بين تلاميذه ومستمعيه، وقد أعانه عمله كمأذوناً شرعيًا على ارتياد القرى المجاورة والتعرف إلى أهلها وعقد صلات معهم، وهكذا مرت السنوات وتكاثر أتباعه المؤمنون بدعوته، وقد كان يختار هؤلاء بعد اختبار يمتد لسنوات، وشرط الانضمام أن يشتري المجاهد سلاحه الأول من ماله الخاص ليكون بذل المال تدريبًا عمليًا على الاستعداد لبذل الروح في سبيل الله.
وقد جمع المال والسلاح لنجدة المجاهدين في طرابلس الغرب أثناء حملة الإيطاليين عليها. وفي عام 1929 أشيع أن اليهود يريدون أن يحرقوا مسجد الاستقلال بحيفا فاقترح بعض الوجهاء أن يطلبوا المساعدة من الإنكليز لكن الشيخ القسام رفض رفضاً قاطعاً وقال أن دمنا هو الذي يحمي المسلمين ويحمي مساجد المسلمين وليست دماء المحتلين. كان يرفض أي حوار أو معاهدة مع الإنكليز ويقول من جرّب المجرّب فهو خائن فقد جرّب بعض العرب الإنكليز ضد العثمانيين وكانت كل وعودهم كذباً.
وفي إحدى خطبه كان يخبئ سلاحاً تحت ثيابه فرفعه وقال :"من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليقتني مثل هذا" فؤخذ مباشرة إلى السجن وتظاهر الناس لإخراجه وأضربوا إضراباً عاماً. كان يقول للناس في خطبه": هل أنتم مؤمنون؟ ويجيب نفسه "لا ثم يقول للناس إن كنتم مؤمنين فلا يقعدنّ أحد منكم بلا سلاح وجهاد". كان يركز على أن الإسراف في زخرفة المساجد حرام وأن علينا أن نشتري سلاحاً بدل أن نشتري الثريات الفاخرة. كان يصل إلى جميع الناس من خلال عمله كمأذون شرعي وكخطيب. وكان يختلف كثيراً مع الشيوخ لأنهم كانوا لا يهتمون سوى بأمور العبادة من صلاة وصوم بينما كان اليهود يخططون ويشترون الأراضي. فكان يرى أن لا فصل بين الدين والسياسة وأمور السياسة كانت واضحة بعد أن نال اليهود وعد بلفور. كما كان في شجار مع المستعجلين من أبناء تنظيمه الذين يريدون الثورة في حين كان القسام يعدّ ويتريّث ليضرب في الوقت المناسب فلبث سنين وهو يعدّ للثورة.
قام القسام بتنظيم مجموعاته العسكرية والتي كان يبلغ عدد أفرادها 200 شخص في حلقات سرية. كانت كل حلقة تتكون من خمسة مقاومين يرأسها نقيباً للقيادة والتوجيه. وبمرور الوقت زاد أنصار القسام حتي بلغ عددهم 800 مقاتل وبذلك زاد عدد أفراد المقاومة لتضم كل واحدة 9 مقاتلين.
مضى الشيخ القسَّام سنين طويلة في اختيار العناصر وإعدادها وتربيتها على التعاليم الإسلامية، ورفض الانجرار للمعركة قبل استكمال الاستعداد، مما أحدث انقسامًا ظل طي الكتمان في منظمته من جراء رفضه إعلان الثورة ردًا على أحداث حائط البراق 1929.
فقد آمن الشيخ القسَّام بالفلاحين والعمال؛ لأنهم أكثر الفئات استعدادًا للتضحية، وذهب أبعد من ذلك في مخالفة قادة الأحزاب النخبوية، فآمن ليس فقط بالطبقات الكادحة بل وبالمنحرفين منها، فقد آمن أن جرأة السارق والقاتل والمنحرف قابلة للتحول إلى شجاعة حقيقية وثورة صالحة إذا ما ارتد هذا المنحرف عن غيه وآمن بالله وبالجهاد في سبيله.
لم يكن يفصل في عمله بين الدين والسياسة، فقد تعلم في الأزهر أن السياسة من أمور الدين، لذلك كان خلافه مع العلماء الذين حاولوا حصر الدين في الأمور العبادية، وهذا أمر تفسره اتصالاته السياسية مع الملك فيصل في سورية وأمين الحسيني مفتي فلسطين الأكبر والأمير راشد الخزاعي من شرق الأردن، وكان يركز عمله المقاوم في المحتل ولم يتعداه إلى المختلفين معه في الرأي، ممن كانوا يؤمنون بالحل السياسي.
طلب الشهيد عز الدين القسام العون ممن حوله وقام بالاتصال بكُل الملوك والأُمراء والزعامات العربية في ذلك الوقت فما أجابه ولبى نداءه بالدعم والعون إلا الأمير الشيخ راشد الخزاعي، حيث نهض الأمير الشيخ راشد الخزاعي ليمد القسام ورجاله بالمال والسلاح والمأمن فكان الأمير الوحيد من العرب الذي لبي نداء الثورة حين أطلقه عز الدين القسام، حيث وقف إلى جانب الشيخ عز الدين القسام في ثورته والذي قد لجأ مرة إلى جبال عجلون مع عدد من الثوار وكانوا في حماية الأمير راشد بن خزاعي الفريحات كما قد قدم الأمير راشد الخزاعي إمدادا مباشرا وقويا للشيخ القسام بالمال والسلاح فضلا عن توفير الحماية للثوار الفلسطينيين في جبال عجلون الحصينة من فترة لأخرى الأمر الذي استدعى من الأمير راشد الخزاعي وقبيلته ومعظم عشائر الشمال الأردني للمواجهة مباشرة مع النظام الأردني وخاصة مع الملك عبد الله الأول والانتداب البريطاني والذي حاول تصفية الأمير الخزاعي بقصف مواقعه وقتل كثير من الثوار الأردنيين الموالين للخزاعي في ذلك الوقت مما اضطره بعدها إلى مغادرة الأراضي الأردنية إلى السعودية عام 1937 م واندلعت على إثر لجوئه ثورة في جبال عجلون امتدت بعدها لنطاق واسع في إمارة شرق الأردن.
في 15 تشرين الثاني 1935 كشفت القوات البريطانية أمر القسام، فتحصن الشيخ عز الدين هو و15 فرداً من أتباعه بقرية الشيخ زايد، فلحقت به القوات البريطانية في 19/11/1935 فطوقتهم وقطعت الاتصال بينهم وبين القرى المجاورة، وطالبتهم بالاستسلام، لكنه رفض واشتبك مع تلك القوات، وأوقع فيها أكثر من 15 قتيلاً، ودارت معركة غير متكافئة بين الطرفين، وبقي يقاتل حتى سقط شهيداً مقبلاً غير مدبر مع ورفاقه يوسف عبد الله الزيباري وسعيد عطيه المصري ومحمد أبو قاسم خلف وألقى الأمن القبض على الباقين من الجرحى والمصابين.
وما جاء يوم العشرين من تشرين الثاني "نوفمبر" سنة 1935 حتى أضحى القسام علما من أعلام الجهاد يتردد اسمه في بلاد فلسطين كلها.
اكتشفت قوات الامن عند نهاية المعركة مع الشيخ ذي اللحية البيضاء والمجندل على التراب بملابسه الدينية مصحفا وأربعة عشر جنيها ومسدسا كبيرا وكان الشيخ نمر السعدي ما زال حيا جريحا حيث استطاع صحفي عربي أن ينقل عن لسانه أول الحقائق الخفية عن عصبة القسام وكانت هذه الحقيقة دليلا على أن المجابهة المسلحة هذه كانت بقرار بدء الثورة منهم جميعا. كانت العناوين البارزة في الصحف (معركة هائلة بين عصبة الثائرين والبوليس) و(حادث مريع هز فلسطين من أقصاها إلى أقصاها).
خرج آلاف الفلسطينيين يحملون جثامين الشهداء الثلاثة بثيابهم الطاهرة التي خضبها الدم مسافة 5 كم حتي مكان المقبرة التي وارى فيها الشهيد عز الدين القسام الثرى في قرية الشيخ وصلى عليه الفلسطينيون صلاة الغائب. ورغم استشهاد القسام إلا أن الثورات والإضرابات الفلسطينية والعربية لم تتوقف بعد ذلك وكان منها ثورة عجلون في الأردن في عام 1937بقيادة الأمير الشيخ راشد الخزاعي.
حمل الراية بعد القسام الشيخ المجاهد فرحان السعدي والذي ما لبث أن أُعدم وهو في الثمانين من عمره، ثم تسلم الراية من بعدهم المجاهد عبد القادر الحسيني، والذي قاد حركة الجهاد المسلح في فلسطين ضد احتلال الإنجليز واليهود بدءاً من عام 1936 حتى لقي شهادة كريمة عظيمة في عام 1948. تأثر به الشيخ المجاهد أحمد ياسين والذي أنشأ حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، يُنسب للقسام كتائب عز الدين القسام، وهو الجناح العسكري لحركة حماس.
وسوم: العدد 625