أ.د. محمد أحمد الغمراوي، رائد دراسات الإعجاز العلمي، ورفيق مشرفة
هو زميل دراسة، ورفيق درب، وتوأم فكر لرائد الدراسات النووية في مصر الدكتور علي مشرفة، والبحاثة الدكتور أحمد زكي، والدكتور أحمد عبد السلام الكرداني ، أول مصري تخصص في فن الطيران من جامعات إنجلترا، وصديق شكيب أرسلان، وأحمد تيمور باشا، ومحب الدين الخطيب والرافعي ورشيد رضا وأقرانهم.. والمناظر القوي لطه حسين والعقاد وزكي مبارك وغيرهم، ورائد دراسات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم منذ أوائل القرن العشرين، وأستاذ الكيمياء الفحل، والناقد الأدبي، والعالم الجليل!
هل سمعت به قارئي الحبيب؟
أما أنا فسمعت به وبقيمته العلمية أول مرة من العالم الرباني الشيخ حسن عيسى عبد الظاهر، شفاه الله وأنعم عليه بالعافية، وقيل لي إنه جد بعض أبناء غنيم من حبيبتي زفتى.. وإن بيته كان على النيل، قريباً من الإدارة التعليمية، وبيت الأستاذ الدكتور محمد الوكيل رحمهما الله تعالى... وبحثت طويلاً لأجد ترجمة عنه تشبعني فلم أوفق، وطال بي هذا حتى وقع في خاطري أن أترك الكتابة عنه لطبعة لاحقة من كتابي (زفتى التي في خاطري)، لأفتش وأدقق، لكن لله تعالى إرادة تكرمني في كثير من الأحيان؛ إذ كَثُرَ ما يضع في طريقي من ييسر لي مسألة صعبة في هذا الكتاب..
وكانت المصادفة هذه المرة غريبة، إذ كنت ضيفاً في حديث الصباح بقناة الجزيرة، وتأخرت السيدة المذيعة، لتأتي عجلى معتذرة عن التأخر، فأردت أن أهون الأمر، وسألتها:
- من حضرتك؟ هل أنت جديدة؟
- أنا هبة الغمراوي، ومش جديدة.
- منين؟
- من بيت غمر.
- أهلاً وسهلا..
- وأنا من زفتى بلد جدي؟
- جدك من؟ لعله العالم الجليل الأستاذ الدكتور العميد محمد أحمد الغمراوي؟
- هو نفسه.
- سبحان الله العظيم، ما أجمل صنع الله بي.. أنا أبحث من عدة سنين عما يشبع فضولي عنه حتى كدت أيأس، أريد صورة له..
- عندي.
- أريد معلومات، كل شيء موجود..
ما أروع أقدار الله.. وعادت إليّ همتي لأنقّب عن الشيخ العظيم وحاله، وتواصلت مع ابنته الكبرى السيدة كوثر، ومع حفيده الأستاذ أحمد جعفر الغمراوي الذي كان أكثر من كريم معي، وفاجأني التنقيب بقامة زفتاوية فذة عزيزة النظير.. عليه رحمات الله ورضوانه..
مع علي مصطفى مشرفة:
ولأبدأ رحلتي الغمراوية من مذكرات العالم المصري المشرف: علي مصطفى مشرفة، رائد الفيزياء النووية في مصر.. ففي كتاب (مصطفى مشرفة) الذي كتبه الدكتور محمد الجوادي، ضمن السلسة الثقافية لطلائع مصر، ورد كثيراً ذكر الغمراوي في مذكرات العبقري مشرفة، وفيها:
الغمراوي أول أصدقاء مشرفة الثلاثة، ولد في زفتى (9/ 6/1893م – 3/ 5/1971م)، ودرس بالخديوية الثانوية، ثم في مدرسة المعلمين العليا، وتخرج فيها سنة 1914م، في دفعة أحمد عبد السلام الكرداني، وأحمد زكي الصديقين الآخرين لمشرفة – وقد شارك عند تخرجه في تأسيس لجنة التأليف والترجمة والنشر.
رشح للبعثة إلى انجلترا، وتأجل سفره بسبب الحرب، فعمل مدرساً بالمدارس الثانوية، وهناك عرف مولاي محمد علي (لعله يقصد عبد الله يوسف علي) أول من ترجم معاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية (يقصد من المسلمين)، وقد شاركه الغمراوي في مراجعتها، عمل بعد عودته من البعثة في التدريس، وفي معامل وزارة الصحة، ثم أستاذاً للكيمياء بكلية الصيدلة، حتى أحيل للتقاعد، ثم دعي إلى السعودية، 1960م حيث أسس كلية الصيدلة في جامعة الرياض، وتولى عمادتها حتى 1963م.
عرف الدكتور الغمراوي باهتمامه الشديد بالبحث في علوم القرآن والدين، وكان ميالاً للتعمق في تفسير الآيات الكونية، وإثبات تطابق المعاني الواردة في الآيات مع أحدث الحقائق العلمية، التي لم تكتشف إلا في العصر الحديث، وكان حريصاً على إثبات أن بعض آيات القرآن تنبأت بكثير من الظواهر الكونية التي ظلت مجهولة حتى عصرنا هذا.
ويظهر من اليوميات التي سجلها مشرفة في 26 يناير 1918م، أن الغمراوي وبعض زملائه قد سبقوا مشرفة إلى بريطانيا، ولكن الغمراوي لم يكن قد بدأ في تأمله ودراسته لبريطانيا ونقده للحياة فيها إلا مع وصول مشرفة.
ونرى الغمراوي يحادث مشرفة فيقول: في طريقي والغمراوي إلى مستر صلي قلت:
ما كنتم تفعلون يا غمراوي في السنة الماضية، فكأني بك لجديد علي جديداً عليك، قال: لقد لبثت العام الماضي أنظر إلى انجلترا، نظرتي إلى أرض كلها هُوات وسط ليل بهيم، فأنا أتحسس سبيلي.
وفي موضع آخر من مذكرات مشرفة في 10 يناير 1918م يقول معتزاً بدينه:
لا مبدأ أشرف من الدين، ولا عاصم إلا كتاب الله، ولا عمل هو أقوم سبيلاً، وأهدى طريقاً، من الدعاية إلى الإسلام الصحيح ومبادئه الحقة، من فعل ذلك فله إحدى الحسنيين، وهو في الآخرة من السعداء.. فاللهم اجعلني ممن نصبوا أنفسهم لنصرة دينك وإقامة دعوتك... وينتبه مشرفة كثيراً إلى أن عليه دوراً في نشر سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) ويشاركه الغمراوي هذا الشعور، وهو يسجل في يومياته:
"ما أجهلَ ناشئة اليوم بتاريخ النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأنا من الذين جُني عليهم في ذلك، إذ أنا أقرأ الحديث الشريف فألتذ به؛ إذ تتمثل لدي روح النبي (صلى الله عليه وسلم) أعاهد الله على أن أعمل على نشر سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) وحديثه الشريف بين المصريين عامة وعقول النشئ خاصة.. والغمراوي معي في ذلك.
وفي يوميات 19 يناير يشير إلى نفوره من محاولات التنصير في مصر، فيقول: أخبرني الغمراوي أن واحدة تطوعت للتبشير (التنصير) في مصر بآراء الغرب عن المرأة وتحرير المرأة كما يسمونها، قلت: هل يبعث هؤلاء القوم إلى التبشير حب الخير؟ وهل هم مخلصون؟
كما يسجل إعجابه بالغمراوي حين أدرك صلاة حان وقتها ولم يدركها هو لأنه لم يكن متوضئاً.
ومن أهم ما ذكره: قُر رأيي والغمراوي على أن ننهج إذا رجعنا إلى مصر منهج استكانة وتحاب مع العلماء من مصر؛ حتى نكسب ثقتهم، ويكسبوا ثقتنا، ويتشبعوا بمبدئنا القويم، ويكون همنا أن نوحد الأمة ونربط المعممين بإخوانهم الأفندية، بما يجعل لهم الثقة في نفوسهم..
ويقول اليوم خاطبت الغمراوي في ذكر أمرين:
الأول أن طلبت منه الاهتمام بوضع مصطلحات كيميائية عربية (وهو الدكتور المتخصص فيها).
والثاني: أن من واجبنا التجهيز للرد على الآراء المضادة للإسلام...
وربما يعد الغمراوي أستاذاً للدكتور زغلول النجار في موضوع الإعجاز العلمي، يقول في حديث معه:
"وقد أكرمني الله تعالى بالعمل لدى جامعة الملك سعود بالرياض منذ أول إنشائها سنة (1378ه/ 1958م) وحتى سنة (1381ه/196م) ثم في الفترة من عام (1384ه/1964م( وحتى سنة (1387ه/ 1967م) حيث وجد عدد من كبار الأستاذة المهتمين بتلك القضية وعلى رأسهم الدكتور إبراهيم فرج، والأستاذ الدكتور محمد أحمد الغمراوي، والأستاذ الدكتور محمد رشاد الطوبي، والأستاذ الدكتور مجدي الشوا، والأستاذ الكبير مصطفى السقا، والأستاذ الدكتور أحمد محمد مجاهد، وفضيلة الداعية الكبير الشيخ عبدالمعز عبدالستار.
ويقول عنه في موضع آخر: كُتبه رائعة جداً وقيمة رحمه الله، وقد كان معنا هنا في جامعة الرياض (جامعة الملك سعود حالياً)، كان عميداً لكلية الصيدلة، ومن الناس الذين سعدت بصحبتهم هنا، سنة 1378ه وما بعدها، وكان الغمراوي يدرس في كلية أصول الدين في جامعة الأزهر في الثلاثينيات سنة 1937 م - رحمه الله - وله كتاب في سنن الله الكونية، يدل على أن الأزهريين مهتمون بالعلوم، وهذا أستاذ في كلية الصيدلة بجامعة القاهرة، كان يدرس كتاباً بعنوان (في سنن الله الكونية) وهو من أجمل ما كتب في هذا المجال.
تأثيره في حسن البنا:
كان الغمراوي ممن أثروا في الشيخ حسن البنا، أكبر المؤثرين في العمل الإسلامي منذ أوائل القرن العشرين، فقد كان للإمام حسن البنا رحمه الله تعالى عندما كان طالباً في دار العلوم لقاءات متعددة مع أعلام الفكر والثقافة في عصر، فكانت له (كما كتب في المذكرات وفي موقع الإخوان):
كانت مرحلة دار العلوم إذن مرحلة تنوع الثقافة، فلم تكن الدراسة جافة؛ بل كان الطلاب والأساتذة يتناولون كثيراً من الأمور العامة، سياسية كانت أو اجتماعية، وكانت المواد التي تُدرس في دار العلوم تتضمن علوم اللغة والأدب والشريعة والجغرافيا والتاريخ ومناهج التربية العلمية والعملية والاقتصاد السياسي، وكان للبنا لقاءات متعددة مع أعلام الفكر والثقافة في عصره، فكانت له لقاءات مع السيد محب الدين الخطيب، والأستاذ محمد الخضر حسين، والأستاذ محمد أحمد الغمراوي، وأحمد باشا تيمور، وعبد العزيز باشا محمد، كما كان يلتقي والشيخ رشيد رضا، والشيخ عبد العزيز الخولي، والشيخ محمد العدوي. كما كان البنا يغشى مجالس الشيخ يوسف الدجوي .
وجاء في مذكرات الدعوة والداعية للإمام حسن البنا:
وعقب الحرب الماضية (1914- 1918م) وفي هذه الفترة التي قضيتها بالقاهرة، اشتد تيار موجة التحلل في النفوس وفي الآراء والأفكار باسم التحرر العقلي، ثم في المسالك والأخلاق والأعمال باسم التحرر الشخصي، فكانت موجة إلحاد وإباحية قوية جارفة طاغية، لا يثبت أمامها شيء، تساعد عليها الحوادث والظروف.
ولقد تحولت الجامعة المصرية من معهد أهلي إلى جامعة حكومية تديرها الدولة، وتضم عدداً من الكليات النظامية، وكانت للبحث الجامعي والحياة الجامعية حينذاك في رؤوس الكثيرين صورة غريبة مضمونها أن الجامعة لن تكون جامعة علمانية إلا إذا ثارت على الدين، وحاربت التقاليد الاجتماعية المستمدة منه، واندفعت وراء التفكير المادي المنقول عن الغرب بحذافيره، وعرف أساتذتها وطلابها بالتحلل والانطلاق من كل القيود.
وأنشئ في شارع المناخ ما يسمى بالمجمع الفكري، تُشرف عليه هيئة من التيوصوفيين، وتلقى فيه خطب ومحاضرات تهاجم الأديان القديمة، وتبشر بوحي جديد.
وكان خطباؤه خليطاً من المسلمين واليهود والمسيحيين، وكلهم يتناولون هذه الفكرة الجديدة من وجهات النظر المختلفة.
وظهرت كتب وجرائد ومجلات كل ما فيها ينضح بهذا التفكير الذي لا هدف له إلا إضعاف أثر أي دين، أو القضاء عليه في نفوس الشعب لينعم بالحرية الحقيقية فكرياً وعملياً في زعم هؤلاء الكتاب والمؤلفين .
وجهزت صالونات في كثير من الدور الكبيرة الخاصة في القاهرة يتطارح فيها زوارها مثل هذه الأفكار، ويعملون بعد ذلك على نشرها في الشباب وفي مختلف الأوساط .
كان لهذه الموجة رد فعل قوي في الأوساط الخاصة المعنية بهذه الشؤون كالأزهر وبعض الدوائر الإسلامية، ولكن جمهرة الشعب حينذاك كانت إما من الشباب المثقف وهو معجب بما يسمع من هذه الألوان وإما من العامة الذين انصرفوا عن التفكير في هذه الشؤون؛ لقلة المنبهين والموجهين، وكنت متألماً لهذا أشد الألم، فها أنذا أرى أن الأمة المصرية العزيزة تتأرجح حياتها الاجتماعية بين إسلامها الغالي العزيز، الذي ورثته وحمته، وألفته، وعاشت به، واعتز بها أربعة عشر قرناً كاملة، وبين هذا الغزو الغربي العنيف، المسلح المجهز بكل الأسلحة الماضية الفتاكة من المال والجاه، والمظهر والمتعة والقوة ووسائل الدعاية.
وكان ينفس عن نفسي بعض الشيء الإفضاء بهذا الشعور إلى كثير من الأصدقاء الخلصاء من زملائنا الطلاب بدار العلوم والأزهر والمعاهد الأخرى، فكان الشيخ حامد عسكرية رحمه الله، وكان الشيخ حسن عبد الحميد، وحسن أفندي فضيلة، وأحمد أفندي أمين، والشيخ محمد بشر، ومحمد سليم عطية، ثم كمال أفندي اللبان رحمه الله، وقد كان طالباً بالحقوق حينذاك، ويوسف أفندي اللبان، وعبد الفتاح كيرشاه، وإبراهيم أفندي مدكور، وسيد أفندي نصار حجازي، والأخ محمد أفندي الشرنوبي، والإخوان المثقفون من الإخوان الحصافية بالقاهرة.. كان هؤلاء جميعاً يتحدثون في هذه الموضوعات، وفي وجوب القيام بعمل إسلامي مضاد، وكنا نجد في ذلك ترويحاً عن النفس وتسلية عن هذا الهم!
كما كان ينفس عن نفسي كذلك التردد على المكتبة السلفية، وكانت إذ ذاك قرب محكمة الاستئناف، حيث نلقى الرجل المؤمن المجاهد العامل القوي، العالم الفاضل والصحفي الإسلامي القدير: السيد محب الدين الخطيب، ونلتقي بجمهرة من أعلام الفضلاء المعروفين بغيرتهم الإسلامية وحميتهم الدينية، أمثال فضيلة الأستاذ الكبير السيد محمد الخضر حسين، والأستاذ محمد أحمد الغمراوي، وأحمد باشا تيمور رحمه الله، وعبد العزيز باشا محمد رحمه الله، وكان إذ ذاك مستشاراً بمحكمة الاسثشاف، ونسمع منهم بعض ما ينفس عن النفس.
كما كنا نتردد على دار العلوم، ونحضر في بعض مجالس الأستاذ السيد رشيد رضا رحمه الله، ونلقى فيها الكثير من الأعلام والفضلاء كذلك، أمثال الشيخ عبد العزيز الخولي رحمه الله، وفضيلة الأستاذ الشيخ محمد العدوي فنتذاكر هذه الشؤون أيضاً، وكانت للسيد رشيد رضا رحمه الله جولات قوية موفقة في رد هذا الكيد عن الإسلام .
كتب عنه صاحب مدونة تأملات:
"ويحضرني مثال على رجل مسلم صادق الإسلام ذهب إلى أوروبا متديناً ناصع القلب، وجاء منها أشد نصاعة، وأثبت إيماناً، وأرجح عقلاً في زمان ماجت الحياة الغربية بأهل الإسلام، فغيّرت أفكارهم، وأفسدت أخلاقهم، وشوّهت إيمانهم، ولم تغيره الحضارة المادية، وتخطف بصره، وتطفئ نور عقله، وهو يدرس هناك في مجال علمي دقيق، ذلكم هو الدكتور المسلم العبقري: محمد أحمد الغمراوي صاحب كتاب النقد التحليلي، الذي فنّد فيه كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي، وله من الكتب والمقالات التي كشف بها حقيقة أعداء الإسلام، وبيّن من خلالها أن دين الإسلام هو دين العقل السليم والنفس الصافية والحضارة الراقية، فلم تَمِل بهذا الدكتور المسلم الحياة؛ لأنه بنى حياته على الاعتقاد الصحيح والعقل السليم، فلا يأخذ الأمور بتصور ساذج أو تسليم بليد، كما فعل غيره ممن أُشربت قلوبهم محبة الغرب، فأخذ يقلدهم في الصغير والكبير، بل وللأسف حتى فيما هو من خصائص الأمة العربية كالشعر، وهذا ما فعله طه حسين؛ فقد أخذ برأي المستشرق مرجليوث في طعنه على الشعر الجاهلي، وزعمه أنه شعر منحول لا يثبت عند الدراسة انتماؤه لمن نُسب إليهم من أهل الجاهلية"..
أين كان عقل الدكتور طه حسين الذي سلطه على التاريخ الإسلامي فانتقده، وعلى العقيدة الصافية فشوّهها، وعلى المجتمع فمزّق كيانه؟!
ألم يستطع هذا العقل الكبير أن ينظر في كلام هذا المستشرق الأعجمي فيحلله، وينقده وفق ما تعلمه من مذهب الشك الديكارتي؟
أم هي الهزيمة النفسية والتبعية العقلية المستخذية التي جعلتنا عبيداً للفكر الغربي وأسارى للحضارة الغربية؟! إن هذا الدكتور المسلم الغمراوي لم يقبل ما كتبه الدكتور، فعرضه على موازين العقل فتبهرج، وعلى نار البحث فاختفى… وهذا هو الواجب في حق كل مسلم: ألاّ يسلم عقله بمفاتيحه لغيره مهما كان هذا (الغير(!
وأنت لو تأملت على سبيل المثال الفقه، وما كُتب فيه لوجدت أن العلماء الذين برزوا، وبقيت أسماؤهم لامعة في سجل التاريخ، هم من لم يسلم بأقوال المذهب لأنها أقوال المذهب؛ بل بحث وفتش ونظر وقارن وتأمل، حتى وصل إلى نتيجة ورأي قد يكون موافقاً للمذهب، وقد يكون مخالفاً، وشيخ الإسلام ابن تيمية من الأمثلة المبرزة في هذا الشأن، هذا مع احترام الجهد المبذول من قبل المذاهب الفقهية، والقيمة العلمية التي خدموا بها الفقه الإسلامي.
توظيفه للصحافة:
عني العلامة الغمراوي بالنشر في الصحف السيارة في عصره، باسطاً آراءه بحرية وسط جهابذة الفكر في زمانه، مواجهاً المستشرقين والمتأثرين بهم، وكان معدوداً من رؤوس الكتاب والمفكرين آنذاك: ففي شهر أكتوبر من عام 1930م أصدَر الأزهر صحيفة نور الإسلام، ورأس تحريرها الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله، اهتمت المجلة بتفسير القرآن الكريم، وسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وشرح السنة النبوية، فخصّصت أبواباً ثابتة لهذه المقالات، وأبواباً خاصة للفتاوى رداً على أسئلة القرّاء، وحفلت المجلة بالكثير من الأبحاث العلمية المتعلّقة بعلوم الشريعة، مثل: قضايا الانحراف عن الدين، وعلله وآثاره ودوائه، والبعث، والزكاة، وصلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، وعلاقة الشريعة الإسلامية بالأخلاق، وضرورة الدين للعمران، هذا إلى جانب بعض الفصول المترجمة من كتب أجنبية منتقاة، مثل كتاب السيرة النبوية لرينيه وسليمان بن إبراهيم الجزائري.
ونشرت أيضاً سلسلة مقالات عن أثر الثقافة الإسلامية في تطور النهضة الفكرية بقلم الشيخ: محمد صادق عرجون.
وضمت المجلة نخبة من الكتاب المبرزين بنتاجهم وكتاباتهم من الأزهر وخارجه، مثل: الشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ محمد عرفة، والشيخ محمد البهي، والشيخ محمود شلتوت، ومحمد أحمد الغمراوي، ومحمد بخيت المطيعي، وعبد العزيز الثعالبي، وأمين الخولي، وزكي مبارك، وكثيرون غيرهم.
لجنة التأليف والترجمة والنشر:
وفي دراسة عن أحمد أمين كتبت أمل خيري في (ببليو إسلام): وفي عام 1332ه/ 1914م تعرف أمين على مجموعة من الشباب المثقف، من ذوي الاهتمامات والمواهب المختلفة، فاجتمعوا في بعض المقاهي يتبادلون فيما بينهم معارف متنوعة، وكانت هذه المجموعة نواة "لجنة التأليف والترجمة والنشر" التي أثرت الثقافة العربية، واستطاعت نشر ما لم تستطعه هيئات حكومية كثيرة، فقدمت للقارئ العربي ذخائر الفكر الأوروبي في كل فرع من فروع المعرفة تقديماً أميناً، كما قدمت بدائع التراث العربي مشروحة مضبوطة محققة.
وتكونت هذه اللجنة من أسماء لامعة في الفكر والأدب من أمثال: طه حسين ومحمد فريد أبو حديد ومحمد أحمد الغمراوي والزيات وأحمد زكي والعبادي وزكي نجيب محمود وعبد الوهاب عزام... ومكث أحمد أمين أربعين سنة يتجدد انتخابه سنوياً لرئاسة اللجنة، وحازت مطبوعات اللجنة التي زادت على مائتي كتاب الثقة؛ لذا فقد انتشرت وذاع صيتها.
عطاء الغمراوي:
كان عطاؤه في اتجاهين رئيسين:
* التخصص العلمي الذي تخصص فيه.. وهو الكيمياء.
* والدفاع عن الدين واللغة والتاريخ الإسلامي..
ففي الجانب الأول كان أكاديمياً يخدم تخصصه، فعرفته الجامعات العربية، وأسس أول كلية للصيدلة في المملكة العربية السعودية، وكان أول عمدائها، وفي الوقت ذاته كان من رواد تأسيس التفكير العلمي، بآيات النظر والاستدلال من خلال كتابه الإسلام في عصر العلم، دون جر الدين نحو النظريات والأمور غير المسلمة.. يقول الدكتور محمد أبا الخيل:
"وهناك علماء آخرون تأثروا بطريقة الشيخ محمد عبده في موقفه من هذا التفسير، ولكنهم كانوا أشد منه حذراً، وأكثر تحفظاً، وأوسع تثبتاً، من هؤلاء الشيخ أحمد مصطفى المراغي الذي نعى على المفسرين السابقين حشوهم لقضايا علمية في تفاسيرهم أثبت العلم في هذا العصر عدم التعويل عليها، ثم أكّد أن تفسيره الذي وضعه سيضم آراء الباحثين في مختلف الفنون التي ألمع إليها القرآن، فلا غضاضة عنده من استطلاع آراء العارفين بمثل هذه الفنون، لأن المفسر في نظره عليه دائماً أن يسأل العلم؛ ليستبصر بما ثبت لديه، ويساير عصره ما وجد إلى ذلك سبيلاً، على أنه يرفض جر الآية إلى العلوم لتفسيرها أو العكس، ولكن لا بأس في تفسيرها إذا اتفقت في ظاهرها مع حقيقة علمية ثابتة".
وكان محمد أحمد الغمراوي من المؤيدين لوجهة النظر هذه، ويُعد من أكثر الباحثين اعتدالاً وروية في هذا المضمار، ووضح ذلك جلياً في كتابيه: في سنن الله الكونية، والإسلام وعصر العلم.
تصديه لطه حسين ومعاركه مع كبار الرموز:
والغريب أن يهتم أستاذ في الكيمياء بالدين واللغة اهتماماً يجعله أهلاً لمقارعة كبار رموز الثقافة والفكر في زمنه، وبل والأزمان التي تلت، فقد كان الغمراوي رحمه الله من الذين تصدوا بقوة للدكتور طه حسين في كتابه عن الشعر الجاهلي، بجانب نخبة من كبار مفكري القرن من أمثال: محمد لطفي جمعة والشيخ، محمد الخضر حسين شيخ الأزهر، والشيخ محمد فريد وجدي، والشيخ محمد الخضري، والأمير شكيب أرسلان، والأستاذ مصطفى صادق الرافعي، والدكتور محمد البهي، والقس الأب كمال قله، والدكتور محمد محمد حسين، وغيرهم، فكتب مقالة عن جهل طه حسين بمنهج ديكارت، وثانية عن دعوة طه حسين لليونانية واللاتينية في الأدب العربي..
ومن المعارك التي خاضها الغمراوي مع كبار رموز الثقافة في مصر:
في كتاب المُسَاجَلات والمعارك الأدبية في مجال الفكر والتاريخ والحضارة للأستاذ العظيم أنور الجندي رحمه الله تعالى، ورد الحديث عن معارك الغمراوي، وأن كتاباته كانت فيها حازمة:
* الرد على ما ورد في كتاب النَّثْر الفني لزكي مبارك، وفيه مبحث هام، ذكر فيه الغمراوي أن زكي مبارك خرج في كتابه على الإجماع في أمر القرآن، وينعي في مقدمة الكتاب المؤلف على نُقاد القرآن الكريم أنهم ذكروا محاسنه دون عيوبه، وكأنه يرى أن في القرآن عيوباً، وفيه يجزم زكي مبارك أن القرآن أَثَر جاهلي.. وقد وجه الغمراوي في المقال لزكي مبارك ثلاثة اتهامات من واقع الكتاب:
1- أنه يدعو إلى نقد القرآن.
2- أنه يُنْكِر إعجاز القرآن.
3- أنه يكاد يصرح بأن القرآن من كلام البشر.
* الرد مع عدد من المفكرين على قول طه حسين في كتاب حديث الأربعاء وقوله: إن القرن الثاني الهجري كان عصر شك واستهتار ومجون، وفيه رد: محمد عرفة، وزكي مبارك، ومحمد أحمد الغمراوي، ود.عبد الحميد سعيد.
ووَصف د.عبد الحميد سعيد الكتاب بقوله: أما حديث الأربعاء ففيه العَجَب العُجَاب إذ تتمثل فيه الرذيلة بأشنع مظاهرها، وتظهر فيه نَفسية الرجل – طه حسين– بما يشرحه بعناية خاصة وإطناب من قَصص المُجون والفجور بأسلوبٍ جذاب وطريقة خلابة.
* والرد على دعوة طه حسين إلى تحرير اللغة العربية والأدب العربي من سلطان الدين. وقد رد عليه الغمراوي، ود.علي العناني .
* حسم بمقال له معركة (بين القديم والجديد) التي احتدمت بعد وفاة الرافعي بين أدبي الرافعي والعقاد . (سامي التوني: كتاب فكري ثمين لشاهد عصره(
من آرائه في الحياة الفكرية المصرية:
* يقول عن الغرب: إن الغرب نجا من أن يحاول هدم تاريخه أو تاريخ لغاته، عن طريق الشك غير العلمي: لسيادة الرأي العلمي فيه.. واستحواذ الروح العلمي على أهله.. أما الشرق فليس له مثل هذين السياجين يردّان عنه عادية هذا الباطل الذي يهاجمه باسم الحق، ولا هذا الشك الذي يريد أن يداخله باسم العلم، ولا هذا الهدم والتعطيل اللذين يكرّ عليه بهما نفر من أهله باسم التجديد! ومهما يكن من موقف المؤرخين في الشرق أو في الغرب حيال مبدأ الشك المطلق فإن العلماء لا يأخذون به، وإن العلم لا يقرّه ولا يمكن أن يقره.
* ويقول عن طريقة البحث لدى طه حسين فى كتاب الأدب الجاهلي: يؤسفني أن صاحب كتاب الأدب الجاهلي ومن لف لفه يسوقون الأدب العربي على غير طريقه، ويلبسونه ثوباً من غير نسجه، وينسجون عليه نسجاً فرنسياً، ويسوقونه في نفس الطريق الذي يسوقون فيها الأدب العربي إلى طريق الافتتان بالأدب الفرنسي خاصة والغربي عامة.
لقد كان الدكتور طه حسين ومن معه يريدون أن يكونوا للعربية ما كان هؤلاء الألمان، فيفنوها في غيرها، ويضلوها عن نفسها، فإذا أنت قرأت لهم رأيت تقليدا بحتاً يعرض عليك باسم التجديد!
* وعن العقاد يقول: يجب أن يُقرأ للعقاد باحتياط وهو يكتب عن الإسلام؛ فالعقاد ابن العصر الحديث، أخذ ثقافته مما قرأ لأدبائه وعلمائه وهو شيء كثير وليس كل ما كتبه المستشرق يقبله المسلم، ولا كل نظريات الغرب متفق وما قرره القرآن، ولكن العقاد اعتقد من هذه النظريات ما اعتقد، فهو ينظر إلى القرآن من خلال ما اعتقد منها، ويبدو أن من بين ما اعتقده العقاد نظرية (فريزر) في نشوء الأديان، فهي عنده ليست سماوية، ولكنها أرضية نشأت بالتطور والترقي إلى الأحسن، ومن هنا تفضيل العقاد للإسلام على غيره من الأديان، فهو آخرها وإذن فهو خيرها، ويقول: إن لم يكن هذا هو تفسير إطلاق تسمية الغربيّين على كتابيه (عبقرية محمد، والفلسفة القرآنية) فهذه التسمية خطأ منه ينبغي أن يتنبه إليه قار الكتابين من المسلمين، لينجو ما أمكن مما توحي به التسميات من أنّ محمداً (صلى الله عليه وسلم) عبقري من العباقرة لا نبي ولا رسول (صلى الله عليه وسلم)، بالمعنى الديني المعروف في الأديان المنزلة.
ويؤكد هذا الإيحاء أنْ جاء الكتاب واحداً من سلسلة كتب العبقريات الإسلاميّة، ولن يكون أولها. فالناشئ الذي يقرأ بعد عبقرية محمد، عبقرية أبي بكر، وعبقرية عمر مثلاً لا يمكن أن يسلم من إيحاء خفي إلى نفسه أنّ محمداً وأبا بكر وعمر من قبيل واحد، عبقري من عباقرة وإن يكن أكبرهم جميعاً، كالذي سمى النبي (صلى الله عليه وسلم) بطل الأبطال، فأوهم أنه واحد من صنف ممتاز من الناس، متجدد على العصور بدلاً من صنف اختتم به (صلى الله عليه وسلم)؛ صنف الأنبياء والمرسلين من عند الله، فالنبي والرسول (صلى الله عليه وسلم) يأتيه الملك من عند الله بما شاء الله من وحي ومن كتاب، ولا كذلك العبقري ولا البطل، فالنبوة والرسالة فوق البطولة والعبقرية بكثير.
وكم في الصحابة رضوان الله عليهم من بطل ومن عبقري، وكلهم يدين له بأنه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى الناس كافة ذلك العصر وما بعده وأنه خاتم النبيين.
* وعن العلوم الكونية يقول:
العلم الكوني تفسير لآيات القرآن الكريم الكونية، وفي القرآن آيات تنطوي على حقائق علمية لم تثبت إلا حديثاً، وكل منها معجزة علمية قرآنية تثبت بالعقل والحس الملموس لا باللغة فقط… والقرآن بذلك سبق العلم الحديث إلى حقائق كونية… ويتوقف على فقه الآيات الكونية تيسير الدعوة إلى دين الله في هذا العصر، عصر العلم الحديث والتفسير العلمي ليس بدعة ابتدعها أصحابها في هذا العصر، بل تجد بين قدامى المفسرين من ينتهجه مطبقين في عصرهم، ما يقابل العلم الحديث في عصرنا كالزمخشري وكذلك الفخر الرازي الذي يمتلئ تفسيره بالتفسير العلمي، وكالشيخ محمد عبده في تفسيره.
* ويقول: إن تاريخ العلوم في الأمة العربية بعد الإسلام معروف كما أن مقاومة العرب للنبي ودعوته، ومحاربتهم له ولها معروفة، ولكن الرجل ينكر التاريخ ويفتري تاريخاً آخر، ويزعم زعماً لا يجوز ولا يستقيم في منطق أو تفكير إلا إذا كان القرآن كلام النبي، كلام محمد العربي، لا كلام الله، عندئذٍ فقط يعقل أن يكون العربُ على ما وصف الدكتور من نهضة، وعلم، وأدب؛ لأن القرآن أكثر من نهضة وعلم، وأدب، ولا يعقل إنْ كان كلام بشر أن يأتي صاحبه في أمة جاهلة كالتي أجمع على وجودها قبل الإسلام مؤرخ واللغة العربية من شرقيين ومستشرقين ومؤرخو الإسلام.
* ويقول: إن على علماء الفطرة من المسلمين أن يهتدوا في بحوثهم الكونية بما أنزل الله في كتابه من آيات كونية، لكن النظر في الآيات الكونية ابتغاء الاهتداء إلى ما أودع الله فيها من أسرار الفطرة أو الطبيعة كما يسمونها – يحتاج من الاحتياط - في البحث عن أسرار الفطرة في الكون المنظور.
وأهل القرآن من علماء الفطرة ينبغي أن يسترشدوا في بحوثهم بما يتعلق بها مما أنزل الله في كتابه العزيز، فهو نور بأيديهم لا بأيدي غير المؤمنين به، ومن التضييع إغفاله وإهمال فرص الاهتداء.
* ويقول في كتابه: الطريقة المثلى للمحافظة على كرامة الإسلام ورد عادية الطاعنين عليه، عن التربية المبكرة وأهميتها: وأسباب ضعف الروح الإسلامي في البالغين من المسلمين اليوم يمكن إجمالها في شيء واحد هو سوء التربية الإسلامية..
وإذن فَعلى المسلمين أن يعنوا العناية كلها بإنشاء أولادهم نشأة إسلامية في مدارس إسلامية ينشئونها من أجل ذلك، ولا يَدعوا أولادهم فريسة للمدارس غير الإسلامية الروح، تُربيهم على غير غِرار الإسلام، وتخرجهم عنه بالتدريج، فإن المسلمين إن لم يصونوا أولادهم – وهم صغار - عن تحكم الملحد أو غير المسلم في عقولهم ونفوسهم لم يكن لهم أن يعجبوا من خروجهم – وهم كبار- عن طريق الدين، ومتابعتهم من يطعن باسم العلم أو الأدب أو حرية الرأي أو حرية التفكير.
* ومن آرائه في التفسير يقول: فأقم وجهك للدين حنيفاً: فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ لا تبديل لخلق الله! ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الآية الكريمة لا تجعل الإسلام فقط دين الفطرة، ولكن نفس الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهذا أوجز تعبير وأوكده وأشمله، بتمام انطباق الإسلام على سنن الله التي خلق عليها الإنسان، سواء تعلقت بالبدن أو النفس، وبالعقل أو القلب، في الفرد والأسرة والطائفة، أو في القبائل والأمم والشعوب.
* ويقول: هارون أفصح من موسى عليهما السلام، وأكبر منه بثلاث سنوات، وهما ميزتان تسوغان تقدمه في أحد المواضع حين يذكران.
وفي التحدي بالإتيان بمثل القرآن يقول:
"ولعل هذا التحدي جعل العقل يقف صامتاً ومن ثم يتعطل الفكر جامداً من خوض هذه المعركة الضارية الخاسرة (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
ويرى دكتور الغمراوي كما تقول د.عائشة الغبشاوي أن التحدي في السورة الثانية يونس حسب ترتيب النزول نزل من عشر سور إلى واحدة فقط، وهذا نوع من الترقي واضح في هذا التحدي؛ يقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) والحجة القاطعة في ذلك إغلاق الكفار لعقولهم، وبالتالي حبسهم للفكر من الانطلاق في عالم الملكوت (عالم الشهادة) للوصول إلى عالم الملكوت الأعلى (عالم الغيب) فإن الحقيقة الكونية هي المسلم الذي من خلاله نتوصل إلى الحقيقة.
والمحور الحقيقي الذي تدور حوله المواجهة الفكرية والثقافية هو العلم الذي يغوص في أغوار العقل الإنساني فكراً منقباً ومتمحصاً في الحقائق الكونية التي هي مرآة العقل للوصول إلى أعلى درجات العلم والمعرفة، ومن هذا نتج اهتمام الإسلام بالعلم؛ المولود الشرعي للفكر.
معرفته بالإنجليزية:
كان الأستاذ الدكتور الغمراوي متقناً للإنجليزية إلى حد مراجعته لترجمتين شهيرتين لمعاني القرآن الكريم، إحداهما بقلم عبد الله يوسف علي، وهي بلغة إنجيلية أو توراتية كلاسيكية، وتعد واحدة من أهم الترجمات أو التفاسير، وأكثرها تأثيراً في قلوب الغربيين، وبها اهتدى ألوف من الناس..
والترجمة الثانية للمهتدي البريطاني محمد مارمادوك بِكتال الذي قام بترجمة معاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية، مستعيناً بالدكتور محمد أحمد الغمراوي، ولغتها شاعرية إلى حد ما، وهي أول ترجمة يقوم بها إنجليزي مسلم!
علاقاته بالمفكرين:
مرَّ فيما سبق أن الغمراوي كان واحداً من نجوم الفكر والثقافة والعلم، وكان ذا صلة بالأمير شكيب أرسلان ومحب الدين الخطيب وطه حسين والعقاد وزكي مبارك وعلي مصطفى مشرفة وشيوخ الأزهر وآخرين كثيرين ممن أثرت بهم الحياة الفكرية المصرية وأخصبت.
كتب الأستاذ محمد أحمد الغمراوي:
ترك الغمراوي عدداً من الكتب والأبحاث في غير الكيمياء منها:
* النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي، ودبج مقدمته أمير البيان شكيب أرسلان.
* من أسرار الفطرة: يذلل المعاني العلمية الحديثة المتصلة بالمادة والإشعاع/ تأليف أ.ن. داس أندريد؛ ترجمة محمد أحمد الغمراوي، وأحمد عبد السلام الكرداني .
* من سوء تأويل الآي، مجلة المسلمون.
* الإِسلام في عصر العلم
* نماذج من الإعجاز العلمي للقرآن، إعداد أحمد عبد السلام الكرداني، عن كتابات الغمراوي.
الغمراوي في سطور
* ولد رحمه الله تعالى في 9/ 6/1893م، وتوفي في 5/ 3/1971م.
* لم يدرس فى مدرسة كشك أول مدرسة أنشئت في زفتى سنة 1905م؛ إذ أنشئت بعد التحاقه بالدراسة في مدرسة طنطا الابتدائية، وأنهى دراسته بها 1907م، ثم التحق بمدرسة الخديوية الثانوية وأنهى دراسته بها 1911م، ثم التحق بمدرسة المعلمين العليا وانتهى منها عام 1914م.
* ابتعث لانجلترا وإن أخرته الحرب العالمية الأولى بعد قليلاً – لكنه ذهب إلى هناك وزامل العباقرة الثلاثة مشرفة والكرداني وأحمد زكي، رحمهم الله أجمعين. وكان رحمه الله قد أتم حفظ القرآن الكريم في الثالثة عشر من عمره..
* جميع إخوته الذكور درسوا بالأزهر، وأخوه الأكبر الشيخ محمود كان عضواً في هيئة كبار العلماء بالأزهر، وقد فهمت من السيدة ابنته أن إخوته جميعاً كان اسمهم محمداً، وقد جمعت بعض أشعار أحدهم حين كان نائباً في مجلس بلدي زفتى.
* لا تزال مكتبته الزاخرة محفوظة في منزله بحي العباسية، وإن كانت تنقصها بعض كتبه التي أعيرت ولم ترد..
* له ثلاث بنات وثلاثة أبناء، هم على الترتيب: ثريا وأحمد وكوثر وزينب وعلي ومحمد.
* ليس له بيت في زفتى الآن، كما فهمت من حفيدته، وموقع بيته القديم كان قريباً من النيل، في المنطقة بين شبكة مياه زفتى والجامع الكبير..
رحم الله العالم الكبير الأستاذ الدكتور محمد أحمد الغمراوي، وأكرم مثواه.
وسوم: العدد 626