مبدع فقدناه، الموجِّه الأول للغة العربيَّة الأستاذ ياسر علايا
(1366- 1436هـ / 1947- 2015م)
امتنَّ الله عليَّ في مراحل الدراسة المختلفة (قبل الجامعيَّة) بنخبة من معلِّمي اللغة العربيَّة المجيدين كان لهم أثرٌ بعيد في تعلُّقي بالعربيَّة وتخصُّصي بها.
منهم في المرحلة المتوسِّطة (الإعدادية): الأستاذان أحمد قبِّش، وتيسير قلعجي.
وفي المرحلة الثانوية: الأستاذ محمَّد حواصلي، والأستاذة لبابة الكِيلاني.
وفي المعهد الشرعيِّ لطلاب العلوم الإسلاميَّة (الأمينيَّة): الشيخ هشام الحمصي، والأستاذ أنس عبُّود.
ودرَّسني دروسًا خاصَّة في المرحلتين المتوسِّطة والثانوية أستاذٌ رائع من أبرع من عرفتُ من المدرِّسين الأكفياء عمومًا، ومدرِّسي العربيَّة خصوصًا.
كان صديقًا حميمًا لسيِّدي الوالد، وزميلاً له في التعليم في الملحقيَّة الثقافيَّة السعودية للطلاب السعوديين المقيمين بدمشق، وجارًا لنا في الشام الجديدة (ضاحية دُمَّر).
وكان له ولدٌ في عمُري، فكان سيِّدي الوالد يدرِّسني وولدَه الفيزياء والكيمياء في منـزلنا، ويدرِّسنا الأستاذُ القواعدَ والأدبَ في منـزله.
إنه الأستاذ الكبير مفتِّش اللغة العربيَّة في وِزارة التربية السورية والموجِّه الأوَّل للمادَّة، والمشارك في تأليف الكتب المدرسيَّة لمختلِف مراحل التعليم: الأستاذ المربِّي ياسر علايا.
وهو قبل أن يكونَ معلِّمًا مثاليًّا كان رجلاً راقيًا بكلِّ ما تعنيه الكلمة، وأسوةً تُحتَذى في الذوق الرفيع والأناقة المُعجِبة؛ في مظهره وأسلوب كلامه وتعامله، بلهَ تدريسَه وتعليمَه، فقد جعل من الحصص الدراسيَّة ساعات للمتعة، يتفنَّن فيها تفنُّنًا في تقريب قواعد اللغة العربيَّة لطلابه وتحبيبهم بها.
كان الأستاذ حسنَ الخطِّ فاتبع أسلوبًا مبدعًا في الكتابة باستعمال عدد من الأقلام بألوان شتَّى، يجعل العناوينَ بلون، والأمثلةَ بلون آخر، والشرحَ بلون ثالث، والإعرابَ بلون رابع... وهكذا حتى تغدوَ دفاترُ الطلاب بين يديه لوحاتٍ فنيَّةً بديعةً ناطقةً بالجمال. ولا يكتفي بالألوان ولكنَّه يتفنَّن أيضًا في كتابة العناوين بخطوط جميلة جذَّابة، وغالبًا ما يختم الدرسَ برسم أزهار أو أشكال هندسيَّة في آخر المادَّة، تزيد الطالبَ سرورًا والدفترَ إشراقًا.
وهذا ما دفعني للاحتفاظ بما كان خطَّه لي من كُرَّاسات وكُنَّاشات في دروسه الممتعة، وإني لأحرِصُ عليها حرصَ الناس على نفيس التحف ونادر الجوهر.
أما طريقتُه المتَّبعة في التعليم، فهي التعليمُ بالحبِّ والمتعة.
أجل بالحبِّ أولاً وقبل أيِّ شيء!
وإني لعلى يقين أنه لم يحضُر دروسَه طالبٌ إلا أحبَّه وتعلَّق به وبأسلوبه تعلُّقًا؛ لما رأى فيه من دَماثة ولين جانب، وابتسامة عذبة محبَّبة لا تفارق محيَّاه، فضلاً عن البديهة الحاضرة الذكيَّة والنكتة الطريفة في موضعها وإبَّان وقتها. وإذا ما أحبَّ التلميذُ أستاذَه فلا تسأل عن أثر ذلك في إقباله على مادَّته وحُسن إفادته وتحصيله.
كان يعامل طلابه برقيٍّ كبير واحترام وتقدير، وبروح شاعرة حالمة، كيف لا وهو الأديبُ الرقيق والشاعرُ المبدع؟!
وأوتيَ الأستاذُ براعةً ظاهرة في تلخيص المادَّة العلميَّة وتقريبها إلى أذهان الطلاب، فكان يعمِد بعد الشرح والتوضيح والإفهام إلى كتابة ملخَّص للدرس بطريقة التشجير ليبقى راسخًا في أذهان الطلاب، وتسهُلَ مراجعتُه بنظرات عابرة.
إنه باختصار من المعلِّمين القلَّة الذين هيهاتَ ينساهم تلامذتُهم مهما تصرَّم من الزمان.
جزاه الله عن طلابه خيرًا، وشكر له أياديَه البِيضَ في خدمة العربيَّة الشريفة.
هذا، وقد بلغني قبل أيام أن المولى الكريم سبحانه استأثر بأستاذنا([1]) المفضال ياسر علايا قبل بضعة أشهر في إثر نزف دماغيٍّ أصابه، وكانت وفاته في 29 من ربيع الآخر 1436هـ عن سبعين عامًا، رحمه الله تعالى، وتجاوز عن زلاَّته، وغفر لنا وله.
سقاه الله غيثَ الرحمة والرضوان، وجعل مسكنه في غُرف الجنان، ورفع منـزلته في عليِّين، كِفاء ما رفع من راية العربيَّة لغة القرآن.
وأحسن الباري عزاء زوجه الخالة الفاضلة أم مجد، وأولاده الكرام مجد وعمَّار وباسل ومنال، وسائر أقربائه ومحبِّيه، وطلابه والمتخرِّجين به، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
]]]
الأستاذ محمَّد ياسر علايا
سيرة موجزة([2])
- هو أبو مجد محمَّد ياسر بن عبد المجيد بن محمَّد علي علايا.
- ولد بحيِّ باب سريجة في دمشق سنة 1366هـ/ 1947م.
- من مشاهير مدرِّسي اللغة العربيَّة في ثانويات دمشق ومعاهدها.
- صاحب أسلوب متميِّز في التعليم وتحبيب العربيَّة إلى الطلاب.
- تخرَّج في قسم اللغة العربيَّة من كليَّة الآداب بجامعة دمشق سنة 1971م.
- عيِّن موجهًا أولَ للغة العربيَّة في وِزارة التربية السورية سنوات مديدة.
- شارك في تأليف كتب القواعد والقراءة والنصوص لمختلِف مراحل التعليم.
- درَّس في دولة الإمارات العربية ثلاثَ سنين بمدرسة راشد الخاصَّة بأبناء الشيوخ أمراء الدولة.
- وتولَّى في السنوات الأخيرة الإشرافَ والتدريس في المدرسة السورية الوطنيَّة الحديثة، ومدرسة روَّاد المجد بدمشق.
- توفي بدمشق إثر نزف دماغيٍّ أصابه، في 29 ربيع الآخر 1436هـ (18/ 2/ 2015م).
- ودُفن بمقبرة الباب الصغير.
- وهو شاعر مُقل.
]]]]
]
الأستاذ ياسر علايا رحمه الله تعالى
مع أستاذي ياسر علايا رحمه الله
في دارنا بدمشق، صيف 2009م
نموذج من خطِّ أستاذي ياسر علايا رحمه الله
أسرة علايا الدمشقيَّة
من الأسر البارزة المعروفة في حيِّ باب السريجة بدمشق.
قال محمَّد أديب تقي الدين الحصني (ت1358هـ/ 1940م) في "منتخبات التواريخ لدمشق" 2/ 900: ((ومن الأسر التي تستحقُّ الذكر اليوم بنو علايا في حيِّ باب السريجة بدمشق، وهم كثيرون يشتغل أكثرُهم في الزراعة والصناعة، ظهر منهم في عصرنا الشيخ يوسف أحدُ علماء بيروت، هاجر إليها وكان مستخدمًا في أمانة الفتوى بها وأستاذًا في كثير من مدارسها العالية، وهو والدُ الفاضل الشيخ محمَّد أفندي من موظَّفي المحكمة الشرعيَّة بها)).
وذكر المؤرِّخ اللبناني د. حسان حلاق في كتابه "موسوعة العائلات البيروتيَّة: الجذور التاريخيَّة للعائلات البيروتيَّة ذات الأصول العربيَّة واللبنانيَّة والعثمانيَّة"([3]) هذه الأسرة وقال عنها:
أسرة علايا من الأسر الإسلاميَّة البيروتيَّة البارزة، دمشقيَّة الأصول.
والراجح فيما يبدو أن نسبتهم إلى بلدة (علايا) في الأناضول، وهي مدينة ساحليَّة على البحر المتوسِّط، يعود تأسيسُها إلى الأمير علاء الدين السلجوقي عام 617هـ. وقد برزت أسرة علايا في العهدين المملوكيِّ والعثمانيِّ، ولا سيَّما في بلاد الشام، وبخاصَّة دمشق وبيروت.
وعُرفت الأسرة عبر التاريخ باسم (حطِب علايا)، وهذا يؤكِّد أن الأسرتين: حطِب وعلايا، من جذور وأصول عائليَّة واحدة؛ استنادًا إلى سجلات المحكمة الشرعيَّة في بيروت.
اشتَهَر من أسرة علايا:
الأمير بدر الدين علايا في عهد الأشرف خليل بن المنصور.
والأمير بدر العلايا الذي كُلِّف مهمَّةَ السيطرة على كسروان في جبل لبنان عام (691هـ/ 1292م).
وامتدَّ نفوذ آل حطِب علايا إلى مصر، فمن أمراء مصر: إينال حطِب علايا المتوفَّى أواخر عام (809هـ/ 1407م).
وبرز الأمير سيف الدين العلايا القائد العسكريُّ في مصر والحجاز، والذي تولَّى نيابةَ دمشق وحماة (878-879هـ/ 1473-1474م).
وعُرف من الأسرة في العهد المملوكي: الأمير قطلويق العلايا المتوفَّى عام (806هـ/ 1403م) وهو أحد القادة في عهد السلطان الظاهر برقوق.
ويُلاحَظ أن هزيمة المماليك على أيدي العثمانيين عام 922هـ/ 1516م في معركة مرج دابق، جعلت أسرة علايا تستقرُّ في دمشق، وقد انحسر دورُها العسكريُّ والسياسيُّ لعقود طويلة، ثم بدأ أفرادها يهتمُّون بالعلم والفقه، ولا سيَّما في العهد العثماني.
واشتَهَر من أسرة علايا في العهد العثماني بدمشق وبيروت:
يوسف علايا([4]) (1273-1328هـ/ 1857-1910م):
علامة فقيه، وُلد بدمشق، شرع في طلب العلم في وقت مبكِّر، تتلمذ على عدد من كبار العلماء، ولازم دروسَ الشيخ محمَّد المرتضى الحسَنيِّ الجزائريِّ (1245-1319هـ/ 1829-1901م) ابن أخي الأمير عبد القادر، من علماء الجزائر المقيمين بدمشق.
ولمَّا بارحَ المرتضى دمشقَ وأقام في بيروت عام 1294هـ، لحقه الشيخُ يوسف ولازمه هناك أيضًا. وأجازه شيخه بالتدريس، فتلقَّفته جمعيَّة المقاصد الخيرية الإسلاميَّة في عهد رئيسها الشيخ عبد الباسط الفاخوري مفتي بيروت حينئذ (1240-1323هـ/ 1824-1905م)، وأسند إليه تدريسَ القرآن والفقه والأدب. وعيِّن خطيبًا ومدرِّسًا في مسجد بسطة التحتا زمنًا طويلاً.
ومن أشهر طلابه المتخرِّجين به الشيخُ محمَّد توفيق بن عمر خالد (1292-1370هـ/ 1874-1951م) الذي كان أولَ من حمل لقبَ مفتي الجمهورية اللبنانيَّة.
تزوَّج الشيخ يوسف امرأةً من آل ناصر، ورُزق بنين وبنات. وتوفي ببيروت في شهر صفر 1328هـ ودُفن فيها.
وابنه محمَّد بن يوسف علايا (1308-1387هـ/ 1890-1967م): علامة، مفتي الجمهورية اللبنانيَّة. عُرف بالاستقامة والجرأة.
تولَّى الإفتاء خلفًا لتلميذ أبيه الشيخ المفتي محمَّد توفيق خالد، سنة 1951م، فكان المفتيَ الثاني للجمهورية، وبقي مفتيًا إلى أن استعفى من منصبه لشيخوخته وضعفه سنة 1966م، فخَلَفه الشيخ المفتي الشهيد حسن بن سعد الدين خالد رحمه الله (1340-1409هـ/ 1921-1989م).
وكانت وفاة الشيخ محمَّد علايا في بيروت عام 1387هـ، ودُفن بمقبرة الإمام الأوزاعي.
وذكر الشيخ العلامة محمَّد العربي العزُّوزي في ثبته "إتحاف ذوي العناية ببعض ما لي من المشيخة والرواية" أنه لقي الشيخ محمَّد علايا في زيارته لبيروت قال([5]):
ومنهم الشيخ محمَّد علايا الدمشقيُّ البيروتيُّ، وقد تولَّى رحمه الله منصبَ الإفتاء بعد توفيق خالد، وكان رحمه الله رجلاً ليِّنًا، سليمَ الصدر.
وعندما دخلتُ إلى بيروت أواخر أكتوبر 1952م، وجدتُّه قد نُصِّب في تلك الأيام مفتيًا، لكنَّ بعض المشايخ من البيروتيِّين، وعلى رأسهم الشيخ محيي الدين المكَّاوي لم يكونوا على وفاق معه. وأول جمعة صلَّيتها في بيروت بالجامع العمريِّ شاهدتُّ الشيخ المكَّاوي رحمه الله يخطُب في موضوع الإفتاء والمفتين، فسألت بعضَ من حضر عن القضيَّة فقال لي: هذا الشيخُ يعارض المفتي، ويريد أن يكونَ مكانه.
ووصف العزُّوزي الشيخ محمَّد علايا بأنه: سليلُ الأكابر، ويَنبوعُ المكارم والفضائل، العلامة الفقيه المطَّلع الخطيب الواعظ.
وقد تولَّى الشيخ العزُّوزي أمانةَ الفتوى مع صديقه الشيخ محمَّد علايا، رحم الله الجميع.
وممَّن عُرف من أسرة علايا في بيروت أيضًا عددٌ من وجوه المجتمع البيروتيِّ، في مقدِّمتهم: السيِّد محمود بن محمَّد علايا نجل مفتي الجمهورية الأسبق، وهو أحد المسؤولين السابقين في مؤسَّسات دار الفتوى.
]]]]
]
تنبيه: كنت أرسلت إلى صاحب "موسوعة الأسر الدمشقية" د. محمَّد شريف الصوَّاف ترجمةَ الشيخين يوسف علايا وولده المفتي محمَّد علايا، وترجمةَ أستاذي ياسر علايا، وقد نُشرت جميعًا في الموسوعة الطبعة الثانية 1431هـ/ 2010م، ولكنَّ المؤلِّف كرَّر ذكر الشيخين يوسف وولده محمَّد!
ففي الموضع الأول 2/789 أورد ما ذكره الحصني في "منتخبات التواريخ لدمشق" عنهما، وفي الموضع الثاني 2/790 ذكرهما بأنهما ممَّن اشتهر من أسرة علايا في بيروت، وهذا يُشعر أنهما رجلان آخران سوى الأوَّلَين!
وكذلك حصل تبديلٌ بين مصدر ترجمة أستاذي ياسر علايا، وترجمة الضابط محمَّد خير علايا، إذ نُسبت إليَّ ترجمة الثاني بدل الأول!
والحمد لله من قبلُ ومن بعدُ
([1]) استأثرَ الله فلانًا وبفلان: إذا مات، وهو ممَّن يُرجى له الجنَّة ورُجِيَ له الغُفرانُ. اللسان (أ ث ر).
([2]) من مشافهة الأستاذ رحمه الله تعالى.
([3]) أوقفني على هذه المادَّة شيخنا المفضال زهير الشاويش رحمه الله تعالى، في ربيع الأول 1430هـ، وذكر لي أن الكتاب في قيد الطبع، وقد صدر منه بعد ذلك بين عام 1431 و1435هـ ثلاثة أجزاء عن دار النهضة العربية ببيروت، ولمَّا يتم. والكتاب على ما فيه من فوائد يعوزه التوثيق! وما أوردته هنا إنما هو باختصار وتصرُّف منه.
([4]) ترجمته في كتاب (علماؤنا في بيروت، صَيداء، طرابُلُس، البِقاع) لكامل محيي الدين الداعوق، ص172. وصورة الشيخ محمَّد بن يوسف علايا ص231.
([5]) عن مقالة: "مغاربة بالشام: إتحاف ذوي العناية، ثبت الشيخ العلامة محمَّد العربي العزوزي"، الحلقة 3، لعبد السلام الهرَّاس، مجلَّة "دعوة الحق" المغربيَّة، العدد 316، رمضان 1416هـ/ يناير- فبراير 1996م.
وسوم: العدد 628