بدايات خليل الوزير
كم كنت سعيداً، حين عثرت، بعد جهد، على نسخة يتيمة من كتاب البدايات 1، خلال زيارة معايدة لعائلة الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد). وللكتاب قصة، تبرر مدى سعادتي بالاطلاع عليه، بعد بحث استمر سنوات، وسؤال دائم لأسرة الشهيد، وبعض الإخوة الذين عملوا معه، إلا أن محصلة ذلك، وعلى الرغم من وعود متكررة بتأمين نسخة من هنا أو من هناك، كانت تدور في فلك التملص الخجول الناجمة عن عجز بعض الزملاء، ووفاء أفراد العائلة لرغبة الشهيد، وتقديرهم، في ذلك الوقت، أنه لم يأن الأوان بعد لإعادة إطلاق هذا الكتاب ونشره.
أصدر أبو جهاد كتاب البدايات 1، كما هو مبين على الغلاف في يناير/كانون الثاني 1986، عن مركز البحث والتعبئة الفكرية في حركة فتح.ولكن، قبل أن يغادر الكتاب المطبعة، أمر بجمع كل النسخ، وأشرف بنفسه على إتلافها، وربما لم يبق منها سوى هذه النسخة اليتيمة، وبضع نسخ أخرى لدى عائلته، وربما عند بعض المقربين منه، وفي السنوات الماضية نشر بعضهم ما ادعى أنه البدايات، لكنها كانت قصصا ونصوصاً تروى عن أبو جهاد، وليست النص الذي كتبه في بداياته الأولى.
لم يأت إتلاف الشهيد أبو جهاد الكتاب ومنعه من التداول بإرادته الذاتية اعتراضا على رداءة طباعته، أو عدم تسلسل فصوله كما أشيع. لكنه نتج عن إدراكه الثاقب في حينه الحساسية التي قد يولدها صدور الكتاب في ذلك الوقت لدى زملائه، وفي طليعتهم الشهيد ياسر عرفات الذي تحدث عنه الكتاب بتقدير كبير، ولكن بإيجاز قد لا يليق بنظر بعضهم بالتطورات اللاحقة التي عززت مكانته في قيادة الشعب الفلسطيني. إذ إن اللبنات الأولى لحركة فتح ظلت سراً، واختلفت الروايات حولها، وحول أين بدأت في غزة، أم في رابطة الطلبة الجامعيين في مصر، أم في دول الخليج، ومتى كانت هذه البداية، هل ترافقت مع خلايا العمل الفدائي في غزة في 1954، أم في محاولات البناء التنظيمي في دول الشتات، ومن هي الخلية الأولى، وممن تكونت. وقطعاً، تدخل الإجابات المختلفة عن هذه الأسئلة بعضاً في إطار المؤسسين الأوائل لهذه الحركة الوطنية، وتخرج آخرين كثيرين، برزوا قيادات في الصفوف الأولى في مرحلة إعلان الثورة من اللبنات الأولى.
لا شك أنه كانت هناك إرهاصات متعددة بين أبناء الشعب الفلسطيني بعد النكبة، يسعى كل منها للتمرد والثورة. ومن هذه المحاولات المختلفة، تشكلت حركة فتح في صيغتها النهائية المعروفة. هنا، يروي أبو جهاد ما يعتبره البداية، والاجتماع الأول لحركة فتح قبل أن يتم الاتفاق على اسمها. عقد الاجتماع في منزل في الكويت سنة 1957، وضم خمسة أشخاص، هم، بالإضافة إلى أبو جهاد وأبو عمار، وثلاثة آخرين ليس بينهم أحد من القيادات المعروفة لاحقاً. وفي الاجتماع الثاني، تغيب أحدهم لاهتزاز قناعته بالفكرة. الأسماء التي ترد في الكتاب هي التي عملت معه في الكويت والسعودية، وخصوصا في مكتب فلسطين في الجزائر الذي عين مسؤولاً عنه سنة 1963، ومنه بدأت علاقات الحركة الوليدة بالعالم، وتم من خلاله ترتيب الزيارة التاريخية للصين في مارس/آذار 1964، برفقة أبو عمار الذي عرف يومها باسم محمد رفعت.
عذر الأخ أبو جهاد أنه يقدم روايته التي عاشها، ولأن كتابه وكما أسماه هو البدايات 1، وبتحدث فيه عن مرحلة زمنية محدودة، لا تتجاوز حدود الانطلاقة، فلعله كان يفكر في إكمال هذه السلسلة ببدايات 2 و3، وربما أكثر.
بعد إتلاف الكتاب، عكف أبو جهاد على كتابة مقدمة له، أراد أن يوضح فيها بعض الأمور، ما يجعل كتابه قابلا للنشر في ذلك الوقت، وقد أنجز جزءاً كبيراً منها، بحسب رواية عائلته التي كانت تحتفظ بما كتبه في بيتهم في غزة. المؤسف أن وثائق الشهيد نهبت من البيت إبّان حوادث الانقسام المؤسفة، وسيطرة حماس على قطاع غزة، ومنها مقدمة الكتاب. لا أدري إذا كان المقتحمون قد أدركوا القيمة التاريخية والمعنوية لما نهبوه، أو إذا كان ثمة إمكانية لاسترجاع تلك الوثائق، باعتبارها ملكا للشعب الفلسطيني وتاريخه. هذا إذا كانت تلك الأوراق ما زالت موجودة، بعد كل تلك الحروب التي شهدتها غزة.
أذكر أن الأخ أبو جهاد كان يحمل دوما مفكرة صغيرة يدوّن ملاحظاته فيها، من أحاديثه مع المقاتلين إلى اجتماعاته مع كبار المسؤولين. ويبدو أن هذه العادة قديمة عنده، إذ يقتبس من هذه المفكرات ما رواه عن رحلة الصين. أغلب هذه المفكرات وآلاف الوثائق والتقارير، ومئات من أشرطة الفيديو التي لم تشاهد، ما زالت موجودة في عهدة عائلة الشهيد، وهي حتما تحتوي كل البدايات والمسيرة، حتى تاريخ استشهاده في 16 /4/ 1988. يجب أن توضع هذه الوثائق ذات القيمة التاريخية المهمة في متناول الباحثين، وهذا يحتاج إلى ضوء أخضر من عائلة الشهيد، ومبادرة جادة من مؤسسات الدراسات والأبحاث الفلسطينية، ليتحول هذا الإرث التاريخي إلى ملك للأجيال والمبدعين، من باحثين وصناع للأفلام الوثائقية، وتوضع نسخ منه في الجامعات ومراكز البحث، وربما يوما ما في متحف لتاريخ فلسطين.
وأخيراً، ثمّة نص مهم في الكتاب، يعلق فيه الأخ أبو جهاد على بيان قيادة منظمة التحرير الرافض عملية انطلاقة الثورة 1965، فيقول "سقطت قيادة المنظمة عندما اعتبرت نفسها فريقاً يواجه فريقا آخر، ولم تعتبر نفسها قيادة للشعب كله. فشلت قيادة المنظمة، عندما اعتبرت أن تحرير الأرض مسألة تتعلق بالاختصاصات وتوزيع المسؤوليات. سقطت شرعية قيادة المنظمة، حين أسقطت بيدها مصداقيتها فأعلنت رفضها للكفاح ضد العدو. وهكذا كان لا بد من العمل الحثيث والكثيف لإعلان السقوط الرسمي لهذه القيادة، فنلغيها كمنهج وأسلوب عمل وعلاقات وتحالفات...".
هل لنا إلا أن نترحم على الشهيد أبو جهاد ورفاقه، ونقول ما أشبه اليوم بالبارحة.
وسوم: العدد 627