أول رئيس للجمهورية السورية، محمد علي العابد
محمد علي العابد هو أول رئيس للجمهورية السورية بين 11 حزيران 1932 و21 كانون الأول 1936، وتاسع حاكم منذ سقوط سوريا العثمانية، كما أنه أول حاكم لسوريا يتم انتخابه ولا يتم تعيينه. كان العابد يمثل عند انتخابه "الأرستقراطية الدمشقية القرية والمتقدمة في العمر، إذ كان يبلغ عند انتخابه، في السبعين من عمره".
درس العابد في دمشق التي غادرها طفلاً وفي بيروت واسطنبول وباريس، وعمل في وزارة الخارجية العثمانية وعيّن سفيرًا في الولايات المتحدة، وبعد خلع عبد الحميد الثاني لم يعد وعائلته إلى الدولة العثمانية مطلقًا بل تنقلت العائلة في أرجاء أوروبا، حتى نهاية الحرب العالمية الأولى فاستقرّ العابد في مصر قبل أن يعود إلى دمشق بعد بدأ الانتداب. في سياسته كان العابد محايدًا ذو علاقات جيدة مع موالي الانتداب من ناحية ومع الكتلة الوطنية من ناحية ثانية، وهو ما ساهم في وصوله لمقام الرئاسة في 13 حزيران 1932، وكان أول من حمل لقب "رئيس الجمهورية" في سوريا، إذ إن من سبقوه سمّوا رؤساء الدولة لعدم وجود دستور يتبنى النظام الجمهوري. بموجب الدستور فإن ولاية الرئيس تمتد لخمسة سنوات، إلا أنه استقال عام 1936 بداعي السن وتمهيدًا لتدشين حكم الكتلة الوطنية بعد إقرار المعاهدة السورية الفرنسية؛ وقد تتالى خلال رئاسته أربع حكومات.
كان يجيد عدا العربية والتركية كلاً من الفرنسية والإنجليزية والفارسية وعرف عنه ولعه بالأدب الفرنسي وبالعلوم الاقتصادية. عائلة "العابد" من عائلات دمشق الغنية والمرموقة، استقرت في دمشق على يد هولو العابد جد والد العابد، ويعود نسبه لقبيلة الموالي إحدى قبائل سوريا التي استوطنتها إبان العهد العباسي عرف العابد بوصفه "من أغنى رجال سوريا، إن لم يكن أغنى رجل سوري على الإطلاق" في عصره.
ولد محمد علي العابد في دمشق عام 1867؛ عائلته تعتبر جزءًا من الإقطاع أو الطبقة البرجوازية السوريّة الذين شكلّوا الحكم المحلي في ظل الدولة العثمانية؛ وشكل آل العابد مع آل العظم وآل اليوسف، أنسبائه، صفوة المجتمع العربي العثماني في دمشق كما ذكر فيليب خوري؛ لعب جدّه الأكبر عمر آغا دورًا في وأد الفتنة وإغاثة الناجين خلال مجازر 1860، وجده المباشر هولو باشا عيّن متصرفًا في عدد من المناطق والأقضية ومن ثم رئيسًا للمجلس الإداري في ولاية سوريا خلال تسعينات القرن التاسع عشر، أما والده أحمد عزت باشا فكان "السكرتير الثاني" للسلطان عبد الحميد الثاني، وأحد مقربيه القلائل، والملهم بمشروع الخط الحديدي الحجازي، والسوري أو العربي الأكثر نفوذَا في البلاط العثماني حكم السلطان عبد الحميد، وعيّن بعد خلعه عام 1908 في مراتب رفيعة كرئيس محاكم بلاد الشام. في هذه البيئة الاستقراطية، نشأ محمد علي العابد، وتلقى علومه الابتدائية في دمشق ثم انتقل عام 1885 إلى بيروت فأقام بها قسطًا من الزمن وتتلمذ على يد الشيخ محمد عبده، وانتقل مع أسرته إلى اسطنبول بعد استدعاء والده إليها، فدخل مدرسة غلطة سراي السلطانية، وبعدما أنهى دراسته الثانوية أوفد إلى باريس حيث درس الحقوق، والتشريع الروماني، ومبادئ الفقه الإسلامي؛ ومنها تخرّج عام 1905.
بعد تخرجه عاد العابد من باريس إلى اسطنبول حيث عيّن مستشارًا قضائيًا لوزارة الخارجية العثمانية، وبفضل نفوذ والده وقربه من السلطان عبد الحميد الثاني غدا سفير الدولة العثمانية لدى الولايات المتحدة الأمريكية، غير أن عمله كسفير في واشنطن لم تطل واستمرت ستة أسابيع فقط، بسبب الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني يوم 23 تموز 1908 أنهيت مهامه كسفير، وكذلك أقيل والده من منصبه في اسطنبول الذي غادرها سرًا خوفًا على حياته. لم يعد محمد علي ومعه شقيقاه وزوجته إلى الدولة العثمانية أبدًا، بل انتقل من واشنطن إلى كاليفورنيا ثم نحو أوروبا حيث التقى والده، وتفرغ لإدارة أملاك العائلة الواسعة في سوريا وخارجها، كما تفرغ للأدب العربي والأدب الفرنسي الذين "شغف بهما". وأنفق العابد فترة الحرب العالمية الأولى على هذه الحال، متنقلاً بين سويسرا، وفرنسا، وإنكلترا، مخالطًا خلال جولاته عددًا من رجال السياسة والديبلوماسيين الأوروبيين، وهي فرصة قلّما سُنحت لشخصية سورية غير حكومية في ذلك العهد. بعد نهاية الحرب، انتقل العابد وأسرته إلى مصر وفيها توفي والده، ومنها عاد إلى دمشق مجددًا عام 1920 بعيد سقوط المملكة السورية العربية، حيث نسج علاقات جيدة مع قادة الانتداب الفرنسي واتهمه محمد كرد علي بوصفه محابيًا للفرنسيين عدوًا لوطنه؛ وفي حكومة بركات الأولى التي تشكلت في حزيران 1922، وقد تلاه في الحكومة التالية التي تشكلت في 1 كانون الثاني 1925 جلال الزهدي.
في 28 حزيران 1922 تم إعلان الاتحاد السوري بين دولة دمشق ودولة حلب ودولة جبل العلويين على أن يكون اتحادًا فيدراليًا كخطوة أولى نحو الوحدة السورية، وقد كان المجلس التأسيسي الذي أنشأه الجنرال هنري غورو، مؤلف من خمسة عشر عضوًا خمس عن كل دولة ويشكل المجلس الهيئة التشريعية العليا في البلاد، وكان بموجب دستور الاتحاد الذي نشره غورو أيضًا من المفترض أن ينتخب أعضاء المجلس إلا أنه تعذر إجراء انتخابات نيابية حينها، عيّن بنفسه أعضاء المجلس، وكان من بين الأعضاء المعينين محمد علي العابد ممثلاً عن دمشق.
في اليوم نفسه الذي أعلن فيه الاتحاد، التأم المجلس الاتحادي في حلب وانتخب بالإجماع صبحي بركات رئيسًا لمدة عام، وقد شكّل بركات حكومته الأولى مسندًا وزارة المالية للعابد أيضًاً، شملت البلاد السورية الراحة في أعقاب إعلان الاتحاد، وعادت الثقة بالمعتدلين، وقد مكث العابد وزيرًا للمالية حتى 1كانون الثاني 1925 وخلال وزارته الطويلة تم إقرار اتفاقية "مصرف سورية ولبنان الكبير" ليكون بمثابة مصرف سورية المركزي وإصدار الليرة السورية كعملة له وذلك في 1 آب 1922؛ وعلى الصعيد الشخصي فقد تزوج رئيس الاتحاد صبحي بركات بليلى العابد ابنة الوزير، غير أن الزواج كان قصيرًا وانتهى بالطلاق، فانتهت بذلك كما يقول يوسف الحكيم الذي عاصر تلك الفترة "صلات المودة والصداقة بين الرئيس والوزير"، رغم ذلك فلم يستقل العابد، لكنه وكما يوضح الحكيم أيضًا، قد أصبح منزله ملتقى لجميع معارضي بركات، خصوصًا رجال الكتلة الوطنية لاحقًا، وكان لهذه الصداقة أثر بالغ في إيصال العابد لسدة الرئاسة لاحقًا عام 1932 كمرشح توافقي بين مختلف الأطياف.
لم يطلع العابد بأي عمل سياسي خلال الفترة الممتدة بين عامي 1925 و1932، وكفل له خروجه المبكر من حكومة بركات عدم خسارة تأييد الكتلة الوطنية وفرنسا في الوقت ذاته، وقضى هذه الفترة كما يذكر يوسف الحكيم في الأعمال الخيرية، وعندما أقرّ الدستور السوري عام 1931 قرر العابد الترشح عن المقعد النيابي في دمشق ونال دعم الرئيس الأسبق أحمد نامي ويقول الحكيم أن العابد خلال دعايته الانتخابية، قد نشط أعماله الخيرية فقدم إعانة مالية كبيرة لجمعية الإسعاف الخيرية، وشارك مع رجال المال في تأسيس مصرف وطني، ثم عقد تفاهمًا مع رجال الكتلة الوطنية كي لا تتضارب الأصوات في دمشق، كما زار المؤسسات الروحية لمختلف طوائف دمشق، مقدمًا في كل زيارة إعانات مالية لتقوم المساجد والكنائس بتوزيعها على الفقراء والمحتاجين خصوصًا لقرب الأعياد الدينية حينها، وبنتيجة الانتخابات، التي تمت مرحلتها الأولى في كانون الأول 1931، والثانية في كانون الأول 1932، انتخب العابد نائبًا عن دمشق وفق النتائج القطعية التي صدرت في 9 نيسان.
عقد المجلس النيابي اجتماعه الأول في 7 حزيران، فوّض إليه انتخاب رئيس المجلس وهيئة مكتبه إلى جانب رئيس الجمهورية والتصديق على نتائج الانتخابات النيابية وتحديد مخصصات النواب، لم يكن العمل الحزبي قويًا في سوريا ولذلك كان أغلب النواب من المستقلين ومفروزين على أساس مناطقي: الكتلة الأولى بزعامة صبحي بركات وحولها أغلب نواب الشمال المعتدلين، والكتلة الثانية يتزعمها حقي العظم وأغلب نواب الجنوب المعتدلين، في حين أن ثالث الكتل هي الكتلة الوطنية المؤلفة من 17 نائبًا فقط، يترأسها هاشم الأتاسي. وبإيحاء من المفوضية الفرنسية، انتخب المجلس في 11 حزيران صبحي بركات رئيسًا له، ثم جرى انتخاب مكتب المجلس الذي شغله أنصار بركات أيضًا، وأراد الرئيس بركات الشروع بانتخاب الرئيس مباشرة فانسحب نواب الكتلة، ولم يشأ بركات أن يؤجل الجلسة لصغر حجم الكتلة النيابية الوطنية فعليًا، غير أن الجنرال فيبر ممثل المفوض الفرنسي في دمشق، أصدر وقبل البدء بالانتخاب مرسومًا بتأجيل الجلسة بهدف بلورة اتفاق بين مختلف الكتل النيابية.
كانت المفوضية الفرنسية تدعم وصول حقي العظم إلى رئاسة الجمهورية، وخلال المباحثات بين قادة الكتل النيابية، تم التوصل إلى صيغة تتخلى فيها الكتلة الوطنية عن مرشحها هاشم الأتاسي، لقاء تخلي الفرنسيين عن ترشيح حقي العظم، وانتخاب محمد علي العابد، رئيسًا للجمهورية؛ وهو ما تم بأغلبية 36 صوتًا مقابل 32 صوت لصبحي بركات؛ وانتقل إلى مقر الرئاسة محاطًا بحراسة "الشباب الوطني"، وجرت مراسم تسلّمه الرئاسة في باحة القصر بإطلاق المدفعية سبعة عشر طلقة إيذانًا ببدء العهد الجمهوري، ورفع خلاله العلم السوري الجديد، المستوحى من ألوان علم الثورة العربية الكبرى نفسه، وإنما مع ثلاثة كواكب حمراء في الوسط، بدلاً من المثلث الأحمر، أما المرشحين المحتملين الآخرين، والذين تداولت الصحافة السورية أسمائهم كانوا كل من أحمد نامي الرئيس السابق للدولة، وإبراهيم هنانو، عمومًا فإن الاتفاق الذي عقد ضمن للمعتدلين منصب رئيس المجلس النيابي، كما اتفق أن تكون الحكومة مناصفة بين الكتلة الوطنية والمعتدلين، على أن يشكلها حقي العظم سوى القلة.
وبعد عام في 3 حزيران 1933 استقالت حكومة العظم وتألفت حكومة ثانية برئاسته غير أنها قد خلت من وجوه الكتلة الوطنية فكانت "وزارة انتدابية" بتوافق العابد مع المفوض الفرنسي بونسو في أعقاب قلاقل معاهدة الصداقة والتحالف مع فرنسا؛ وعلى الرغم من خروج الكتلة الوطنية من الحكم، إلا أنها احتفظت بعلاقاتها الجيدة مع العابد، عبر نجيب أرمنازي، كبير أمناء القصر الجمهوري من ناحية، وعادل جميل مردم، أحد أركان الكتلة الوطنية من ناحية ثانية، فشكل بذلك أرمنازي صلة الوصل بين الكتلة والعابد. دامت حكومة العظم الثانية ما يقرب عامًا كاملاً، في تموز 1933 أنهيت مهام هنري بونسو كمفوض فرنسي سامي في سوريا، وعيّن سفير فرنسا في الصين شارل دي مارتيل خلفًا له، وعندما وصل بيروت في 12 كانون الأول 1933 عُقد مؤتمر صافيتا من قبل وجهاء الطائفة العلوية طالبوا به بالوحدة والانضمام للجمهورية السورية، كما شهدت دمشق خلال الفترة ذاتها اعتصامًا قام به شبّان دروز للهدف ذاته.
طال عهد العظم في رئاسة الحكومة ما يقرب السنتين، وقبل أن يبدأ عامه الثالث ومع استمرار القطيعة بين رجال الكتلة والحكومة وتجدد المظاهرات في مختلف المدن السورية المطالبة بإنهاء الانتداب وما عزي من ضعف الحكومة كسبب لذلك، اتفق دي مارتيل مع الرئيس العابد على الإيعاز للعظم بالاستقالة، ثم جرى تكليف الرئيس السابق للدولة تاج الدين الحسني برئاسة الوزارة، فشكل في يوم واحد ثالث حكومات العابد، ولم تأخذ حكومته ثقة البرلمان لكنه موقوف عن الاجتماع بقرار من المفوض الفرنسي؛ واستمرت في السلطة عامًا ونصف، وسقطت بنتيجة الإضراب الستيني في شباط 1936 لتليها حكومة عطا الأيوبي، والتي وصفت في برنامجها بالحيادية والمؤقتة، والهادفة لإجراء انتخابات.
انتهجت الحكومات المتعاقبة خلال عهد العابد، سياسية الترشيد الاقتصادي، وحافظت على الحياد والنزاهة واستطاعت ضمن سياستها هذه تخفيض أصول الديون السوريّة من الدين العام العثماني وذلك من 70 مليون ليرة تركية مستحقة لفرنسا إلى 24 مليونًا، ولم يفلح أمام هذه الإنجازات الهامة رجال الكتلة في خلق معارضة شعبية قوية للحكومة، فاقتصر الأمر على المعارضة البرلمانية؛ والتي لم تنفجر إلا على خلفيات سياسية كمعاهدة التحالف والصداقة مع فرنسا. في أيار 1935 شكلت لجنة مستقلة لوضع قانونين للأحوال الشخصية والتجارة وذلك بهدف إنهاء العمل بمجلة الأحكام العدلية الصادرة عن الدولة العثمانية عام 1876، وقد تداول اعتماد المذاهب الأربعة كمصدر للتشريع فيما يتعلق بالمسلمين بدلاً من حصرها بالمذهب الحنفي، غير أنه ما أعاق العمل فعليًا كون أغلب القضاة والحقوقيين المعينين بحكم مواقعهم في اللجنة من مناصري الكتلة الوطنية، ولذلك لم يشهد العمل أي جديّة بهدف منع صدور القانون خلال وزارة الشيخ التاج "الانتدابية".
لكونه أول رئيس للجمهورية السورية، فقد منحه الرئيس الفرنسي ألبير فرانسوا لوبرون وسام الجمهورية الفرنسية في تشرين أول 1932، وتسلمه عن طريق المفوض الفرنسي هنري بونسو؛ أصدر العابد في الفترة ذاتها عفوًا عامًا عن أعمال الشغب التي حصلت خلال الانتخابات النيابية عام 1931، لكن العفو لم يشمل كبار الشخصيات الثورية التي نفيت بعد الثورة السورية الكبرى، والتي لم يشملها أيضًا العفو الأسبق، نتيجة اعتراض المفوضية الفرنسية. منذ كانون الأول 1932 تولى العابد، تعاونه الحكومة، بموجب الدستور مهمة التفاوض حول معاهدة صداقة وتحالف مع فرنسا وممثلتها المفوضية الفرنسية برئاسة الجنرال بونسو، والتي كان من المفترض أن تنهي الانتداب، وتحوله إلى معاهدة شبيهة بالمعاهدة العراقية - البريطانية، غير أنّ فرنسا لم تحذ حذو بريطانيا في معاهدتها، مع العراق، وتصلبت في موافقتها، بينما قبل العابد معظم الشروط الفرنسية، وهو ما خلق فعليًا نقمة الكتلة الوطنية والجماهير التي أضربت وسيّرت مظاهرات، طوال فترة المفاوضات التي استمرت طوال النصف الأول من 1933، وأفضت إلى تأجيل اجتماعات البرلمان خشية رفضه التصديق على معاهدة التحالف والصداقة حين عرضت عليه؛ وقبل ان يتأزم الوضع كان ألبير الأول ملك بلجيكا قد قام في نيسان 1933 بزيارة دمشق وتدمر، ليكون بذلك أول رئيس دولة خارجية رفيعة، يزور سوريا منذ عقود.
في تشرين الثاني 1933، عرض دي مارتيل نص معاهدة السلم والصداقة بين الجمهورية السورية وفرنسا بعد أن أقرتها الحكومة ودعمها العابد، غير أن البرلمان رفض التصديق عليها وردها بأغلبية 46 نائبًا (أي أكثر من ثلثي المجلس) لأنها لا تحوي على بنود تتعلق بالسيادة والوحدة والاستقلال، فما كان من دي مارتيل إلا أن حلّ دورة المجلس في 24 تشرين الثاني وأوقف اجتماعاته طول ذاك الفصل التشريعي. ثالث حكومات عهد العابد شكلها رئيس الدولة السورية السابق تاج الدين الحسني وذلك في 17 أيار 1934 بعد أن استقالت حكومة العظم الثانية بإيعاز من دي مارتيل.
في أيار 1934، أدت جولة قام بها رئيس الجمهورية يرافقه رئيس الوزراء، إلى شمال سوريا، لخروج مظاهرات قوية، وتعرّض العابد للسباب والشتيمة في الجامع الأموي بحلب أثناء وجوده فيه، وانتشرت المظاهرات وإضراب الأسواق، وإلقاء القنابل، والمصادمة مع رجال الشرطة في حلب، طوال فترة الزيارة؛ وقد اعتقل في إثرها أعداد كبيرة من المتهمين بينهم قيادات هامة مثل سعد الله الجابري، في حين هرع محامون من كل أنحاء سوريا للدفاع عنهم، وتجددت الاطرابات في ذكرى المولد النبوي. كان العابد قد أصدر عفوًا خاصًا عن المتهم بإطلاق النار على إبراهيم هنانو، الزعيم الحلبي والوطني، وهو ما سبب الاطرابات؛ إلى جانب النقمة الشعبية على شخصية رئيس الوزراء الشيخ التاج.
في 21 كانون الأول 1935 نظمت الكتلة الوطنية حفل تأبين لمناسبة ذكرى أربعين وفاة إبراهيم هنانو على مدرج الجامعة السورية، وأعلن فارس الخوري خلال الحفل "الميثاق الوطني"، وبدأت في أعقابه الإضرابات والاطرابات الأمنية الدامية، بينما عجز العابد ومعه حكومة الشيخ التاج عن قمعها. وقد أغلقت في أعقاب هذه الاحتجاجات مكاتب الكتلة الوطنية في دمشق وحلب واعتقل عدد من قادتها كسعد الله الجابري فردّ الشعب بإضراب شامل دام في دمشق ومدن أخرى ستين يومًا، واضطر الجيش الفرنسي للانتشار في شوارع المدن الرئيسية وهدد دي مارتيل بقصف دمشق كما حصل عام 1925، وشهدت العراق ولبنان والأردن وفلسطين ومصر مظاهرات مؤيدة للشعب السوري فضلاً عن دعم من بريطانيا، وبنتيجة الضغط الدولي اضطر المفوض الفرنسي لقاء هاشم الأتاسي رئيس الكتلة الوطنية، واتفق معه على تشكيل حكومة جديدة وتشكيل وفد سوري يقوم بالسفر إلى فرنسا للتفاوض حول معاهدة جديدة تضمن حقوق السوريين، وبنتيجة الاتفاق شكلت حكومة الأيوبي وقد شملت وجوهًا محايدة وكانت مهمتها الأساسية إدارة المرحلة الانتقالية.
بعد حوالي شهر في 21 آذار غادر وفد الكتلة الوطنية إلى فرنسا ومكثت المفاوضات ستة أشهر حتى أيلول، حين أعلن عن الاتفاق بين الوفد والحكومة الفرنسية في 9 أيلول ونشرت نصوص مسودة الاتفاق في 22 تشرين أول على أن توقع قبل نهاية العام. ودعا العابد لانتخابات نيابية هي الثانية في تاريخ سوريا فازت بها الكتلة بالأغلبية الساحقة، وكان من النتائج المباشرة للاتفاق بين الكتلة وفرنسا، عودة ارتباط دولة جبل العلويين ودولة جبل الدروز بالجمهورية السورية في 5 كانون الأول 1936، مقابل احتفاظهما بالاستقلال الإداري والمالي، غير أن نائب جبلة علي أديب عضو برلمان حكومة اللاذقية أعلن التنازل عن استقلالها المالي والإداري لتكون "متساوية مع سائر المحافظات السورية"، وأيدّه في ذلك سائر النواب وعيّن مظهر باشا أحد أركان الكتلة الوطنية محافظًا عليها. افتتح البرلمان الجديد أعماله في 21 كانون الأول 1935 وفي اليوم نفسه أرسل العابد كتاب استقالته إلى المجلس فقبلها، وقد علل العابد سبب استقالته لأسباب صحيّة بينما وجد عدد من المؤرخين أن السبب يرجع لفوز الكتلة الوطنية، وعدم تمكن رئيس محايد الاستمرار إثر فوز الكتلة بأغلبية ساحقة، وقال يوسف الحكيم أنّ كبير أمناء الرئيس نجيب أرمنازي هو من نصحه بالاستقالة بعد إعلان نتائج الانتخابات لإفساح المجال أمام الكتلة الوطنية لإكمال ما بدأت به من تفاهم مع فرنسا.
في الجلسة التي قبلت فيها الاستقالة انتخب هاشم الأتاسي رئيسًا، أما العابد فقد غادر سوريا إلى باريس وقيل خوفًا من الاغتيال، وبقي فيها إلى أن وافته المنية عام 1939 حين نقل جثمانه إلى دمشق ودفن فيها.
حاليًا يوجد شارع راقي باسمه في دمشق بقرب شارع الحمراء يمتاز بوجود بعض الأبنية ذات الطراز المعماري الفرنسي من فترة الانتداب. قيّم المؤرخ والسياسي السوري يوسف الحكيم، شخصية العابد بوصفه كان تمتع بمزايا عالية من العلم والخبرة الاقتصادية والحياة السياسية والاجتماعية فضلاً عن "مكارم الأخلاق" إلى جانب "التواضع" ويمكن القول عن فترة العابد:
إن فترة محمد العابد كانت أشبه ما يكون بالهدوء الذي جاء بالعاصفة، امتاز عهده بتحدّي القوى الوطنية لسلطة الاحتلال وظهور الكتلة الوطنية الواضح، والتي تقدّمت على حزب الشعب الذي أسسه الدكتور عبد الرحمن الشهبندر عام 1925، والتي استطاعت فيه الكتلة الوطنية تحريك الشارع لإرغام الاحتلال للإذعان للتوقيع على مُعاهدة الاستقلال وبطلان الانتداب الفرنسي، وهو ما لم يتم في عهده.
اشتهر العابد بكونه "أغنى رجل في دمشق، إن لم يكن في سوريا كلّها" في زمانه، وقدرت ثروته بمليون ليرة إنكليزية ذهبية؛ كانت ثروته متوزعة بين أسهم يملكها في قناة السويس، ومجموعة عقارات منتشرة في أوروبا، وأراضي زراعية واسعة بما فيها من قرى في غوطة دمشق لاسيّما في منطقة دوما، وعلى حدائق في حي القنوات، فضلاً عن فندق فيكتوريا، أقدم فنادق دمشق وأشهرها، والذي كان يدرّ دخلاً سنويًا كبيرًا. ثروة العابد المالية كان يحتفظ بها في بنوك أوروبية وأمريكية، وهو ما عرّضه لنقد صحفي شديد بوصفه "بخيل" و"غير وطني" لعدم نقله ثروته إلى داخل السوري، وعدم توسيع استثماراته فيها بالداخل. وحسب ما يذكره المؤرخ فيليب خوري، فإنّ استثماراته في سوريا، لم تتم إلا بعد ضغط من رجال الكتلة الوطنية عليه، لإقناعه بأهمية الاستثمار، فأصبح مساهمًا رئيسيًا في شركة الإسمنت الوطنية إحدى أبرز مشاريع الكتلة الاقتصادية، كما دعم صحيفة الأيام بشرائه حصة فيها بقيمة 5000 جنيه استرليني.
لا يزال قصر محمد علي العابد إلى اليوم في حي ساروجة ضمن دمشق القديمة ويرجع عمره لحوالي 350 عامًا من الآن، ويعود تاريخ اقتنائه لهولو العابد جد والد محمد علي العابد، واعتبر في بداية رئاسته قصرًا جمهوريًا واستمر كذلك ستة أشهر فقط، حين تم الانتهاء من القصر الجمهوري الحالي في منطقة المهاجرين بدمشق. وبعد وفاة العابد حوّل القصر عام 1942 إلى سليم اليازجي الذي قام بتحويله إلى مدرسة ثانوية حتى عام 1970، حين تم تأميم المدارس الخاصة في سوريا، وأتبع البناء لملكية وزارة التربية التي حولت البناء كمديرية تربية، وقد أهمل القصر وأتلفت الكثير من محتوياته وسرق بعضها الآخر سيّما الأسقف العجمية، وفي عام 1995 استعاد اليازجي ملكيته، كما تعرض في عام 2006 لحريق قضى على أحد طوابقه.
وسوم: العدد 632