محمود مغربي .. النموذج الأصيل للإنسان المبدع

clip_image001_75b64.jpg

عرفت الشاعر الصديق محمود مغربي في فترة الثمانينيات حيث كان يشاركنا الكتابة في برنامج ( مايكتبه الشباب ) الذي كان يذاع عبر أثير شبكة الشباب والرياضة .

للوهلة الأولى لمست فيه الموهبة الصادقة وجمال الكتابة وعندما تقابلت معه لأول مرة وجدته يتابع كل كتاباتي ونشاطاتي وشعرت وقتها أنه الأخ الذي لم تلده أمي ولم ينقطع تواصلنا منذ ذلك الوقت.

جمع الشاعر الكبير والصديق العزيز بل والأخ المخلص محمود مغربي بين جمال الإبداع وبين جمال الأخلاق والتعاملات الطيبة ونقاء القلب ... كنت أجد فيه الإنسان المصري الأصيل والجنوبي المتحضر وأكد بداخلي بل زاد الحب الكامن بقلبي لأهل الصعيد الأوفياء .

لم يتحدث عن أحد بسوء بل كان يحب كل الناس ولذا سكن حبه في قلب كل من تعامل معه .. وكان شديد الحرص على تشجيع المواهب الواعدة ومن ثم تجاوز حبه حدود مصر وسافر إلى أكثر من دولة عربية فكان سفير الأدب المشرف .

في كل مقابلة تجمعنا كنت أقول له : الأرض الطيبة نباتها طيب ... وأنت تسكن في قلبي وعقلي لأنك عنوان الإخلاص والنقاء وأن الأرض الطيبة لاتنبت إلا الثمار الطيب فكان يردد كلمات الشكر ويقول : أشكرك يافنان ..

الشاعر محمود مغربي رضع من أمه الفطرة الطيبة والحب والحنان والسيرة النقية التي لم تتلوث بمساوىء المعاملات الحياتية : أمي يرحمها الله السيدة الخمرية الملامح ، بنت القرية التي عاشت في حي شعبي من أحياء شرق مدينة قنا ، علمتني الكثير والكثير وكانت كنز حكايات الطفولة والأمثال الشعبية والطقوس القروية تفاصيل عديدة لا حصر لها.

أمي المرأة الحميمة التي تحنو وتحب أصدقائي وصديقاتي في كل مراحل عمري ، فقد كان بيتنا مفتوحا ، وطبليتنا نمدها دائما بأفضل الموجود ولا أخجل من هذا أبدا ، علمتني كيف أكون كريما مع الجميع ، حتي مع من يتصف بالبخل وينفر منه الناس.

لم تكن تستنكف أن تستقبل صديقاتي قبل وبعد زواجي ، ترحب بهن حتي في غيابي أو سفري ، كانت محبة للجميع ، علمتني أن تحب الإنسان الإنسان وليس لجنس أو لون أو دين أو قريب أو غريب ، الكل عندها سواء طالما يمتلك الاحترام والسيرة الطيبة.

هى الأم التي بكت كثيرا كما لم تبك من قبل على أصدقائي الراحلين الشعراء سيد عبد العاطي وعطية حسن وكرم الأبنودي وجمال أبو دقة واشرف الجيلاني لأنها كانت تعرفهم شخصيا وبكت لأجل صحبة رحلوا أيضا لم ترهم ولكن كانت تعرف أخبارهم من حديثي معها في أوقات الصيف ليلا نحكي ليلا فوق سطح منزلنا الطيني.

ومن حسن حظي أن هذه الأم جاءت قبل موتها بيوم واحد إلى شقتي وكان يوم جمعة وقضت يوما كاملا مع أولادي وكانت توصيني كثيرا على كل شيء أخوتي البنات وأخي محمد وأولادي و.. و.. وتفاصيل عديدة ولكن لا انسي مشهد أول دخولها شقتي تحديدا غرفة مكتبي وقبلتني في خدي الأيمن ثم الأيسر كما تفعل في كل لقاء ولكن هذه المرة أضافت قبلة أخرى علي خدي الأيمن والأيسر توقفت أمام القبلتين الزيادة عن كل مرة وقلت في نفسي أنها قبلة الوداع ، هكذا حدثت نفسي ، ثم طردت هذا الإحساس حتى لا يعكر روحي ولكن ظل الإحساس أمامي .

وبالفعل جاء يوم السبت وكان وداع أمي نهائيا كما حدثني إحساسي والقبلات التي خبرتني سرا بالوداع وللعجب استقبلت الخبر بصدر رحب ، سبحان الله فقد ودعتني أمي وقدمت لي دعوتها المعهودة ( ربنا يحبب فيك خلقه ياولدي ) رحمة واسعة لها ولكل الأمهات أصل الحياة والكون.

أيضا قال محمود مغربي عن والده : والدي (مغربي ) أول معلم لي ..سويا كنا نسبح وقال : تعلم السباحة .. لا تكن جبانا وترهب الماء في كل مكان وتعلمتها وأصبحت ماهرا بين أقراني .

علمني كيف أحترم الأرض والحقل والماء معا لأنهم مصدر الحياة وكنت فخورا وهو يكلفني أثناء غيابه بحرث الأرض بالمحراث القديم الفرعوني وأنا أغني خلف المحراث بالموال الشعبي أسمر سلامة وأجبر البقرات أن تنصاع لأمري ولا تستهين بصغير مثلي .

أبي يرحمه الله علمني كيف أصعد النخيل بلا رهبة وأجني التمر والرطب خصوصا وكنت فخورا وأنا بين أقراني من الصبية والبنات في الحقول خلف مدينتي أصعد النخيل وألقي في حجورهم الرطب وساعتها كنت أجبر رفاقي بمغادرة محيط النخلة التي أنا في أعلاها حتى إذا مارفعت البنت جلبابها لتتلقى الرطب في حجرها لا يرى سيقانها رفاقي لأن والدي دائما كان يقول لي : احترم وحافظ علي كل من حولك ولا تكن سببا في حزن أحد.

كان دائما يحترم رغبات الصبي الذي يسكنني في ذلك الوقت ، كان يعطيني النقود للذهاب للسينما لمشاهدة الأفلام وقتها لم تكن هناك قنوات وسماوات مفتوحة وانترنت و.. و.. و كان يعطيني القروش القليلة ثمن التذكرة ، هو الوحيد الذي يعلم بذهابنا وأقراني إلي السينما ، أقراني يكذبون على أهاليهم لأنهم يعتبرون السينما لهوا ولعبا وكان دائما يعطيني النقود لأشتري الكتب والمجلات من عند بائع الصحف وأنا في المرحلة الإعدادية وكان سعيدا بأول نواة لمكتبة في بيتنا وكنت وقتها قد بدأت بكتابة الخواطر الشعرية .

كان والدي يرحمه الله يحترم أصدقائي ويفرح بهم وكان البعض منهم يذهبون للحقول معي نساعده في أوقات حصاد القمح وغيره من المحاصيل حتى بعض ضيوفي من الأصدقاء من خارج المحافظة كانوا يسعدون بالمشاركة معنا في حصاد القمح لبعض الوقت وأستعيد الآن مشاهد رعايته لحقله وللقمح خصوصا كيف كان يخرج الحشائش الضارة ليكون الحقل خاليا من الطفيليات .. أكبسني مهارة كيف أكون صلبا في المهام الصعبة ، يقول : الحياة لا تحترم الضعفاء.

أكسبني أيضا كيف أكون بوجه بشوش مبتسم رغم كل الظروف لأن الابتسامة مفتاح للقلوب .. اكتسبت منه محبة الأطفال الصغار في الشاعر وجيران الحقول المجاورة ، كان يجلسهم علي حجره ويأكلون معه حتى ذلك الطفل المعوق الذي كانت تقفل الأبواب في وجهه من الجيران ، تعلمت منه كيف يحتوي الطفل ويغسل وجهه من جدول الماء ويجلسه بيننا أنا وإخوتي ليأكل معنا فطارنا الصباحي في الحقل ، كان الطفل بداخلي يرصد كل هذا بعمق شديد .

أبي بالفعل له الكثير والكثير ومدين له الكثير والكثير، رحمة واسعة لكل أب قدم الكثير للصغار والكبار.

هنا يتوصل القارىء إلى أسرار جماليات الشاعر محمود مغربي .. الجماليات الإنسانية والأخلاقية والأدبية لأن بناء الإنسان أصعب من بناء ناطحة سحاب .. ولذا عندما لاتلتصق مكارم الأخلاق بالأدب تصبح الكلمات كشجر بلا ثمر .

قال الشاعر محمود مغربي في قصيدته ( أبي ) :

أبي

ما عادَ يمسكُ غرَّةَ الفجرِ

أبي

فأسُهُ الهائجُ ما عادَ يرقصُ

تحتَ إبطه !

فقط ...

يلوكُ دمعةً ..

يدخلُ كونًا غائمًا !

أبي

تحتَ شمسِ الشتاءْ ،

ساعةً يتمتم للحفيدِ الصغيرِ :

هناكَ ..

هناكَ في الحقول البعيدةِ ..

هناكَ ..

تحت جذعِ نخلةٍ

ترقدُ أعوامي الخمسونَ مستيقظةْ ..

آهٍ ..

هل تسمعُ أنَّاتها

يا صغيري ؟

هل شممتَ الآنَ أعوادَ الحطبْ ..؟

للشاي طعمٌ

حين ينضج فوقَها ،

يا صغيري ..

كان خبزُ القمحِ حلوًا

كيفَ لا ..؟

وهو نبتُ سنبلةٍ

رافقتُها يومًا

فيومًا

شهرًا

فشهرًا

حتي جاء موعدُها /

الحصادْ !

يا صغيري ..

تُربتي مَجْلوَّةٌ ..

- كانت -

أنثي تُهَيّئُ نفسَها للبوحِ

دومًا

في الفصولِ الأربعةْ ..

وحدَها كانت ..

تشاطِرُنا الْعطاءْ ..

قمحًا في صوامعِنا

لبنًا في بطونِ صغارِنا

ثوبًا طويلاً يسترُ أبدان الصبايا ،

عرسًا سماويًا

لا يخاصِمُه الغناءْ !

ساعةْ أخرى ..

يقفزُ نَعشُ جارتِه

إلي عينيِه ..

ينأي ..

ساحبًا محراثَه

خفيضٌ صوتُهُ

يوصِدُ أبوابَه

ويمضِي !

أيضا من أشعار محمود مغربي أذكر قوله :

يا مَلك الحرفْ

وحدَكَ

تفتحُ بَوابة رُوحي

وحدكَ،

تَتسلّلُ كَسنابلِ قَمحٍ

تَتسكّعُ بدلالٍ تحت الشّمس !

لكَ وحدكَ

يَرتبكُ الحرفُ

يَتناثرُ عطراً وندى !

وحدائقَ بِكراً

لمْ يمْسسها طغاةٌ ،

أو قَتلة مأجورين!

وقال أيضا الشاعر محمود مغربي :

قالت :

أتوقُ لصوت الصباح

أتوق لرؤيةِ عصفورةٍ

تُشبهني

وحدي

وتفرُّ لي جنةً

في جنوب البلاد!

رحل محمود مغربي يوم الخميس 3 سبتمبر 2015 ولكن سيرته العطرة سوف تستمر معنا مابقيت الحياة .

بلغ سلاماتي أخي الحبيب محمود إلى الخال عبد الرحمن الأبنودي وأمل دنقل وعبد الرحيم منصور .. وياقبر يسكنك الآن من نحبه فكن رفيقا به ..

ليت كل من غرق في بحور النصب والكذب على الناس والأعمال الخسيسة يستفيق .. ليت كل من خانت زوجها وعاشت مع الملذات والغرائز الخسيسة تعود إلى رشدها .. لأن السيرة أطول من العمر ..

إبراهيم خليل إبراهيم

عضو نقابة الصحفيين واتحاد كتاب مصر والعرب

وسوم: 634