العلامة أحمد راتب النفاخ : ريحانة الشام
(1347 - 1412 هـ)
(1928 - 1992 م)
من العلماء المبرزين في علوم اللغة، والأدب، والقراءات، ومن أعضاء مجمع اللغة العربية بدمشق، ومن أعضاء المجمع العلمي في الهند .
المولد والنشأة :
ولد رحمه الله عام 1927م في أسرة كانت قد وفدت على دمشق من بعلبك في أوائل القرن الماضي، وعرفت بالصلاح والتقوى.
دراسته :
وبدأ التعلم في سنّ مبكرة، وكان المجلّي في دراسته الابتدائية والثانوية، فأحبه مدرسوه، وأشادوا به.
وقد مهر بالعربية، وبرّز في معرفتها تبريزاً أفرده بين لداته، وطالما فاخر به أستاذه محمد البزم، وأثنى عليه.
ولما التحق بقسم اللغة العربية في كلية الآداب (جامعة دمشق)، وجد المجال رحباً لتفتح مواهبه، والتفوق على أقرانه.
وشهد له أساتذته بالمقدرة والفضل، وأحلّوه المحلّ الأرفع، وتخرّج من كلية الآداب عام 1950م .
ونال من بعد شهادة أهلية التعليم الثانوي من كلية التربية عام 1951م.
وقضى سنتين يدرّس العربية في المدارس الثانوية بحوران.
واستقبلته كلية الآداب بجامعة دمشق معيداً (1953 - 1955م) لتوفده إلى جامعة القاهرة، فنال درجة الماجستير (عام 1958م)، وكان موضوع رسالته: دراسة حياة الشاعر ابن الدمينة وشعره وتحقيق ديوانه.
ثم اختار موضوعاً في القراءات لشهادة الدكتوراه.
وبعد أن أنجز القسم الأكبر من رسالته، وقدّمه إلى الأستاذ الدكتور شوقي ضيف المشرف على الرسالة بدا له أن يتوقف عن إنجاز ما بدأ، وزهد في الألقاب، وعزف عنها، وعاد إلى دمشق ليستأنف التدريس في الجامعة.
وتحدث الدكتور شوقي ضيف عن رسالة الأستاذ راتب في القراءات حديث المعجب، وذكر أن الجزء الذي قدّمه كاف لنيل درجة الدكتوراه، وطلب من أصدقائه يبلغوه ذلك، وأن يحثّوه على الحضور إلى القاهرة للمناقشة، ولما أبلغه ذلك الصديق الرسالة، فما زاد على أن تبسم.
أعماله :
وأمضى الأستاذ أحمد راتب النفاخ على منبر التدريس في جامعة دمشق بعد عودته من القاهرة سبعة عشر عاماً (1962 - 1979م)، وتخرّجت به أجيال من الطلاب ما زالت تذكر له ما بذل من جهد، وما قدّم من عون، ليبصّرهم، ويرشدهم ، ويدلّهم على أصول البحث، ويضع بين أيديهم مفاتيح المعرفة يتهدّون بها إلى فهم كلام الأقدمين.
واختار أعضاء مجمع اللغة العربية بدمشق الأستاذ أحمد راتب النفاخ عضواً عاملاً في المجمع عام 1976م، فكان هذا الاختيار تتويجاً للصلات الوطيدة بينه وبين المجمع. وشارك الأستاذ النفاخ في أعمال المجمع المشاركة الطيبة، وقام بجهد جاهد في لجانه، وكان له القدح المعلّى في أعمال لجنة الأصول ولجنة المجلة والمطبوعات.
وسعد المجمع من بعد بتسميته رئيس المقررين فيه (1979 - 1992م).
ومما يدلنا على إخلاصه وحبه للقرآن ولغته ما ذكره الدكتور / عبد الأمير الورد / :
أن الأستاذ العلامة السوري أحمد راتب النفاخ كان قد انتهى من تحقيق هذا الكتاب وكاد أن يدفع به للمطبعة، فلما علم بأن عبد الأمير الورد يقوم بتحقيقه لنيل الدكتوراه توقف عن ذلك، وكان ذلك عام 1974م أو قبلها.
يقول الورد في المقدمة بعد شكر من ساعده في بحثه: ( .. فإنني أجدني في حيرة كبيرة باحثاً عن اللفظ والتعبير اللذين يمكن لهما أن يفيا بمقدار ما أجده في نفسي، وينوء به لساني من شكر عميق، وتحية باذخة، وإقرار بالفضل عندما أذكر الأستاذ الجليل أحمد راتب النفاخ الذي كان قد انتهى منذ زمن غير يسير من تحقيق كتاب (معاني القرآن) هذا، وكاد أن يدفع به إلى الطبع لولا أن طرق سمعه الكريم أن ثمة من يدرسه ويحققه رسالة للدكتوراه، فجَهِدَ في الاتصال بي، وأعلمني أنه تفضل ابتداراً لا استجابة لالتماسي منه فصرف النظر عما اعتزم ليفسح لي مجال الاستمرار في عملي العلمي، وهذا لعمري خلق وفضل يعز نظيرهما، ولا يفك مدى العمر أسيرهما، فالحمد لله الذي دفع به وبسواه عني كثيراً من العناء). مقدمة تحقيق معاني القرآن - ص 7 ........
وأداه حبّه للعربية وحرصه على إظهار تراثها المكنون، محقّقاً، محرّراً، أن يشّق على نفسه حين يتصدى للتأليف أو التحقيق أو النقد، فهو يروّي في عمله ويتأنى في خطواته، لا يقبل أول خاطر يهجم عليه، بل يقلّب وجوه النظر، ويأخذ نفسه بالتثبت، ويتشوف إلى بلوغ الكمال.
لقد هيّأ ، وكتب الكثير، ولكنه لم ينشر إلا القليل القليل.
ولهذه الخصلة التي تملكنه كان يضيق ذرعاً بأولئك الذين يتعجلون في تحقيق التراث، ولا يوفّونه حقه من الجهد والتمحيص، ولا يرعون ما يجب في مثله من الدقة والأمانة، فيقعون في الغلط تلو الغلط، فكان يرى من واجبه أن ينهض للتصحيح والتقويم، ذياداً عن التراث، يقول: "ومن ثمّ رأيت من حق العلم عليّ، ومن الوفاء لهذا التراث، وللأئمة الذين أورثونا إياه، ألا أدع بيان ما وقفت عليه".
ولكنه كان رحمه الله يقسو أحياناً في النقد، مأخوذاً بغيرته على تراث الأجداد.
أول ما نشر كلمة في نقد رسالة الغفران التي ظهرت في مصر عام 1950م، وقد أرسل كلمته إلى مجلة الكتاب المصرية فنشرتها بعد أن تصرفت بها تصرفاً أفسدها.
فلما ظهرت الطبعة الثانية لرسالة الغفران عام 1957م علق عليها في مقال له في مجلة المجمع. ولكن رائده في كل ما صنع هو الوصول إلى وجه الصواب. يقول: " .... فأحببت أن أعرض وجهة نظري فيما توقفت [أي الدكتورة بنت الشاطئ] فيه، على العاملين في هذا المضمار ليدلي بوجهة نظره من عنّ له رأي فيه، عسى أن نصل إلى وجه الصواب في هذا كله ........ ".
ثم يختم تعليقاته بقوله: "هذا ما عنّ لي من خواطر حول الطبعة الجديدة من رسالة الغفران، وإني لأشكر من رأى فيما أبديت خطأ فردني إلى الصواب ..... ".
وأصدر الأستاذ راتب ديوان ابن الدمينة عام 1959م، وهو جزء من رسالة الماجستير فدل على تمكنه في باب التحقيق، وسعة اطلاعه على مصادر التراث، ومقدرته الفذة في البحث والتقصي والتهدي إلى حل المشكلات المعضلات.
وكتب مقالة جليلة في نقد الجزء الأول من طبعة المحتسب لابن جني، وعرض جملة ما استدركه حتى ختام الكلام في سورة البقرة، ثم رغب إلى القائمين بالكتاب أن يعيدوا معارضته بالأصل ثانية، وأن يستعينوا على استكمال تحقيقه بأصول أخرى.
ومن كتبه القيمة:
فهرس شواهد سيبويه (عام 1970م).
وقد نسق فيه شواهد القرآن فشواهد الحديث (وهي قليلة لا تتجاوز خمسة /ص57 - 58)، فشواهد الشعر (وقد بلغت 1047بيت، بإلغاء المكرر/ ص9). فقرب بفهرسه الممتع كتاب سيبويه إلى الناس، ودلّهم على مواضع كثيرة من مسائله، ومهّد لهم بتعليقاته الإفادة منه.
وأصدر كتاب القوافي للأخفش عام 1974م، إثر طبعة للكتاب لم تكن عنده بالمرضية. وكان هو قد هيأ الكتاب، وأعده للنشر، فنقد الكتاب المطبوع، وأظهر عثراته، ثم نشر كتابه محققاً محرراً. وإنك لتحس الجهد البالغ الذي بذله المحقق والعلم الغزير في تلك التعليقات التي شفت قارئها، ووضعت يده على مصادر المعرفة.
ووكل إليه مراجعة كتاب (شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف) لأبي أحمد العسكري، وقد قام بتحقيقه الدكتور السيد محمد يوسف، فأضاف الأستاذ النفاخ بتعليقاته فوائد جمة. ثم دعت الضرورة أن تزيد تعليقاته في الأبواب الأخيرة زيادة كبيرة طال بها الكتاب، مما دعا إلى جعله في قسمين: وقد صدر القسم الأول من الكتاب عام 1981م، ومما يؤسف له أن الأسباب لم تتهيأ لصدور القسم الثاني منه، ففاتنا بذلك علم غزير.
وللأستاذ مقالات شتى صحح بها جملة من كتب التراث المحققة وهي تمور بالفوائد النفيسة.
آثار الأستاذ أحمد راتب النفاخ
أولاً - الكتب
1 - النصوص الأدبية: (منهاج شهادة الثقافة العامة في كلية الآداب) بإشراف أحمد راتب النفاخ، مطبعة الجامعة السورية 1374هـ-1955م.
2- ديوان ابن الدمينة: صنعة ابي العباس ثعلب ومحمد بن حبيب، تح. أحمد راتب النفاخ، مكتبة دار العروبة - القاهرة 1378هـ-1959م.
3 - مختارات من الشعر الجاهلي: اختارها وعلق عليها أحمد راتب النفاخ، مكتبة دار الفتح- دمشق 1386هـ-1966م.
4 - فهرس شواهد سيبويه: صنعة أحمد راتب النفاخ، دار الإرشاد - دار الأمانة/ بيروت 1389هـ - 1970م.
5 - كتاب القوافي: لأبي الحسن الأخفش، تح. أحمد راتب النفاخ، دار الأمانة- بيروت 1394هـ - 1974م.
6 - شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف: لأبي أحمد العسكري ج1، تح. الدكتور السيد محمد يوسف مراجعة الأستاذ أحمد اتب النفاخ، مجمع اللغة العربية بدمشق 1401هـ - 1981م.
ثانياً – المقالات :
1 - رسالة الغفران: مجلة الكتاب المصرية، مج10، ج6 حزيران / يونيه 1951م.
2 - القصيدة الصورية: مجلة معهد المخطوطات العربية، مج2، ج1/ 1956م.
3 - رسالة الغفران: مجلة المجمع بدمشق، مج32، ج4/ 1957م، مج33، ج1/ 1958م.
4 - المحتسب: مجلة المجمع بدمشق، مج42، ج4/ 1967م، مج43، ج1، ج2/ 1968م.
5 - المعيار في أوزان الأشعار: مجلة معهد المخطوطات العربية مج15، ج1 - 2/ 1969م.
6 - نظرات في كتاب اللامات: مجلة العرب، س5، ج1/ 1970م.
7 - كتاب القوافي لأبي الحسن الأخفش: مجلة المجمع بدمشق، مج47، ج1/ 1972م.
8 - تعقيب على أرجوزة في العروض: مجلة المجمع بدمشق، مج47، ج4/ 1972م.
9 - كتاب إعراب القرآن المنسوب إلى الزجاج: مجلة المجمع بدمشق، مج48، ج4/ 1973م، مج 49، ج1/ 1974م.
10 - كلمة في حفل استقباله يتحدث فيها عن سلفه الشيخ محمد بهجة البيطار: مجلة المجمع بدمشق، مج53، ج1/ 1974م.
11 - حركة عين المضارع من (فَعَل): مجلة المجمع بدمشق، مج57، ج3/ 1982م.
12 - كتاب المحبة لله سبحانه: تح. الأستاذ عبد الكريم زهور مراجعة الأستاذ أحمد راتب النفاخ، مجلة المجمع بدمشق مج58، ج4/ 1983م، مج59، ج1، ج2، ج3/ 1984م.
13 - نظرات في نظرات: مجلة المجمع بدمشق، مج59، ج3/ 1984م، مج60، ج2، ج3/ 1985م.
14 - فقيد المجمع الأستاذ عبد الكريم زهور: مجلة المجمع بدمشق، مج60، ج3/ 1985م.
15 - استفتاء وجوابه: مجلة المجمع بدمشق، مج60، ج4/ 1985م.
16 - أشعار اللصوص وأخبارهم: التعليقات الأستاذان أحمد راتب النفاخ وشاكر الفحام، مجلة المجمع بدمشق، مج66، ج4/ 1991م.
حفل تأبين فقيد المجمع الأستاذ أحمد راتب النفاخ (1927 - 1992م ) :
أقام مجمع اللغة العربية بدمشق حفلاً تأبينياً بمناسبة انقضاء أربعين يوماً على وفاة عضو المجمع الفقيد الأستاذ أحمد راتب النفاخ رحمه الله، وذلك في تمام الساعة السادسة من مساء يوم الأربعاء السادس من شوال 1412هـ/ 8 نيسان 1992 في قاعة المحاضرات بمكتبة الأسد بدمشق.
وقد حضر الحفل ثلة من كبار العلماء والأدباء والمثقفين ومن محبي الأستاذ النفاخ وطلابه وذويه.
افتتح الحفل بتلاوة من آي الذكر الحكيم، ثم تلاها كلمة المجمع ألقاها الأستاذ الدكتور شاكر الفحام نائب رئيس المجمع، ثم كلمة الزملاء الجامعيين (جامعة دمشق) ألقاها الأستاذ الدكتور عادل العوّا، ثم كلمة أصدقاء الفقيد للأستاذ الدكتور عبد الكريم الأشتر، ثم كلمة طلاب الفقيد للدكتور محمد الدالي، وفي الختام كلمة آل الفقيد ألقاها الأستاذ نزار النفاخ شقيق الفقيد.
وننشر فيما يلي كلمات الحفل:
كلمة مجمع اللغة العربية التي ألقاها الدكتور شاكر الفحام :
شاءت إرادة الله العلي القدير أن يفارقنا الأخ الصديق الأستاذ أحمد راتب النفاخ إلى جوار ربه الكريم أوفر ما كان نشاطاً، وأكثر ما كان عطاء.
ما زلت أتمثل صورته في جلسات المجمع الأخيرة، وهو يناقش معنا بكل الجد والحيوية مشروع خطة جديدة ترسم وجوه نشاط المجمع في المستقبل، لتفسخ له أن يكون أقدر على تأدية أغراضه وتحقيق مقاصده في ميادين اللغة والأدب وإحياء التراث وإقرار المصطلح ووضع المعجمات، ولتتيح له المشاركة الواسعة في الحركة الثقافية بإلقاء المحاضرات وعقد الندوات وإقامة المؤتمرات وتوثيق الصلات بالمجامع والمؤسسات اللغوية والثقافية.
وكان أشدّ ما كان تفاؤلاً بما توفره الخطة المقترحة من افتتاح صفحة جديدة في العمل المجمعي المثمر.
وشهد معنا جلسة يوم الأربعاء في 12/ 2/1992م، واتعدنا على اللقاء صباح الأحد في لجنة المجلة والمطبوعات، ولكن القدر لم يمهله، لقد نهض صباح يوم الجمعة (11/ 8/1412هـ - 14/ 2/1992م) كعادته، فأدى صلاته أحسن أداء، ثم التلاوة، فقرأ ما شاء الله له أن يقرأ من سورة البقرة، ولكن الصوت المرتّل لم يلبث أن خفت وسكت، وهرع الأهل إلى الطبيب. وبذل الأطباء ما بذلوا فما أنجحوا، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، فأسلم الروح إلى بارئها، راضياً مرضيا. رحمه الله الرحمة الواسعة، وأسكنه فسيح جناته، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
لقد ترك بوفاته ثلمة لا تسدّ، وإن الخسارة بفقده جسيمة لا تعوّض.
فما كان قيسٌ هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدّما
كان رحمه الله جبلاً راسخاً من جبال العلم، قد جعل الكتاب خدينه وأنيسه، فلا تراه إلا قارئاً أو مقرئاً، "وقد أتقن كثيراً من العلوم التي عرفها السلف، أو استحدثها الخلف، وبذّ الأقران في فنون منها، انتهت إليه الرياسة فيها في عصرنا هذا في بلدنا هذا، كالقراءات والنحو والبلاغة والعروض واللغة فقهها وعلمها، وأصبح حجة فيها لا ينازعه منازع. هذا إلى أسلوب جزل متميز في الكتابة تفرّد به واشتهر".
وقد ألف طلابه وأصدقاؤه أن ينعتوه بلقب (علامة الشام) إيذاناً بما يكنّون له من الإجلال والتقدير.
عرفته في أواخر الخمسينات، وأنست بصحبته، وامتدت صداقتنا حتى قضى الله قضاءه، فعرفت فيه الصديق المخلص، الكريم الخلق، الطيب القلب، الصادق الوّد، يسارع في الخيرات، قد نصب نفسه لتلبية قاصديه، ومساعدة طلابه، فلا يبخل بعلم، ولا يضن ّ بعون، مهما يكلفه ذلك من مشقة وجهد.
وكنت كثيراً ما أستشيره وأسائله في قضايا لغوية ونحوية شمست واستعصت، فيلين أبيّها، ويستدني قاصيها، فأحسنّ. أنه البحر علماً ومعرفة.
من أبرز صفاته أنه كان معلماً، بالمعنى الرفيع للكلمة. فطر على القراءة والمطالعة، وأحب العربية وعلومها الحب الجمّ. وكان طلعة لا يريد أن يفوته شيء في الباب الذي ندب نفسه للقراءة والإقراء فيه، فأكبّ على الكتب المصادر التي أّلفها علماء العربية الأقدمون، وما زال يدارسها حتى كشفت له أسرارها، وتبيّن أصولها ومراميها. ثم ضمّ إلى ذلك مطالعة ما ألف في عصرنا من علوم اللغة المستحدثة ليستبين خطأها من صوابها، على هدي ما عرف من منطق العربية الصحيح. ولقد تعشق العربية وشغفه حبها، إنها له لسان وهوية وحياة، وقد عبّر عما يحسّه من ذلك بقوله: " آليت على نفسي ألا أعيش إلا لها، ولكتابها العربي المبين". ولقد وقف حياته حقاً لدرس العربية وتدريسها.
وكان شديد الحرص أن يذيع بين تلامذته وإخوانه ومريديه أطرافاً من عبقرية هذا اللسان العربي المبين ليحبّبه إليهم، فكان لا يكتفي بالمحاضرات التي يلقيها على منبر الجامعة، ولا بالحلقات التي تعقد في غرفته بالجامعة، بل كان يستقبل طلابه وزائريه في منزله المعمور دائماً، حيث كان يلتقي العالم قد جاء يستفتي في مشكل صادفه، والطالب قد أقبل يريد العون في موضوع تصدى لمعالجته، والأصدقاء الذين ألفوا مجلس الأستاذ يلتقطون الفوائد النفيسة.
وكان الأستاذ جمّ النشاط، يتدفق في حديثه لا يمّل ولا يتوقف، يحيط بجوانب المسألة المطروحة، ويعدّد الآراء والأقوال، ويحيل على المصادر ليقدم لسائله وسامعه ما ينير الطريق، ويهدي إلى سواء السبيل.
وكان يفد إلى مجلسه كبار العلماء الذين يزورون دمشق، يأتونه_ قاصدين، حباً في لقائه، وتطلعاً إلى فوائده.
كان شعاره الأول في حياته نشر العلم وبثه، وكان يرى في نهج علماء السف الصالح قدوة طيبة. ففتح بابه، وأقبل إليه الطلاب والمريدون والأصدقاء. وطالما تطلع إلى أن يكون مجلسه بأحاديثه، وما يتفرغ إليه من حوار، النواة الصالحة، والوسيلة الناجعة لتخريج طلاب يحملون عنه العلم، لينشروه في الملأ.
وكان من تمام إيمانه بنشر العلم وبثه أنه وضع مكتبته المترعة بنفائس الكتب، وصور المخطوطات بين أيدي طلابه وزائريه، يبحثون فيها عن طلباتهم، فإذا شاؤوا الاستعارة أعارهم من الكتب النادرة ما يريدون، خلّة نبيلة كريمة جبل عليها، ولم يعدل عن عادته تلك، على ما رزىء به من ضياع كثير من كتبه النفائس.
وحفلت كتبه بالتعليقات الثمينة القيّمة، فقد كان، رحمه الله، إذا لاح له، وهو يقرأ كتاباً، موضعٌ يحتاج إلى تعليق لإيضاح مبهم، أو إصلاح غلط، يسارع إلى إثباته في حاشية الكتاب. وكانت هذه الفوائد التي لا يقوى عليها إلا عالم ثبت متمكن كالأستاذ راتب، معروضة لكل واردٍ أحبّ أن ينتفع بها.
وكان رحمه الله يسارع أحياناً فيرسل بتلك التعليقات إلى محقق الكتاب، يضعها بين يديه، لأن غايته ومطلبه أن ينشر الكتاب محققاً صحيحاً بريئاً من الآفات.
وما أكثر ما كتب وصحح للآخرين، يبذل ذلك دون منّ، ولولا أن أشار عدة مؤلفين في كتبهم إلى ما قدّم لهم، وشكروا له جميل ما صنع من أجلهم، لما علمنا علم ذلك.
وإذا كانت مكتبة الأستاذ أحمد راتب تغصّ بالكتب النوادر والنفائس، فإن أغلى ما فيها وأنفسه تلك التعليقات التي حفلت بها حواشي كتبه. وطالما رجوت الصديق الكريم أن ينشر تلك التعليقات ليفيد منها الباحثون وطلاب العلم.
وكان رحمه الله على خلق كريم، وفياً لأصدقائه، محباً لإخوانه، وكان شديد التعلق بالمثل العليا، والقيم الخلقية، قد أخذ نفسه بها أخذاً شديداً. وكان صريحاً صلباً في الحق، م يعرف الهوادة، ولم يرض عن المصانعة.
وفي هذا وحده تفسيرٌ لمسلكه وصلاته بالناس. وكان هذا المسلك الصارم سبب تنكّبه حيناً بعد حين عن أصدقاء خيل إليه أنهم دون ما كان يأمله فيهم. وكانت هذه الصدمات تزيده تشبثاً بموقفه، وإصراراً على نهجه، وابتعاداً عن دنيا الناس وواقعهم، وزهداً فيما يرغبون فيه.
فقصر نفسه على عمله المجمعي، ووقف عليه كثيراً من جهده ووقته: كان رئيس لجنة الأصول، وكان عضواً في لجنة المجلة والمطبوعات، فكان ينفق الساعات الطوال في النظر في مقالات المجلة وتصحيح ما زاغ عن الصواب، فإذا ما انتهى من عمله المجمعي انقلب إلى منزله ليستأنف العمل والقراءة، ليستقبل الطلاب والمريدين والعلماء من أصدقائه. واكن يرى في ابنه الصغير عبد الله -سلمه الله- قرّة عينه، وأنسه الأنيس، يستروح به من أثقال الهموم التي يكابد. وهكذا قضى سنواته الأخيرة بين المجمع والمنزل، متزهداً مترفعاً، لا همّ له إلا القراءة والتعليم ومعونة أصدقائه وقاصديه في بحوثهم.
وبدا له أنه لم يحقق ما كان يصبو إليه. لقد دأب وعمل، وجهد وجاهد ليل نهار لتخريج جيل يضطلع بعبء درس العربية وتدريسها، قد وعى منطقها، واستبانت له أسرارها، وأوتي القدرة على نشر كنوزها الثمينة فلم يبلغ مأموله.
كان يحسّ أنه غريب في دنياه، فهو يحمل همومه، وتبهظه أحزانه، ولا يكاد يرى من يبوح له بها. لقد أفردته أخلاقه ومثله، وباعدت بينه وبين ما حوله. وكنت حين أراه، وأحسّ ما يعتلج في نفسه أردّد هامساً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طوبى للغرباء".
لم أجد في صفته أبلغ من قوله يصف صديقه الأستاذ عبد الكريم زهور وكأنما كان يصف نفسه: "كان -رحمة الله- لا يتعلق من الحياة إلا بمعانيها السامية، لا تزدهيه المناصب، ولا تغرّه الألقاب، ولا تستغرقه هموم نفسه. وإنما كان همّه الأكبر الذي ظلّ أبداً يعتلج في فكره وضميره، ويصرّفه في كل مازاول من عمل على حكمه همّ أمته ومطامحها ومستقبلها، يسدده في مساعيه فكر نير لا تعمى عليه معه السبل، وخلقٌ قويم يرتفع به فوق ما ينحطّ فيه ضعاف النفوس من سفاسف، وإلى ذلك عزمٌ صادق لا يلين أمام الصعاب. ولم تزده -أكرم الله مثواه- تجاربه وما قاسى من محن إلا مضاءً في عزمه، وتسامياً في فكره، واستبصاراً في طريقه، كالذهب الإبريز لا يزداد على امتحانه بالنار إلا خلوصاُ وتوهجاً.
كان الصدق في القول والعمل طبيعةً راسخة فيه. يتوخى الحق ويتبعه حيثما لاح له، ثم يثبت عليه لا يفتنه عنه هوى، ولا تنحرف به عنه رهبة، ولا تحمله على الترخّص فيه مصانعة ............ ".
وأداه حبّه للعربية وحرصه على إظهار تراثها المكنون، محقّقاً، محرّراً، أن يشّق على نفسه حين يتصدى للتأليف أو التحقيق أو النقد، فهو يروّي في عمله ويتأنى في خطواته، لا يقبل أول خاطر يهجم عليه، بل يقلّب وجوه النظر، ويأخذ نفسه بالتثبت، ويتشوف إلى بلوغ الكمال.
لقد هيّأ وكتب الكثير، ولكنه لم ينشر إلا القليل القليل.
ولهذه الخصلة التي تملكنه كان يضيق ذرعاً بأولئك الذين يتعجلون في تحقيق التراث، ولا يوفّونه حقه من الجهد والتمحيص، ولا يرعون ما يجب في مثله من الدقة والأمانة، فيقعون في الغلط تلو الغلط، فكان يرى من واجبه أن ينهض للتصحيح والتقويم، ذياداً عن عن التراث، يقول: "ومن ثمّ رأيت من حق العلم عليّ، ومن الوفاء لهذا التراث، وللأئمة الذين أورثونا إياه، ألا أدع بيان ما وقفت عليه".
ولكنه كان رحمه الله يقسو أحياناً في النقد، مأخوذاً بغيرته على تراث الأجداد.
أول ما نشر كلمة في نقد رسالة الغفران التي ظهرت في مصر عام 1950م، وقد أرسل كلمته إلى مجلة الكتاب المصرية فنشرتها بعد أن تصرفت بها تصرفاً أفسدها.
فلما ظهرت الطبعة الثانية لرسالة الغفران عام 1957م علق عليها في مقال له في مجلة المجمع. واكن رائده في كل ما صنع هو الوصول إلى وجه الصواب. يقول: " .... فأحببت أن أعرض وجهة نظري فيما توقفت [أي الدكتورة بنت الشاطئ] فيه، على العاملين في هذا المضمار ليدلي بوجهة نظره من عنّ له رأي فيه، عسى أن نصل إلى وجه الصواب في هذا كله ........ ". ثم يختم تعليقاته بقوله:"هذا ما عنّ لي من خواطر حول الطبعة الجديدة من رسالة الغفران، وإني لأشكر من رأى فيما أبديت خطأ فردني إلى الصواب ..... ".
وأصدر الأستاذ راتب ديوان ابن الدمينة عام 1959م، وهو جزء من رسالة الماجستير فدل على تمكنه في باب التحقيق، وسعة إطلاعه على مصادر التراث، ومقدرته الفذة في البحث والتقصي والتهدي إلى حل المشكلات المعضلات.
وكتب مقالة جليلة في نقد الجزء الأول من طبعة المحتسب لابن جني، وعرض جملة ما استدركه حتى ختام الكلام في سورة البقرة، ثم رغب إلى القائمين بالكتاب أن يعيدوا معارضته بالأصل ثانية، وأن يستعينوا على استكمال تحقيقه بأصول أخرى.
ومن كتبه القيمة: فهرس شواهد سيبويه (عام 1970م).
وقد نسق فيه شواهد القرآن فشواهد الحديث (وهي قليلة لا تتجاوز خمسة /ص57 - 58)، فشواهد الشعر (وقد بلغت 1047بيت، بإلغاء المكرر/ ص9). فقرب بفهرسه الممتع كتاب سيبويه إلى الناس، ودلّهم على مواضع كثيرة من مسائله، ومهّد لهم بتعليقاته الإفادة منه.
وأصدر كتاب القوافي للأخفش عام 1974م، إثر طبعة للكتاب لم تكن عنده بالمرضية. وكان هو قد هيأ الكتاب وأعده للنشر، فنقد الكتاب المطبوع، وأظهر عثراته، ثم نشر كتابه محققاً محرراً. وإنك لتحس الجهد البالغ الذي بذله المحقق والعلم الغزير في تلك التعليقات التي شفت قارئها، ووضعت يده على مصادر المعرفة.
ووكل إليه مراجعة كتاب (شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف) لأبي أحمد العسكري وقد قام بتحقيقه الدكتور السيد محمد يوسف، فأضاف الأستاذ النفاخ بتعليقاته فوائد جمة. ثم دعت الضرورة أن تزيد تعليقاته في الأبواب الأخيرة زيادة كبيرة طال بها الكتاب، مما دعا إلى جعله في قسمين: وقد صدر القسم الأول من الكتاب عام 1981م، ومما يؤسف له أن الأسباب لم تتهيأ لصدور القسم الثاني منه، ففاتنا بذلك علم غزير.
وللأستاذ مقالات شتى صحح بها جملة من كتب التراث المحققة وهي تمور بالفوائد النفيسة.
كلمة الزملاء الجامعيين - الدكتور عادل العوا
في الومضة الأولى من فجر استقلالنا السياسي الراهن، ومنذ جلاء كرب الغزو الأجنبي بالجلاء، أنشأت الجامعة السورية المعهد العالي للمعلمين بجناحين هما كليتا الآداب والعلوم.
وقد جمعتني منذ السنة الأولى من تاريخ هذا الحدث العظيم قاعة تدريس عرفت فيها الفقيد الغالي المرحوم الأستاذ (راتب)، طالباً متميزاً بأفكاره، وسلوكه، وشخصيته، ومزاجه. وقد بان ولعه، بل شغفه باللغة العربية أجلى بيان حين كاد يعزف عن النطق بلغة أجنبية، وكأن لغة الإنسان الحق هي اللغة القرآنية، لغة الصدق واللسان المبين.
وقد حرص أعضاء الهيئة التدريسية في المعهد المذكور، وفي كلية الآداب، على رعاية الطالب (راتب) رعاية محبة وإعجاب، وما لبثت الجامعة أن احتضنته مدّرساً واعداً للغة العربية وعلومها، وأوفدته لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة القاهرة، فأصاب نجاحاً موفوراً في الأولى، واعترض سبيله شيء ما حال دون بلوغه المرام في نيل الدرجة الأخيرة. وهذا الشيء القاهر العنيد لم يكن في الحق أمراً طارئاً جديداً، ولا أمراً خارجياً غريباً، بل كان ذاتياً حميداً. وهل سمعتم بعائق نفسي يقف عثرة في درب نجاح صاحبه فيغدو دافعاً ورادعاً معاً؟
أجل، إنني أشير هنا إلى خصلة جلّى، خصلة واحدة ذات دلالة إيضاحية شاملة، ألا وهي مطلب الاتقان الذي تحلى به عزيزنا (راتب) الطالب الموفد، وزميلنا الأستاذ في الجامعة، والفقيد الغالي لمجمع الخالدين. إنه إتقانٌ مبتغى في كل ما ابتغى هو ذاته من شؤون الحياة.
اختار المرحوم القراءات القرآنية موضوعاً لدراسته لنيل درجة الدكتوراه في الآداب. وعمل من أجل ذلك وأجاد. وإنما إجادته تلك هي الإتقان الذي أعاقه بعض نقص ٍ في المصادر، على نحو ما سمعت منه غير مرة، فكان أن أحجم من ذاته، وبذاته، عن طماح اللقب، ولم يستجب لالحاح معلميه في القاهرة، وهم ما برحوا سنين كثيرة ً، ومرات متعاقبة، يدعونه للحضور إليهم، مجرد الحضور، لمناقشة ما كتب، والاستمتاع باللقب، ولكنه أبى، وأصرّ على موقفه حرصاً مخلصاً منه على تلبية حافز الإتقان. وهذا الحافز هو الذي عرفناه في حياة زميلنا الجامعي الأستاذ (راتب) طوال سني تدريسه في كلية الآداب.
أنفق الفقيد في هذه الكلية ما وسعه الجهد والإخلاص في تدريس علوم اللغة العربية، وفي نشر نصوص مختارة من تراثها المجيد. ومثلاً من كتاب "الكامل" أو من كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف".
وقد نقّب في كل مرة عن الصواب التائه بين علماء الكوفة والبصرة.
وحكى رأيه مؤيداً بالدليل. والدليل معيار. وهذا المعيار عنده هو تواتر الرواية عن إنسان عربي صريح من صميم العرب.
فكلام هذا الإنسان العربي الصريح هو إذن كلام صحيح، وحجة دامغة، وبرهان قاطع. ومثل هذا التدقيق البصير يطالعنا به الاستاذ (راتب) في سائر أعماله العلمية، ومختلف إسهاماته، ومثلاً عندما نشر كتاب "القوافي" للأخفش، و"فهرس كتاب سيبويه" .........
ومن العرفان بالحق أن نلمع هنا إلى نضاله الحميد في فترة عمله الجامعي. ذلك أن طريقه لم تكن آنذاك مفروشة بالورد والرياحين. بل كان تدريسه جهاداً ضد الجهل والمروق. وكان الدافع إلى هذا العناء حبّه، بل هيامه، بالإتقان. فما برح ينافح في سبيل نصرة اللغة العربية وحمايتها، وصونها وإعلاء شأنها بإحيائها والذود عن سلامتها وصحتها، مؤمناً صادقاً صريحاً، مغرقاً في صراحته، غير هيّاب، وقد أخذ عليه بعض صحبه جرأته في الافصاح عما يرى.
ولكن ذلك لم يكن ليوهن عزيمته، لإيمانه بالدفاع عن أمته وقومه، وشعوره بتقاعس فريق من المعنيين الجامعيين في صفوف الزملاء والطلاب عن هذه الرسالة. فخاض معركة حقيقية ظلّ فيها البطل الصامد المؤمن بواجب الإخلاص والإتقان. بمثل ما أوجب هو على نفسه.
وهلاّ نرى في جامعتنا اليوم من يتقن مثل (راتب) العربية ويمارسها لغة علم وعمل، حتى في حياته اليومية، سواء بسواء؟ وهذا الإتقان في العلم والبحث العلمي يواكبه، ويلازمه، إتقان عشرة وسلوك.
ولم يكن الأستاذ (راتب) "يضنّ بعلمه، ولا يبخل بعونه، ولا يتمسك بكتبه، وهي كثيرة غزيرة، وبعضها نادر أو مفقود، يبذل هذا وذاك خدمة للعلم، وبثاً للحكمة ولعل كتبه التي في خزانته، على كثرتها، أقلّ من كتبه التي استعارها رفاقه وأصدقاؤه منه".
زد على ذلك أن المرحوم (راتب) كان قبلة القاصدين، من العلماء والطالبين، يجتذبهم للقائه نشدان الحكم السليم، والرأي السديد، والبصر النافذ الناقد، وكأنه يتمّ في داره تعليمه الجامعي وغير الجامعي، جواداً، كريماً، محتسباً، مجيباً كل طامح في تعمق العربية وأسرارها، وكل راغب في جني ثمارها والفوز بكنوزها ولآلئها. وهو يقوم بذلك بنفس العارف السمح السعيد المسهم في دفع الجهل، والمجالد المنافخ في حرب التزييف والرياء والتخليط. لقد تحدثت قليلاً عن صعاب دربه الجامعي، بل عن بعض تلك الصعاب، وفيها من صنع الأغبياء أو الحاسدين القدر الكبير. وما هي إلا لحظة حانت فيها فقيدنا الغالي من دنيا التعليم الجامعي إلى عالم البحث المجمعي.
ولئن كانت خسارة لا تعوّض من ناحية، فقد قابلها، لحسن الحظ، نفع جسيم من ناحية أخرى. ولكن مآثر الأستاذ (النفاخ) التعليمية ظلت هي الأفضل والأبقى. إنها، بلا ريب، المآثر الحية النامية باطراد في نفوس طلابه ومريديه، والباقية في أعمالهم المشهودة إلى اليوم، وهم مئون. جاء في الحديث النبوي: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه".
وقد عاش فقيدنا الأستاذ (راتب) دلالة هذا الحديث في دقائق حياته جميعها. وقد قيل في إحدى الفلسفات المعاصرة: إن الحياة مشروع وجود ناقص لا يتمّ إلا بالموت. فالموت ينفي العبث، ويحدّد معنى الحياة. وبالموت تتضح رسالة كل من عاش، إذ ينجلي شأوها بانقضائها المحتوم.
ولنا أن نفطن إلى أن الحياة التي تمامها الموت هي حياة الجسد. ويكون الموت نهايتها. والنهاية تمامٌ يباين الكمال. إن تمام الأمر انغلاق. وذاكم هو الموت بالجسد. أما الكمال فإنه قيمة بقاء، لا فناء.
وقد تميز المرحوم الأستاذ (راتب) في حياته الدنيا بمطلب الإتقان نشدانا للكمال.
ولئن عنا جسداً محققاً ما استطاع من إتقان، فإن له حياة ً باقية هي الأكمل، لأنها خالدة بإسهامه المحمود في خدمة اللغة العربية، وببنائه نفوساً وفيّة تحمل رسالته باتصال ونماء، وليت حبّ العربية، والعمل في سبيل رفعتها، وتطويرها، وإغنائها، داءٌ تمتد عدواه إلى كل ناطق بالضاد.
رحمك المولى يا (أبا عبد الله). فقد صدقت، وأجدت، وأتقنت، فخلدت.
وإنّا بفراقك لمحزونون.
حزنٌ كطول الدهر، باق ٍ، إذا مضت أوائله، عادت إلينا أواخره .......
كلمة أصدقاء الفقيد الدكتور عبد الكريم الأشتر :
أيها السادة!
لو جاز أن نمثل لبعض الناس بالكتاب، لكان صديقي الأستاذ أحمد راتب النفاخ يكون واحدة من المخطوطات النادرة التي جار عليها الزمان، فوقعت فيها خروم، وانطمست كلمات، وانقصفت أوراق، ولكنها ظلت حية تحتفظ بقيمتها، وتنفرد بحقائقها، فما نجده فيها قد لا نجده في كتاب آخر.
تكوينه تكوين أصحاب العواطف المستبدة من المثاليين الذين يقفون دائماً في نهايات الخطوط. مملكتهم ليست في هذا العالم.
يسبحون أبداً ضد التيار.
يسخطهم الواقع القائم ويأنسون فيه بالضعفاء والمقهورين.
وربما انسحب ذلك على موقفهم من التاريخ ودوله وأحداثه.
فقد كان الأستاذ النفاخ يقف في صف المغلوبين فيه.
ولعلهم لو انتصروا فارقهم، ووجد سبباً للوقوف في صف معارضيهم.
كانت البطولة تستشيره، فإذا اغتليت أو أكرهت بدت له أشدّ استثاره.
من هنا يبلغ عطفه على الفقراء والبائسين وأصحاب الحاجات حداً يغفل فيه، كما يفعل المثاليون غالياً، عن حقائق الواقع.
فإذا انكشفت لهم ازدادوا إحساساً بالخيبة وبغرابة الواقع من حولهم.
خرجت في صحبته يوماً من باب الجامعة الكبير في البرامكة.
واجتزنا الشارع إلى الرصيف المقابل.
فلم ألحظ صبياً مستلقياً عليه، يسأل الناس، وقد مدّ رجلاً تكسوها بقع الدم.
كانت مظاهر الحياة المتجددة، في مقدم الربيع، تجتذب حواس الناس إليها.
ولكن الأستاذ النفاخ لم يشغله عن الصبي، بلهجة منكسرة ذاب لها قلبه، الفقر والعجز عن دخول المشفى، فما أسرع ما ضرب بيده إلى جيبه فأعطاه.
ثم لم يكتف، فاستوقف سيارة أوصى سائقها بحمل الصبي إلى المشفى، ودفع له أجره. كنت أتتبع المشهد وأنا مبهور.
وفي نفسي إحساس عميق بالخديعة والكذب، يخالطه إعجاب بالغ بصفاء النية ونبل المشاركة وسطوع النزعة الإنسانية.
في اليوم التالي خرجنا من باب الجامعة، فرأينا الصبي نفسه مستلقياً على الرصيف، يسأل الناس، وقد مد أمامه رجله التي يكسوها الدم الكذب! كنت أنظر في وجه الأستاذ راتب ، وهو ينظر في الصبي.
فرأيته يلوي وجهه عنه كأنه لا يريد أن يراه.
كان يحاول أن يداري إحساسه بعجزه عن تقبل هذا العالم المخادع من حوله.
لعله بمثل هذا الإحساس كان يواجه دائماً خيبته في الحياة والناس، وهو يحاول عبثاً أن يشد المثال على خشبة الواقع.
ولهذا كان يكثر كلامه في تقويم الناس، ويغلو فيه أحياناً غلوّ من يريد أن يستنفد قوة الإحساس بالفجيعة.
ولهذا أيضاً كان يغلو في الرضا أحياناً غلوّ من يرجو أن يأمنها في نفسه، فما يزيد في آخر الأمر عن أن يهيئ لنفسه خيبة جديدة.
ويظن الذين لا يعرفونه، كما كنا نظن قبل أن نعرفه، ونحن طلاب في الجامعة، أنه خشن الملمس، جافي الطباع، ليس في حياته موضع للإحساس بجمال التواصل الإنساني، على إطلاق معانيه.
فإذا اقتربوا منه وعرفوه وجدوه لا يؤرقه شيء كما يؤرقه الحب، بمعناه العميق الشامل، ووجدوه ندياً رقراقاً يحسن فهم هذه العاطفة النبيلة، ويستجيب لها أعمق الاستجابة. وقد قضيت إلى جانبه زمناً لا أكتشف، في هذا الجانب من حياته، معنى محدداً، وإن كنت أستذكر اليوم مظاهر كثيرة من رقة الشعور وحرارة الروح، إلى أن كان يوم جاوزنا فيه منتصف الليل ونحن نمشي في أطراف دمشق، قريباً من كيوان، حتى كللنا.
كنا في الصيف، وكانت الليلة مقمرة.
فاسترحنا إلى جوار شجرة ضخمة من شجر الصفصاف، يجري قريباً منها نهر يزيد.
فما أدري كيف تصرف بنا الحديث، فجاشت به نفسه جيشاناً شديداً، هيأ له، فيما يبدو، ما كان يفيض في الجو، من حولنا، من رقة الطبيعة وحدة إغرائها بالبوح والاستسلام.
رأيته فجأة يضطرب كورق الصفصاف، ويبدأ فيحدثني عنها، وكنت أعرفها، ويصفها كما كان يراها.
كان قريباً من أهلها.
ولكن ذنبها أنها لم تكن تفكر فيه على النحو الذي كان يظن.
فقد انغلق عليها القلب إذن، وظلت ذكراها تنزف فيه، كما قال يومها.
وتعيّن عليه أن يواجه، في هذا الوقت المبكر، كبرى خيباته وأثبتها في النفس.
ثم إنه لما تهيأ له، من بعد، أن يكتب رسالة الماجستير، اختار ابن الدمينة، الشاعر الوجداني الرقيق، موضوعاً لها! ثم طال الزمان بعدها على الناسك المتبتل الذي يحتضن القرآن، فتعرض لمحنة قاسية، لعلها أدلّ محنه على اندحار مثاله في مواجهة الواقع، وعلى عجزه، وهو في ارتفاعه عنه، عن فهم حقائق النفوس المتردية. فهذا الذي كان يجعل منه هدفاً سهلاً للطامعين فيه.
كانت أبواب بيته مفتوحة لكل طارق، حتى كان ربما سلّم بعضهم مفاتيحها ليدخلوه إذا غاب عنه. رغبة مستبدة لا تنكسر في تحدي الواقع والانتصار عليه! لقد كان، من الجانب الحي، أقرب من عرفت من الناس، إلى المثال الذي صوروه لأنفسهم. فما خسره في الناس إذن ربحه في نفسه، باستثناء ما كانت حرارة التكوين تغري به أحياناً، من حدة الخصومة أو الإمعان في النقد. ولهذا نراه
يكثر محبوه ويكثر ناقدوه معاً. ولهذا أيضاً يخلص محبوه في محبتهم إياه إخلاصاً قلّ نظيره في المحبين. لقد كان هو نفسه المثل الحي في الصدق والإخلاص والوفاء لمن يحب. ولو شئت أن أستذكر بعض صورها في حياتي وحياة من أحبهم وأحبوه لما انتهيت. وكلت إليه يوماً، وكنت مقبلاً على سفر، أن يتفقد أهلي في غيبتي. فما تخلف عنهم يوماً. يسير إليهم في بيتهم، فيطرق الباب ويدير إليه ظهره، ويسألهم عن حاجاتهم. ويكل إليه آخرون الإشراف على طبع بعض كتبهم والنظر فيها، فينظر فيها، ويصحح ما يستدعي التصحيح، ويتمم نقصها، ويضيف إليها الحواشي والتعليقات. ويقصده الطلبة في بيته، فيجلس إليهم ساعات يرشدهم ويحقق لهم بعض النصوص، أو يعيد قراءتها معهم، لا يضجر ولا يملّ ولا يشكو. وقد قارب بيته، من هذه الناحية، أن يكون مدرسة صغيرة لطلاب العلم، وقارب أن يكون له، في بعض الرسائل الجامعية، من أصالة الرأي، مثل ما لأصحابها فيها، أو أكثر كثيراً في بعض الأحيان! * * * والآن، ما الذي يبقى من الأستاذ النفاخ لنا وللأجيال المقبلة؟ يبقى منه النموذج الإنساني الساطع الذي وفق بين قوله وفعله، وحقق في نفسه مثله: أعرض عن مغريات الدنيا وارتفع عنها: لم يخلبه المال فعاش في بيت بسيط جداً، في حدود الكفاية التي تصون ماء الوجه. لم يخلف لأهله إلا هذا البيت الذي كان أبوه خلف له ثمنه، وإلا الكتب التي صحبها ونذر حياتها لها. لم يسع إلى منصب ولم تفتنه المظاهر. ولم يقف بباب أحد. وربما جاءه أصحاب الحاجات فقضاها لهم ونسي حاجة نفسه وأهله! أنفة أكاد لا أعرف لها مثيلاً في من عرفت من الناس، وترفع عن كل ما يطمع الناس فيه. ولعل عزوفه عن السعي في مناقشة رسالة الدكتوراه، بعد أن تأخر فيها (لغلبة نزوعه إلى التحرز والتدقيق) وبلغ من كتابتها حداً فاق ظن مناقشيه، يقع في هذا الجانب من تكوينه. فقد أنف، بعد أن تأخر فيها، من أن يقف مع فلان وفلان، ممن هم في سن طلبته، أو في مستواهم أحياناً، في مواقف واحد! وقد أربكه ذلك في عمله من بعد. ولكنه، على نحو ما، كان يستشعر فيه نشوة الانتصار على النفس! ويبقى من الأستاذ النفاخ، لنا وللأجيال المقبلة، مثل شاخص في الانقطاع إلى العلم وإتقانه يبلغان حد لتصوف. وقد كنت أقف إلى مكتبته أحياناً وأقلب بعض كتبها، فتطل عليّ من حواشيها التعليقات والتصحيحات والإحالات، يكتبها بخطه الدقيق، ويشير إلى مواضعها، في المتون، من فوق السطور، على طريقة السلف. كان يجد عزاءه في القراءة. وكان ربما استوفى قراءة الكتاب في الساعات. وكان من أقدر الناس على قوة التمثل والوقوف على مفاصل الكلام، كما كان يسميها (يعني محاورها الفكرية). وكان يبلغ من العمق، في تحليل الكتب أحياناً، ما يصلح، لو كتب، أن يكون درساً يقرأ. ويبقى من الأستاذ النفاخ، لنا وللأجيال المقبلة، كتب وفهارس ثمينة ومقالات ومختارات ونقول ورسائل وشروح وتعليقات، إضافة إلى ما لم يطبع منها، وفيها أثره الكبير في القراءات. وهي، في جملتها، ثروة أدبية ولغوية تبلغ الغاية في الإتقان. ولو كان انصرف إلى تنميتها عن كل ما شغله من أمور الدنيا والناس، مع التخفف من المبالغة في التحرز والتدقيق والتجويد، لبلغت، على يده، أضعاف ما خلف منها. على أنها، لو جمعت ونسقت موادها ونشرت، لخففت قليلاً من فداحة الخسارة فيه.
* * *
وبعد فقد لا يحق لنا، في هذه المرحلة الحزينة من حياة الوطن وواقع قضيته الكبرى، أن نبكي أفراد الناس. ولكن "الشجا يبعث الشجا"، والألم موصول بعضه ببعض. والأوطان، في نهاية الأمر، تكبر بأفذاذها. ومن حقهم عليها أن تكرمهم وترفع من ذكرهم. وهي، إذ تفعل، تكرم نفسها، وترفع من ذكرها.
لقد كان الأستاذ النفاخ واحداً من علماء العربية الكبار، يكاد يكون لا مثيل له في أوطان العربية الممتدة إلى حيث يقرأ القرآن ويؤذن للصلاة.
ولئن ضاقت به جدران الجامعة يوماً، إنها قد تضيق بمثله في هذا الوطن الكريم الذي نرجو أن يبلغ يوماً من مرتبة الإنصاف ما بلغنا نحن من مرتبة الحب.
أنت تعرف أيها الصديق، وقد مضيت اليوم إلى المجهول الكبير، وتخطيت تخوم هذا العالم الذي عشت حياتك تضيق به، أنّ ما أقوله فيك لا تمليه المحبة وحدها، ولكن يمليه معها الإخلاص للحق الذي أخلصت له حياتك.
وربما أملته معهما الحسرة: فمن أين يجود الزمان بمثل هذه الصداقات المبنية على معانيها في الصدق والإخلاص، وعلى حلاوة المؤانسة التي ترتفع عن كل غرض، وعلى غنى المعرفة التي تجمّل العقل! من أين يتأتى للمرء، في هذا العالم المتحجر، أن ينعم بصحبة مثل هذه العقول المتفتحة والقلوب الغنية والأرواح الحارة! رحمك الله قدر ما علمت وعلّمت! رحمك الله قدر ما أحببت! رحمك الله قدر ما عانيت! لم يقدّر لك أن تعرف السكينة بيننا، فلعلك تعرفها بعيداً عنا. على أن مثلك لا يموت ولو انتزعه الموت من القلوب. أشكركم
كلمة طلاب الفقيد فقيد العلم العلامة أحمد راتب النفاخ الدكتور محمد الدالي
بسم الله الرحمن الرحيم
{إن اّلذين قالوا ربنّا الله ثمّ استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألاّ تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنّة التى كنتم توعدون. نحن أوليآؤكم فى الحياة الدّنيا وفى الا خرة ولكم فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون. نزلاً من غفور ٍ رحيم ٍ. ومن أحسن قولاً ممّن دعآ إلى الله وعمل صالحا وقال إنّنى من المسلمين. ولا تستوى الحسنة ولا السّيّئة ادفع بالّتى هى أحسن فإذا اّلذى بينك وبينه عداوةٌ كأنّه وليٌّ حميم. وما يلقّاها إلاّ الذين صبروا وما يلقّاهآ إلاّ ذو حظّ عظيم ٍ} [سورة فصلت: 30 - 35].
والحمد لله الذي استأثر بالبقاء وكتب على عباده الفناء، فـ {كلّ نفس ٍ ذائقة الموت} [سورة آل عمران: 185] و {كلّ شيءٍ هالكٌ إلاّ جهه له الحكم وإليه ترجعون} [سورة القصص: 88] {ولله ميراث السّماوات والأرض} [سورة آل عمران: 180]. .............
وهي بعد يا أستاذ كليمة سئلتها، أقولها بلسان من علّمته - وهم أجيال لا يحصون- وبلسان من اختص بك من طلابك، وهم فئة غير قليلة. وأنت تراني كلما كتبت حرفاً محوته، وكلما خطرت خاطرة أردت تقييدها تأبّت ومضت، وكلما عنّ معنى حاولت الإبانة عنه تفتحت معان وصور ما من سبيل إلى حصرها والعبارة عنها. ومثلي فيما أنا فيه وله يحتاج منك العطف والرضا لا الإعراض، وإن كنت غير راض عن كل هذا زاهداً فيه راغباً عنه. فانظر إليّ نظرة أقوى بها، فأنت وأنا بل كنتَ وكنتُ أباً وولداً. وهي كليمة في موضعها، لا تعدوه، ولا ترتفع عنه، ولا تخرج عما أريد منها، لا بد منها، وإن كانت لا تبلغ مما في نفسي شيئاً، وأنّى لها بذلك؟! لو كان الأستاذ لنا واحداً أي واحد ممن درسنا، وكنت أو كنا له طلاباً أي طلاب ممن درسهم لسهل علي العسير ولان العصيّ فقلت فيما سئلت. وما كان الأستاذ مدرساً أيّ مدرس تتلقى عليه مادته التي يحاضر فيها، وما كنت وبعض من معي ومن تقدّمني طلاباً له أي طلاب درسهم سنيات حفظوا له فيها صورة عمودها عندهم واحد، وتختلف في أشياء بين طالب وآخر باختلاف نفوسهم وعقولهم. فالأستاذ رجل من عباد الله المؤمنين الصالحين الصادقين الذين شروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله، ظاهره خير كباطنه، كريم، مضياف، مفضال، أريحي طيب النفس، وفيّ، عازف عن الدنيا وزخرفها، منقطع للعبادة والعلم، راغب عن الشهرة ساعية إليه، كان أمة ورجل أمة. وهو بعد بقية السلف والحبر البحر ريحانة الشام وخزانة علمها، لم ير الراؤون في هذا العصر مثله، حقاً لا يجحدونه. خلق ليكون ما كان، وترفّع عما عفّرت فيه وجوه، ونزّه نفسه عما خاضوا فيه، وتواضع لله فرفعه. فيه عزة المعتز بالله، وقوة المستعين به، ذو خلق وخلاق، جبل على الوفاء والإخلاص والرحمة بالناس وحب الخير لهم. وكان شديداً في الحق، للقسوة واللين مواضع يضعهما فيها، صريح صراحة، يجهر بقوله، لا يجامل ولا يورّي، يسمي الأشياء بأسمائها. الإحسان عادته، والتواضع سجيته، والحياء حليته، والخير فطرته، والتقوى جبلته. وفي الصدر مني معه حديث سبعة عشر عاماً لازمته فيها، والحديث ذو شجون، منه ما يدون ومنه ما لا يدون. ولو تكلفت تدوين ما عرفته خلالها من أحواله وصلته بمن اتصل به بسبب، وآرائه فيمن حوله وفيما حوله، وتبحره في فنون من العلم هو آية فيها- ومنها العربية واللغة والعروض والأدب وعلوم القرآن- ونظراته فيها، وشؤون غيرها، لو تكلفت ذلك لم أفرغ منه على وجه مرضي في سنين ذات عدد، ولأتى ذلك في مجلدات ولبقي في النفس أشياء، ولم يحط لفظي بنعته. فماذا أقول في كليمتي التي سئلت ولّما يزل الأستاذ أمام ناظري، وأجالسه، ويكون حديث، فما بيننا لا يقدر رحيله عنا- وهو بنيان قوم تهدم- أن يذهب به.
عرفته حين درست اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة دمشق سنة 1974م.
وكان في قسم اللغة العربية إذ ذاك أساتذة كبار علت منزلهم في علومهم.
وكان الأستاذ عينهم وزينتهم وعلامة العربية في بلاد الشام، وهو من مفاخرها ومحاسنها، وكان جبلاً في العلم لا نظير له في علومه، وكان وحيد أوانه ونسيج وحده، وكان أشهر من نار على علم. تولى الأستاذ في السنة الأولى تدريسنا مادتي علم العروض والمكتبة العربية والأدب القديم. وكان يلتزم في حديثه العربية المبينة، وكان حريصاً على نشر العلم، متواضعاً تواضع العلماء الأئمة، قدوة لطلابه في علمه وخلقه وسلوكه. ظهر لنا خلال محاضراته علم غزير ورواية واسعة وذهن وقاد وحافظة واعية. ورأى غير واحد منا أن الأستاذ من أولئك الأئمة الأثبات الأعلام المتقدمين في المائة الرابعة أو دونها تأخّر به زمانه فعاش بيننا، وعلّمنا ما لم يعلّمنا أحد.
ودرّسنا في السنة الثانية نصوصاً من كتاب الكامل لأبي العباس المبرد. ولم يكن في محاضراته فيه دون صاحبه المبرد علماً باللغة والعربية والأخبار وغيرها، بل إنه استدرك عليه في مواضع من كتابه.
ولم تكن مادة النصوص عنده غاية في ذاتها بل كانت وسيلة إلى بيان أصول النظر في كلام المتقدمين وأمهات مصادر التراث العربي الإسلامي.
ثم لّما تولى تدريسنا مادة علوم اللغة العربية في السنة الثالثة في كتاب مغني اللبيب لابن هشام الأنصاري عرفنا أنه فارس هذا الميدان غير مدافع.
وقد شرح مسائل من كتاب المغني شرحاً لم يقاربه أحد ممن شرحه ممن نعرف.
وما كانت مادة المغني وحدها هي ما عني به الأستاذ، بل كان أغنى ببيان منهج فهم كلام المتقدمين والقراءة الناقدة البصيرة بكلامهم، وعدم الاطمئنان إلى النظرة العجلى فيه ولا إلى الرأي الذي يبدو لك من قراءته أول مرة. ووجد المجال أرحب ليقول شيئاً مما في صدره من العلوم يوم تولى تدريسنا الموضوع اللغوي من موضوعات دبلوم الدراسات العليا اللغوية، وهو من كبار أعلام الدراسات العربية الإسلامية اللغوية والأدبية. فشرح لنا أبواباً من الخصائص لابن جني، وأملى علينا أشياء مما انتهى إليه ي القراءات القرآنية. وبسط خلال ذلك أصولاً من أصول علم العربية وعلم القراءات. وهو كلّ حين على ذكر من كلام الأئمة المتقدمين في مسألة ، يملي كلامهم بلفظهم أو يكاد. وبسط لنا أصول تحقيق نصوص التراث العربي الإسلامي، وهو في هذا الباب لا نظير له في علمه وخلقه ومنهجه، كان غاية فيه. كانت الجامعة مكاناً تتلقى فيه المحاضرات المقررة، ولم يكن ما يتلقاه الطالب فيها ليكفي طائفة عطشى إلى العلم آنست في نفسها القدرة على الاستزادة منه. وكان بيت الأستاذ محلاّ ً للعلم ومثابة لطلابه. فلما فرغنا من الدبلوم انتقلت الجامعة إلى بيته، فحيث يكون تكون. وكنت وبعض زملائي وكثيرون ممن عرفت نختلف إلى الأستاذ في بيته، كلّ ٌ يحمل عنه ما كان مهيئاً لحمله من علمه وخلقه العلمي الأصيل وأمانته ودقته. واختار بعضنا بتوجيه منه رسالة الماجستير والدكتوراه. كان يوجهنا ويرعانا، ويشجعنا، ويبذل علمه ومكتبته ووقته في سبيل طلاب يرى أن لهم عليه حقّاً لأنهم طلابه، ولأنه يحب الخير للناس ويجري بين يديه. لازمته أي ملازمة من سنة 1979 إلى يوم اختاره الله لجواره. عرفته أستاذاً فذّاً وأخاً ناصحاً وأباً عطوفاً وصديقاً كريماً. وعرفت أي عالم كان، كان من أوعية العلم، كان كنيفاً ملىء علماً، وكان إذا سألته فجرت به ثبج بحر. إليه انتهى علم العربية في عصرنا، ونظر بذهنه نظر مؤثلي هذا العلم وناقشهم في بعض جوانبه، ورأى في بعضه غير ما رأوا. وفي المشتغلين بعلوم العربية في عصرنا بلا ريب غير واحد ممن برعوا فيها وحفظوا كثيراً من مسائلها ومذاهب المتقدمين والمتأخرين فيها وعرفوا حل ما اعتاص منها، لكنك لا تجد فيهم مثل الأستاذ ممن أداه علمه بالجزئيات إلى تصور شامل للغة وقوانينها الوضعية والعقلية. فقد أداه فكره في الكتاب- أعني كتاب فهماً دقيقاً- وهو أقصى ما يبلغه المتبصر بكلامه- بل إلى الوقوف على حكمة العرب في كلامها وعلى أغراض الخليل فيما نقله وفسره من كلام العرب، وفيه ما خفي غرض الخليل فيه حتى على صاحبه سيبويه، وفي الكتاب مواضع شمست حتى على أبي عليّ. كان الأستاذ عالماً
بمقاييس العربية بصيراً بها محققاً مدققاً لو رآه الخليل لسرّ به وقال له: مرحباً بزائر لا يمل. ولا يزال في الناس علم ما بقي فيهم مثل الأستاذ. برع في علم العربية براعة، وحذق علم القراءات حذقاً، فهو وهذان العلمان سواء. وله فيهما مذاهب ونظرات لا تجدها في كتاب. ووقف في علم القراءات على أصول هذا العلم عند أئمته المتقدمين، وقد خفي أكثرها على من بعدهم. ولو كان لأحد أن يؤخذ بقوله كله في علم ولا سيما العربية والقراءات. ولو أراد الأستاذ نفسه أن يضع كتاباً يفرغ فيه ما في صدره من العلم لجاء الكتاب دون ما قدر لسعة علمه بفنون من العلم وبعد غوره فيها ولتشعب مسالك القول فيها وتفرق مسائلها وانتشارها. في بيته جرت مجالس العلم كل يوم، وبذل لمعتفيه بذل من لا يرجو منهم جزاء. عرفت عنده كثيراً من الباحثين من أصدقائه وزملائه ومن قدماء تلامذته وأصحابه، طلبوا عنده الفائدة فأطلبهم، وكثير غيرهم ممن لم ألق كتبوا إليه من شتى البلدان العربية فيما علموا أنه مفيدهم فيما استبهم منه وأشكل واستغلق وأعضل، وكانت الكتب والرسائل تأتيه من كل مكان. وعرفت في بيته كثيراً من المختلفة إليه من طلاب العلم، وهم جم غفير من مواضع شتى في سورية وغيرها من البلاد العربية والإسلامية. فطائفة منهم أشكلت عليها مواضع في نصوص تحققها، وفئة احتاجت إلى مخطوطات أو كتب نادرة في مكتبته، وجماعة تسأله اختيار موضوع رسالة جامعية، وثلة لم تتهد إلى تصور مرضي في دراسة علمية، وطوائف أخرى تستفتيه في مسائل من علم اللغة والعربية والأدب والقراءات والتفسير والحديث وغيرها. قصدوه فأكرمهم، وسألوه فأجابهم، وبذل لهم علمه ومكتبته ووقته. وغير واحد من تلامذته تولّى مناصب علمية في الجامعات وغيرها من مراكز العلم في سورية وغيرها من البلدان العربية. وعرفت فيما عرفت أنه كان منكوباً في غير قليل ممن أحسن إليهم، ما فعل لهم إلا الخير، وضنوا عليه بالوفاء، بل إن فيهم من أساء إليه وتنكر له، ومنهم من أصاب به اليوم علاج ذات نفسه. عرفت منهم من عرفت، وحدثني بحديث كثير. كان وفيّاً يحسن الظن بالناس فيخلفه ظنه في كثير {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها} [سورة فصلت: 46]. وأقامت طائفة على الوفاء له، تلقوا عنه، وكسبوا بعلمه ومعرفته ما كسبوا. وما زال الأستاذ ينبوع علم عدّ، ينشر العلم، وزكاة العلم نشره. فمنه ما وعته صدور الخاصة من أصحابه وتلامذته، ومنه ما بثه فيما نشره وفيما لم ينشره من النوص وفيما كتبه من مقالات، ومنه ما قيده على الكتب التي حوتها مكتبته، وذهب بموته علم كثير. والموت حق على كل العباد فما حيّ بباق ويبقى الواحد الأحد و "إذا مات ابن آدم انقطع علمه إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ".
فعمل الأستاذ باق إلى يوم القيامة، لا ينقطع حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
رحمك الله يا أستاذ أبا عبد الله رحمة واسعة وجزاك الجزاء الأوفى {يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم}[سورة الشعراء: 89]
ولا زال لسانك رطباً بذكر الله وتلاوة الزهراوين كلّ صباح.
سلامٌ عليك {سلامٌ قولاً من ربٍّ رحيم ٍ} [سورة يس: 58].
كلمة آل الفقيد الأستاذ نزار النفاخ :
بسم الله الرحمن الرحيم أيها السادة الكرام لم أكن أتصور في يوم من الأيام أن أقف هذا الموقف الصعب والمهيب أمام علماء أجلاء، وأصدقاء، وزملاء لأتكلم عن شقيقي أحمد راتب رحمه الله في الذكرى الأربعين لرحيله في حدود رؤيتي له كشقيق كان إلى جانبه في كافة الأوقات، ولعل السمة المميزة له هو أنه لم يكن يأبه لعرض الدنيا ومباهجها، ولم يقم لها وزناً، شأنه في ذلك شأن السلف الصالح من علماء أمتنا، وانسحبت هذه الصفة على سلوكه وتصرفاته، فكان يتعامل مع الآخرين ضمن هذا الاعتبار، وهذا ما دعاه إلى التفاني في بذل العلم لطالبيه على اختلاف مشاربهم وأهوائهم، لأنه كان على يقين من أنه يؤدي بذلك عبادة، فالعلم عنده عبادة، ولم يكن يسخط على أحد إلا بمقدار انتهاكه لحرمة هذه العبادة في أداء ما لم يحسن أداءه. أما داره فكانت دار علم يؤمها العلماء، وطالبوا العلم من شتى أصقاع العالم، ومن كل حدب وصوب على اختلاف اختصاصاتهم وهذا ما شاهدته على مدى ثلاثين عاماً، وكثيراً ما كنت انتظر عدة أيام لأظفر بفرصة أخلو بها إليه للتحدث في أمر من الأمور العائلية التي تخصه مباشرة، وهذا لم يكن ليتيسر لي في حضور رواد علمه، ولا أذكر أنني استطعت حمله على إغلاق بابه يوماً واحداً في أمرٍّ أيام مرضه وأقساها، وكنت ألحظ أنه كان يستعيد قوته ونشاطه عندما كان يقوم بشرح مسألة علمية لقاصديه، إذ يجدون عنده حلاًّ لكل معضلة، وشرحاً مفصلاً لكل مشكلة، إضافة إلى توجيهاته العلمية سواءٌ أكانت باختيار مواضيع بحوثهم، أو وضع خطة منهجية لها، أو تقويمها، أو الإشارة إلى مصادر دراستها، لقد كان يركز على أصول البحث العلمي، وطرائق استخدام المصادر والصلات الأساسية بين مختلف أنواع العلوم الأساسية، فضلاً عن التكوين الفكري والعقلي، وأصول المحاكمة عند الإنسان، أما مرحلة الحفظ والاطلاع فستكون المرحلة اللاحقة والمتممة للوصول إلى بداية المعرفة العلمية، وفوق ذلك فإنه لم يكن ليضن بعلمه ومكتبته على كل طالب علم ولو لم يكن أهلاً لذلك لقد كان راتب خبيراً بالرجال ومبصراً لمواقفهم، وكان وفياً لأساتذته وأصدقائه. إنني لم أقصد الحديث عن علمه، فلست أهلاً للحديث في هذا الجانب الذي أفاض فيه زملاؤه، وأصدقاؤه وطلابه في كلماتهم عنه، فهم أقدر مني بمعرفة مقدرته ومكانته العلمية، ولكنني صورت واقعاً عايشته مدة طويلة، فالعلم ملأ عليه حياته دون أي غرض سوى لثواب وقناعته في أنه يؤدي رسالة العلم كما يأمره بذلك دينه وخلقه، ولولا ما آل إليه من إرثه من أبيه لغادر الدنيا كما جاء إليها. وأخيراً لا يسعني والألم يعتصر قلبي ويمزقه إلا أن أبدي جزيل شكري وامتناني للسادة المشاركين في هذه المناسبة، وهذا ما خفف من المصاب الذي ألم بنا، فلئن مضى راتب إلى لقاء ربه، فإن لنا في صفوة أصدقائه ومحبيه خير عزاء وشكراً لكم.
أحمد راتب النفَّاخ شيخ العربيَّة في بلاد الشام في ذكراه العاشرة، كتبها تلميذه الأستاذ محمد حسان الطيان :
{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}
مرت على وفاة شيخنا النفّاخ سنوات عشر كأنها دقائق عشر، فلم يزل الرجل ماثلاً في الأذهان، حاضراً في الكِيان بما حواه من علم، وما زرعه من مُثُل، وما خلّفه من آثار، وما بناه من رجال، وما وقف من مواقف، بل لن يزال كذلك ما بقي لساننا يلهج بالعربية، وما بقي قلبنا يخفق بحب العربية.
فقد عاش ما عاش لهذه اللغة، لا يكاد يخرج منها إلا إليها، ولا يرى نفسه إلا فيها، ولا ينقلب عنها أو يلتفت عن محبتها', أو يتقاعس عن الجهاد في سبيلها.
حمل رايتها رَدَحاً من الدهور هو كل ما كتب له أن يعيش في دنيا الناس، وتولّى الذود عن حياضها، والبحث في دقائقها، واكتناه أسرارها وخباياها، واجتلاء معانيها ومبانيها. لم يصرفه عنها صارف، ولم يلتوِ له فيها طريق، ولم يلذَّ له دونها مطعم ولا مشرب، ولم يبال ما أصابه من أذيةٍ في سبيلها. فهو هي، وهي هو، إنها قضيته التي عاش لها ومات لها، ولقي ما لقي من أجلها، وتلبّس بعزّتها وشموخها ولسان حاله يردد قول القاضي الجرجاني:
يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما ** رأوا رجلاً عن موقف الذلِّ أحجما
أرى الناس مَنْ داناهمُ هانَ عندهم ** ومن أكرمتْهُ عزّةُ النفس أُكرِما
إذا قيل هذا مشربٌ قلتُ قد أرى ** ولكن نفسَ الحرِّ تحتملُ الظما
ولم أبتذِل في خدمة العلم مهجتي ** لأخدمَ من لاقيتُ لكنْ لأُخدَما
ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم ** ولو عظّموه في النفوس لعُظِّما
ولكن أذلّوه جهاراً ودنَّسوا ** محيَّاه بالأطماع حتى تجهَّما
ترفع وشموخ:
لم يكن أستاذنا النفاخ - أعلى الله مقامه - يلتفت إلى شيء من مباهج الدنيا، وكأنه رجل من رجال السلف، يخالُهُ المرء منتسباً إلى القرون الأولى التي وصفها سيد البرية بالخيرية: ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم))
لهذا ما كنت تراه يترفّع عن كثير مما يتهافت خاصّة الناس عليه بلْهَ عامَّتهم، وقد وصف يوماً صديقاً له اعتذر عن تسنّم مقاليد وزارة في الدولة بقوله: ((إن هذا الرجل يترفّع أن يضع رجله حيث يضع الكثيرون جباهَهم)) ويقيني أن أحقَّ الناس بهذا الوصف هو شيخنا النفاخ، فقد كان حقًّا من هذا الصنف الذي لا تستهويه الأهواء، ولا تعصف به الرغائب، ولا تثنيه المكاره.
قلت له مرة، وقد رأيت ما يعانيه في تنقلاته بين البيت والجامعة: ((لم لا تتخذ لنفسك سيارة؟)) فنظر إليَّ شزراً ثم قال: ((وهل تريد أن أضع على رأسي قرنين؟!)).
وطلب إليه أستاذ كبير أن يدرِّس في جامعة تُجزل العطاء لأساتذتها فرد بأنه لو قيِّض له أن يدرِّس ثَمَّةَ لأبى أن يتقاضى فلساً واحداً مقابل تدريسه، فهو أكبر من أي مال مبذول، وعلمه أعظم من أيِّ عَرَض من أعراض الدنيا، من أجل هذا كان يبذله لبعض طلاب العلم الفقراء، ويضنَّ به على كثير من طلاب السمعة والجاه الأغنياء.
ومن هنا كان الأستاذ - عليه رحمة الله - قاسياً على نفسه أولاً، قاسياً على من حوله ثانياً، ولم تكن قسوته على الناس إلا فرعاً من قسوته على نفسه وجزءاً يسيراً منها، فقد حرم نفسه متاعاً كثيراً، ونعيماً موصولاً، ومراتب تتقطع دونها الرقاب، وقنع بأن يقبعَ في كِسْر بيته على حين ينعم الآخرون بما حصّلوه من غزير علمه، وبما نالوه من عظيم فوائده، وهو في هذا أشبه الناس بالخليل بن أحمد حين قال في حقِّهِ تلميذه النضر: ((أكلنا الدنيا بعلم الخليل وهو في خُصٍّ بالبصرة لا يُشعر به)) ولئن صدقت هذه الكلمة في رجل بعد الخليل لتصدقَنَّ على شيخنا النفاخ فقد أكلنا الدنيا بعلمه وهو قابع في كِسْر بيته، رحمه الله وعوضه خيراً.
صلابة في الحق:
وقد عرف الأستاذ النفاخ بمواقفه الصُّلبة، وإرادته القوية، لا يداهن صاحباً، ولا يجامل جليساً، ولا ينحني لكبير، ولا يخشى في الله لومة لائم، وإذا ما رأى الرأيَ مضى دونه مجاهداً، لا تلين له قناة، ولا يثنيه هوى، ولا يؤثر فيه ترغيب ولا ترهيب.
كنت عنده مرة فزاره وزير كبير له شأن خطير في دنيا السياسة والرئاسة، فرحب به وأكرم وفادته، وأسمعه من صنوف العلم وأفانين القول ما ملك به فؤاده، وانتزع منه إعجابه، ثم كالَ له من صنوف النقد والتعريض ما لا يقوى عليه أحد في ذلك الزمان، حتى لقد أشفق بعض أهل المجلس على صحة الأستاذ لما اعتراه من حِدّة، وما بدا عليه من أمارات الانفعال، وكأني به الصورة الحية لمقولة الرسول الكريم: ((ألا لا يمنعَنَّ رجلاً هيبةُ الناسِ أن يقول بحقٍّ إذا علمَهُ))
فقد أعلن الحق الذي علمه، ولم يخشَ صولة الحاكم، ولا بأسَ المتحكِّم، وإنما قال: ((لا)) بملءِ فيه، فكان رجلاً، والرجال قليل، وما أصدق ما قاله الأول فيه وفي أمثاله: ((يعجبني من الرجل إذا سيمَ خسفاً أن يقول لا بملء فيه)).
جبل علم هوى:
وكان الشيخ النفاخ - برَّد الله مضجعه - جبلاً من جبال العلم الراسخة، وبحراً من بحور الفهم العميقة، بَرَعَ في علوم العربية المختلفة، فأصبح حجةً في كل فن من فنونها، فما شئت من بصر باللغة، وعلم بالنحو، وفهم بالصرف، وتذوق للبلاغة، وإتقان للعروض، ورواية للشعر، ودراية بالأدب والنقد، ومَكِنَةٍ في الأصول، وتضلّع من القراءات القرآنية صحيحها وشاذِّها، ومعرفة بالأحرف السبعة تاريخها وأسرارها، وخبرة بالتراث العربي مخطوطه ومطبوعه، وقدرة على تحليل النصوص والنفاذ إلى خباياها، ودقة في تحقيق المخطوطات واستدرار عطاياها.
ولو شئتُ أن أمضي فيما افْتَنَّ فيه الشيخ لمضيتُ، ولم وسعَتْني هذه الكُلَيمة .. فما كان النفاخ رجلاً كسائر الرجال .. ولكنه أمّةٌ في رجل:
وقالوا الإمامُ قضى نحبَهُ ** وصيحةُ مَنْ قد نعاهُ عَلَتْ
فقلتُ: فما واحدٌ قد مضى ** ولكنَّهُ أمّةٌ قد خَلَتْ
وقد عرفته الجامعة (جامعة دمشق) محاضراً في غير ما فن من فنون العربية ..
حاضر في الأدب الجاهلي فكان أصمعيَّ عصرِهِ، ودرّس المكتبة العربية والمعجمات فكان جوهريَّ دهره، وقرَّر مادة العروض فكان خليلَ وقتِهِ، وأقرأَ الكتابَ القديم فكان مبرّدَ زمانِهِ، وتصدَّى للنحو والصرف فكان سيبويهِ أوانِهِ، وتناول الدراسات اللغوية فكان ابنَ جني عهدِهِ.
مُلقّنٌ مُلْهَمٌ فيما يحاولُهُ ** جمٌّ خواطرُهُ جَوَّابُ آفاقِ
وكان من جميل صنع الله بي أن درست عليه هذه الموادّ جميعاً في سني الدراسة الجامعية العادية والعليا، فتقلَّبت في نُعْمى اختصاصاته، وتدرجت في معارج علومه، ورأيت منه كل عجيبة وغريبة، ورويتُ عنه كل شاذّة وفاذّة، فلا تعجب إن تمثّلت فيه بما أنشده أبو العباس اليشكري في محاسن أبي عمر اللغوي المعروف بغلام ثعلب:
فلو أنني أقسمتُ ما كنت حانثاً ** بأن لم ير الراؤون حَبراً يُعادِلُهْ
هو الشَّخْتُ جسماً والسَّمين فضيلةً ** فأعجِبْ بمهزولٍ سمينٍ فضائلُهْ
تضمّن من دون الحناجر زاخراً ** تغيبُ على من لجَّ فيه سواحلُهْ
إذا قلتُ: شارفنا أواخر علمِهِ ** تفجّر حتى قلتُ: هذي أوائلُه
بناء الرجال:
وكان له من وراء هذه الجامعة جامعة أخرى تضمه مع النخبة من صحبه ومريديه', تلكم هي بيته الذي أصبح مثابة لطلاب العلم وقبلة للباحثين، يؤمونه من كل مكان، ويقصدونه في كل وقت وحين، فلم يكن - رحمه الله - يخصص يوماً لندوة أسبوعية أو شهرية، وإنما كانت ندوته تنعقد يوميًّا، لا تكاد تطرق بابه إلا وجدت عنده ضيوفاً تعمر بهم الدار، ويلتئم بهم المجلس، ويدور الحديث في كل علم وفن ومعرفة، والشيخ يزينه ويتوِّجه بعلمه الجمِّ، وتواضعه المحبَّب، وصوته المجلجل، وحديثه المفعم بالحبِّ والعطاء ((إن الكلام يزين ربَّ المجلس)).
ومن الوفاء لذلك المجلس وصاحبه أن نذكر أسماء بعض رواده الذي أفادوا منه، وأصبحوا ملء السمع والبصر، من مثل الأستاذ الدكتور محمود ربداوي، والأستاذ الدكتور رضوان الداية، والأستاذ الدكتور مسعود بوبو - رحمه الله - والأستاذ الدكتور وهب رومية، والأستاذ الدكتور عز الدين البدوي النجار، والأستاذ محسن الخرابة، والأستاذ الدكتور مصطفى الحدري - رحمه الله -، والأستاذة الدكتورة منى إلياس، والأستاذ مطيع الببيلي، والأستاذ الدكتور عدنان درويش، والأستاذ بسام الجابي، والأستاذ نعيم العرقسوسي، والأستاذ إبراهيم الزيبق، والأستاذ الدكتور عبد الله النبهان، والأستاذ الدكتور إبراهيم عبد الله، والأستاذ الدكتور أحمد راتب حموش، والأستاذ الدكتور طاهر الحمصي، والأستاذ الدكتور محمد الدالي، والأخ الدكتور يحيى مير علم، والدكتور عبد الكريم حسين، والدكتور نبيل أبو عمشة, وكاتب هذه السطور .. وغيرهم كثير.
ترنو إليه الحدَّاث غاديةً ** ولا تملُّ الحديث من عجبِهْ
يزدحمُ الناس كلَّ شارقةٍ ** ببابِهِ مُشرِعين في أدبِهْ
والحقُّ أن الشيخ - رحمه الله - بنى رجالاً، وخلَّف جيلاً من الباحثين يدينون له بالكثير، حتى لقد أصبح شكره لازمةً لا تكاد تخلو منها رسالة جامعية، أو كتاب محقق، أو بحث علمي لغوي في جامعة دمشق، بل لقد تعدى أثر ذلك إلى جامعات أخرى، وإلى مواطن أخرى
يبني الرجالَ وغيرُهُ يبني القرى ** شتّانَ بينَ قرًى وبينَ رجالِ
صنو النفاخ وقرينه:
وإذا ذكرنا مجلس الأستاذ راتب فلا بد أن نذكر عَلَماً كبيراً وعالماً وزيراً كان يؤمُّهُ، وقد عرفناه فيه قبل أن نعرفه أستاذاً في كلية الآداب، ومشرفاً على رسائل الماجستير والدكتوراه، ومديراً للموسوعة العربية الكبرى، ورئيساً لمجمع اللغة العربية بدمشق، إنه أستاذنا الدكتور شاكر الفحام صِنْوُ النفاخ وقرينُهُ، وأخو الصدق الذي ما انفكَّ يشدُّ من أزره ويدفع عنه، ويحُوطُهُ بعين عنايته في الحِلِّ والسفر والإقامة والغربة، والسرّاء والضرّاء، آسياً ومؤاسياً، وراعياً ومنافحاً.
ما أعرف نفسي دخلتُ المجمع مرةً إلا رأيتهما معاً، وإن أنسَ لا أنسَ موقفين شهدتهما لهذين العالمين المتحابَّين يدلاَّن على العروة الوثقى بينهما:
الأول: دخولهما معاً قاعة المحاضرة على طلبة الدراسات العليا، في أول عام تفتتح فيه الدراسات العليا في جامعة دمشق، إذ أسند تدريس مادة الدراسات اللغوية إلى الأستاذ الدكتور شاكر فكان يصحب معه الأستاذ راتب ليقرئا الطلاب فصولاً من كتاب الخصائص لابن جني.
والثاني: رِباط الأستاذ راتب بجوار غرفة العناية المركزة التي عولج فيها الدكتور شاكر على أثر أزمة قلبية ألمّت به، فلم يبرحها إلا معه، فأيّ محبة هذه؟! وأيُّ وفاءٍ هذا؟! إنه العلمُ الرّحِمُ بين أهله.
آثاره:
ويأخذ بعض الناس على الأستاذ النفّاخ قلة ما خلفه من آثار، وندرة ما صنعهُ من أعمال، وما أحسن ما قيل في ذلك
بغاثُ الطيرِ أكثرُها فِراخاً ** وأمُّ الصَّقرِ مقلاتٌ نزورُ
فأعمال النفاخ بلغت الغاية دقة وإتقاناً، وفصاحة وبياناً، بدءاً من دراسته لابن الدمينة وتحقيقه ديوانه، ومروراً بصنعه فهارس شواهد سيبويه، واختياراته في الأدب الجاهلي، وانتهاءً بتحقيقه قوافي الأخفش. دع عنك ما حبَّره من مقالات غدت نموذجاً فريداً ومثالاً يحتذى في البحث العلمي، والتحقيق المستقصي، والنقد المحكم، والاطلاع الواسع .
ومن اطَّلع على مكتبة الشيخ رأى عجباً فيما سطّره على هوامش كتبه من استدراكات وتحقيقات ونقدات لم يكد يخلو منها كتاب قرأ فيه، أو اطّلع عليه، أو عرض له. وكان - رحمه الله - كثيراً ما يقول لنا: إنه ما يكاد يفتح كتاباً حتى تقع عينه على مواطن الخطأ والتصحيف والتحريف فيه، وكأنه موكّلٌ بعثرات المحققين والناشرين، والمؤلفين والباحثين، والسوأة السوآء لمن يقرأ الشيخ عمله على سبيل التتبع والنقد والتعقب والتقويم، إنك عند ذلك لن تجد بياضاً في الكتاب، لا في الهامش ولا في الأعلى ولا في الأسفل، فخط الشيخ يُحدِقُ بالكتاب من كلِّ جانب، بل هو يخالط السطور والأحرف ويدخل فيما بينها معلقاً ومدقّقاً', ومخرجاً ومحيلاً .. ومقوماً ومعقباً ومُدلّلاً ومستشهداً. وإذا رأيت ثَمَّ رأيتَ علماً غزيراً وفهماً عظيماً.
وقد يُحوجه الأمر إلى إضافة أوراق يودعها الكتاب الذي يتعقبه ليستكمل مسألة يحققها، أو تخريجاً يتتبَّعُهُ، أو إحالة يستوفيها. ولهذا ما كان يبقي على حجم الكتاب كما أخرجته المطبعة لا يقصُّ منه جانباً، ولا ينقص منه هامشاً. وإن أنس لا أنسَ أسفه وحزنه على كتاب تطوَّع أحد أصحابنا بتجليده، فأعمل المجلَّد مقصَّه فيه، فجاء على غير ما يحبُّ الشيخ ويرضى. وإن تعجب فعجب أمر القصاصات التي يجعلها الأستاذ بين صفحات الكتاب ليستدل على مواطن فيه، إذ لا يكاد يخلو منها سفر من أسفار المكتبة.
والحق أن من رواء هذا كله أعمالاً جليلة، كان الأستاذ قد أنجزها أو كاد، ثم حالت حوائل دون إخراجها للناس، على رأسها عمله في القراءات القرآنية والأحرف السبعة، ذلك العمل الذي أكل سني عمره، وكان يعدّه لنيل درجة الدكتوراه، ثم لما بلغ فيه الغاية استنكف أن يتقدم به لنيل الدرجة، وقد حدثني الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين .
أنه قدم دمشق فزار الأستاذ النفاخ، وأخبره أن أستاذه الدكتور شوقي ضيف - وكان المشرف على رسالته - يطلب إليه أن يكتب ولو ورقة واحدة يلخص فيها نتائج بحثه ليمنحه عليها درجة الدكتوراه، فما كان جواب الأستاذ إلا أن أبى مترفعاً - وأكاد أقول مستنكراً - لأنه كان يرى نفسه فوق تلك الدرجة، بل فوق كثير ممن كان يمنحها.
ومن أعماله الأخرى التي توفّر عليها زمناً طويلاً، وأخذت منه كلّ مأخذ ولكنه لم يخرجها، تحقيقه معاني القرآن للأخفش، ومعرفة القراء الكبار للذهبي، ورسالة الإدغام الكبير المنسوبة إلى أبي عمرو بن العلاء .
وكان الأستاذ يعتزم أن يشارك بها في تكريم شيخه أديب العربية الكبير محمود محمد شاكر، رحمه الله. ومن هذه البابة أيضاً مراجعته تحقيق كتاب ((الصاهل والشاحج لأبي العلاء المعري)) وهو تحقيق كان قد نهض به الأستاذ الدكتور أمجد طرابلسي - رحمه الله - ثم رغب إلى الأستاذ أن يراجعه، فأعمل الأستاذ فيه فكره وعلمه وقلمه، وامتدت المراجعة نحواً من خمسة عشر عاماً شهدتها عاماً عاماً، والشيخ يعيد التحقيق من جديد، يبدي ويعيد في مسائل، ويتوقف عند مسائل، ويرجئ النظر في مسائل على عادته في إتقان العمل وتجويده وتحكيكه وتثقيفه، وطلب وجه الكمال فيه، وأنّى يُدرك الكمال وهو لله وحده سبحانه.
وتحسن الإشارة هنا إلى أن شيخنا النفاخ راجع الكثير مما أخرجه المجمع من كتب التراث المحققة، أذكر من ذلك على سبيل التمثيل كتاب شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف لأبي أحمد العسكري بتحقيق الدكتور السيد محمد يوسف، وكان الأستاذ يُشركني والأخ الدكتور يحيى مير علم بمعارضته بأصوله، ومن ذلك أيضاً كتاب الأزهية في حروف المعاني للهروي بتحقيق الأستاذ عبد المعين الملوحي، وكتاب شرح أرجوزة أبي نواس لابن جني بتحقيق العلامة الأستاذ محمد بهجة الأثري، وكتابا الإتباع والإبدال لأبي الطيب اللغوي بتحقيق الأستاذ عز الدين التنوخي، ورسالة أسباب حدوث الحروف لابن سينا بتحقيقي مع الدكتور يحيى مير علم.
من ذلك كله يتبدّى أنَّ ما أنجزه الرجل كثير كثير، ولكنه موزّع في بطون الكتب، وحواشي التحقيق، وعقول الطلبة، إذ لم يكن - رحمه الله - يردُّ طالب علم، أو سائل حاجة، أو ملتمس عون في أي شأن من شؤون العلم، وما أكثر ما كان يُقصَد، وما أعظم ما كان يرفِد:
يسقط الطير حيث ينتثر الحَـ ** بُّ وتغشى منازلُ الكرماءِ
((ومن قصد البحر استقلَّ السواقيا)).
صفحة مطوية:
ويقودني حديث ما أنجزه من أعمال إلى نشر صفحة مطوية من تاريخه العلمي، تلك هي مرحلة عمله في مركز الدراسات والبحوث العلمية، حيث خطط لمشروع علمي رصين، وأسس بنيانه على قواعد متينة، ثم تخيَّرني مع الأخ الدكتور يحيى مير علم للعمل معه، ذلك المشروع هو إحصاء جذور العربية في خمسة من أمّات المعجمات هي تهذيب الأزهري ومحكم ابن سيده وجمهرة ابن دريد ولسان ابن منظور وقاموس الفيروزآبادي، وقد بدأ الأستاذ المشروع، ثم أتممنا العمل بإشرافه، وكان لتوجيهاته وملاحظاته أثر كبير في استدراك ما فات غيرنا ممن قام بأعمال إحصائية شبيهة.
وشرع معنا أيضاً بعمل آخر يتصل بعلم التعمية واستخراج المعمى (الشيفرة وكسر التشفير) إذ استقدم من صديقه الأستاذ الدكتور فؤاد سزكين مجموعاً مهمًّا في هذا العلم، وقام بنسخه بخطه، وأشرف على تحقيقنا رسالة أسباب حدوث الحروف لابن سينا، ورسالة اللثغة للكندي، وكتب توصيفاً دقيقاً لمخارج الحروف وصفاتها من منظور تراثي.
وبهذا يكون نشاط النفاخ قد توزع على أماكن أربعة: جامعة دمشق، ومجمع اللغة العربية، ومركز الدراسات والبحوث العلمية، وبيته.
وما من شكٍّ في أن هذا الأخير - أعني البيت - لم يكن يقل أهمية عن الأماكن الأخرى، بل هو يجمع بينها، وينظم ما انفرط من حلقاتها. قلت له مرة، وقد بلغني أنه وَجَدَ عليَّ إثر تكليفي بتدريس مادة العروض في جامعة دمشق بعد أن نُحِّيَ عنها: ((لأن أكونَ تلميذاً صغيراً في بيتك أحبُّ إليَّ من أن أكون أستاذاً كبيراً في الجامعة)) فقد كان بيته بحق جامعة لطلاب العلم، ومجمعاً لرواد المعرفة، ومركزاً للعطاء والإبداع .. إنه بيتٌ دعائمُهُ أعزُّ وأطولُ.
سأشكرُ ما أوليتَ من حسنِ نعمةٍ ** ومثلي بشكر المنعمين خليقُ
ولا أودُّ أن أدع القلم قبل أن أتمنّى على ابن شيخنا - عبد الله أحمد راتب النفاخ - وطلابه ومحبيه أمنيتين:
الأولى: أن يسارعوا إلى تراث الشيخ فينشروه، سواء ما كان منه أعمالاً منجزة، تحقيقاً وتأليفاً، أو ما كان هوامش علمية انطوت عليها أسفار مكتبته، ففي هذا نشر للعلم، ووفاءٌ لأصحابه، ونفع للناس عميم.
والثانية: أن يبادروا إلى تكريم الشيخ فيسهموا في نشر كتاب يحمل اسمه، وينشر فضله، ويدرس آثاره، ويعلي ذكره، ففي هذا إحياء لذكراه، ووفاء بحقه، وردٌّ لبعض جميله على أهل هذا اللسان العربي، وأرجو أن تتحول هذه الأماني إلى حقائق ملموسة، وألا تكون مجرد أمانٍ نعيش بها زمناً رغداً، بعد أن صار الشيخ النفاخ - أحسن الله إليه - ((ميراثاً نتوارثه، وأدباً نتدارسه، وحناناً نأوي إليه)) كما قال أديب العربية الكبير محمود شاكر في شيخه الرافعي، عليهما رحمة الله.
من شعر النفاخ:
ولعل خير ما أختم به هذه الكلمة أبيات كان الشيخ النفاخ ينشدها في بعض مجالسه الخاصة، وهي من نظمه، وفيها دلالة على مبلغ فصاحته، وجزالة عباراته، وأصالة انتمائه، وصدق عاطفته، وقد كتبتها من فِلْقِ فيهِ:
جحَّافُ يا ابنَ الأكرميـــــ ** نَ من الغطارفةِ الأماجِدْ
لا زالَ ذكرُكَ عالـــياً ** ينثو المكارمَ والمحامِدْ
لمّا تطاولَ دوبَلٌ ** واختالَ تِيهاً شِبهَ ماردْ
أرسلتَها في مسمع الــــــ ** أيامِ صَيحاتٍ رَواعِدْ
وشَدَخْتَ أنفَ الشركِ مُصْ ** طَلِماً لكلِّ عَمٍ مُعانِدْ
أكرِمْ بها من فَتكَةٍ ** تمَّتْ بها فتكاتُ خالِدْ
وأما أنت يا أبا عبد الله فسلام عليك في الأولين الذين عشتَ معهم بقلبك وفكرك، وسلام عليك في الآخِرين الذي عشت معهم بعطائك وعلمك، وسلام عليك في الملأ الأعلى يوم الدين.
أسأل الله أن يجزيك عن العربية وأهلها خير ما جزى عالماً عن قومه ولغته، وشيخاً عن طلابه وتلامذته، ومجاهداً عن دينه وأمته، وأن يجعل ما قدمت للغة القرآن ذخراً لك وزلفى عند ربك {يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
[شرعت في كتابة هذه الكلمة بعد فجر يوم عرفة (9 ذو الحجة 1422 الموافق لـ 21 شباط 2002) في الكويت بمناسبة مرور عشر سنوات على وفاة شيخنا النفاخ رحمه الله, ثم قرأتها في عدة مجالس علمية في البحرين والكويت, ودفعتها لتنشر في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق حيث حظيت بالقبول, ولكن لما طال عليها الأمد نشرتها في مجلة الفيصل العدد 330 (1424هـ - 2004م)].
ومما قال فيه الوفيُّ العارفُ بأقدار أهل العلم محمود الطناحي رحمه الله:
[ديوان عبد الله بن الدُّمَيْنة من تحقيق شيخ الشام ـ بل شيخ الدنيا ـ أحمد راتب النفاخ، وكان أطروحة لدرجة الماجستير من جامعة القاهرة، ولكن أيَّ لأطروحة!]
أظن أن كثيرا من أصحابنا لم يعرفوا بعدُ قدر هذا الجِهْبِذ العبقري الأحوذي.
أما أبو فهر فقال في سِفْرِه النفيس * المتنبي* 1/ 54: صديقي وتلميذي، وأستاذي فيما بعدُ، الأستاذ أحمد راتب النفاخ.
وعند تأملك ما في كتاب المتنبي 1/ 54، 55 سيظهر لك حرص النفاخ على إفادة أبي فهر، وسترى اعتزاز أبي فهر به وبفوائده الغالية، التي نتجت عن همة عالية.
وبعد :
رحم الله الأستاذ أحمد راتب النفاخ فإن سيرته تفوح مسكاً وتذكر بسيرة السلف الصالح ، وأهم ما يميزه الإخلاص وحب العربية ، والترفع عن الصغائر ، والصلابة في الحق، وسرعة البديهة ....اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله .
__________
- المجتمع 998 (17/ 10/1412 هـ) ص 43 بقلم محمد بن ناصر العجمي.
-وله ترجمة في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق مج 67 ج 2 (ص 351 - 354) والعدد التالي ص 523 - 556.
وسوم: العدد 651