وفاة الشاعر محمد منلا غزيِّل

clip_image001_a3153.jpg

■ قد لا تجسّد وفاة الشاعر محمد منلا غزيّل صبيحة هذا يوم أمس (5 – 1 -2015 ) برهةً غير عادية بالنسبة إلى مفهوم (الموت) باعتباره أمراً لا يمكن للكائن البشري تجنبه، ولكن كما أن لحظة الولادة تشكّل لحظة حضورٍ إنسانيّ، كذلك بعض حالات الغياب تعيد إنتاج هذا الحضور ولو بطريقة أشدّ تراجيديةً، فهل هذا يعني أنّ للمرء (حضورين – ولادتين)؟ الجواب: نعم، ولكن للمتميّزين منهم فقط، أعني الذين أصرّوا من خلال حياتهم وناضلوا وجاهدوا من أجل أن يكون الإنسان هو الكائن الأرقى في هذا الوجود، فوظفوا كل طاقاتهم وإبداعاتهم في سبيل صون كرامته ونبله وحريته.  ولعلنا كثيراً ما نرى العديد من حالات غياب بعض المبدعين والمفكرين تتحول إلى مناسبة لإعادة البحث في إنتاجهم واستدعاء آثارهم الإبداعية، وغالباً ما رأينا أن وفاة أحد هؤلاء تتحوّل إلى تظاهرة ثقافية تتخللها المحاضرات وحلقات البحث وما سوى ذلك. لقد حُرمت مدينة (منبج) حضور شاعرها وحكيمها ومثقفها الكبير (محمد منلا غزيل) يوم وفاته ،ولم يتمكّن أهلها من محبّي الفقيد وتلاميذه من مواكبة جثمانه إلى مثواه الأخير، بسبب حشود الظلام وطوابير الإجرام الذين أصرّوا على محاصرة وخنق كلّ ما هو نفيس على وجه الحياة. فمنذ أن احتلّ تنظيم «داعش» مدينة منبج بعد حصار دام عشرة أيام (19 – 1 – 2014 ) قام باستهداف ناشطيها ومثقفيها وكل من لا يدين لإجرامه بالولاء، فشهدت المدينة – وما تزال – مرحلة دامية من الإعدامات وتقطيع الأوصال والاعتقالات وسرقة الممتلكات واغتصاب البيوت وحرق المكتبات. لم يكن أمام شاعرنا المرحوم الطاعن في الثمانين، العديد من الخيارات، سوى البقاء في المدينة مختزلاً كل صمودها ورفضها لجحافل الظلام، وعلى الرغم من اشتداد مرضه، وهزال جسده، كان يصرّ على الخروج من منزله كل يوم، ليمشي في الشوارع والأسواق كعادته المعهودة منذ شبابه، ويلتقي بالناس الذين اعتادوا حديثه المحبب والمفيد، وحين يناله التعب، كان يجلس على الرصيف ريثما يستعيد قواه، ولعلّ تواضعه وزهده في ملبسه وعدم الاعتناء بمظهره، قد عرّضه للعديد من المواقف التي تنطوي على مفارقات محزنة، إذ خُيّل للبعض ممّن لا يعرفونه أكثر من مرة بأنه متسوّل، إلّا أنهم – في لحظة الاقتراب منه – كانوا يُفاجأون بشموخ باذخ، وكبرياء إنساني رفيع، وقيمة خلقية عالية، فيتحوّل الموقف إلى دراما إنسانية حيّة زاخرة بالمعاني. ثقافة (الغزيّل) هي السمة الطاغية على شخصيته، وموسوعيّته هي التي مكّنته من تجاوز تخوم الأيديولوجيا وكسر حصار القناعات الجامدة، ونزعته الجامحة نحو القراءة أتاحت له الانفتاح على آفاق إنسانية رحبة لا حدود لها، وثقافته التراثية العميقة غالباً ما تتداخل بالعمق ذاته مع ثقافة عصرية حديثة تبدأ بالفلسفة ولا تنتهي بأحدث الموضات الأدبية والفنية، ولعلّ هذه العوامل التي أسهمت في تكوينه الشخصي حالت دون قولبته أو تصنيفه في حقل أيديولوجي أو سياسي محدّد، فهو إسلامي العقيدة، ليبرالي التفكير، إنساني النزعة، معرفيّ المنهج، يدافع عن فكرته بقوّة حين يقتنع بها، ويتخلّى عنها بسهولة حين يعتقد بعدم صوابيتها، فضلاً عن فطرة مفعمة بالتسامح والإيثار. لقد أضاف الغزيل إلى ديوان الشعر العربي ستة دواوين شعرية:  في ظـلال الدعوة : 1375هـ – 1956م  الصــبح القريب: 1378هـ – 1959م  الله والطـاغـوت: 1381هـ – 1962م  طـاقـة الريحـان: 1394هـ – 1974م  البنيان المرصوص : 1395هـ – 1975م  اللــواء الأبيض : 1398هـ – 1978م  وقد طبعت أعماله الشعرية مرتين، الأولى عام 1978، والثانية عام 2007 حين فوّض المرحوم كاتب هذه السطور بإعداد أعماله الشعرية وطباعتها وكتابة مقدّمة لها، فخرجت الطبعة في جزئين، تولّت مكتبة المعرفة في منبج نشرهما وتوزيعهما. وله كتابان آخران: 1 – كلمات على طريق الوعي الحضاري الإسلامي 2 – في رحاب الأدب العربي. بالإضافة إلى العديد من المقالات والمحاضرات التي ألقاها في المحافل الأدبية والثقافية. لعلّ شخصية (الغزيل) بأبعادها المذكورة آنفاً، لم تحمل السلاح في وجه «داعش»، بل ولم تتجرأ على المواجهة العلنية على المنابر أو في مجالس الأفراح والأتراح، إذ ليس بمقدور الجسد المنهك الذي أسأمه ثمانون حولاً أن يجابه سواطير التكفير، وسفاهة شذّاذ الآفاق، ولكن على الرغم من ذلك فإن مجرّد وجود كيان ( الغزيّل) القيمي والمعرفي والحضاري في مدينة منبج وهي ترزح في قهرها، يجسّد تحدياً قيمياً وأخلاقياً ليس لـ»داعش» فحسب، بل لكلّ الذين يستمدّون سلطانهم من الله ليقهروا العباد ويُذلّوا الإنسان. ذلك أن الفقيد – بأعين أهل بلده – تجاوز ماهيّته الشخصية، واستحال إلى قيمة رمزية تُضمر كلّ ما اتّسمت به منبج من ثقافة وحضارة وتسامح ورفض للظلم والعبودية والاستبداد. لقد رحل محمد منلا غزيّل وسط ظلام دامس، من دون احتفاء ببرهة (إعادة حضوره)، وكذلك من دون نظرة وداع من جمهوره وأحبابه، لقد مضى إلى رحاب ربه من دون أن يُخلّف ولداً، فهو لم يتزوّج، ولكنّ الغزيل متجذّرٌ في الذاكرة المنبجية، لذلك فهو حاضرٌ على الدوام.

٭ كاتب سوري

رحيل الشاعر السوري محمد منلا غزيـّل عن ثمانين سنة تنظيم «الدولة» حرم أهالي مدينة «منبج» من تشييعه

وسوم: العدد 661