صور من حياة الوالد – رحمه الله – في حي مسكنه البياضة
نور من الذكرى
البياضة من أحياء حلب القديمة ، يقع في الشمال الشرقي من قلعة حلب ، يقع في شرقه جب القبة وفي شماله حي الجبيلة وباب الحديد ، سكن في هذا الحي عدد كبير من علماء حلب ممن كان لهم أثر كبير في نشر العلوم الدينية في حلب وريفها وفي كثير من المدن السورية .
الوالد وأجداده سكنوا هذا الحي ،وهناك زقاق سمي باسمهم ( زقاق الجذبة ) للدلالة على قدم مواطنتهم في هذا الحي .
لم تفلح الإغراءات بأن يهجر الوالد حيه الذي ولد فيه ، وتربطه مع أهله صلة الود والمحبة والجوار والذكريات ويسكن الأحياء الجديدة بعد أن توسعت مدينة حلب .
بقي الوالد –رحمه الله – وفيا" لحيه ، فإذا كان حب الوطن من الإيمان ، فالحي الذي ترعرع فيه الانسان واستظل بظلاله ، ونعم بمسراته هو جزء من الوطن .
شيع الوالد من منزله في البياضة ، وصلى عليه في المدرسة الشعبانية الدكتور الشيخ إبراهيم السلقيني رحمه الله .
خطوات الوالد في ساحات يومه ، كنت مع إخوتي نتلقى منها دروسا" في التربية والأخلاق والدين .
الاستعداد لصلاة الفجر يكون بالاستيقاظ المبكر (إن قران الفجر كان مشهودا " )( بورك لأمتي في بكورها ) بعد صلاة الفجر ، يبدأ ورده اليومي بقراءة القران والحديث النبوي الشريف ، والأدعية المختارة من مشايخه الذين أخذ عنهم قراءة الأوراد ،ثم يبدأ بتحضير دروسه في الثانوية الشرعية والمدرسة الشعبانية .
إذا انتبه الوالد إلى صوت عامل النظافة وهو يؤدي عمله ، نهض إليه ليقدم له شيئا" بسيطا" من الضيافة ككأس شاي ، أويقدم كأسا" من شراب البرتقال أوقطعة حلوى ، يكرر الشكر له ، ويدعو له بالصحة والعافية ، وقد يفتح معه حديثا" يؤانسه فيه ويسأله عن أولاده ، وصحته .
وإذا خرج من البيت مشي الهوينى ، يسلم على كل من يراه ، فإذا كان من جيله ، قد يمتد بهما الحديث ليذكر كل واحد أيام ( الخوجة والشيخ ) تلك المراحل الدراسية في زمن الطفولة .
وإذا وجد شابا" سلم عليه وقد يسأله عن أبيه وإخوته ،وإذا كان أبوه في رحمة الله وقف مع ابنه ليقرأ له الفاتحه.
الأحياء الشعبية القديمة ، عبق المحبة يتطاول على جدران بيوتها ، كل سكان الحي نسيج كامل متجانس ،أمطار الحب تسقي قلوب سكان الحي.
كان أبي – رحمه الله- قبل أن يخرج من البيت يضع في جيبه كمية من السكاكر ( دروبس) ليقدم قطعا" منها لأطفال وأولاد الحي ، فإذا قدم الوالد إليهم في ذهابه وإيابه ركضوا إليه ضاحكين مبتسمين ، يسلم عليهم ويعطي لكل واحد نصيبه ، فينصرف الجمع والسرور يحرك أفواههم ، اهتم الوالد بالأطفال اقتداء برسول الله – صلى الله عليه وسلم – ( من كان له صبي فليتصاب له ) وقد شاهد الرسول عميرا" أخا أنس بن مالك وكان طفلا" صغيرا"يلعب بطير صغير ، فكان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يمازحه دائما" ويقول له ( ياعمير مافعل النغير ).
الرسول صلى الله عليه وسلم اهتم بالأطفال حتى في صلاته فكان يقول:( إني لأدخل الصلاة ، وأنا أريد أن أطيلها ، فأسمع بكاء الصبي ، فأتجوز في صلاتي ، لما أعلم من وجد أمه من بكائه ).
كان الوالد في سيره في الشوارع يجيب كل سائل عن أمر ديني يشغل نفسه ، وكان يجيب على الأسئلة الدينية التي ترده إلى بيته عن طريق الهاتف ، وكانت هناك كثير من الأسر الصديقة ، ممن وثقت بالوالد ، كان أفرادها يزورون الوالد لمشاورته وتبادل النصيحة معه لحل مشاكلهم .
كان الوالد- رحمه الله- مضيافا" ، كان بيته مقصدا" لمحبيه وأصدقائه وتلامذته ، وكان يقوم بنفسه على خدمتهم .
كان الوالد لايحب الخروج من منزله بعد العشاء وكان ينصح أولاده بأن يتواجدوا في البيت عند صلاة العشاء .
صور من حياة الوالد ، تلمع في ذاكرتي ، عشتها أنا واخوتي في فضاء رحب امتلأ بسنابل المحبة والعمل الخالص لوجه الله .
ولده : محمد عطا
وسوم: العدد 666