الحب لله ، ولرسوله ،ولعباده

نور من الذكرى 

تتردد كلمة الحب كثيرا" على ألسنة البشر جميعا" منذ الأزل وحتى الآن ، وكل جماعة تفسر الحب وفق موروثها الديني أو الاجتماعي أو الثقافي .

المسلم الملتزم بعبودية الخالق ، يردد لسانه ( إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم )فهو يجعل محبة الله هدف سعادته في الدنيا والآخرة ( الذين آمنوا أشد حبا" لله ) وقرن الله محبته بمحبة رسوله ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر ذنوبكم ) وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن محبة الله لعباده تتناسب مع محبة عباد الله لبعضهم بعضا"،(الخلق كلهم عيال الله أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ).

كان والدي –رحمه الله- محبا" لله ومحبا" لرسوله ومحبا" لعباد الله ، قضى عمره في ساحات الإيمان متعلما"ومعلما"، يغرس بذور الحب في قلوب عباد الله ، ولم يكن عمل عالم الدين نزهة في ضوء القمر ، عالم الدين يحمل نور النبوة إلى قلوب عباد الله ، ليقدح الفتيل الخامد ، عالم الدين يبحث عن قلب رجل مسلم ، ليغرس فيه شجرة الخوف من الله ، عالم الدين يرشد عباد الله إلى قمر الهداية في ليالي الحياة المظلمة المكفهرة بضلالات الجاهلية ، ويشير إليهم إلى أنوار بيوت الله ، وأن الله يسمع نبض قلوبهم المستغفرة ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) كان أبي - رحمه الله – محبا" لربه ومحبا" لرسوله ، أكرمه المولى (95سنة )وكانت صحته جيدة، لم يصل جالسا"، كان يقف خاشعا" ذاكرا" وكان يقرأ القرآن بدون نظارة بمصحف صغير( قل هذا سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني )كان والدي يردد أن محبة الناس للعالم ، تأتي من محبة العالم لربه ، والحب الخالص لله ، يجعل عملك وعلمك خالصا" لوجهه ، ليس فيه كسب مادي أو كسب اجتماعي ،وكان يضرب لنا أمثلة عن علماء عاملين أمطار قلوبهم ، زرعت غابات خضراء في قلوب المجتمع الحلبي ، لازالت هذه الغابات الإيمانية ، تأتي أكلها حتى الآن ، هؤلاء العلماء يعطر ذكراهم المجالس .

كان يقدم استقالته من الوظائف الدنية تباعا" ، كلما شعر أنه غير قادر على القيام بأعباء الوظيفة ، وقد ذكر لي الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد تيسير كعيد ، وكان مسؤولا" عن التفتيش الديني ،قدم والدك رحمه الله استقالته من تدريس درس المحافظة، فرجوته أن يجعل دروسه في المسجد القريب من بيته ، فأبى ، ثم رجوته أن يجعل دروسه في منزله ، فأبى ، وأصر على الاستقالة.

كان محبا" لله ولرسوله : تبدأ عبادته الفجر عابدا"  ناسكا"، يقرأ ورده من القرآن ثم يقرأ صحيح البخاري فإذا انتهى من شرح العسقلاني بدأ بشرح البدر العيني ، ثم يختم جلسته بأدعية وأذكار .

ومحبة الوالد –رجمه الله –لإخوته من عباد الله ، تتحرك من ينابيع متعددة . أكثر من خمسين سنة وهو يعلم في المدارس الشرعية بحلب ، وقد ذكر أنه قد حضر عنده الجد والابن والحفيد، وإذا التقى مع تلميذ له ، وقد أحنت السنون ظهره ، يقول له : ممازحا" متواضعا" ، نحن التقينا في قاعة صف واحد ة،.

الحب الإنساني ، يذكر أخوة الإيمان في المنشأ والمصير الواحد ( إنما المؤمنون إخوة )وقد علم في المدارس الشرعية العلوم الإسلامية المتعددة ( الفقه – الحديث – السيرة – العقيدة – المنطق )وفي دروسه في المساجد كان أخا" ومرشدا" وموجها" لمريديه، كان يكره الكبر والخيلاء ، وكان يكرر أن الإسلام ، حرم كل مايمس كرامات الناس وأحاسيسهم . وكان يأخذ نفسه بالعزيمة والشدة في أمور الدين ، بينما كان يختارلسائلية الأيسر وكان يردد قول رسول الله ( إن هذا الدين يسر لا عسر ،ولن يشاد الدين أحد إلا غلبيه ) ولم يقتصر عمله في المدارس الشرعية والمساجد ، بل كان يمتد إلى الشارع ، كل من يسأله سؤالا" شرعيا"يقف معه مستمعا"له ، ثم يجيبه بكل هدوء وبساطة ، ويتأكد من فهمه للجواب ، ويودعه بابتسامة ودعاء له بالتوفيق ، الحب يجعل المرء متوددا" لأخيه يتمنى له الخير والمنفعة ، باذلا" أمامه كل مايسهل له أمر حياته .

( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مايحبه لنفسه ) من دروس الحب التي كنت أتلمسها أن وإخوتي من والدي – رحمه الله- كان محبا" لشيوخه في المدرسة الخسروية ، كان يذكرهم دائماً ويدعو لهم ويترحم عليهم ، وكانت صورهم ماثلة في عقله وقلبه ، ويطلب من أولاده الوفاء والحب لمن قدم لهم معروفا" وكان يردد ( وسمسة يحمد آثارها )العالم الشيخ يحمل في جنباته قمر الحضارة والروح ، فقد جعل الله العرب خير أمة أخرجت للناس ، يذكر الوالد شيخه أباالنصر بكل حب ،وقد دعاه الحب ليزوره في منبج .

كان لوالدي – رحمه الله – جولات في قرى ومناطق حلب يزور تلاميذه وأصدقاءه، لتتشابك القلوب على محبة الله ، وكان الوالد – رحمه الله يصحب أولاده لزيارة علماء حلب –رحمهم الله – في مساجدهم ، يحضر دروسهم وأذكارهم وجلساتهم ،

الشيخ محمد النبهان في جلسته مع طلابه يوم الأثنين بعد العصر في جامع الكلتاوية ، ويوم الجمعة هو يوم عيد وعبادة ، هناك الذكر في جامع العادلية بإشراف الشيخ عبد القادر عيسى بعد صلاة الجمعة ، وبعد صلاة العصر هناك الذكر في الزاوية الهلالية ، وبعد الأنتهاء من الذكر هناك جلسه في الجامع الرومي عند الشيخ رجب الطائي مع محبيه .

إن مجالسة العلماء الذين نفضوا أيديهم عن غبار الدنيا ، وتعلقت قلوبهم بقناديل الرحمن يرجون رحمة الله لهم ولمريديهم .

عندما كان الشيخ عبد الله سراج الدين – رحمه الله – مجاورا" لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المدينة المنورة وحين كان والدي – رحمه الله – يذهب لأداء العمرة  كان يصحبني معه في زيارته للمدينة ، لزيارة صديقه الشيخ عبد الله سراج الدين ، كنت أقرأ في وجهيهما آيات الحب تطفح في الغرفة فتنيرها ، اللقاء كان خالصا"  لوجه الله ، أمطار الخير تتساقط من أيديهما ، وعيونهما تنظر إلى الله ،الشيخ عبد الله سراج الدين ترك مدينته حلب أرض الخير والبركة والعلماء وفيها مدرسته الشعبانية ( جمعية التعليم الشرعي ) التي استمد أساس بنيتها من بركة رسول الله لتملأ شعاب حلب ووديانها بالعلم الشرعي ، وقد عز فيه هذا العلم ، ونضب فيه الضرع ، واستغاث الناس بالشيوخ الركع . كان الشيخ عبد الله ناعم الصوت، كان صوته يخرج من قلب ، يسأل عن إخوته العلماء الغائبين في المدرسة فردا" فردا"، ويسأل عن الطلاب العلماء عند كل شئ بفيدهم بالمستقبل ، حتى يحملوا رسالة رسول الله إلى أبناء مدينتهم الخالدة وينتهي اللقاء بالأمل والعزيمة ( إن الله يحب المتقين )، ( إن الله يحب المتوكلين ) .

هذه الكلمات ارتسمت على جدار ذاكرتي ، وهي كلمات قليلة مما سمعته أو رأيته من والدي – رحمه الله – أتمنى من محبيه وتلامذته أن يرفعوا رايات الحب لله ولرسوله في ديناهم .

وسوم: العدد 667