من وفيات الأعيان في الشهر المعظم رمضان

د. عبد السلام البسيوني

وفاة الزهراء، المباركة، سيدة نساء العالمين، فاطمة

بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنها

 في الثالث من رمضان، سنة إحدى عشرة من الهجرة الشريفة، الموافق للثاني والعشرين من نوفمبر، سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، وبعد لحوقه صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، اختار الرحمن الرحيم، إلى جواره الكريم، سيدة نساء العالمين، الزهراء فاطمة، بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، من سيدة نساء العالمين خديجة بنت خويلد رضي الله عنهما، لتخرج كاملة من كاملة، صديقة من صديقة.

ولدتها أمي وأم المؤمنين خديجة – نفعنا الله بحبها - أيام كانت قريش تبني البيت، قبل النبوة بخمس سنين، وهي صغرى بناته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

وتزوجها سيدي أمير المؤمنين، أسد الله، باب مدينة العلم، علي بن أبي طالب رضي الله عنه - أيضاً - في رمضان من السنة الثانية من الهجرة، وبنى بها في ذي الحجة، وولدت له السادة الأسباط: الحسن، والحسين، وزينب، وأم كلثوم، ومحسناً الذي مات صغيراً.

حظيت السيدة الزهراء فاطمة رضي الله عنها بمنزلة عظيمة في نفوس المؤمنين - جاهلهم وعالمهم، عربيهم وعجميهم - لما كان لها من منزلة لا تدانى في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان يناديها بأم أبيها؛ لما كان فيها من الحنان والحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

هاجرت الزهراء رضي الله عنها إلى المدينة المنورة وهي في الثامنة عشرة من عمرها، مع أختها أم كلثوم، وأم المؤمنين سودة بنت زمعة، بصحبة زيد بن حارثة، وهاجرت معهم أم المؤمنين عائشة، وأمها أم رومان، بصحبة عبد الله بن أبي بكر – رضي الله عنهم أجمعين - وكان ذلك في السنة الأولى من الهجرة، وتزوجها أسد الله الغالب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأصدقها درعه الحُطمية، وذلك في ذي القعدة أو قُبيله من سنة اثنتين، بعد معركة بدر (قاله الذهبي).

وقال ابن عبد البر: دخل بها بعد معركة أحد، فولدت له الحسن والحسين وأم كلثوم وزينب، رضي الله عنهم أجمعين.

كانت من أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم في حركتها، وكان صلى الله عليه وسلم يحبها، ويضمها، ويسارُّها، ويبشرها، وينصحها - حتى آخر حياته بأبي هو وأمي - فقد صح أنها أقبلت رضي الله عنها ذات يوم، كأن مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال: مرحباً بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم إنه أسرّ إليها حديثاً فبكت، فسألتها أمي عائشة الصديقة رضي الله عنها في تعجب: اختصك صلى الله عليه وسلم بحديثه ثم تبكين؟ ثم إنه أسرّ إليها حديثاً فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن، فسألتها عما قال، فقالت: ما كنت لأفشي سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تقول عائشة الصديقة رضي الله عنها: فلما قُبِض صلى الله عليه وسلم سألتُها فقال:

إنه أسرّ إليّ فقال: إن جبريل كان يعارضني بالقرآن في كل عام مرة، وإنه عارضني في هذا العام مرتين، ولا أراه إلا قد حضر أجلي، وإنك أول أهل بيتي لحوقاً بي، ونعم السلف أنا لك، فبكيت لذلك..

ثم قال: ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة أو سيدة نساء المؤمنين؟ قالت: فضحكت لذلك.

لم تسلك رضي الله عنها سيرة المترفات، ولا بنات الملوك، بل كانت قانتة عابدة، برة زاهدة، صوامة قوامة..

قال زوجها سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لقد تزوجت فاطمة، وما لي ولها فراش غير جلد كبش ننام عليه بالليل، ونعلف عليه الناضح بالنهار! وما لي ولها خادم غيرها!

وبلغها أنه جاءه صلى الله عليه وسلم رقيق، فجاءت إليه صلى الله عليه وسلم، فلم تصادفه، فذكرت ذلك لعائشة، فلما جاء أخبرته عائشة، قال: فجاءنا صلى الله عليه وسلم، وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا نقوم فقال: على مكانكما، فجاء فقعد بيني وبينها، حتى وجدت برد قدميه على بطني فقال: ألا أدلكما على خير مما سألتماني؟ إذا أخذتما مضاجعكما، أو أتيتما إلى فراشكما، فسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادم، أخرجه

البخاري ومسلم.

وكانت رضي الله عنها حيية ستيرة؛ تروي كتب السنة أنه لما مرضت فاطمة الزهراء رضي الله عنها مرض الموت الذي توفيت فيه، دخلت عليها أسماء بنت عميس رضي الله عنها تعودها وتزورها، فقالت فاطمة لأسماء: والله إني لأستحيي أن أخرج غداً (إذا أنا مت) على الرجال يرون جسمي من خلال هذا النعش - وكانت النعوش آنذاك عبارة عن خشبة مصفحة، يوضع عليها الميت، ثم يطرح على الجثة ثوب، ولكنه كان يصف حجم الجسم - فقالت لها أسماء رضي الله عنها: أو لا نصنع لك شيئاً رأيته في الحبشة؟

فصنعت لها النعش المغطى من جوانبه، بما يشبه الصندوق، ودعت بجرائد رطبة فحنتها، ثم طرحت على النعش ثوباً فضفاضاً واسعاً فكان لا يصف، فلما رأته فاطمة قالت لأسماء: سترك الله كما سترتني..

قال ابن عبد البر عن فاطمة الزهراء رضي الله عنها: هي أول امرأة غطى نعشها في الإسلام على تلك الصفة!

ولما حضرتها الوفاة أوصت إلى أسماء بنت عميس امرأة الصديق رضي الله عنهم أجمعين أن تغسلها، فغسلتها هي وعلي بن أبي طالب زوجها رضي الله عنهم، وصلى عليها زوجها عليّ وعمهما العباس، ودفنت ليلاً، وذلك ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة، وقيل: إنها لم تضحك في مدة بقائها بعد النبي عليه الصلاة والسلام، وإنها كانت تذوب من حزنها عليه، وشوقها إليه صلى الله عليه وسلم..

رضي الله عنها وأرضاها، ولا حرمنا بركتها.

وسوم: العدد 672