في ليلة القدر ولد محمد بن صالح بن عثيمين

د. عبد السلام البسيوني

العلامة الشيخ الباسم الودود

 ومن أعيان المواليد في رمضان المعظم العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، العالم الفقيه الأصولي المفسر اللغوي الحنبلي المحدث الواعظ الداعية النجدي البارز، الذي أطبق الخلق على سعة علمه، ورفقه، وحسن خلقه، وسلامة منهجه.

وقد ولد عليه رحمات الله ورضوانه في السابع والعشرين من رمضان سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية، في عنيزة بالقصيم، من المملكة العربية السعودية.

وعمل رحمه الله أستاذاً بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وعضواً بهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، وإماماً للجامع الكبير في عنيزة.

 حفظ ابن عثيمين القرآن الكريم في سن مبكرة، ثم بدأ يطلب العلم على شيخه عبد الرحمن بن ناصر السعدي في مسجد عنيزة حتى أدرك الشيء الكثير من أصول الدين وفروعه وقواعد اللغة العربية، وفي عام 1372هـ التحق بالمعهد العلمي في الرياض، حيث درس على أساتذته الكبار أمثال العلامة الجليل محمد الأمين الشنقيطي، كما أخذ عن فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز، الذي يعد شيخه الثاني بعد ابن سعدي؛ تحصيلاً وتأثراً، ثم أصبح مدرساً في معهد عنيزة، مع مواصلة دراسته، انتساباً، في كلية الشريعة بالرياض، والتي تخرج منها عام 1377هـ.

 وهب الله الكريم الشيخ محمداً كثيراً من صفات العلماء الفاضلة، التي من أبرزها الورع، والزهد ورحابة الصدر، وقول الحق، والعمل لمصلحة المسلمين، والنصح لخاصتهم وعامتهم - نحسبه والله تعالى حسيبه، ولا نزكي على ربنا سبحانه أحداً - وقد انتفع الكثيرون بعلمه، تدريساً وإفتاءً، وتأليفاً، فقد درّس علوم العقيدة والشريعة والتفسير والحديث وقواعد اللغة العربية منذ نحو نصف قرن؛ في جامع عنيزة الذي تولى إمامته بعد وفاة شيخه ابن سعدي عام 1376هـ، وفي المعهد العلمي، ثم كلية الشريعة؛ إضافة إلى التدريس في الحرم الشريف خلال شهر رمضان المبارك،

 ولما وفقه الله من صفات حميدة وعلم غزير، وجودة في أسلوب التدريس وعرض المادة العملية، اجتذبت حلقات درسه كثيراً من طلاب العلم من العالم الإسلامي.

كما شارك في مؤتمرات إسلامية كبيرة، مثل مؤتمر رسالة المسجد، ومؤتمر الدعوة والدعاة، ومؤتمر الفقه الإسلامي، ومؤتمر مكافحة المخدرات، وكان لآرائه القيمة أثر في نجاح تلك

المؤتمرات.

 فاز فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين بجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1414هـ/1994م، وتوفي رحمه الله عام 1421هـ عن أربع وثمانين سنة هجرية.

 وقد أسعد الله الكريم عبده المستعين بالله بمحاورة الشيخ نحو تسعين دقيقة في محاضرة هاتفية، بحضور جمهور كبير في قاعة عبد الله بن زيد آل محمود في إدارة الدعوة، وحاول التضييق عليّ في الحوار، فلما تخلصت منه، وحققت ما أريد، قال مازحاً: ما غلبني غيرك.

 وهذا الموقف يستدعيني أن أؤكد أن من الجوانب التي يحتاج المعاصرون لمعرفتها في مشايخهم الأفاضل: جانب خفة الدم، ولطف المعشر، وسرعة البديهة، وسعة الصدر؛ على عكس ما يصورهم الإعلام الخبيث، الذي يتفنن في الزراية برموز الإسلام وعلمائه.

وللشيخ رحمه الله تعالى من ذلك نصيب وافر، فقد كان في دروسه يخاطب الجالسين، ويستفز إمكاناتهم، ويفاجئهم بقفشاته الرزينة، لكن مما يروى عنه رحمه الله تعالى أنه كان في مكة ذات يوم راكباً سيارة تاكسي .. ولما توسم السائق في الشيخ الطيبة - وهو لا يعرفه - أراد أن يتعرف إليه فسأله: ما تعرفنا على الاسم الكريم يا شيخ؟

فرد الشيخ: محمد بن صالح بن عثيمين.

فدبت روح الاستطراف في نفس السائق، وقال بسرعة: تشرفنا؛ معك عبد العزيز بن باز!

هنا ضحك الشيخ، وقال له: ابن باز أعمى، كيف يسوق تاكسي؟

فرد السائق: وابن عثيمين في نجد؛ وِشْ اللي يجيبه هنا؟ تمزح معي انت؟

هنا ضحك الشيخ رحمه الله، وأقنعه أنه بالفعل ابن عثيمين.

ومن الطرائف التي تكشف عن سعة صدره رحمه الله، ما رواه بعضهم من أنه كان خارجاً من البيت رحمه الله وبيده المبخرة، متوجهاً للمسجد؛ فإذا بشباب (طايش) يقترب منه في معابثة

قبيحة، قائلًا: يا شيخ: ممكن أولع السيجارة؟

فقال الشيخ رحمه الله: تفضل يا ولدي، فاستحيا الشاب، وأثر فيه الموقف، حتى أصبح واحداً من

طلبة الشيخ الملازمين له!

ومن طريف ما روي في هذا الباب أن أحد كبار السن من أهل البادية كان يصلي في مسجد الشيخ - وهو لا يعرفه - وكان الشيخ في صلاة جهرية، فنسي إحدى الآيات أثناء القراءة، وذكّره بها أكثر من شخص خلفه، وعندما انتهى الشيخ من الصلاة نبههم إلى أن التذكير لا يكون بهذا الشكل الجماعي، وأن واحداً يكفي عن البقية، فما كان من الرجل الغريب إلا أن صاح: إلا المفروض أن الشايب اللي مثلك ما يعرف يقرأ، يصفّ ورا، ويخلي الصلاة لأهلها..

فابتسم الشيخ، واستقبلها بقبول حسن، وروح طيبة.

وإنك حين تستمع للشيخ رحمه الله فإنك سترى سعة واديه، وشمولية علمه، وحسن تأتيه، وتميزه بشد جمهوره إليه، بالمناقشة، والمحاورة، والممازحة، والتصويب، ومن أظهر ما يصدق ذلك تفسيره الشفوي الذي جمعه بعض الشباب الجادين في الدوحة، وقدموه غنيمة باردة للإذاعة القطرية، لنستمتع به ظهر كل يوم عند عودتنا من العمل، ونرى منه بديع الاستنباطات، وغزير العلم، وأصولية تفسير القرآن بالقرآن، وبركة الله على الشيخ في ذاكرته، وعقله، وعلمه. اللهم اجمعنا به وبالعلماء الربانيين في فردوسك الأعلى يا كريم.

وسوم: العدد 672