وفاة الصديقة عائشة بنت أبي بكر في رمضان المعظم
عن عمر يناهز سبعاً وستين سنة، توفيت أم المؤمنين، حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، المبرأة من فوق سبع سموات، الفقيهة الأديبة العفيفة الحيية الصالحة، الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما، ليلة الثلاثاء السابع عشر من رمضان، سنة خمسين وست من الهجرة المعظمة، الموافق الثالث من أغسطس، عام ستة وسبعين وستمائة من الميلاد.
ذات المناقب والمزايا، والبركة والتوفيق، الأثيرة المدللة، البكر الوحيدة، التي جاهر صلى الله عليه وسلم بحبها، يصرح ولا يكني، ولم يترل عليه الوحي في لحاف امرأة غيرها، ولم يكن في أزواجه أحب إليه منها.
تزوجها صلى الله عليه وسلم بمكة، بعد وفاة أمنا العظيمة سيدة نساء العالمين، الكاملة خديجة، وقد أتاه الملك بها في المنام في سَرَقة من حرير، مرتين أو ثلاثاً، فيقول: هذه زوجتك. قال: فأكشف عنك فإذا هي أنت. فأقول: إن يكن هذا من عند الله يُمضه. فخطبها من أبيها فقال: يا رسول الله، أو تحل لك؟ قال: نعم. قال: أو لست أخاك؟ قال: بلى، في الإسلام، وهي لي حلال..
فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحظيت عنده صلى الله عليه وسلم.
تكلم فيها أهل الإفك بالزور والبهتان فغار الله تبارك وتعالى لها، وأنزل براءتها في عشر آيات من القرآن، تتلى إلى يوم القيامة، ولا يزال المرَقة والدجاجلة يقعون فيها؛ لتدوم عليهم لعنة الله تعالى، وليتحقق فيهم – على مدى الدهر – قوله تعالى: والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم..
وتميزت عن سائر أمهات المؤمنين رضي الله عنهن بخصائص، منها:
1- كان لها في القسْم يومان؛ يومها ويوم سودة؛ حين وهبتها ذلك تقرباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه مات في يومها وفي بيتها، وبين سَحْرها ونحرها، وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعاته في الدنيا، وأول ساعة من الآخرة، ودفن في بيتها.
2- ومن خصائصها رضي الله عنها أنها أعلم نساء النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي أعلم النساء على الإطلاق؛ لأنها جمعت علم بيت النبوة، وكان فيها ذكاء وحدة ذهن، قال الزهري رحمه الله تعالى:
لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم جميع النساء،
لكان علم عائشة أفضل.
وقال عطاء بن أبي رباح رحمه الله: كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأياً في العامة.
وقال عروة: ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا طب ولا شعر من عائشة.
ولم ترو امرأة ولا رجل، غير أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث بقدر روايتها، رضي الله عنها.
وقال أبو موسى الأشعري ما أشكل علينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عائشة، إلا وجدنا عندها منه علماً. وقال مسروق: رأيت مشيخة أصحاب محمد الأكابر يسألونها عن الفرائض.
3- ثم لم يكن في النساء أعلم من تلميذاتها؛ عَمرة بنت عبد الرحمن، وحفصة بنت سيرين،
وعائشة بنت طلحة، وقد تفردت أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها بمسائل من بين الصحابة لم توجد إلا عندها، وانفردت باختيارات أيضاً، وردت أخباراً بخلافها بنوع من التأويل. وقد جمع ذلك غير واحد من الأئمة.
وقال الشعبي: كان مسروق إذا حدث عن عائشة قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله، المبرأة من فوق سبع سموات.
4- ومما ورد من مناقبها رضي الله عنها ما روته أمنا أم سلمة رضي الله عنها قالت:
تقولُ: كَلَّمني صواحِبي: فقلن كلِّمِي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ الناس يهدونَ إليهِ في بيتِ عائشةَ، ونحن نحِب ما تحِب، فيصرفون إليه هدِيتهم حيثُ كانَ..
قالت أم سلَمة: فلما دخلَ علي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسولَ الله إنّ صواحِبي قَد أَمرنني أن أُكلّمك تأمر الناس أن يُهدوا إليك حيثُ كُنت، وقُلن إنا نحب ما تحِب عائشة، قالت: فلم يجِبني، فسألنني، فقلت: لم يرد علي شيئاً!
فلما كانت الثالثةُ عدت إليه فقال: لا تؤذِيني في عائشةَ، فإنّ الوحي لم يترِل علي في لحِافِ واحِدةٍ مِنكُن غَيرِ عائشةَ ". صحيح متفق على صِحته!
وعنها رضي الله عنها عن عائشةَ قالت: أَرسلَ أزواج النبيِ صلى الله عليه وسلم فاطمةَ بنت رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذَنت ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم مع عائشةَ في مِرطِها، فأَذِنَ لها، فدخلَت، فقالَت: يا رسولَ اللهِ:
إنّ أزواجك أَرسلننِي إليك يسأَلنك العدلَ في ابنةِ أبي قُحافَةَ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَي بنيةُ أَليس تحِبين ما أُحِب" قالت بلى يا رسول الله، قالَ:" فَأَحِبِّي هذه.. مشيراً لعائِشةَ رضي الله عنها" مسلم والنسائي وغيرهما!
ولمّا ثَقُلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مرضِه الذي توفّي فيهِ قال: "أَين أنا غَداً"
قالوا عند فُلانةَ، قالَ: "أَين أنا بعد غَدٍ" قالوا عند فلانةَ، قال فَعرف أَزواجه أنه يريد عائشةَ رضي الله عنها، فقُلن يا رسولَ الله: قَد وهبنا أيامنا لأختِنا عائشةَ"! متفق على صِحتِه.
وثبت في البخاري من حديث أبي عثمان النهدي، عن عمرو بن العاص قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة". قلت: ومن الرجال؟ قال: أبوها.
وفي البخاري أيضاً، عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام.
وقد أوصت أن تدفن بالبقيع ليلاً، وصلى عليها الصحابي الجليل سيدنا أبو هريرة رضي الله عنهما بعد صلاة الوتر، ونزل في قبرها خمسة وهم؛ عبد الله وعروة ابنا الزبير بن العوام من أختها أسماء بنت أبي بكر والقاسم وعبد الله ابنا أخيها محمد ابن أبي بكر وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، وكان عمرها يومئذٍ سبعاً وستين سنة؛ لأنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرها ثمان عشرة سنة، وكان عمرها عام الهجرة ثماني سنين أو تسع سنين. فالله أعلم.
وهذه أبيات من قصيدة في مناقبها، وعلى لسانها، نظمها أبو عمران موسى بن محمد بن عبد الله الواعظ (ابن بهيج الأندلسي) رحمه الله:
إنِّي لَطَيِّبَةٌ خُلِقْتُ لِطَيِّبٍ ونِسَاءُ أَحْمَدَ أَطْيَبُ النِّسْوَانِ
إنِّي لأُمُّ المُؤْمِنِينَ فَمَنْ أَبَى حُبِّي فَسَوْفَ يَبُوءُ بالخُسْرَانِ
اللهُ حَبَّبَنِي لِقَلْبِ نَبِيِّهِ وإلى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ هَدَانِي
واللهُ يُكْرِمُ مَنْ أَرَادَ كَرَامَتِي ويُهينُ رَبِّي مَنْ أَرَادَ هَوَانِي
واللهَ أَسْأَلُهُ زِيَادَةَ فَضْلِهِ وحَمِدتُهُ شُكْراً لِمَا أَوْلاَنِي
يا مَنْ يَلُوذُ بِأَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ يَرْجو بِذلِكَ رَحْمَةَ الرَّحْمانِ
صِلْ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ ولا تَحِدْ عَنَّا فَتُسْلَبَ حُلَّةَ الإيمانِ
وسوم: العدد 673