الشهيد فيصل غنامة
فيصل.. وسنوات خمس من الطِّراد.. من الكر والهجوم.. من المقاومة, ما غاب فيها عن الميدان, ولا افتقده فيها ساح.. على الرغم من كلاب العدو وسطوته.
سنوات خمس ينام فيها البطل بإحدى عينيه, ويرقب بالأخرى ثغرته في بناء الإسلام والمسلمين, وربما اضطر إلى افتراش الثرى والتحاف السماء, وكل شيء في سبيل الله جلل.
سنوات خمس.. لا تفتر فيها عزيمة, ولا تلين فيها قناة. مرابط في سبيل الله, يحرس عقيدة أمة, ويصاول عن دين شعب, ويذود عن ثغرة من ثغور الإسلام, فأنى يؤتى الإسلام من قبل فيصل, وهو في يفاعته قد نهل الإسلام من معين العالم العامل الشيخ محمد الحامد – رحمه الله- وتربى في شبابه على يدي الشهيد مروان حديد.
وبعد مروان, كان فيصل عوناً وسنداً للشهيد عبد الستار الزعيم, يستمد منه عزماً وتصميماً ورأياً وحزماً.. وحباً جعله لا يقيم بعده – إذا افتقده - إلا أياماً قليلة, ثم لحق به على الدرب الذي تواصوا به وتعاهدوا عليه, ودعوا الله في خلواتهم وجلواتهم أن يثبتهم عليه, لحق بإخوانه على درب الشهادة.
ما نذكر منك يا شهيدنا الحبيب؟
أنذكر الشباب الزاهر الذي ما عرف نعومة الحياة, ولا ذاق لين الفراش؟
أنذكر القوام المعتدل يخطر بيننا في شوارع حماة, خطرة أبي دجانة بين الصفين, فيملأ القلوب ثقة وعزيمة.. كما يملؤها رهبة وإجلالاً, وهي تعلم أن الطلب عليك حثيث, وأن الأعين مفتوحة, وأن مئة الألف التي رُصدت فيك وفي كل واحد من إخوانك تغري كل خسيس؟!
أنذكر طيب الخلق, وحسن الشمائل, والروح المرحة, ولطف المعشر, ونذكر تواضعك لإخوانك؟
أنذكر مجالسك.. صمت وهدوء, حكمة ووقار, من يستطيع أن يقدر أن نفساً كهذه يمكن أن تتفجر كالبركان على الظلم والظالمين؟.. إنه صمت الحكمة وهدوء اليقين, واتزان البصيرة النافذة, وحكمة الواثق من دربه, ووقار العالم بربه, وهي أخيراً عزة المؤمن التي تأبى أن تذل وتستكين.
مضى أبو حسين الزعيم، وفارق الأخ أخاه, والإلف إلفه, فقلقت الروح واضطربت, ولعلها ناجت ربها في ساعة خلوة, وقد تحدّر الدمع من عين طالما بكت من خشية الله, وطالما باتت تحرس في سبيل الله، فأجهش فيصل بدعوة السلف الصالحين.
وخرج مع أخ له ينصب الشراك لرأس من رؤوس الظلم, للمحافظ.. اللواء الذي طالما رتع في مراتع الغواية, ولجّ في الظلم والبغي, يُشرِّدُ الأسر الآمنة, ويهدم البيوت على أهلها, ويومها علم الشعب المسلم أن إسرائيل ليست وحدها هي التي تهدم البيوت وتترك الأسر شريدة طريدة في العراء, ومن حينها قرر المجاهدون أن تدور على الباغي دائرة السوء.
ووصل الصيد.. وتقدم الأخ (عبد الحكيم الريس) ففتح النار, وحين حاول الاقتراب منه, عاجلته سيارة خلفية فدهسته, فنادى لسان حاله: (فزتُ وربِّ الكعبة).
ووثب فيصل وصوب مسدسه إلى رأس الصيد, فأبى المسدس, حاول ثانية, فكان أشد إباء.. وبالسرعة الخاطفة, بدل المخزن وحاول, ولكن أمر الله كان سابقاً, ودعوة فيصل كانت قد استجيبت وعاجلته طلقات البغي فأعجلته إلى ربه ليرضى.
أما الصيد القابع في السيارة, فقد انخلعت مفاصله, واصطكت أسنانه, وكاد يغمى عليه فنادى: إلى المستشفى خذوني.
يوم به هرب اللئيم وجنده مثل الأرانب من يد الأبطال
* * *
وفد فيصل مع أخيه عبد الحكيم إلى ربهما يوم الاثنين 29 من ذي الحجة 1399هـ الموافق 19/11/1979م, وَفَداهُ صائمين مبتسمين ببسمة العزة والكبرياء.
وقد كان شهيدنا يشعر بدنو أجله, فعانق إخوانه بعد أن ختم قراءة القرآن الكريم, وأوصى أهله بثلاث: عدم لبس السواد, عدم إظهار الحزن, أن لا يحجّر قبره.
وعلى درب الشهادة مضى فيصل, مضى الفارس بلا كبوة, والحسام بلا نبوة, مضى وقد قارب الثلاثين, فكان عمره القصير حافلاً, فخلَّف وإخوانه – في وجوه الظالمين- سواعد لا تكل، وهمماً لا تفتر, وعزائم لا تخور.
رحم الله أبا يوسف...
رحم الله فارساً آن له أن يترّجل.. آن له أن يلقي الأحبة: محمداً وحزبه.
اللهم لا تحرمنا أجره, ولا تفتنا بعده, وألحقنا به على درب الشهداء والصالحين, وحسن أولئك رفيقاً.
وسوم: العدد 677