الشهيد ذو الجناحين.. ياسر الخطيب

خرج من بيته وهو يتلو قوله تعالى (وقل رب أدخلني مدخل صدق، وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً، وقل جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً) وما إن أطلت عليه مآذن جامع (عباد الرحمن) حتى سمع صوت المؤذن يعلنها (الله أكبر الله أكبر)، فوقف هنيهة..

هل يدخل المسجد ليؤدي صلاة المغرب في هذه اللحظة؟

إنه توارى لمجرد رفضه أن يؤخذ رهينة بعد اعتقال والده ووالدته وأخيه أنس وأخيه أيمن المجاهد، وفكر.. ما قيمة الحياة بعد كل هذه الأهوال؟ وهل لامرئ أن يعيش بدون حرية أو كرامة أو دين؟ أما أولئك الذين تخلوا عن كرامتهم أو دينهم فليسوا من البشر في شيء.. يا الله ما أشد ما يتعرض له المسلمون اليوم من تنكيل واضطهاد وظلم...!

كان رحمه الله قد اشترى عدة قنابل ومسدساً ليدافع بها عن نفسه في حال مداهمته على يد عناصر السلطة، ولقد شدها جميعاً على خصره بعدة (نطاقات جلدية).. تحرك قليلاً واتجه ببصره صوب باب المسجد، وكان يؤمه المصلون، ورمق الطريق المتجه ناحية (السريان) ففاجأه وجود عناصر المخابرات موزعين في كل جهاته، تابع السير، وإذا صوت من الخلف:

 قف!

فاستدار إليه ذو الجناحين فوجده جالساً القرفصاء وجسمه يرتجف من الخوف والهلع يكاد مدفعه الرشاش يسقط من يده، وسرعان ما أحاط به زملاؤه من عناصر المخابرات ونهروه على تخاذله دون أن يتصرفوا شيئاً، فقد تظاهروا بالشجاعة لكن قلوبهم ترتجف توجساً وخيفة..

وبخطوات أسرع من البرق كان الأخ الشهيد يصعد (سلم) إحدى البنايات المجاورة، ويبقى في منتصف الدرج، وراح يحدث نفسه.. هل أنا المقصود يا ترى؟ أم يريدون غيري من الأبرياء واشتبهوا بي؟ وما الجناية التي ارتكبتها؟ قاتلهم الله أنى يؤفكون.

انتظر عشر دقائق، وإذا بوقع أقدام تصعد إلى أعلى، يتقدمهم (أحمد أبو سعدة) وكانوا يتهامسون.. صرخ فيهم الشهيد.. لا تحاولوا وإلا دمرتكم، ففتحوا أفواه مدافعهم الرشاشة وهم يتابعون طريقهم، لم يتحرك بل قذفهم بقنبلة وقال.. (بسم الله هذه واحدة).. لم يعد يسمع قرع نعالهم.. الحمد لله.

أصغى وإذا أزيز طيران (عمودي). صعد إلى الأعلى فوجد جميع الأبواب مفتحة من شدة ضغط القنبلة، فولج أحدها في الطابق الأخير، لم يكن هناك أحد، وخرج إلى السطح فوجد عناصر السلطة موزعين على أسطحة البنايات وفوق مآذن جامع الرحمن، والطائرة تحوم في المنطقة تسلط الأضواء الكاشفة.

ارتد إلى الخلف ليرى مداهمين آخرين قد وصلوا إليه، فقطع عليهم الطريق في آخر الدرج بقنبلة وقال.. (واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيرا) اهتز الحي بأكمله في هذه المرة، ودبت في الشهيد روح أهل الخلد، وظن أن عناصر المخابرات الذين يحيطون به يسمعونه ورأى ببصيرته كيف أن المسلمين يسمعون الآن صوته ويتلقفون عباراته..

فحمد الله وأثنى عليه كما هو أهله، وصلى على رسوله الكريم، ثم هلل وكبر، ونادى للجهاد وقال:

 - أما أنتم يا عناصر الأمن المسلمين فلست أقصدكم.. ابتعدوا من هنا، إياكم أن تكونوا ضحية النصيريين الجبناء، يضعونكم في فوهة الخطر وهم في الخلف..

 وتعالت أصوات الله أكبر في المعمورة وأصغى الكون كله للصوت الهادر يجلل الآفاق، واستبشر المسلمون (المجاورون) خيراً واهتزت نفوسهم من الأعماق ولكن.. ماذا عساهم أن يفعلوا وهم عزل من السلاح، والمنطقة محاطة بالرعب وكأن الجحيم يقتحم.. ورمى الشهيد القنبلة الثالثة والرابعة والخامسة حيث الرشقات تتصوب نحوه، وبقيت واحدة..

وشهر مسدسه وأخذ يحصد كل من هم بمداهمته حتى نفد الرصاص، وبقيت القنبلة، ومن ثم دخل إحدى الغرف وتوجه إلى الله أن يكرمه بالشهادة وتذكر.. هل لي أن أصلي الفجر الذي سوف يؤذن له المؤذن بعد قليل؟.. وللمرة الأخيرة.. سمع وقع أقدامهم فانتزع صمام الأمان حتى اقتربوا منه، فقذفهم بها، وما شعر إلا في اليوم التالي على صوت أحدهم يقول للآخر..

(يده اليسرى مبتورة حتى الرسغ، أما اليمنى ففيها أصابع)

 وذاك يقول له:

انشرها.. انشرها!

ونشروا له يده اليمنى، فغدا إلى ربه بجناحين من نور يوم كبر مع إخوانه بعد سماعهم نبأ الإعدام.

بعد عدة أيام بدلوا له الضمادات في وجهه، حاول أن يفتح عينيه، لكنه لم يبصر إلا من جهة واحدة.. فقد احتسب إحداهما عند الله..

مكث ذو الجناحين في مستشفى سجن المخابرات شهراً ونصف الشهر، مكبلاً فوق السرير، ثم حمل إلى زنازين دمشق ليلقى فيها من فنون التعذيب الوحشي أقساها كي يقر أنه من المجاهدين.

إنه أبو اليسر.. ياسر أبوه عبد القادر خطيب مدرس الرياضيات، ولد في حلب عام 1957م في حي (الأنصاري) ودخل المدرسة الابتدائية (الأندلس) ونال الشهادة العامة في ثانوية عبد الرحمن الكواكبي، فسجل في جامعة حلب كلية العلوم (فرع الرياضيات).

عمل في بعض الحرف، ليكفي نفسه مالياً للدراسة ومستلزماتها، أثناء العطل والفراغ، وغطى جانباً من النفقات، كما أنه انتسب إلى نادي الاتحاد الرياضي وتدرب على الجهد والأعمال الرياضية الأخرى.

أطلق لحيته منذ أيامها الأولى، واشتغل بالعمل المسجدي ونشر الكتب الدعوية، وكان رحمه الله حبيباً إلى الأطفال يدعوهم إلى الله ويجنبهم الانحراف.

طويل القامة.. ممتلئ الجسم.. أبيض البشرة.. يميل شعره إلى الشقرة.. بهي الطلعة ويصطبغ وجهه بالحمرة من فرط حيائه، وينساب في النفس بتواضعه وتهذيبه اللطيف.

لا يكاد يغيب عن ذهنك من عظيم نشاطه ولباقة تصرفاته، فكأن البداهة سكبت في حناياه وميضها، فشرعت جوارحه بحركة دائبة لا تهدأ، وكأنه يبحث عن شيء افتقده، ولقي الله بسريرة أنصع من أشعة الشمس، ووجه يفيض بالإيمان والبشر، فوجد ما افتقد، والتأم من جديد في حياة النعيم المقيم.

وإني لأراه (وقد استقرت عيناه، وهدأت نفسه، وتسامت روحه عند خالقها) يتلو ذكر ربه آيباً إليه.. (الحمد لله الذي صدقنا وعده، وأورثنا الجنة نتبوأ منها حيث نشاء فنعم أجر العاملين).

وسوم: العدد 677