دعبل الخزاعي
5 -6 دعبل الخزاعي الوجه الآخر للشعر العربيدعبل الخزاعي : الموقف بعد الخسين (201 هـ) ، فمدحٌ ، فهجاء... لا سلاطة لسان ، ولا خبث طبع ، ولا ارتزاق درهم / نشرت اليوم ومن قبل في عشرات المواقع والصحف والمجلات والكتب / كريم مرزة الأسدي // يقول دعبل : أ - "لي خمسون سنة أحمل خشبتي على كتفي أدور على من يصلبني عليها، فما أجد من يفعل ذلك" ، ويقول مخاطباً زوجته سلمى :
قالتْ سلامة : أين المالُ ؟ قلتُ لها:*** المالُ ويحكِ لاقى الحمدَ فاصطحبا
الحمدُ فرّقَ مالي في الحقوق ، فما **** أبقين ذمّاً ، ولا أبقيــــن لي نشبا
مقدمة شعرية دعبلية ، للحقيقة وقول الحق ، أتفرّد فيها ...!
من المحال من يقول هذا الكلام ، وهذا الشعر الخالد ، أن يكون لئيماً ، وخبيثاً بطبعه ، وسليط لسان ، أو مرتزقاً ، كما يذهب معظم النقاد و مؤرخي الأدب العربي ، وإنما هو الموقف ، والموقف وحده ، لأن كلّ قصائد هجائه وسخريته من الخلفاء ووزرائهم وولاتهم وقادتهم وقضاة قضاتهم ، نظمت بعد التائية الموقف ( 201 هـ) ، وكان قد تجاوز عمره الثالثة والخمسين ، وبعد الرائية الشهيرة ( يا أمة السوء ) التي نظمها ( 203 هـ) إثر سم الإمام الرضا - كما يؤكد الشيعة - ، وكان قد تجاوز عمره الخامسة والخمسين ، بل حتى مدحه للأئمة ع ، معظمه جاء بعد الموقف ، ، لم يشر لهذا كل النقاد ومؤرخي الأدب من عصره حيث المبرد والأصفهاني وابن المعتز ومن بعدهم المعري حتى عصرنا بعقاده وعميده وفاخوريه وأمينه الأحمد ... ، بل حتى الشيعة أنفسهم ، لا أمينهم وأمينيهم ودجيليهم وشبرهم وكرباسيهم ووو قد ألفتوا الأنظار لهذه الملاحظة الدقيقة - وإن عرفوها جميعاً - المعرفة غير الانتباه والإشارة إليها - ، ودعبل وأبو نؤاس كانا أشهر وأجرأ شعراء العصر العباسي الأول ، الأول لهجائه وسخريته من الخلفاء وأركانهم ، والثاني لمجونه وعبثه وتهتكه وخمره .... الديوان بين يديكم أو أمامكم ، والشخصيات معروفة بتواريخ تسلطها ، نعم هجا الخليفة هارون الرشيد بقصيدته الرائية المذكورة ، وكانت وفاته ( 193 هـ ) ، أي بعد عشر سنوات ، نكاية بالمأمون المتهم عنده بسم الإمام ، ونظم بيتين في حق البرامكة ( نكبوا 187 هـ ) ، لا فيها مدح ، ولا هجاء ، وإنما قالهما على سبيل العظة والاستعبار .... إليكم من شعره ، وهذا قوله الشهير :
أ - "لي خمسون سنة أحمل خشبتي على كتفي أدور على من يصلبني عليها، فما أجد من يفعل ذلك"
ب -
نعوني ولمّا ينعني غيرُ شـامتٍ*** وغيرُ عدو ٍ قـــد أصيبتْ مقاتلـهْ
يقولون إن ذاقَ الردى ماتَ شعرُهُ**وهيهات عمرُالشعرطالتْ طوائلهْ
سأقضي ببيتٍ يحمدُ الناس ِ أمرهٌ*** ويكثرُ مـــن أهل الروايةِ حاملهْ
يموتُ رديءالشعر ِ من قبل أهلهِ*** وجيدهُ يبقــى وإنْ مـــات قائـلهْ
ج -
قالتْ سلامة : أين المالُ ؟ قلتُ لها:*** المالُ ويحكِ لاقى الحمدَ فاصطحبا
الحمدُ فرّقَ مالي في الحقوق ، فما **** أبقين ذمّاً ، ولا أبقيــــن لي نشب
د -
هل أنتَ واجدُ شيءٍ لو عنيت ًبهِ ؟***كالأجر والحمد مرتاداً ومكتسبا
قومٌ جوادهمُ فردٌ وفارســــــهمْ **** فردٌ وشاعرهمْ فردٌ إذا نســبا
هـ - اقرأ مدحه الرائع لمعاذ بن جبل بن سعيد الحميري ، فنسبه يعود إلى حمير بن سبأ القحطاني (ولكن المبرد في كامله يذكره أنه من ولد حميد بن عبد الرحمن الفقيه) ، المهم دعبل إذا مدح مدح بإفتدار إذا وجد فيه الكرم والجرأة والرجولة :
فإذا جالسته صدّرته ***وتنحيتَ له في الحاشيهْ
وإذا سايرته قدّمتــه*** وتأخرتَ مع المســتانيهْ
وإذا ياسرته صادفتهُ**سلسَ الخلق سليمَ الناحيهْ
وإذا عاسرتهُ ألفيتــهْ *** شرسَ الرأي أبياً داهيهْ
فاحمدِ الله على صحبتهِ*واسأل الرحمن منه العافيهْ
لو كنّا نحترم الوجه الآخر ، ولم يسلط عباقرتنا وأفذاذنا القدماء والمعاصرون أقلامهم وسيوفهم على كلّ ذي رأي آخر ، لما وصلت أمتنا إلى ما وصلت إليه من مسح الآخرين حتى الفناء ، وعلى الدنيا العفاء ، دعبل مجرد مثال لهذا الحال ، وليس رأيه هو المقياس ، والأمثال تضرب ولا تقاس ...!!!
1 - في الطريق إلى الموقف الموالي :
بعد أنْ خلـّف دعبل مصر وولاية أسوانها ، وقريبه المطلب الخزاعي بمدحه وهجائه ورثائه وراءه ، وقدم إلى بغداد ، وكانت قد " هاجت الفتن في الأمصار..." (117) - كما يقول الطبري - ، والمأمون في خرسان ، فقد خرج في أواخرسنة (198 هـ) الحسن الهرش يدعو إلى الرضى من آل محمد أتى النيل (العراق) ، فجبى الأموال ، وأغار على التجار وقتل في محرم (199 هـ) ، وخرج هذه السنة بالكوفة محمد بن إبراهيم (ابن طباطبا ) يدعو إلى الرضى من آل محمد ، والعمل بالكتاب والسنة ، وكان القائم بأمره وتدبير الحرب بين يديه أبو السرايا السري بن منصور الشيباني ، وقُتل مائتا ألف رجل ، وأخيراً قـُتل الرجل الأخير في ربيع سنة (200 هـ) ، بأمر الحسن بن سهل والي المأمون على العراق ، وأبان ثورة ابن طباطبا " وثب محمد بن محمد ومن معه من الطالبيين على دور بني العباس ، ودور مواليهم وأتباعهم في الكوفة ، فانتهبوها وخربوها وأخرجوهم من الكوفة " (118) ، وكان قد أرسل أبو السرايا إلى المدينة ومكة (حسين بن حسن الأفطس ) كأمير للحج .
2 -دعبل بين إسماعيل العباسي وزيد النار :
وخرج في البصرة زيد بن الإمام موسى الكاظم الذي أطلق عليه المؤرخون ( زيد النار) بدعوى حرق الدور وخصومه السياسيين ، المهم هرب منها واليها اسماعيل بن جعفر العباسي ، وسخر دعبل من الأخير الهارب من قذائف زيد النار وسيوفه ولم يقاوم ، وكان قد توّعد الدعبل بالقتل ، فإذا به يخاطبه مفرداً ، ويذكر خصمه (أطراداً) ...!! :
لقد خلـّف الأهواز من خلف ظهره***وزيدٌ وراء الزاب من أرض كسكر ِ
يهوّل إسماعيل بالبيض والقنا *** *وقد فر من زيد بن موسى بن جعفر ِ
وعاينتهُ في يوم خلـّى حريمـهُ ***** فيا قبحها منـهُ ، ويا حسن منظر(119) ِ
وفي هذه السنة أعني (200 هـ) ، خرج إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم باليمن ، وأطلق المؤرخون هذه المرة وصف (الجزّار) لكثرة ما يدّعون مَن قتل باليمن , ولما رجعت الكوفة لبني العباس ، اجتمع العلويون " إلى محمد بن جعفر (الصادق) بن محمد وكان شيخاً وادعاً محبباً في الناس...وكان يروي العلم عن أبيه جعفر بن محمد، وكان الناس يكتبون عنه ،وكان يظهر سمتاً وزهداً - فقالوا له : قد تعلم حالك في الناس، فأبرز شخصك نبايع لك بالخلافة ، فإنك إن فعلت ذلك لم يختلف عليك رجلان، فأبى ذلك عليهم، فلم يزل به ابنه علي بن محمد بن جعفر و حسين بن حسن الأفطس حتى غلبا الشيخ على رأيه ؛ فأجابهم. فأقاموه يوم صلاة الجمعة بعد الصلاة لست خلون من ربيع الآخر، فبايعوه بالخلافة ، وحشروا إليه الناس من أهل مكة والمجاورين ، فبايعوه طوعاً وكرهاً ، وسموه بإمرة المؤمنين، فأقام بذلك أشهراً " (120) - هذا ما رواه الطبري - هذه الأمور مجتمعة ، ولقرابة المعارضين العلويين الأشداء من الإمام علي بن موسى الرضا (ع) ،ولانشقاق العباسيين بعد خلع الأمين ومقتله ، ولبعد المأمون عن عاصمة الخلافة ، ولحكمة المأمون وحنكته السياسية , رأى لابدّ من إسناد ولاية العهد للعلويين ليحيّدهم , فأرسل رجاء بن أبي الضحاك مبعوثاً إليه - وهو في المدينة - للشخوص إلى خراسان ، فاعتل عليه الإمام بعلل كثيرة ، فما زال يكاتبه حتى علم الإمام لا مفـّر حتى القبول , فقبل وتوّجه من المدينة إلى خراسان , ولولده محمد الجواد من العمر سبع سنوات (121) ، فبويع له بولاية العهد في (رمضان 201 هـ ) ، وضربت الدراهم باسمه ، وغيّر المأمون شعار العباسيين من الأسود إلى الأخضر ، وهو شعار العلويين.
3 - شريطة بشار بين دعبل وصديقه إبراهيم بن العباس الصولي:
هذه الأحداث بمجملها ومن بداياتها شجّعت الشاعر الأول في تلك الأيام أواخر سنة ( 200 هـ) - على أغلب الظن - أن يقول لصديقه الحميم " إبراهيم بن العباس: أريد أن أصحبك إلى خراسان ، فقال له إبراهيم : حبذا أنت صاحبا مصحوبا إن كنا على شريطة بشار قال : وما شريطة بشار قال قوله :
أخ خير من آخيت أحمل ثقله****ويحمل عني حين يفدحني ثقلي
أخ إن نبا دهر به كنت دونه *** وإن كان كون كان لي ثقة مثلي
أخ ماله لي لست أرهب بخله** ومالي له لا يرهب الدهر من بخلي
قال: ذلك لك ومزية فاصطحبا "(122) ، ولا نذهب إلى ما ذهب إليه صاحب (الغدير ) الشيخ الأميني بأنها تمّت سنة (198 هـ) برفقة أخيه أبي الحسن علي (123) ، لأن الشاعر في تلك السنة ذهب مع أخيه رزين للحج , ومن هناك عرّج على مصر , وأصبح والياً , والمطلب نفسه الذي ولاّه ، كان والياً على مصر بين 198 هـ - 200 هـ حين وفاته ، كما ذكرنا في الحلقة السابقة ، فكيف يجتمع الأقليمان في مكان واحد ؟!!
4 - دعبل ومسلم بن الوليد والوزير الفضل بن سهل ...عتاب وهجاء فجاء ردّ ٌمضاد !!:
وإبان رحلة دعبل ووجوده في خرسان - على أغلب الظن قبل إلقاء التائية الخالدة - بلغه حظوة أستاذه , وربيب طفولته ، مسلم بن الوليد عند وزير المأمون الفضل بن سهل ، فذهب لزيارته متمنياً له الرفعة , متوسماً فيه الخير والبركة , ولكن أستاذه جفاه , وخيّب ظنه " قال أبو تمام : ما زال دعبل مائلا إلى مسلم بن وليد مقرا بأستاذيته حتى ورد عليه جرجان فجفاه مسلم وكان فيه بخل فهجره دعبل وكتب إليه :
أبا مخلد كنا عقيدي مودة ****** هوانا وقلبانا جميعــا معـا معـا
أحوطك بالغيب الذي أنت حائطي***** وأنجع أشـفاقا لأن تتوجعا
فصيرتني بعد انتحائك متهما**** لنفسي عليها أرهب الخلق أجمعا
عششت الهوى حتى تداعت أصوله**بنا وابتذلت الوصل حتى تقطعا
وأنزلت من بين الجوانح والحشى ***** ذخيرة ودٍ طالمــا قد تمنعا
فلا تعذلني ليس لي فيك مطمع ***** تخرقت حتى لم أجد لك مرقعا
فهبك يميني استأكلت فقطعتها ***** وجشمت قلبي صبره فتشجعا "(124)
بعد هذه القطيعة , دس دعبل هذين البيتين إلى الفضل بن سهل حين وصوله إلى مرو :
لا تعبأن بابن الوليد فإنه **** يرميك بعد ثلاثة بملال
إن الملول وإن تقادم عهده ** كانت مودته كفيء ظلال
فدفع الفضل الرقعة إلى مسلم وقال : انظر يا ابن الوليد رقعة دعبل فيك ,فلما قرأها قال له : هل عرفت لقب دعبل وهو غلام ؟ قال : لا، قال : كان يلقب بمياس ، ثم كتب إليه يقول :
مياس قل لي أين أنت من الورى *** لا أنت معلوم ولا مجهول
أما الهجاء فدق عرضك دونه ** والمدح عنك كما علمت جليل (125)
من عجز البيت الأول لمسلم (الصريع غوانيه) : " لا أنت معلومٌ ولا مجهولُ" ، نستطيع أنْ نستنج أنّ الأبيات قالها المسلم قبل الموقفين الموالي والمعارض ، لأن الدعبل بعدهما ، أي بعد التائية الشهيرة ، وقصائد الهجاء والسخرية من الخلفاء وأركان الدولة الرفيعة ، طارت شهرته في كلّ آفاق الدولة الإسلامية حتى الهند شرقاً والأندلس غرباً , وخفت أسم مسلم بن الوليد واعتزل حتى وفاته (208 هـ) ، ومن قبله جمّد نفسه أبو العتاهية المتوفي (210 هـ) ، وكلاهما من مواليد (130هـ) ، أمأ دعبل فهو من مواليد (148 هـ) .
5 - التائية الخالدة في حضرة الإمام (ع) :
وعند مكوث دعبل في خراسان نظم قصيدته التائية الخالدة، ونظم صاحبه العباس قصيدة دالية , ورتـّبا أمرهما للوقوف أمام حضرة الإمام ليلقيا ما أبدعا . قدّم الرجل أوراق اعتماده بـ " أحسن الشعر وفاخر المدائح المقولة في أهل البيت عليهم السلام " (126 ، كما نعت الأصفهاني في (الأغاني) قصيدة الولاء , واعتمد الأدباء و النقاد هذه الكلمات لأوراق الأعتماد , ولكن عندما دخل الشاعر الموقف على حضرة الإمام الرضا ، بادر الأول : يا ابن رسول الله أني قلت فيكم قصيدة , وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك , فقال هاتها ياخزاعي , ولهيبة المقام , وقدسية الإمام ، لجم الشاعر إلهام نفسه من أن يبدأ بمطلع التشبيب (127) , فشرع بالمناقب - كما ذكرنا ودوّنا في الحلقات السابقة -
قال دعبل : " دخلت على علي بن موسى الرضا عليه السلام فقال لي: أنشدني شيئا مما أحدثت. فأنشدته (الطويل) :
مدارس آيات خلت من تلاوة * ومنزل وحي مقفر العرصات
حتى انتهيت إلى قولي :
إذا وتروا مدوا إلي واتريهم *** أكفا عن الأوتار منقبضات
قال : فبكى حتى أغمي عليه وأومأ إلى الخادم كان على رأسه : أن اسكت. فسكت فمكث ساعة ثم قال لي : أعد. فأعدت حتى انتهيت إلى هذا البيت أيضا فأصابه مثل الذي أصابه في المرة الأولى وأومأ الخادم إلي : أن اسكت. فسكت فمكث ساعة أخرى ثم قال لي : أعد. فأعدت حتى انتهيت إلى آخرها. فقال لي : أحسنت - ثلاث مرات . -
ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم مما ضرب باسمه ولم تكن دفعت إلى أحد بعد وأمر لي من في منزله بحلي كثير أخرجه إلى الخادم، فقدمت العراق فبعت كل درهم منها بعشرة دراهم إشتراها مني الشيعة فحصل لي مائة ألف درهم فكان أول مال اعتقدته ، قال ابن مهرويه : وحدثني حذيفة بن محمد : أن دعبلا قال له: إنه استوهب من الرضا عليه السلام ثوبا قد لبسه ليجعله في أكفانه فخلع جبة كانت عليه فأعطاه إياها وبلغ أهل قم خبرها فسألوه أن يبيعهم إياها بثلاثين ألف درهم فلم يفعل فخرجوا عليه في طريقه فأخذوها منه غصبا وقالوا له : إن شئت أن تأخذ المال فافعل وإلا فأنت أعلم .
فقال لهم : إني والله لا أعطيكم إياها طوعا ولا تنفعكم غصبا وأشكوكم إلى الرضا عليه السلام فصالحوه على أن أعطوه الثلاثين ألف الدرهم وفرد كم من بطانتها ، فرضي بذلك فأعطوه فردكم فكان في أكفاته . " (128)
من مضمون النص نستدل على أن الإنشاد قد تمَّ ، والإمام كان ولياً للعهد ، وقد تلاقف مؤرخو الأدب القصيدة بالاستحسان والثناء ، فذكر القيرواني الحصري في ( زهر آدابه ) عن دعبل وشهرة القصيدة ، وإنها من جيد شعره " وقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه : ثم إن المأمون لما ثبتت قدمه في الخلافة وضرب الدنانير باسمه أقبل بجمع الآثار في فضايل آل الرسول فتناهى إليه فيما تناهى من فضائلهم قول دعبل : (مدارس آيات ... ) ، فما زالت تردد في صدر المأمون حتى قدم عليه دعبل) ، فقال له : أنشدني قصيدتك التائية ولا بأس عليك ولك الأمان من كل شيئ فيها فإني أعرفها وقد رويتها إلا أني أحب أن أسمعها من فيك . قال : فأنشده حتى صار إلى هذا الموضع :
ألم تر أني مذ ثلاثين حجة ***أروح وأغدو دائم الحسرات
أرى فيئهم في غيرهم متقسما **وأيديهم من فيئهم صفرات
فبكى المأمون حتى اخضلت لحيته وجرت دموعه على نحره ، وكان دعبل أول داخل عليه وآخر خارج من عنده . (129) وقال ياقوت الحموي في ( معجم الأدباء ) : قصيدته التائية في أهل البيت من أحسن الشعر ، وأسنى المدايح . وذكر الثعالبي في (ثمار القلوب) بيتين من القصيدة أحدهما : مدارس آيات. والثاني البيت الذي يتضمن (ذو الثفنات) ، إذ كان يقال لكل من علي بن الحسين بن علي (ع) وعلي بن عبد الله بن عباس : ذو الثفنات. وذكر صلاح الدين الصفدي في ( الوافي بالوفيات ) طريق رواية القصيدة , وفي ( الإتحاف ) نقل الطبري في كتابه عن أبي الصلت الهروي قال : دخل الخزاعي على علي بن موسى الرضا بمرو فقال : يا بن رسول الله؟ إني قلت فيكم . (130) .
أبيات من القصيدة التي تبلغ 123 بيتاً على بعض الرويات :
تجاوبن بالارنــان والزفــراتِ**** نوائــــح عجم اللفظ والنطقاتِ
يخبرن الانفاس عن سر أنفس**** اسارى هوى مـاض وآخرآتِ
فأسعدن أو أسعفن حتى تقوضت * صفوف الدجى بالفجر منهزماتِ
على العرصات الخاليات من المها** سلام شج صب على العرصاتِ
فعهدي بها خضر المعاهد مألفا****من العطرات البيض والخفراتِ
ليالي يعدين الوصال على القلى ***** ويعدي تدانينا على العزباتِ
وإذ هن يلحظن العيون سوافرا**** ويسترن بالايدي على الوجناتِ
وإذ كل يوم لي بلحظي نشـــــــوة*** يبيت بها قلبي عــــلى نشــواتِ
فكم حسرات هاجها بمحســــــــر ****وقوفـي يوم الجمع من عرفاتِ
ألم تر للايام ما جر جورها *****على الناس من نقض وطول شتاتِ
ومن دول المستهزئين ومن غدا****** بهم طالبا للنور في الظلماتِ
فكيف ومن أنى بطالب زلفــــــة ***** إلى الله بعد الصوم والصلواتِ
رزايا أرتنا خضرة الافق حمــــــرة ***وردّت إجاجا شعم كــــــل فراتِ
بكيت لرسم الدار من عرفـــات***** وأذريت دمع العيــــن بالعـــبراتِ
وبان عرى صبري وهاجت صبابتي***** رسوم ديار قد عفت وعراتِ
مدارس آيات خلت مـــــــن تــــــلاوة ***ومنـزل وحـي مقفر العرصاتِ
لآل رسول الله بالخيف مـــــــن منى ***** وبالبيت والتعريف والجمراتِ
ديار لعبد الله بالخيف مـــــــن منــــى *****وللسيد الداعي إلـى الصلواتِ
ديار علي والحسين وجعــــــــفرٍ ******** وحمزة والسجاد ذي الثفناتِ
ديار لعبد الله والفضل صــــــــــــنوه ****** نجي رسول الله في الخلواتِ
وسبطي رسول الله وابني وصيــــــــــهِ *** ووارث عـــــلم الله والحسناتِ
منازل وحي الله ينزل بينهـــــــــا ***على أحمد المذكور فــــــــي السوراتِ
منازل قوم يهتدى بهداهـــــــــــــم *****فيؤمـــــــــــــن منهم زلة العثراتِ
أفاطم لو خلت الحسين مجـــــــــــــــــدلاً وقــــــــــد مات عطشانا بشط فراتِ
إذا للطمت الخد فاطم عنــــــــــــدهُ*** وأجريت دمـــــــــع العين في الوجناتِ
أفاطم قومي يا ابنة الخير وانــــــــــــدبي****** نجوم سماوات بأرض فلاتِ
فيا رب زدني في هواي بصيـــــــــــــــرة***وزد حبـــــهم يا رب في حسناتي
6 - دعبل الموقف والهجاء بعد الخمسين :
رجاء تابع معي ، تاريخ الرجل مشوّه ، ومعظم من كتب عنه مادحاً ، وبحث في أمره ساخطاً ، لم يعطِهِ حقـّه من الإنصاف والدّقة , إنهم خلطوا الحابل بالنابل , دعبل إلى حدّ نهاية هذه الفترة الزمنية , وقد زاد على الخمسين عمراً ( 148 هـ -201 هـ) ،لم يهجُ أيً خليفة أو وزير أو سياسي أو قائد عسكري،لقد مرّت عهود المنصور والمهدي والهادي والرشيد والآمين برداً وسلاماً عليه وعلى رجال عصره الكبار سوى هجاء قريبه المطلب الخزاعي (ت 200 هـ ) من بعد قبل سنتين من نهاية التاريخ المذكور ، أي في بدايات عهد المأمون، وهجاء إسماعيل بن جعفر العباسي المتوفي ( 216 هـ) الذي توّعده , فناصر زيد النار بن الإمام موسى الكاظم ، وفي كلا الأمرين ، قد اجتاز الخمسين ، هكذا يخبرنا ديوانه المتبقي ، نعم ذكر الرشيد هجاءً بعد موته بأكثر من عشر سنوات نكاية بالمأمون الذي سمّ الرضا ، فالتزم الشاعرالموقف ، إذن القضية تكتسي الحق العام ،وليس المصلحة الشخصية ، فأين يمكننا وضع بيت المعري :
لو أنصف الدهر هجا نفسه ***كأنه الرومي أو دعبلُ
وأقواله الأخرى باتهامه بالارتزاق ، وغير ذلك حتى استند عليها الدكتور شوقي ضيف معتمداً على النهج الإنتقائي التطويعي ، فيأخذ ما يلائم فكرته ، وهذا من ردّ الدكتور عبد المجيد زراقط على (ضيفه ) (131)، وهكذا ثبّت أيضاًعلى الشاعر المتمرد الأستاذ الكبير العقاد ظالماً له - ربّما دون مبالاة وتحقيق معمق منه - ، وسار على نهجه الأديب حنا الفاخروي مقلـّداً ...!! وهذا ما ذكرناه سالفاً ، ونحن نقول : السيء الطبع ، والسليط اللسان ، المفترض أن يتبيّن لنا من صغره لا عند كهولته ونضجه , إذن هذا دليل على موقف فكري حازم يصبّ في مصلحة الأمة العليا حسب ما كان يرتأيه هو وجناحه .
7 - دعبل يسخر من إبراهيم بن المهدي (ابن شكلة) بعد مبايعته بالخلافة المزورة :
إضافة إلى ما ذكرناه ، و في هذه الفترة ، وبعد عودة دعبل إلى العراق أواخر سنة (201 هـ ) ، شهد خروج إبراهيم بن المهدي - عم المأمون , وأخي الرشيد - على خلافة مأمونه بتحريض من العباسيين في بغداد الذين قلـّدوه الخلافة غير الشرعية ، أي بدون توصية من الرشيد ، وأصبح خليفة غير رسمي ما بين (25 ذي الحجة 201 حتى 15 ذي الحجة 203 هـ ) ، وذلك عقبى خلع الأمين ومقتله ، وترسيم الإمام الرضا جبراً ولياً للعهد ، واستبدال شعار العباسيين الأسود بشعار العلويين الأخضر ، فالشاعر إلى تلك الأيام الغابرة ، لم يمس مقام الخلافة الشرعية بكل رموزها السابقين ، ومأمونها الحكيم ، وإنما كما استدركنا ، صبّ سخريته على الخارج الإبراهيم ، الذي لقبه معاصروه بابن شكلة ، وهذا اسم أمه الأمَة السوداء ، استصغاراً لشأنه ، ولا سيما كان يجيد الغناء ، بالرغم من أنه توّلى ولاية دمشق في عهد أخيه الرشيد لمدة ست سنوات على دفعتين , ونعت بالعدل والصرامة ، وأبان خلافته المزعومة ، حاربه الوزير الحسن بن سهل والي العراق المأموني ، لم يقدر عليه ، فردّه خائباً ، مما جعل المأمون أن يرسل لقتاله قائده العسكري المقتدر حميد الطوسي ، فانتصر عليه انتصاراً باهراً ، فانهزم ابن شكلة ، واختفى في بغداد حين وصلها المأمون سنة (204هـ) ، وبقي مختفياً حتى سنة ( 210 هـ) ، إذ عفا عنه المأمون وأكرمه ، توفي في سامراء ( 224 هـ) ، وصلـّى عليه ابن أخيه المعتصم، نعته الخطيب البغدادي بأوصاف رائعة : وافر الفضل ، غزير الأدب , واسع النفس ,سخي الكف ، وكان معروف بصناعة الغناء حاذقاً فيها ، وقد قلّ المال عليه أيام خلافته ببغداد (132) ، وكان قد لجأ إليه أعراب من أعراب السواد وغيرهم من أوباش الناس وأوغادهم ، فاحتبس عليهم العطاء ، فجعل إبراهيم يسوفهم وهم لا يرون لوعده حقيقة ، إلى أن خرج رسوله إليهم يوما وقد اجتمعوا وضجوا فصرح إليهم بأنه لا مال عنده ، فقال قوم من غوغاء أهل بغداد : أخرجوا إلينا خليفتنا ليغني أهل هذا الجانب ثلاثة أصوات فتكون عطاءهم ولأهل هذا الجانب مثلها , قال إسحاق بن لإبراهيم الموصلي : فأنشدني دعبل بعد أيام من (السريع ) :
يا معشر الأجناد لا تقنطوا *** وارضوا بما كان ولا تسخطوا
فسوف تعطون حنينـــة ً ***** يلتــذها الأمـــــــرد والأشمط ُ
والمعبديات لقــــوادكم ******* لا تدخل الكيــس ولا تربط ُ
وهكذا يرزق قـــــــوادهُ ****** خليفة ٌ مصــــــحفهُ البربطُ (133)
سخرية صارخة من مغن ٍيتطلع لعرش الخلافة الإسلامية ، وإن كان ابن خليفة،وأخاً لهارون الرشيد ، ولك أنْ تعرف - إنْ كنت لا تعرف -الأشمط هو الشايب ، والحنينة بمعنى طور غنائي كان ينسب إلى حنين الحيري ، ومثلها المعبديات التي تنسب إلى معبد المغني الأموي ، والبربط نوع من الملاهي كعود الطرب، واستعار الشاعر (مصحفه البربط) للسخرية من مطرب يتطلع للخلافة الإسلامية، وينقل الأصفهاني رواية في (أغانيه) : " قال إبراهيم بن المهدي للمأمون قولا في دعبل يحرضه عليه فضحك المأمون وقال إنما تحرضني عليه لقوله فيك : ( يا معشر الأجناد...)
فقال له إبراهيم : فقد والله هجاك أنت يا أمير المؤمنين فقال : دع هذا عنك فقد عفوت عنه في هجائه إياي لقوله هذا وضحك ثم دخل أبو عباد فلما رآه المأمون من بعد قال لإبراهيم : دعبل يجسر على أبي عباد بالهجاء ويحجم عن أحد ، فقال له : وكأن أبا عباد أبسط يدا منك يا أمير المؤمنين ، قال لا ولكنه حديد جاهل لا يؤمن وأنا أحلم وأصفح ، والله ما رأيت أبا عباد مقبلا إلا أضحكني قول دعبل فيه : (أولى الأمور بضيعة...) " (134) ، طبعاً هذا الكلام بعد أن عفا المأمون عن عمه إبراهيم ، وسنأتي على سخرية دعبل من الوزير أبي عباد في الحلقة القادمة عند الكلام عن موقف دعبل المعارض .
وقبل إفلاس خزينة خلافته بعدة أشهر رماه دعبل بسخرية لاذعة من (كامله) , يقول فيها :
علمٌ وتحكيمٌ وشيبُ مفارق ٍ ***طلـّسنَ ريعانَ الشبابِ الرائق ِ
وإمارة ٌ في دولةٍ ميمونةٍ ** *كانتْ على اللذات اشغب عائق ِ
فالآنَ لا اغدو ولستُ برائح ٍ***في كبر معشوق ٍ وذلـّة عاشق
نعرَ ابن شكلة بالعراق واهلهِ *** فهفــا إليــه كلّ اطلس مائق ِ
إن كانَ إبراهيم مضطلعاً بها**** فلتصلحنْ منْ بعدهِ لمخارق ِ
ولتصلحنْ من بعد ذاك لزلزل ٍ*** ولتصلحنْ منْ بعدهِ للمـارق ِ
أنـّى يكونُ وليس ذاك بكائن ٍ***يرث الخلافة فاسقٌ عن فاسق ِ(135)
إذاً (ابن شكلة) قام بالفتنة في العراق وبين أهل العراق ، وألتفَّ حوله كل ذئب أمرد أحمق , وهنيئاً للخلافة بهذا المغني ، ولتصلح من بعده للمغنيين المطربين أمثال مخارق وزلزل والمارق كما يذكرهم خليل مردم في (جمهرة مغنيه) (136) ، وأخيراً يختم شعره بالحقيقة المرة متسائلاً ، ويجيب جازماً ، لايمكن للخلافة أن يرثها الفاسقون وعن هذه القصيدة الثانية يروي الأصفهاني عن عبد الله بن طاهر بن الحسين كيف دسّها دعبل إلى مأمونه قائلاً : " وأما الثانية فإن المأمون لم يزل يطلبه وهو طائر على وجهه حتى دس إليه قوله : (علم وتحكيم وشيب مفارق ...) , فلما قرأها المأمون ضحك وقال : قد صفحت عن كل ما هجانا به ، إذ قرن إبراهيم بمخارق في الخلافة وولاه عهده، وكتب إلى (أبي) أن يكاتبه بالأمان ويحمل إليه مالاً، وإن شاء أن يقيم عنده أو يصير إلى حيث شاء فليفعل ، فكتب إلي (أبي) بذلك وكان واثقا به فصار إليه فحمله , وخلع عليه وأجازه وأعطاه المال وأشار عليه بقصد المأمون ففعل فلما دخل وسلم عليه تبسم في وجهه ثم قال أنشدني :
مدارس آيات خلت من تلاوة *** ومنزل وحي مقفر العرصات
فجزع فقال له : لك الأمان فلا تخف وقد رويتها , ولكني أحب سماعها من فيك فأنشده إياها إلى آخرها والمأمون يبكي حتى أخضل لحيته بدمعه فوالله ما شعرنا به إلا وقد شاعت له أبيات يهجو بها المأمون بعد إحسانه إليه وأنسه به حتى كان أول داخل وآخر خارج من عنده ..." . (137)
نعم هجا المأمون وقد أحسن إليه ، بل هجا أباه الرشيد أيضاً ، وهو أول من كرمه نكاية بابنه أواخر سنة (203 هـ ) ، بعد أن تأكد من أنّ المأمون سمّ الإمام الرضا (ع) ، عندما بلغ الشاعر من العمر خمس وخمسين سنة، فأتخذ الموقف المعارض , وشرع بأول قصيدة هجاء لرأس الخلافة، وهذا دليل ساطع على أن الأمر ليس بشخصي ومصلحي , وإنما عام ، ومصلحة الأمة قبل مصلحة الأفراد ، وعلى الآخرين احترام عقائد الناس ومبادئهم اتجاه الشخصيات العامة ، وهذا نهج الأمم المتحضرة في زماننا المعاصر , وإلى الحلقة القادمة لنشرع بمسيرة القصائد المعارضة ، وليس بالضرورة أن يكون رأيي رأيه في كلّ الأمور، ولكنني أدافع بكل ما أستطيع لتفهم وجهة نظره في أحداث التاريخ البائد ، وخصوصاً بعد أن وصلنا إلى هذا الضياع السائد ...!!
دعبل الموقف بين السخرية والهجاء ( 203 هـ - 205 هـ ) :
8 - دعبل يشرع بحملة هجاء ساخر وساخط على رموز الخلافة العباسية بعد سمّ الإمام الرضا :
دعبل - على ما يبدو - انبهر كثيراًبشخصية الإمام الرضا (ع) ، وذاب فيها حتى العشق الصوفي ، ومن خلاله توّجه إلى الله بكل جوارحه وأحاسيسه ، وأصبح حقّ آل البيت شغله الشاغل ، ولمّا وردت إليه أخبار موت الإمام، وتيقـّن متأكداً ، صُدم صدمة قوية كادت تهدّ أركانه ، وذلك سنة (203 هـ) ، إذ وافته المنية بأرض طوس في قرية يقال لها (سنا أباد) ، ودفن في دار حميد بن قحطبة ، في المكان الذي دفن فيه (هارون الرشيد) ، وإلى جانبه مما يلي القبلة ، كما جاء في (عيون أخبار الرضا) للصدوق (138) ، في بادئ الأمر سكب أشجانه وبيّن لوعته في مقطوعة رثاء منها (الطويل) :
ألا ما لعيني بالدموع استهلـّتِ *** ولو فقدتْ ماء الشؤون لقرّتِ
فنحن عليهِ اليومَ أجدرَ بالبكـا *** لمرزئةٍ عـزّتْ علينا وجلـّـــتِ
تجلـّت مصيبات الزمان ولا أرى *** مصيبتنا بالمصطفين تجلـّتِ (139)
وثم شاعت الشائعات ، وكثر القيل والقال أنّ المأمون سمّه ، بالرغم من استباق الأخيرالأمور فكان " يمشي في جنازة الرضي حاسراً في مبطنة بيضاء ، وهو بين قائمتي النعش يقول : إلى من أروح بعدك يا أبا الحسن ! وأقام عند قبره ثلاثة أيّام ، يؤتى في كل يوم برغيف وملح فيأكله ، ثم انصرف في اليوم الرابع ..." ، هذا ما رواه اليعقوبي في (تاريخه) ، وكان قد ذكر من قبل هذه الفقرة قوله : " فقيل : إنّ علي بن هشام أطعمه رمانا فيه سم " (140) ، أمّا الأصفهاني في (مقاتل الطالبيين) ، ينقل بعد سرد روايات تسميم الإمام ، وجزْع المأمون على وفاته ، كما ترآى للناس ، قول الأخير : " و أغلظ عليّ من ذلك وأشدّ أنّ الناس يقولون : إنـّي سقيتك سمّاً ،وأنا إلى الله من ذلك بريء ..." (141) ، والحقيقة المأمون أراد أن يبرأ نفسه أمام الجمهور وانتفاضاتهم ، وتهديداتهم لعرشه المرتبك بعد مقتل الأمين ، وثورات العلويين وفي مقدمتها ثورة ابن طباطبا وأبي السرايا , ومن ثم انتفاضة العباسيين ، وتنصيب عمّه ابن شكلة المختفي عن الأنظار، الزمن لايتحمل المزيد ، وخصوصاً كان الإمام الرضا سيد العلويين ، بل الطالبيين في عصر خليفةٍ بأمسّ الحاجة لرأب الصدع ، وكان يومها دعبل لسان الشارع المعبر عن وجه الرأي فيه ، قبلياً يماني النزعة ، وهم المتنفذون ، ومعارضاً علوي الهوى ، وهم المنازعون ،و أدبياً من أدباء وشعراء الطبقة الأولى ، وهم الذين يرفعون ، وشعبياً يتلاقف شعره الرفيع الممنوع عموم الناس ، وهم الذين ينشرون ...!!
9 - واستنقذوك من الحضيض الأوهدِ :
لذلك ارتأى المأمون شراء ذمّته على ما يبدو ، لاسيما دعبل أخذ عنه الحديث ، والخليفة نفسه يميل إلى شعره ، ويفضله على الآخرين ، وخزاعة هي التي انتزعتْ الخلافة له من الأمين نزعاً ، وقتلا ً على حدّ سيف طاهر بن الحسين ، وإذا لم يكن بالإمكان شراء اللسان ، فليكفـّه عنه وعن الخلافة في الزمن الصعب ، فما كان من الشاعر إلا أن يفاجئه بقوله الشهير (الكامل) :
أيسومني المأمون خطة َجاهل ٍ***أو ما رأى بالأمس رأسَ محمدِ
توفي على هام الخلائفِ مثلما***توفي الجبال على رؤوس القرددِ
إنَّ التراتِ مســـــهَّدٌ طلاّبُـــها **** فاكفف لعابك عـن لعاب الأسودِ
لا تحسبنْ جهلي كحلم أبي فما *** *حلـمُ المشايخ مثل جهل الأمردِ
إنـّي من القوم الذين سيوفهمْ ***** قتلتْ أخــــــــاك وشرًفتك بمقعدِ
شادوا بذكركَ بعد طول خمولهِ *** وتنقذوك من الحضيض الأوهدِ (142)
يستهزأ متوعّداً المأمون - وما أدراك مَن المأمون ؟ سيأتيك بالأخبارمن لم تزوّدِ ! - ويذكّره مهدّداً بقطع رأس أخيه محمد الأمين المخلوع ، وستنزل السيوف على الهامات ، كما تنهال الجبال على الأرض المرتفعة الغلظة (القردد) ، فطلاب الثارات (الترات) طريقهم ممهد ، فكفف لعابك المسموم كلعاب (الأسود) الحية العظيمة ، كأنّما يلفت نظره لسم الرضا، أمّا بقية الأبيات بما فيها من سخرية وفخر وتوعّد بالتهديد والاستعلاء فواضحة ، ولكن على مَن صبَّ رهبتها ؟! ، على المأمون ، وهو من أعظم الخلفاء العباسيين ، إن لم يكن أعظمهم إطلاقاً ، بل أعظم الخلفاء الإسلاميين بعد صدر الرسالة ، وملوك الإنسانية قاطبة ، ولو أن شهرة أبيه الهارون سبقته ، يقول السيوطي عنه في (تاريخ الخلفاء) : " كان أفضل رجال بني العباس حزماً وعزماً وحلماً وعلماً ورأياً ودهاءً وهيبة وشجاعة وسؤودداً وسماحة ، وله محاسن وسيرة طويلة ..." (143) ، وربّما تتساءل , إذن لماذا الهجاء المقذع الساخر ؟ أقول : إنّه الموقف الجريء الصادق مع النفس ومبادئها العقائدية ، فلو ركـّزنا على كلمة ( الحضيض الأوهد) التي تـُكثـّف الصراع المرير بين الأخوين والعقد النفسية المكبوتة في لا وعي (الأمين) والمجتمع ، ومن المجتمع دعبل ، أمّا المأمون فلم يكن كما تخيّل شاعرنا ، وربّما (الأمين ) توهّم أو أوُهِم أن أخاه المأمون الأكبر منه بستة أشهر - من أم ولد ( مراجل) التي توفيت في نفاسها - دونه عند أبيه والدولة ، لأنه ابن (زبيدة) الهاشمية الحرّة ، وإنما كان المأمون الرجل الحاد الذكاء ، السياسي المحنك ، الحليم ، الشجاع ، معزّزاً مكرماً محبوباً أثيراً عند أبيه الرشيد ، وإلاّ لما كان المأمون مأمونا !! ، ومع ذلك كلـّه ، وإن تجاوز الخليفة الأخير المتعقل الرشيد ابن (الرشيد) أمر تمايز العقل الجمعي لمصلحة أخيه المقتول المخلوع ، وتفهمه ، بقى يمسح آثاره دون إثارة ، ومن هذا المنطلق ردّعلى دعبل بلسان المتواضع الرفيع : " قبّح الله دعبلاً ما أوقحه، كيف يقول عليّ هذا ، وقد ولدت في الخلافة ، ورضعت ثديها ، وربيت في مهدها ..." (144) ، ولم يكتفِ الرجل الكبير بهذا الرد ، ففي عام 204 هـ " لمّا دخل المأمون بغداد أحضر دعبلاً بعد أن أعطاه الأمان ، وكان قد هجاه وهجا أباه ، فقال يا دعبل : من الحضيض الأوهد ، فقال : يا أمير المؤمنين ، قد عفوت عمن هو أشدّ جرماً مني " (145) ، هذا ما رواه الحصري القيرواني في ( زهر آدابه) ، ولكن متى هجا دعبل أباه الرشيد ، والرشيد قد أحسن لدعبل في مطلع حياته ، وكرّمه وقرّبه وقدّمه ؟! هجاه بعد الموقفين الموالي للعلويين ، والمعارض للعباسيين نكاية بالمأمون الذي سمّ الإمام من قبل (أمّة السوء ) ، ويعني مجموعة الحاكمين السيئة حسب اجتهاده .
10 - قصيدة (ياأمّة السوء ) :
والحقيقة قد هجاه في قصيدة من روائع نظمه ، نظمها قبل قصيدته الدالية السابقة بعدة أشهر - على أغلب الظن - أي قبل مجيء المأمون إلى العراق (204 هـ) ، وبعد أنْ تيقـّن من سم الإمام ، ولتبرير الظن الأغلب ، ننقل رواية عن أحد رجالات مذهبه ، وهم الأدرى بمساربه إذ : " روى الشيخ الصدوق في أماليه بإسناده عن دعبل الخزاعي أنه قال : جاءني خبر موت الرضا وأنا مقيم بـ (قم) ، فقلت القصيدة الرائية التي طلب المأمون الاستماع إليها ..." (146) ، ويروي الشاعر نفسه : إنـّه بعد أنْ أنشدها أمام الخليفة " ضرب المأمون عمامته الأرض، وقال صدقت والله يا دعبل " (147) ، وسنأتي على إعجاب الخليفة (المأمون) بقصائد الشاعر المأمون ..!!
المهم دُفن الإمام إلى جنب الرشيد في طوس ، وقد جاء ذكره بشكل قاس ٍنكاية بالمأمون ، كما أسلفنا من قبل ، وأوسم خريدة سخطه (يا أمّة السوء) " التي لا يمكن تصنيفها في غرض واحد من أغراض الشعر المتداولة رثاء ، مدح ، هجاء ، لأنها شعر مختلف يمثل تجربة مختلفة قوامها الولاء لآل البيت بوصفهم مثالة المرء المؤمن إلى الطمأنينه في هذه الحياة ..." (148) . وإليك المطلع بنسيبه العجائزي (البسيط) ! :
تـأسفتْ جارتي لما رات زوري **** وعـدَّتِ الـحلمَ ذنـباً غير مغتفر ِ!
تـرجو الصبا بعدما شابتْ ذوائبها ***وقـد جـرت طلقا في حلبة الكبر ِ
أجـارتي ! أنَّ شيبَ الرأس نفـّلني** ذكـرَ الغواني وارضاني من القدر ِ
لـو كـنتُ اركـنُ للدنيا وزينتها *** إذن بكيت على الماضين من نفري
أخنى الزمانُ على أهلي فصدّعهمْ***تصدعَ الشعبِ لاقى صدمة َ الحجر ِ 5 -6 دعبل الخزاعي الوجه الآخر للشعر العربيدعبل الخزاعي : الموقف بعد الخسين (201 هـ) ، فمدحٌ ، فهجاء... لا سلاطة لسان ، ولا خبث طبع ، ولا ارتزاق درهم / نشرت اليوم ومن قبل في عشرات المواقع والصحف والمجلات والكتب / كريم مرزة الأسدي // يقول دعبل : أ - "لي خمسون سنة أحمل خشبتي على كتفي أدور على من يصلبني عليها، فما أجد من يفعل ذلك" ، ويقول مخاطباً زوجته سلمى :
قالتْ سلامة : أين المالُ ؟ قلتُ لها:*** المالُ ويحكِ لاقى الحمدَ فاصطحبا
الحمدُ فرّقَ مالي في الحقوق ، فما **** أبقين ذمّاً ، ولا أبقيــــن لي نشبا
مقدمة شعرية دعبلية ، للحقيقة وقول الحق ، أتفرّد فيها ...!
من المحال من يقول هذا الكلام ، وهذا الشعر الخالد ، أن يكون لئيماً ، وخبيثاً بطبعه ، وسليط لسان ، أو مرتزقاً ، كما يذهب معظم النقاد و مؤرخي الأدب العربي ، وإنما هو الموقف ، والموقف وحده ، لأن كلّ قصائد هجائه وسخريته من الخلفاء ووزرائهم وولاتهم وقادتهم وقضاة قضاتهم ، نظمت بعد التائية الموقف ( 201 هـ) ، وكان قد تجاوز عمره الثالثة والخمسين ، وبعد الرائية الشهيرة ( يا أمة السوء ) التي نظمها ( 203 هـ) إثر سم الإمام الرضا - كما يؤكد الشيعة - ، وكان قد تجاوز عمره الخامسة والخمسين ، بل حتى مدحه للأئمة ع ، معظمه جاء بعد الموقف ، ، لم يشر لهذا كل النقاد ومؤرخي الأدب من عصره حيث المبرد والأصفهاني وابن المعتز ومن بعدهم المعري حتى عصرنا بعقاده وعميده وفاخوريه وأمينه الأحمد ... ، بل حتى الشيعة أنفسهم ، لا أمينهم وأمينيهم ودجيليهم وشبرهم وكرباسيهم ووو قد ألفتوا الأنظار لهذه الملاحظة الدقيقة - وإن عرفوها جميعاً - المعرفة غير الانتباه والإشارة إليها - ، ودعبل وأبو نؤاس كانا أشهر وأجرأ شعراء العصر العباسي الأول ، الأول لهجائه وسخريته من الخلفاء وأركانهم ، والثاني لمجونه وعبثه وتهتكه وخمره .... الديوان بين يديكم أو أمامكم ، والشخصيات معروفة بتواريخ تسلطها ، نعم هجا الخليفة هارون الرشيد بقصيدته الرائية المذكورة ، وكانت وفاته ( 193 هـ ) ، أي بعد عشر سنوات ، نكاية بالمأمون المتهم عنده بسم الإمام ، ونظم بيتين في حق البرامكة ( نكبوا 187 هـ ) ، لا فيها مدح ، ولا هجاء ، وإنما قالهما على سبيل العظة والاستعبار .... إليكم من شعره ، وهذا قوله الشهير :
أ - "لي خمسون سنة أحمل خشبتي على كتفي أدور على من يصلبني عليها، فما أجد من يفعل ذلك"
ب -
نعوني ولمّا ينعني غيرُ شـامتٍ*** وغيرُ عدو ٍ قـــد أصيبتْ مقاتلـهْ
يقولون إن ذاقَ الردى ماتَ شعرُهُ**وهيهات عمرُالشعرطالتْ طوائلهْ
سأقضي ببيتٍ يحمدُ الناس ِ أمرهٌ*** ويكثرُ مـــن أهل الروايةِ حاملهْ
يموتُ رديءالشعر ِ من قبل أهلهِ*** وجيدهُ يبقــى وإنْ مـــات قائـلهْ
ج -
قالتْ سلامة : أين المالُ ؟ قلتُ لها:*** المالُ ويحكِ لاقى الحمدَ فاصطحبا
الحمدُ فرّقَ مالي في الحقوق ، فما **** أبقين ذمّاً ، ولا أبقيــــن لي نشب
د -
هل أنتَ واجدُ شيءٍ لو عنيت ًبهِ ؟***كالأجر والحمد مرتاداً ومكتسبا
قومٌ جوادهمُ فردٌ وفارســــــهمْ **** فردٌ وشاعرهمْ فردٌ إذا نســبا
هـ - اقرأ مدحه الرائع لمعاذ بن جبل بن سعيد الحميري ، فنسبه يعود إلى حمير بن سبأ القحطاني (ولكن المبرد في كامله يذكره أنه من ولد حميد بن عبد الرحمن الفقيه) ، المهم دعبل إذا مدح مدح بإفتدار إذا وجد فيه الكرم والجرأة والرجولة :
فإذا جالسته صدّرته ***وتنحيتَ له في الحاشيهْ
وإذا سايرته قدّمتــه*** وتأخرتَ مع المســتانيهْ
وإذا ياسرته صادفتهُ**سلسَ الخلق سليمَ الناحيهْ
وإذا عاسرتهُ ألفيتــهْ *** شرسَ الرأي أبياً داهيهْ
فاحمدِ الله على صحبتهِ*واسأل الرحمن منه العافيهْ
لو كنّا نحترم الوجه الآخر ، ولم يسلط عباقرتنا وأفذاذنا القدماء والمعاصرون أقلامهم وسيوفهم على كلّ ذي رأي آخر ، لما وصلت أمتنا إلى ما وصلت إليه من مسح الآخرين حتى الفناء ، وعلى الدنيا العفاء ، دعبل مجرد مثال لهذا الحال ، وليس رأيه هو المقياس ، والأمثال تضرب ولا تقاس ...!!!
1 - في الطريق إلى الموقف الموالي :
بعد أنْ خلـّف دعبل مصر وولاية أسوانها ، وقريبه المطلب الخزاعي بمدحه وهجائه ورثائه وراءه ، وقدم إلى بغداد ، وكانت قد " هاجت الفتن في الأمصار..." (117) - كما يقول الطبري - ، والمأمون في خرسان ، فقد خرج في أواخرسنة (198 هـ) الحسن الهرش يدعو إلى الرضى من آل محمد أتى النيل (العراق) ، فجبى الأموال ، وأغار على التجار وقتل في محرم (199 هـ) ، وخرج هذه السنة بالكوفة محمد بن إبراهيم (ابن طباطبا ) يدعو إلى الرضى من آل محمد ، والعمل بالكتاب والسنة ، وكان القائم بأمره وتدبير الحرب بين يديه أبو السرايا السري بن منصور الشيباني ، وقُتل مائتا ألف رجل ، وأخيراً قـُتل الرجل الأخير في ربيع سنة (200 هـ) ، بأمر الحسن بن سهل والي المأمون على العراق ، وأبان ثورة ابن طباطبا " وثب محمد بن محمد ومن معه من الطالبيين على دور بني العباس ، ودور مواليهم وأتباعهم في الكوفة ، فانتهبوها وخربوها وأخرجوهم من الكوفة " (118) ، وكان قد أرسل أبو السرايا إلى المدينة ومكة (حسين بن حسن الأفطس ) كأمير للحج .
2 -دعبل بين إسماعيل العباسي وزيد النار :
وخرج في البصرة زيد بن الإمام موسى الكاظم الذي أطلق عليه المؤرخون ( زيد النار) بدعوى حرق الدور وخصومه السياسيين ، المهم هرب منها واليها اسماعيل بن جعفر العباسي ، وسخر دعبل من الأخير الهارب من قذائف زيد النار وسيوفه ولم يقاوم ، وكان قد توّعد الدعبل بالقتل ، فإذا به يخاطبه مفرداً ، ويذكر خصمه (أطراداً) ...!! :
لقد خلـّف الأهواز من خلف ظهره***وزيدٌ وراء الزاب من أرض كسكر ِ
يهوّل إسماعيل بالبيض والقنا *** *وقد فر من زيد بن موسى بن جعفر ِ
وعاينتهُ في يوم خلـّى حريمـهُ ***** فيا قبحها منـهُ ، ويا حسن منظر(119) ِ
وفي هذه السنة أعني (200 هـ) ، خرج إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم باليمن ، وأطلق المؤرخون هذه المرة وصف (الجزّار) لكثرة ما يدّعون مَن قتل باليمن , ولما رجعت الكوفة لبني العباس ، اجتمع العلويون " إلى محمد بن جعفر (الصادق) بن محمد وكان شيخاً وادعاً محبباً في الناس...وكان يروي العلم عن أبيه جعفر بن محمد، وكان الناس يكتبون عنه ،وكان يظهر سمتاً وزهداً - فقالوا له : قد تعلم حالك في الناس، فأبرز شخصك نبايع لك بالخلافة ، فإنك إن فعلت ذلك لم يختلف عليك رجلان، فأبى ذلك عليهم، فلم يزل به ابنه علي بن محمد بن جعفر و حسين بن حسن الأفطس حتى غلبا الشيخ على رأيه ؛ فأجابهم. فأقاموه يوم صلاة الجمعة بعد الصلاة لست خلون من ربيع الآخر، فبايعوه بالخلافة ، وحشروا إليه الناس من أهل مكة والمجاورين ، فبايعوه طوعاً وكرهاً ، وسموه بإمرة المؤمنين، فأقام بذلك أشهراً " (120) - هذا ما رواه الطبري - هذه الأمور مجتمعة ، ولقرابة المعارضين العلويين الأشداء من الإمام علي بن موسى الرضا (ع) ،ولانشقاق العباسيين بعد خلع الأمين ومقتله ، ولبعد المأمون عن عاصمة الخلافة ، ولحكمة المأمون وحنكته السياسية , رأى لابدّ من إسناد ولاية العهد للعلويين ليحيّدهم , فأرسل رجاء بن أبي الضحاك مبعوثاً إليه - وهو في المدينة - للشخوص إلى خراسان ، فاعتل عليه الإمام بعلل كثيرة ، فما زال يكاتبه حتى علم الإمام لا مفـّر حتى القبول , فقبل وتوّجه من المدينة إلى خراسان , ولولده محمد الجواد من العمر سبع سنوات (121) ، فبويع له بولاية العهد في (رمضان 201 هـ ) ، وضربت الدراهم باسمه ، وغيّر المأمون شعار العباسيين من الأسود إلى الأخضر ، وهو شعار العلويين.
3 - شريطة بشار بين دعبل وصديقه إبراهيم بن العباس الصولي:
هذه الأحداث بمجملها ومن بداياتها شجّعت الشاعر الأول في تلك الأيام أواخر سنة ( 200 هـ) - على أغلب الظن - أن يقول لصديقه الحميم " إبراهيم بن العباس: أريد أن أصحبك إلى خراسان ، فقال له إبراهيم : حبذا أنت صاحبا مصحوبا إن كنا على شريطة بشار قال : وما شريطة بشار قال قوله :
أخ خير من آخيت أحمل ثقله****ويحمل عني حين يفدحني ثقلي
أخ إن نبا دهر به كنت دونه *** وإن كان كون كان لي ثقة مثلي
أخ ماله لي لست أرهب بخله** ومالي له لا يرهب الدهر من بخلي
قال: ذلك لك ومزية فاصطحبا "(122) ، ولا نذهب إلى ما ذهب إليه صاحب (الغدير ) الشيخ الأميني بأنها تمّت سنة (198 هـ) برفقة أخيه أبي الحسن علي (123) ، لأن الشاعر في تلك السنة ذهب مع أخيه رزين للحج , ومن هناك عرّج على مصر , وأصبح والياً , والمطلب نفسه الذي ولاّه ، كان والياً على مصر بين 198 هـ - 200 هـ حين وفاته ، كما ذكرنا في الحلقة السابقة ، فكيف يجتمع الأقليمان في مكان واحد ؟!!
4 - دعبل ومسلم بن الوليد والوزير الفضل بن سهل ...عتاب وهجاء فجاء ردّ ٌمضاد !!:
وإبان رحلة دعبل ووجوده في خرسان - على أغلب الظن قبل إلقاء التائية الخالدة - بلغه حظوة أستاذه , وربيب طفولته ، مسلم بن الوليد عند وزير المأمون الفضل بن سهل ، فذهب لزيارته متمنياً له الرفعة , متوسماً فيه الخير والبركة , ولكن أستاذه جفاه , وخيّب ظنه " قال أبو تمام : ما زال دعبل مائلا إلى مسلم بن وليد مقرا بأستاذيته حتى ورد عليه جرجان فجفاه مسلم وكان فيه بخل فهجره دعبل وكتب إليه :
أبا مخلد كنا عقيدي مودة ****** هوانا وقلبانا جميعــا معـا معـا
أحوطك بالغيب الذي أنت حائطي***** وأنجع أشـفاقا لأن تتوجعا
فصيرتني بعد انتحائك متهما**** لنفسي عليها أرهب الخلق أجمعا
عششت الهوى حتى تداعت أصوله**بنا وابتذلت الوصل حتى تقطعا
وأنزلت من بين الجوانح والحشى ***** ذخيرة ودٍ طالمــا قد تمنعا
فلا تعذلني ليس لي فيك مطمع ***** تخرقت حتى لم أجد لك مرقعا
فهبك يميني استأكلت فقطعتها ***** وجشمت قلبي صبره فتشجعا "(124)
بعد هذه القطيعة , دس دعبل هذين البيتين إلى الفضل بن سهل حين وصوله إلى مرو :
لا تعبأن بابن الوليد فإنه **** يرميك بعد ثلاثة بملال
إن الملول وإن تقادم عهده ** كانت مودته كفيء ظلال
فدفع الفضل الرقعة إلى مسلم وقال : انظر يا ابن الوليد رقعة دعبل فيك ,فلما قرأها قال له : هل عرفت لقب دعبل وهو غلام ؟ قال : لا، قال : كان يلقب بمياس ، ثم كتب إليه يقول :
مياس قل لي أين أنت من الورى *** لا أنت معلوم ولا مجهول
أما الهجاء فدق عرضك دونه ** والمدح عنك كما علمت جليل (125)
من عجز البيت الأول لمسلم (الصريع غوانيه) : " لا أنت معلومٌ ولا مجهولُ" ، نستطيع أنْ نستنج أنّ الأبيات قالها المسلم قبل الموقفين الموالي والمعارض ، لأن الدعبل بعدهما ، أي بعد التائية الشهيرة ، وقصائد الهجاء والسخرية من الخلفاء وأركان الدولة الرفيعة ، طارت شهرته في كلّ آفاق الدولة الإسلامية حتى الهند شرقاً والأندلس غرباً , وخفت أسم مسلم بن الوليد واعتزل حتى وفاته (208 هـ) ، ومن قبله جمّد نفسه أبو العتاهية المتوفي (210 هـ) ، وكلاهما من مواليد (130هـ) ، أمأ دعبل فهو من مواليد (148 هـ) .
5 - التائية الخالدة في حضرة الإمام (ع) :
وعند مكوث دعبل في خراسان نظم قصيدته التائية الخالدة، ونظم صاحبه العباس قصيدة دالية , ورتـّبا أمرهما للوقوف أمام حضرة الإمام ليلقيا ما أبدعا . قدّم الرجل أوراق اعتماده بـ " أحسن الشعر وفاخر المدائح المقولة في أهل البيت عليهم السلام " (126 ، كما نعت الأصفهاني في (الأغاني) قصيدة الولاء , واعتمد الأدباء و النقاد هذه الكلمات لأوراق الأعتماد , ولكن عندما دخل الشاعر الموقف على حضرة الإمام الرضا ، بادر الأول : يا ابن رسول الله أني قلت فيكم قصيدة , وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك , فقال هاتها ياخزاعي , ولهيبة المقام , وقدسية الإمام ، لجم الشاعر إلهام نفسه من أن يبدأ بمطلع التشبيب (127) , فشرع بالمناقب - كما ذكرنا ودوّنا في الحلقات السابقة -
قال دعبل : " دخلت على علي بن موسى الرضا عليه السلام فقال لي: أنشدني شيئا مما أحدثت. فأنشدته (الطويل) :
مدارس آيات خلت من تلاوة * ومنزل وحي مقفر العرصات
حتى انتهيت إلى قولي :
إذا وتروا مدوا إلي واتريهم *** أكفا عن الأوتار منقبضات
قال : فبكى حتى أغمي عليه وأومأ إلى الخادم كان على رأسه : أن اسكت. فسكت فمكث ساعة ثم قال لي : أعد. فأعدت حتى انتهيت إلى هذا البيت أيضا فأصابه مثل الذي أصابه في المرة الأولى وأومأ الخادم إلي : أن اسكت. فسكت فمكث ساعة أخرى ثم قال لي : أعد. فأعدت حتى انتهيت إلى آخرها. فقال لي : أحسنت - ثلاث مرات . -
ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم مما ضرب باسمه ولم تكن دفعت إلى أحد بعد وأمر لي من في منزله بحلي كثير أخرجه إلى الخادم، فقدمت العراق فبعت كل درهم منها بعشرة دراهم إشتراها مني الشيعة فحصل لي مائة ألف درهم فكان أول مال اعتقدته ، قال ابن مهرويه : وحدثني حذيفة بن محمد : أن دعبلا قال له: إنه استوهب من الرضا عليه السلام ثوبا قد لبسه ليجعله في أكفانه فخلع جبة كانت عليه فأعطاه إياها وبلغ أهل قم خبرها فسألوه أن يبيعهم إياها بثلاثين ألف درهم فلم يفعل فخرجوا عليه في طريقه فأخذوها منه غصبا وقالوا له : إن شئت أن تأخذ المال فافعل وإلا فأنت أعلم .
فقال لهم : إني والله لا أعطيكم إياها طوعا ولا تنفعكم غصبا وأشكوكم إلى الرضا عليه السلام فصالحوه على أن أعطوه الثلاثين ألف الدرهم وفرد كم من بطانتها ، فرضي بذلك فأعطوه فردكم فكان في أكفاته . " (128)
من مضمون النص نستدل على أن الإنشاد قد تمَّ ، والإمام كان ولياً للعهد ، وقد تلاقف مؤرخو الأدب القصيدة بالاستحسان والثناء ، فذكر القيرواني الحصري في ( زهر آدابه ) عن دعبل وشهرة القصيدة ، وإنها من جيد شعره " وقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه : ثم إن المأمون لما ثبتت قدمه في الخلافة وضرب الدنانير باسمه أقبل بجمع الآثار في فضايل آل الرسول فتناهى إليه فيما تناهى من فضائلهم قول دعبل : (مدارس آيات ... ) ، فما زالت تردد في صدر المأمون حتى قدم عليه دعبل) ، فقال له : أنشدني قصيدتك التائية ولا بأس عليك ولك الأمان من كل شيئ فيها فإني أعرفها وقد رويتها إلا أني أحب أن أسمعها من فيك . قال : فأنشده حتى صار إلى هذا الموضع :
ألم تر أني مذ ثلاثين حجة ***أروح وأغدو دائم الحسرات
أرى فيئهم في غيرهم متقسما **وأيديهم من فيئهم صفرات
فبكى المأمون حتى اخضلت لحيته وجرت دموعه على نحره ، وكان دعبل أول داخل عليه وآخر خارج من عنده . (129) وقال ياقوت الحموي في ( معجم الأدباء ) : قصيدته التائية في أهل البيت من أحسن الشعر ، وأسنى المدايح . وذكر الثعالبي في (ثمار القلوب) بيتين من القصيدة أحدهما : مدارس آيات. والثاني البيت الذي يتضمن (ذو الثفنات) ، إذ كان يقال لكل من علي بن الحسين بن علي (ع) وعلي بن عبد الله بن عباس : ذو الثفنات. وذكر صلاح الدين الصفدي في ( الوافي بالوفيات ) طريق رواية القصيدة , وفي ( الإتحاف ) نقل الطبري في كتابه عن أبي الصلت الهروي قال : دخل الخزاعي على علي بن موسى الرضا بمرو فقال : يا بن رسول الله؟ إني قلت فيكم . (130) .
أبيات من القصيدة التي تبلغ 123 بيتاً على بعض الرويات :
تجاوبن بالارنــان والزفــراتِ**** نوائــــح عجم اللفظ والنطقاتِ
يخبرن الانفاس عن سر أنفس**** اسارى هوى مـاض وآخرآتِ
فأسعدن أو أسعفن حتى تقوضت * صفوف الدجى بالفجر منهزماتِ
على العرصات الخاليات من المها** سلام شج صب على العرصاتِ
فعهدي بها خضر المعاهد مألفا****من العطرات البيض والخفراتِ
ليالي يعدين الوصال على القلى ***** ويعدي تدانينا على العزباتِ
وإذ هن يلحظن العيون سوافرا**** ويسترن بالايدي على الوجناتِ
وإذ كل يوم لي بلحظي نشـــــــوة*** يبيت بها قلبي عــــلى نشــواتِ
فكم حسرات هاجها بمحســــــــر ****وقوفـي يوم الجمع من عرفاتِ
ألم تر للايام ما جر جورها *****على الناس من نقض وطول شتاتِ
ومن دول المستهزئين ومن غدا****** بهم طالبا للنور في الظلماتِ
فكيف ومن أنى بطالب زلفــــــة ***** إلى الله بعد الصوم والصلواتِ
رزايا أرتنا خضرة الافق حمــــــرة ***وردّت إجاجا شعم كــــــل فراتِ
بكيت لرسم الدار من عرفـــات***** وأذريت دمع العيــــن بالعـــبراتِ
وبان عرى صبري وهاجت صبابتي***** رسوم ديار قد عفت وعراتِ
مدارس آيات خلت مـــــــن تــــــلاوة ***ومنـزل وحـي مقفر العرصاتِ
لآل رسول الله بالخيف مـــــــن منى ***** وبالبيت والتعريف والجمراتِ
ديار لعبد الله بالخيف مـــــــن منــــى *****وللسيد الداعي إلـى الصلواتِ
ديار علي والحسين وجعــــــــفرٍ ******** وحمزة والسجاد ذي الثفناتِ
ديار لعبد الله والفضل صــــــــــــنوه ****** نجي رسول الله في الخلواتِ
وسبطي رسول الله وابني وصيــــــــــهِ *** ووارث عـــــلم الله والحسناتِ
منازل وحي الله ينزل بينهـــــــــا ***على أحمد المذكور فــــــــي السوراتِ
منازل قوم يهتدى بهداهـــــــــــــم *****فيؤمـــــــــــــن منهم زلة العثراتِ
أفاطم لو خلت الحسين مجـــــــــــــــــدلاً وقــــــــــد مات عطشانا بشط فراتِ
إذا للطمت الخد فاطم عنــــــــــــدهُ*** وأجريت دمـــــــــع العين في الوجناتِ
أفاطم قومي يا ابنة الخير وانــــــــــــدبي****** نجوم سماوات بأرض فلاتِ
فيا رب زدني في هواي بصيـــــــــــــــرة***وزد حبـــــهم يا رب في حسناتي
6 - دعبل الموقف والهجاء بعد الخمسين :
رجاء تابع معي ، تاريخ الرجل مشوّه ، ومعظم من كتب عنه مادحاً ، وبحث في أمره ساخطاً ، لم يعطِهِ حقـّه من الإنصاف والدّقة , إنهم خلطوا الحابل بالنابل , دعبل إلى حدّ نهاية هذه الفترة الزمنية , وقد زاد على الخمسين عمراً ( 148 هـ -201 هـ) ،لم يهجُ أيً خليفة أو وزير أو سياسي أو قائد عسكري،لقد مرّت عهود المنصور والمهدي والهادي والرشيد والآمين برداً وسلاماً عليه وعلى رجال عصره الكبار سوى هجاء قريبه المطلب الخزاعي (ت 200 هـ ) من بعد قبل سنتين من نهاية التاريخ المذكور ، أي في بدايات عهد المأمون، وهجاء إسماعيل بن جعفر العباسي المتوفي ( 216 هـ) الذي توّعده , فناصر زيد النار بن الإمام موسى الكاظم ، وفي كلا الأمرين ، قد اجتاز الخمسين ، هكذا يخبرنا ديوانه المتبقي ، نعم ذكر الرشيد هجاءً بعد موته بأكثر من عشر سنوات نكاية بالمأمون الذي سمّ الرضا ، فالتزم الشاعرالموقف ، إذن القضية تكتسي الحق العام ،وليس المصلحة الشخصية ، فأين يمكننا وضع بيت المعري :
لو أنصف الدهر هجا نفسه ***كأنه الرومي أو دعبلُ
وأقواله الأخرى باتهامه بالارتزاق ، وغير ذلك حتى استند عليها الدكتور شوقي ضيف معتمداً على النهج الإنتقائي التطويعي ، فيأخذ ما يلائم فكرته ، وهذا من ردّ الدكتور عبد المجيد زراقط على (ضيفه ) (131)، وهكذا ثبّت أيضاًعلى الشاعر المتمرد الأستاذ الكبير العقاد ظالماً له - ربّما دون مبالاة وتحقيق معمق منه - ، وسار على نهجه الأديب حنا الفاخروي مقلـّداً ...!! وهذا ما ذكرناه سالفاً ، ونحن نقول : السيء الطبع ، والسليط اللسان ، المفترض أن يتبيّن لنا من صغره لا عند كهولته ونضجه , إذن هذا دليل على موقف فكري حازم يصبّ في مصلحة الأمة العليا حسب ما كان يرتأيه هو وجناحه .
7 - دعبل يسخر من إبراهيم بن المهدي (ابن شكلة) بعد مبايعته بالخلافة المزورة :
إضافة إلى ما ذكرناه ، و في هذه الفترة ، وبعد عودة دعبل إلى العراق أواخر سنة (201 هـ ) ، شهد خروج إبراهيم بن المهدي - عم المأمون , وأخي الرشيد - على خلافة مأمونه بتحريض من العباسيين في بغداد الذين قلـّدوه الخلافة غير الشرعية ، أي بدون توصية من الرشيد ، وأصبح خليفة غير رسمي ما بين (25 ذي الحجة 201 حتى 15 ذي الحجة 203 هـ ) ، وذلك عقبى خلع الأمين ومقتله ، وترسيم الإمام الرضا جبراً ولياً للعهد ، واستبدال شعار العباسيين الأسود بشعار العلويين الأخضر ، فالشاعر إلى تلك الأيام الغابرة ، لم يمس مقام الخلافة الشرعية بكل رموزها السابقين ، ومأمونها الحكيم ، وإنما كما استدركنا ، صبّ سخريته على الخارج الإبراهيم ، الذي لقبه معاصروه بابن شكلة ، وهذا اسم أمه الأمَة السوداء ، استصغاراً لشأنه ، ولا سيما كان يجيد الغناء ، بالرغم من أنه توّلى ولاية دمشق في عهد أخيه الرشيد لمدة ست سنوات على دفعتين , ونعت بالعدل والصرامة ، وأبان خلافته المزعومة ، حاربه الوزير الحسن بن سهل والي العراق المأموني ، لم يقدر عليه ، فردّه خائباً ، مما جعل المأمون أن يرسل لقتاله قائده العسكري المقتدر حميد الطوسي ، فانتصر عليه انتصاراً باهراً ، فانهزم ابن شكلة ، واختفى في بغداد حين وصلها المأمون سنة (204هـ) ، وبقي مختفياً حتى سنة ( 210 هـ) ، إذ عفا عنه المأمون وأكرمه ، توفي في سامراء ( 224 هـ) ، وصلـّى عليه ابن أخيه المعتصم، نعته الخطيب البغدادي بأوصاف رائعة : وافر الفضل ، غزير الأدب , واسع النفس ,سخي الكف ، وكان معروف بصناعة الغناء حاذقاً فيها ، وقد قلّ المال عليه أيام خلافته ببغداد (132) ، وكان قد لجأ إليه أعراب من أعراب السواد وغيرهم من أوباش الناس وأوغادهم ، فاحتبس عليهم العطاء ، فجعل إبراهيم يسوفهم وهم لا يرون لوعده حقيقة ، إلى أن خرج رسوله إليهم يوما وقد اجتمعوا وضجوا فصرح إليهم بأنه لا مال عنده ، فقال قوم من غوغاء أهل بغداد : أخرجوا إلينا خليفتنا ليغني أهل هذا الجانب ثلاثة أصوات فتكون عطاءهم ولأهل هذا الجانب مثلها , قال إسحاق بن لإبراهيم الموصلي : فأنشدني دعبل بعد أيام من (السريع ) :
يا معشر الأجناد لا تقنطوا *** وارضوا بما كان ولا تسخطوا
فسوف تعطون حنينـــة ً ***** يلتــذها الأمـــــــرد والأشمط ُ
والمعبديات لقــــوادكم ******* لا تدخل الكيــس ولا تربط ُ
وهكذا يرزق قـــــــوادهُ ****** خليفة ٌ مصــــــحفهُ البربطُ (133)
سخرية صارخة من مغن ٍيتطلع لعرش الخلافة الإسلامية ، وإن كان ابن خليفة،وأخاً لهارون الرشيد ، ولك أنْ تعرف - إنْ كنت لا تعرف -الأشمط هو الشايب ، والحنينة بمعنى طور غنائي كان ينسب إلى حنين الحيري ، ومثلها المعبديات التي تنسب إلى معبد المغني الأموي ، والبربط نوع من الملاهي كعود الطرب، واستعار الشاعر (مصحفه البربط) للسخرية من مطرب يتطلع للخلافة الإسلامية، وينقل الأصفهاني رواية في (أغانيه) : " قال إبراهيم بن المهدي للمأمون قولا في دعبل يحرضه عليه فضحك المأمون وقال إنما تحرضني عليه لقوله فيك : ( يا معشر الأجناد...)
فقال له إبراهيم : فقد والله هجاك أنت يا أمير المؤمنين فقال : دع هذا عنك فقد عفوت عنه في هجائه إياي لقوله هذا وضحك ثم دخل أبو عباد فلما رآه المأمون من بعد قال لإبراهيم : دعبل يجسر على أبي عباد بالهجاء ويحجم عن أحد ، فقال له : وكأن أبا عباد أبسط يدا منك يا أمير المؤمنين ، قال لا ولكنه حديد جاهل لا يؤمن وأنا أحلم وأصفح ، والله ما رأيت أبا عباد مقبلا إلا أضحكني قول دعبل فيه : (أولى الأمور بضيعة...) " (134) ، طبعاً هذا الكلام بعد أن عفا المأمون عن عمه إبراهيم ، وسنأتي على سخرية دعبل من الوزير أبي عباد في الحلقة القادمة عند الكلام عن موقف دعبل المعارض .
وقبل إفلاس خزينة خلافته بعدة أشهر رماه دعبل بسخرية لاذعة من (كامله) , يقول فيها :
علمٌ وتحكيمٌ وشيبُ مفارق ٍ ***طلـّسنَ ريعانَ الشبابِ الرائق ِ
وإمارة ٌ في دولةٍ ميمونةٍ ** *كانتْ على اللذات اشغب عائق ِ
فالآنَ لا اغدو ولستُ برائح ٍ***في كبر معشوق ٍ وذلـّة عاشق
نعرَ ابن شكلة بالعراق واهلهِ *** فهفــا إليــه كلّ اطلس مائق ِ
إن كانَ إبراهيم مضطلعاً بها**** فلتصلحنْ منْ بعدهِ لمخارق ِ
ولتصلحنْ من بعد ذاك لزلزل ٍ*** ولتصلحنْ منْ بعدهِ للمـارق ِ
أنـّى يكونُ وليس ذاك بكائن ٍ***يرث الخلافة فاسقٌ عن فاسق ِ(135)
إذاً (ابن شكلة) قام بالفتنة في العراق وبين أهل العراق ، وألتفَّ حوله كل ذئب أمرد أحمق , وهنيئاً للخلافة بهذا المغني ، ولتصلح من بعده للمغنيين المطربين أمثال مخارق وزلزل والمارق كما يذكرهم خليل مردم في (جمهرة مغنيه) (136) ، وأخيراً يختم شعره بالحقيقة المرة متسائلاً ، ويجيب جازماً ، لايمكن للخلافة أن يرثها الفاسقون وعن هذه القصيدة الثانية يروي الأصفهاني عن عبد الله بن طاهر بن الحسين كيف دسّها دعبل إلى مأمونه قائلاً : " وأما الثانية فإن المأمون لم يزل يطلبه وهو طائر على وجهه حتى دس إليه قوله : (علم وتحكيم وشيب مفارق ...) , فلما قرأها المأمون ضحك وقال : قد صفحت عن كل ما هجانا به ، إذ قرن إبراهيم بمخارق في الخلافة وولاه عهده، وكتب إلى (أبي) أن يكاتبه بالأمان ويحمل إليه مالاً، وإن شاء أن يقيم عنده أو يصير إلى حيث شاء فليفعل ، فكتب إلي (أبي) بذلك وكان واثقا به فصار إليه فحمله , وخلع عليه وأجازه وأعطاه المال وأشار عليه بقصد المأمون ففعل فلما دخل وسلم عليه تبسم في وجهه ثم قال أنشدني :
مدارس آيات خلت من تلاوة *** ومنزل وحي مقفر العرصات
فجزع فقال له : لك الأمان فلا تخف وقد رويتها , ولكني أحب سماعها من فيك فأنشده إياها إلى آخرها والمأمون يبكي حتى أخضل لحيته بدمعه فوالله ما شعرنا به إلا وقد شاعت له أبيات يهجو بها المأمون بعد إحسانه إليه وأنسه به حتى كان أول داخل وآخر خارج من عنده ..." . (137)
نعم هجا المأمون وقد أحسن إليه ، بل هجا أباه الرشيد أيضاً ، وهو أول من كرمه نكاية بابنه أواخر سنة (203 هـ ) ، بعد أن تأكد من أنّ المأمون سمّ الإمام الرضا (ع) ، عندما بلغ الشاعر من العمر خمس وخمسين سنة، فأتخذ الموقف المعارض , وشرع بأول قصيدة هجاء لرأس الخلافة، وهذا دليل ساطع على أن الأمر ليس بشخصي ومصلحي , وإنما عام ، ومصلحة الأمة قبل مصلحة الأفراد ، وعلى الآخرين احترام عقائد الناس ومبادئهم اتجاه الشخصيات العامة ، وهذا نهج الأمم المتحضرة في زماننا المعاصر , وإلى الحلقة القادمة لنشرع بمسيرة القصائد المعارضة ، وليس بالضرورة أن يكون رأيي رأيه في كلّ الأمور، ولكنني أدافع بكل ما أستطيع لتفهم وجهة نظره في أحداث التاريخ البائد ، وخصوصاً بعد أن وصلنا إلى هذا الضياع السائد ...!!
دعبل الموقف بين السخرية والهجاء ( 203 هـ - 205 هـ ) :
8 - دعبل يشرع بحملة هجاء ساخر وساخط على رموز الخلافة العباسية بعد سمّ الإمام الرضا :
دعبل - على ما يبدو - انبهر كثيراًبشخصية الإمام الرضا (ع) ، وذاب فيها حتى العشق الصوفي ، ومن خلاله توّجه إلى الله بكل جوارحه وأحاسيسه ، وأصبح حقّ آل البيت شغله الشاغل ، ولمّا وردت إليه أخبار موت الإمام، وتيقـّن متأكداً ، صُدم صدمة قوية كادت تهدّ أركانه ، وذلك سنة (203 هـ) ، إذ وافته المنية بأرض طوس في قرية يقال لها (سنا أباد) ، ودفن في دار حميد بن قحطبة ، في المكان الذي دفن فيه (هارون الرشيد) ، وإلى جانبه مما يلي القبلة ، كما جاء في (عيون أخبار الرضا) للصدوق (138) ، في بادئ الأمر سكب أشجانه وبيّن لوعته في مقطوعة رثاء منها (الطويل) :
ألا ما لعيني بالدموع استهلـّتِ *** ولو فقدتْ ماء الشؤون لقرّتِ
فنحن عليهِ اليومَ أجدرَ بالبكـا *** لمرزئةٍ عـزّتْ علينا وجلـّـــتِ
تجلـّت مصيبات الزمان ولا أرى *** مصيبتنا بالمصطفين تجلـّتِ (139)
وثم شاعت الشائعات ، وكثر القيل والقال أنّ المأمون سمّه ، بالرغم من استباق الأخيرالأمور فكان " يمشي في جنازة الرضي حاسراً في مبطنة بيضاء ، وهو بين قائمتي النعش يقول : إلى من أروح بعدك يا أبا الحسن ! وأقام عند قبره ثلاثة أيّام ، يؤتى في كل يوم برغيف وملح فيأكله ، ثم انصرف في اليوم الرابع ..." ، هذا ما رواه اليعقوبي في (تاريخه) ، وكان قد ذكر من قبل هذه الفقرة قوله : " فقيل : إنّ علي بن هشام أطعمه رمانا فيه سم " (140) ، أمّا الأصفهاني في (مقاتل الطالبيين) ، ينقل بعد سرد روايات تسميم الإمام ، وجزْع المأمون على وفاته ، كما ترآى للناس ، قول الأخير : " و أغلظ عليّ من ذلك وأشدّ أنّ الناس يقولون : إنـّي سقيتك سمّاً ،وأنا إلى الله من ذلك بريء ..." (141) ، والحقيقة المأمون أراد أن يبرأ نفسه أمام الجمهور وانتفاضاتهم ، وتهديداتهم لعرشه المرتبك بعد مقتل الأمين ، وثورات العلويين وفي مقدمتها ثورة ابن طباطبا وأبي السرايا , ومن ثم انتفاضة العباسيين ، وتنصيب عمّه ابن شكلة المختفي عن الأنظار، الزمن لايتحمل المزيد ، وخصوصاً كان الإمام الرضا سيد العلويين ، بل الطالبيين في عصر خليفةٍ بأمسّ الحاجة لرأب الصدع ، وكان يومها دعبل لسان الشارع المعبر عن وجه الرأي فيه ، قبلياً يماني النزعة ، وهم المتنفذون ، ومعارضاً علوي الهوى ، وهم المنازعون ،و أدبياً من أدباء وشعراء الطبقة الأولى ، وهم الذين يرفعون ، وشعبياً يتلاقف شعره الرفيع الممنوع عموم الناس ، وهم الذين ينشرون ...!!
9 - واستنقذوك من الحضيض الأوهدِ :
لذلك ارتأى المأمون شراء ذمّته على ما يبدو ، لاسيما دعبل أخذ عنه الحديث ، والخليفة نفسه يميل إلى شعره ، ويفضله على الآخرين ، وخزاعة هي التي انتزعتْ الخلافة له من الأمين نزعاً ، وقتلا ً على حدّ سيف طاهر بن الحسين ، وإذا لم يكن بالإمكان شراء اللسان ، فليكفـّه عنه وعن الخلافة في الزمن الصعب ، فما كان من الشاعر إلا أن يفاجئه بقوله الشهير (الكامل) :
أيسومني المأمون خطة َجاهل ٍ***أو ما رأى بالأمس رأسَ محمدِ
توفي على هام الخلائفِ مثلما***توفي الجبال على رؤوس القرددِ
إنَّ التراتِ مســـــهَّدٌ طلاّبُـــها **** فاكفف لعابك عـن لعاب الأسودِ
لا تحسبنْ جهلي كحلم أبي فما *** *حلـمُ المشايخ مثل جهل الأمردِ
إنـّي من القوم الذين سيوفهمْ ***** قتلتْ أخــــــــاك وشرًفتك بمقعدِ
شادوا بذكركَ بعد طول خمولهِ *** وتنقذوك من الحضيض الأوهدِ (142)
يستهزأ متوعّداً المأمون - وما أدراك مَن المأمون ؟ سيأتيك بالأخبارمن لم تزوّدِ ! - ويذكّره مهدّداً بقطع رأس أخيه محمد الأمين المخلوع ، وستنزل السيوف على الهامات ، كما تنهال الجبال على الأرض المرتفعة الغلظة (القردد) ، فطلاب الثارات (الترات) طريقهم ممهد ، فكفف لعابك المسموم كلعاب (الأسود) الحية العظيمة ، كأنّما يلفت نظره لسم الرضا، أمّا بقية الأبيات بما فيها من سخرية وفخر وتوعّد بالتهديد والاستعلاء فواضحة ، ولكن على مَن صبَّ رهبتها ؟! ، على المأمون ، وهو من أعظم الخلفاء العباسيين ، إن لم يكن أعظمهم إطلاقاً ، بل أعظم الخلفاء الإسلاميين بعد صدر الرسالة ، وملوك الإنسانية قاطبة ، ولو أن شهرة أبيه الهارون سبقته ، يقول السيوطي عنه في (تاريخ الخلفاء) : " كان أفضل رجال بني العباس حزماً وعزماً وحلماً وعلماً ورأياً ودهاءً وهيبة وشجاعة وسؤودداً وسماحة ، وله محاسن وسيرة طويلة ..." (143) ، وربّما تتساءل , إذن لماذا الهجاء المقذع الساخر ؟ أقول : إنّه الموقف الجريء الصادق مع النفس ومبادئها العقائدية ، فلو ركـّزنا على كلمة ( الحضيض الأوهد) التي تـُكثـّف الصراع المرير بين الأخوين والعقد النفسية المكبوتة في لا وعي (الأمين) والمجتمع ، ومن المجتمع دعبل ، أمّا المأمون فلم يكن كما تخيّل شاعرنا ، وربّما (الأمين ) توهّم أو أوُهِم أن أخاه المأمون الأكبر منه بستة أشهر - من أم ولد ( مراجل) التي توفيت في نفاسها - دونه عند أبيه والدولة ، لأنه ابن (زبيدة) الهاشمية الحرّة ، وإنما كان المأمون الرجل الحاد الذكاء ، السياسي المحنك ، الحليم ، الشجاع ، معزّزاً مكرماً محبوباً أثيراً عند أبيه الرشيد ، وإلاّ لما كان المأمون مأمونا !! ، ومع ذلك كلـّه ، وإن تجاوز الخليفة الأخير المتعقل الرشيد ابن (الرشيد) أمر تمايز العقل الجمعي لمصلحة أخيه المقتول المخلوع ، وتفهمه ، بقى يمسح آثاره دون إثارة ، ومن هذا المنطلق ردّعلى دعبل بلسان المتواضع الرفيع : " قبّح الله دعبلاً ما أوقحه، كيف يقول عليّ هذا ، وقد ولدت في الخلافة ، ورضعت ثديها ، وربيت في مهدها ..." (144) ، ولم يكتفِ الرجل الكبير بهذا الرد ، ففي عام 204 هـ " لمّا دخل المأمون بغداد أحضر دعبلاً بعد أن أعطاه الأمان ، وكان قد هجاه وهجا أباه ، فقال يا دعبل : من الحضيض الأوهد ، فقال : يا أمير المؤمنين ، قد عفوت عمن هو أشدّ جرماً مني " (145) ، هذا ما رواه الحصري القيرواني في ( زهر آدابه) ، ولكن متى هجا دعبل أباه الرشيد ، والرشيد قد أحسن لدعبل في مطلع حياته ، وكرّمه وقرّبه وقدّمه ؟! هجاه بعد الموقفين الموالي للعلويين ، والمعارض للعباسيين نكاية بالمأمون الذي سمّ الإمام من قبل (أمّة السوء ) ، ويعني مجموعة الحاكمين السيئة حسب اجتهاده .
10 - قصيدة (ياأمّة السوء ) :
والحقيقة قد هجاه في قصيدة من روائع نظمه ، نظمها قبل قصيدته الدالية السابقة بعدة أشهر - على أغلب الظن - أي قبل مجيء المأمون إلى العراق (204 هـ) ، وبعد أنْ تيقـّن من سم الإمام ، ولتبرير الظن الأغلب ، ننقل رواية عن أحد رجالات مذهبه ، وهم الأدرى بمساربه إذ : " روى الشيخ الصدوق في أماليه بإسناده عن دعبل الخزاعي أنه قال : جاءني خبر موت الرضا وأنا مقيم بـ (قم) ، فقلت القصيدة الرائية التي طلب المأمون الاستماع إليها ..." (146) ، ويروي الشاعر نفسه : إنـّه بعد أنْ أنشدها أمام الخليفة " ضرب المأمون عمامته الأرض، وقال صدقت والله يا دعبل " (147) ، وسنأتي على إعجاب الخليفة (المأمون) بقصائد الشاعر المأمون ..!!
المهم دُفن الإمام إلى جنب الرشيد في طوس ، وقد جاء ذكره بشكل قاس ٍنكاية بالمأمون ، كما أسلفنا من قبل ، وأوسم خريدة سخطه (يا أمّة السوء) " التي لا يمكن تصنيفها في غرض واحد من أغراض الشعر المتداولة رثاء ، مدح ، هجاء ، لأنها شعر مختلف يمثل تجربة مختلفة قوامها الولاء لآل البيت بوصفهم مثالة المرء المؤمن إلى الطمأنينه في هذه الحياة ..." (148) . وإليك المطلع بنسيبه العجائزي (البسيط) ! :
تـأسفتْ جارتي لما رات زوري **** وعـدَّتِ الـحلمَ ذنـباً غير مغتفر ِ!
تـرجو الصبا بعدما شابتْ ذوائبها ***وقـد جـرت طلقا في حلبة الكبر ِ
أجـارتي ! أنَّ شيبَ الرأس نفـّلني** ذكـرَ الغواني وارضاني من القدر ِ
لـو كـنتُ اركـنُ للدنيا وزينتها *** إذن بكيت على الماضين من نفري
أخنى الزمانُ على أهلي فصدّعهمْ***تصدعَ الشعبِ لاقى صدمة َ الحجر ِ
بـعضٌ اقـامَ وبعضٌ قد أهابَ بهِ **** داعـي المنيةِ والباقي علــى الأثر ِ
أمّـا الـمقيمُ فـأخشى أنْ يـفارقني **** ولـستُ أوبـة مـــــن ولـّى بمنتظر ِ
أصبحتُ أخبرُعنْ أهلي وعنْ ولدي **** كـحالم ٍ قـصَّ رؤيـا بـــعدَ مـدّكر ِ
دعبل قد مهّد لقصيدته بنسيبٍ عجائزي ،ثم تنصل منه ليتذكر ويذكـّر بالنفر الماضين من أهله الذين أخنى الزمان عليهم ، وصدّعهم ، ويدور شاعرنا الكبير بمقوده من بعد تململه من أهله الأقربين لآل بيته العقائديين كربان ماهر عليم بالشعر العربي وأسراره ، ومن العجيب يعذر الدعبل بني أمية من أفعالهم وجرائمهم في واقعة الطف ، لا حبّاً بهم وتقرّباً إليهم في زمن لا قريب لهم ، ولا ذكر ، وإنّما كراهية وبغضاً لما فعل بنو العباس ، وأ
بـعضٌ اقـامَ وبعضٌ قد أهابَ بهِ **** داعـي المنيةِ والباقي علــى الأثر ِ
أمّـا الـمقيمُ فـأخشى أنْ يـفارقني **** ولـستُ أوبـة مـــــن ولـّى بمنتظر ِ
أصبحتُ أخبرُعنْ أهلي وعنْ ولدي **** كـحالم ٍ قـصَّ رؤيـا بـــعدَ مـدّكر ِ
دعبل قد مهّد لقصيدته بنسيبٍ عجائزي ،ثم تنصل منه ليتذكر ويذكـّر بالنفر الماضين من أهله الذين أخنى الزمان عليهم ، وصدّعهم ، ويدور شاعرنا الكبير بمقوده من بعد تململه من أهله الأقربين لآل بيته العقائديين كربان ماهر عليم بالشعر العربي وأسراره ، ومن العجيب يعذر الدعبل بني أمية من أفعالهم وجرائمهم في واقعة الطف ، لا حبّاً بهم وتقرّباً إليهم في زمن لا قريب لهم ، ولا ذكر ، وإنّما كراهية وبغضاً لما فعل بنو العباس ، وأ
وسوم: العدد 689