الشهيد محمد كمال ... رجل المؤسسية والمبادئ
قراءة في بيان ترفعه عن المناصب الإدارية
لم يسعدني الحظ بالتعرف إلى الأستاذ الدكتور محمد محمد كمال، الذي ولد في 12 مارس 1955م، وعمل أستاذا جامعيا مرموقا لجراحة الأنف والأذن والحنجرة بجامعة أسيوط، والذي قضى شهيدا بإذن الله قبل فجر الثلاثاء 3 محرم 1438هـ الموافق 4 أكتوبر 2016م بيد العسكر المجرمين البغاة المحاربين، الذين لا يرقبون في مسلم إلا ولا ذمة، ولا يعرفون إلا لغة سفك الدماء وإزهاق الأرواح .. لم أتعرف إليه ولا جلست معه ولا اقتربت منه، لكنني تابعت مواقفه البطولية واختياراته الفارقة، وتتبعتُ مسيرته المباركة، وبخاصة بعد الانقلاب العسكري الذي لم ير أهله منذ وقوعه، مثله مثل عشرات الآلاف من أبناء الشعب المصري، خفف الله عن أهله مصابهم، ورزقهم الصبر والرضا وكل محبيه وتلامذته.
عرفته عن بُعْد حين تأخر بعض القيادات ولم يظهروا في المشهد، فتقدم هو ورفع اللواء بعدما جاء منتخبا، وربى الصف لمسلم على مبادئ الثورة وغرس فيهم قيم االمقاومة، وأحيا مبادئ الكرامة والعزة في نفوس الشباب، وقبلهم الفتيات والنساء اللائي لعبن دورا محوريا وأساسيا في الثورة، سواء قبل الانقلاب أو بعده بما يؤهلها للإسهام بدور كبير في توجيه الحركة وقيادتها: شوريا وتنفيذيًّا.
لكنني حين قرأت بيانه الذي صدر يوم الثلاثاء 3 شعبان 1437 هجرية الموافق 10 مايو 2016 ميلادية، والذي ترفع فيه عن المناصب الإدارية وأخذ خطوة للوراء ليعطي من نفسه القدوة لغيره من القيادات؛ حسما للخلاف وحلا للأزمة، أقول: حين قرأته مكتوبًا وسمعته بصوته المقدام ملأ أقطار نفسي، ووقع في قلبي صدقُ الرجل وإخلاصه رغم أني لا أعرفه، ورغم أنه كان يملك أن يكون في سدة القيادة دائما لكنه آثر أن يأخذ خطوة للوراء وهو الذي تولى القيادة في قلب الأخطار والأهوال، وكان يمكنه أن يظل في سدة القيادة وكان أهلا لها وحقيقا بها.
ها هو يفتتح رسالته بقوله: (يا إخواني وأبنائي من الإخوان المسلمين لقد عاهدتم وبايعتم فصدقتم عهدكم وبيعتكم، خضتم ميادين الحق فواجهتم القتل والبطش بصدوركم حتى ارتقى منكم الشهداء فما وهنت عزائمكم ولا كلت، ولا أرحتم الظالمين من بأسكم يومًا، وقفتم مجاهرين بالحق في وجه سلطان جائر فلم يفتنكم بطشه ولم يرهبكم صوته ولم يهزمكم سجنه).
ثم استعرض مسيرته القيادية منذ أن أصبح عضوا في مكتب الإرشاد ثم رئيس اللجنة الإدارية العليا الأولى المنتخبة في فبراير 2014م، ثم عضوا عاديا في اللجنة الثانية أكتوبر 2015م، ثم يعقب قائلا: (عايشتهم – يعني الإخوان - وعملت معهم في اللجنة الإدارية العليا والمكاتب والمناطق والشعب فما وجدت إلا شبابًا صلبًا مجاهدًا تقدم ليسد الثغور حاملاً الراية بحقها من تجرد وكفاءة وإخلاص وثبات، أصقلت المحنة معدنهم وأثبتوا أنهم على قدر المسئولية وحملوا الراية بقوة لم ييأسوا ولم يقنطوا، بل ضحوا وصبروا واجتهدوا كما قدم وبذل وضحى من سبقوهم من قادة الإسلام والدعوة نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحدا).
هذا الافتتاح والتعقيب يضعك في مشهد رجل مجاهد بامتياز، عاش الدعوة بأعماقه، والتحم مع الثورة بأنفاسه، وضحى في سبيلها بأمنه وأمانه ووقته وجهده، وصحته ووجده، وها هو يقدم روحه ليختم حياته بهذه الشهادة.
ثم استعرض المبادرات التي تمت لحل الأزمة وعلى رأسها مبادرة العلامة يوسف القرضاوي وإخوانه من العلماء، وذلك - كما يقول في ملمح مؤسسي شوري -: (لتبدأ الجماعة عهدًا جديدًا من المؤسسية والشورى لتستمر جماعة الإخوان المسلمين جماعة شورية شابة مجاهدة ثائرة كما سيرتها الأولى تستلهم تجربة مؤسسها الإمام البنا على منهجها الرباني الشوري المستمد من منابعه الصافية، تلك المؤسسية والشورى التي حاولت جاهدًا خلال الأزمة أن تكون مرجعنا ووسيلتنا لاتخاذ القرار وحسم الخلافات بعيًدا عن الشخصية والفردية).
ثم يخبرك بكلام يقفك على تجرده وزهده وورعه، كما يدلك على استشعاره لعظم المهمة، وخطورة المرحلة التي تحياها مصر والأمة مما يوجب على الجميع التجرد للوصول إلى حل يتوحد به الصف ليفعل فعله ويؤدي دوره، فيقول: (لم أكن يوماً حريصًا على موقع أو دور هو مغرم وليس مغنم بل أردت الدفاع عن مؤسسية القرار وتصحيح أوضاع خاطئة أوغرت الصدور وممارسات أضرت بالجماعة وسمعتها وجارت على مبادئها الشورية ومؤسساتها .. وإنني اليوم إذ أدعو إخواني قيادات المراحل السابقة أن يسلموا الراية لأبناهم قادة الميادين وفرسان المرحلة، فإنني أبدأ بنفسي مبادرًا طالبا من الإخوان في اللجنة الإدارية العليا وجمع الصف الإخواني إعفائي من مهمتي الحالية ومعلنا عدم التقدم لأي مهمة تنفيذية في الإدارة القادمة لأظل عونًا لإخواني في القيادة الجديدة المنتخبة متى شاءوا وإينما شاءوا وكيفما شاءوا من موقع الناصح وموقع الجندي المطيع لقيادته مغلقا بذلك كل صفحات المرحلة السابقة وقد سامحت كل من ذكرني بسوء أو ظن بس سوء فاللهم اغفر لي ولهم جيمعًا).
هكذا بكل رقي وشفافية وسماحة، رغم أن ما كان يصله من مقولات في حقه، وأكْل للحمه، وتشويه لصورته كفيل بأن يوغر صدور الصالحين والأولياء، وقد قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوما: (لا يُبَلِّغُنِي أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا، فإنِّي أحبُّ أن أخرج إليكم وأنا سَلِيم الصَّدر) [رواه أبو داود والترمذي وأحمد عن عبد الله بن مسعود].
ثم وجه نداءه لإخوانه من القيادات ولأبنائه من الأفراد؛ ليبين للقيادة واجباتها، وللصف واجباته كذلك، وأراها واجبات في كل عصر، لكنها اليوم أوجب وألزم، فيقول: (راجيا من إخواننا قيادات المراحل السابقة إغلاق كل صفحات الخلاف وعدم شغل الإخوان الثائرين في الميادين والمرابطين في السجون بعد اليوم بخلافات وبيانات ولجان تحكيم وتحقيق وخلافه، داعيا إخواننا في المكاتب الإدارية التي اتلبس الأمر عليها بالإنضمام لإخوانهم في مبادرة المكاتب والتوحد خلف اللجنة الإدارية العليا لإتمام إجراءات تسليم القيادة لمؤسسات منتخبة وفقًا لخارطة الطريق، وراجيا منكم إخواني وأبنائي في الصف السعي لفهم كل ما غاب عنكم أو غيب عنكم وتحمل مسؤوليتكم من تصحيح الأوضاع وتصويب الخلل وحماية المؤسسية والابتعاد عن الشخصنة والفردية).
وفي لمحة تشير إلى أهمية الالتفاف حول المبدأ لا الشخص، وللمؤسسية والشورية لا الأهواء والأغراض، فيقول: (وأوصيكم بالالتفاف حول الراية والأفكار والمباديء التي بايعنا عليها وليس حول الأشخاص والأفراد، وإلا جرت علينا سنة الاستبدال ونعوذ بالله من ذلك، أعوذ بالله من الشيطان الرحيم ” وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا”).
كما أنه لم يغب عنه في رسالته أبدا همَّ الثورة، وما يجري للمعتقلين والمعذبين والمطاردين وأهالي الشهداء، واستبشاره بأن عجلة الإصلاح دارت ولا يمكن لأحد أن يوقفها، وأن الوعي يزداد وينتشر ويتوسع بما يقوم حارسًا على الأفكار والمبادئ، وأن هذا سيؤدي إلى رأب الصدع والتئام الصف، واطمئنانه لذلك كل الاطمئنان، فيقول: (أعلن قراري هذا اليوم وأنا مطمئن تمامًا أنا عجلة الإصلاح قد بدأت في الدوران وأن الإخوان الموجودين في اللجنة الإدارية العليا والمكاتب الإدارية والمناطق والشعب قادرون على دفع الأمور في اتجاه المؤسسية والشورية وأن صف الإخوان المجاهد هو الحارس لمبادئ الجماعة ومؤسساتها وهو المدافع عنها، آملا أن تكون هذه الخطوة دافعًا لخطوات ممثالة تعلي قيمة التجرد وتضرب المثل للإخوان وتكون سببًا في رأب الصدع والتئام صف الإخوان ووحدة صفهم ليتفرغوا لثورتهم خلف قيادة شابه كفء من بينهم تعمل معهم كتفا بكتف ترفع الراية عالية لتخوض بهم الميادين وتحقق معهم الغايات وتحرر الأسرى والمعتقلين وتستعيد مع الشعب شرعيته المسلوبة وحريته وكرامته وتكسر ظهور الظالمين بإذن الله” وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ “).
ولم ينس أن يختم رسالته بدعاء خاشع يرقق القلوب ويستجيش الوجدان ويقرب الدمعة بعد أن بدأه بهذه البداية الجهادية المقاوِمة، فيقول: (اللهم وحد صفنا واجبر كسرنا واشف صدورنا واجمع كلمتنا وسدد على طريق الحق خطانا، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين).
هذا هو محمد كمال ببيانه وكلامه الذي تشعر فيه - بصدق - أنه ليس كلاما يحبَّر به الورق فحسب، وإنما كلمات كتبت بمهجة القلب ودمع العين وذوب الوجدان، كلمات خرجت من رحم المعاناة، ورغبة صادقة فيما يدعو إليه، لم يكتبها بين الكتب والأوراق، وإنما كتبها من الميدان، فجاءت كلماتها نورًا وتوفيقًا، فلم يكُ يليق بها إلا أن يختم الله لصاحبها كما يختم للعظماء وللقادة الربانين والدعاة الصادقين، اللهم ارحم عبدك كمالا، وتقبله شهيدا، واجعل من دمائه نارًا ونورًا: نارًا تحرق الطغاة وتزلزل عروشهم، ونورًا يضيء السبيل للمجاهدين، ويجمع الدعوة والأمة على كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة.
وسوم: العدد 688