الشهيد الضابط وحيد البيطار

خيم الظلام على الكون.. فلفَّه بثوب سكون، حين أنهى أبو سعد جولته على قواعد إخوانه، فتجاوز كل حواجز البغي، لقد طالت جولته ولكن لم يكن منها بد فلا بدَّ للقائد أن يعيش مع جنوده متفقداً أحوالهم متحسساً مشكلاتهم.

ارتد عائداً إلى بيته أو بالأحرى إلى قاعدته، وفي قلبه هموم ومشاغل تسيطر عليه، فيستغرق فيها بحثاً عن موقف أفضل، أو خطة أنجع، أو عملية أنفذ.

وفي حنايا تلك الهموم الكبار كانت توصوص بين الفينة والأخرى أضواء صغيرة يبتسم لها أبو سعد، ثم ينشغل عنها. وحين اقترب من بيته اتسعت رقعة تلك الأضواء فسيطرت على ساحة نفسه، فبدأ يفكر بزوجته التي تنتظره، هذه الزوج التي رضيت أن تقترن به وهو على صهوة الجواد.. ويفكر بابنه (الجنين) الذي شارف أن يرى نور الحياة، فخفق قلبه له، ورأى أبو سعد أمته من خلال هذا الجنين ترفل في الحرية والسعادة والسلام فامتلأت نفسه بالثقة واليقين والاطمئنان..

وصل البيت، أخرج المفتاح ليعالج الباب، كان ينتظر ابتسامة مشرقة تطل عليه من وراء الباب.. ولكن.. لقد أحس أن ثمة شيئاً غير طبيعي.. تراجع خطوات.. طلب من مرافقه أن يبتعد، ولكن الباب يفتح وتنطلق طلقات غادرة، ترفع أبا سعد إلى مقام الشهداء، فيرتمي على الأرض، ويتضرج وجهه الأزهر بدمه الزكي.. ويمضي أبو سعد تاركاً آماله لإخوة له يسيرون على طريق الجهاد.

*  *  *

أبو سعد بقية الإباء في نفوس أمة، كان تاريخها إباء كله، وذخر الرجولة لساعات الشدة حين يعز الرجال، وبريق الشعاع في ظلمات محن تجعل الحليم حيران...

أبو سعد الضابط المسلم الذي عرف أن أول مستلزمات البزة العسكرية نخوة وشهامة وعزة.. وأن الرتب إن علت دون هذه المستلزمات كانت انحطاطاً في دركات الخنوع والذلة والضعف.

دخل أبو سعد الجيش، ليرود سبيل العزة والكرامة لأمته.. وانهمك في التدريب بإخلاص – على عادة كل ضابط مسلم – حتى كان أول رامي مدفع في لوائه.

كانت قذائفه المسددة تثير مخاوف الذين تعهدوا تخريب جيش سورية، وهدر طاقاته وتفريغه من كل المخلصين الأقوياء.. فلم يطل مقام أبي سعد في الجيش، إذ سرعان ما دُفعَ إلى قافلة المسرحين الشرفاء من أبناء الأمة وحماتها، ووجد نفسه خارج جيش بلاده بعد سنتين من السجن، كان لهما أكبر الأثر في تفتيح بصيرته وتنقية سريرته فاتضحت له الرؤية وصَحَّتْ منه العزيمة، وألقى نفسه على الطريق السوي، يمد يده ليبايع في ركب (الإخوان المسلمين).

وتحول الضابط إلى طالب جامعي لينتسب إلى كلية الهندسة في حلب وتبدأ مرحلة ثانية من حياة الشهيد مرحلة الطالب – الرجل الذي يعي كل هموم أمته ويعرف أبعاد مشاكلها، وحقيقة ما تعانيه فيتحمل كل ذلك بعزم وصبر، ويتحول إلى داعية يهدي القلوب الغُلف، ويفتح الأبصار العُمْي، بلطف حديثه، وسداد منطقه، وحسن تَأتِّيه كما كان له من أخلاقه الشخصية، وتَرفُّعهِ عن مباذل الجاهلية، واعتزازه بدينه، والتزامه شعائر الإسلام، ما يُبَوِّئهُ مقام القدوة الصالحة بين إخوانه.

وفي أواخر أيام الدراسة، يوم أوشك الضابط المسرح أن يكون مهندساً، وتفتحت في نفسه أزاهير الحياة، وامتلأ قلبه بآمال الشباب وطموحاته دوى في أرض الشام أذان الجهاد، فكان أبو سعد من السابقين..

كان يتحدث عن الجهاد والشهادة.. كما يتحدث عن حفلة العرس التي يستعد لها.. كان أمله منهما واحداً أو كأنهما حفلتان من طبيعة واحدة..

ومضى أبو سعد، ومضت على استشهاده أربعة أيام حين سمع الناس أن بطلاً آخر من أسرة الشهيد قد آثر الجنة، ولحق بأخيه إليها لقد ترك (جمال) امتحان الثانوية وودع أمه قائلاً: أماه إنني ذاهبٌ إلى أخي...

واصطدم البطل الصغير بدورية مخابرات فاشتبك معها بعد أن اعترضته فقتل منها ما قتل وجرح.. ثم انسحب بخفة ورشاقة، لكن طلقات آثمة لحقت به من أحد الطغاة الكامنين في الجحور، فصعدت بروحه إلى عِلِّيين.

وجيء بوالد البطلين.. وقال له أحد الأتباع وهو يركل جثمان الشهيد جمال بقدمه: لقد قتلنا ولديك.. فأجاب: الله أكبر منكم، وتوارت الدموع خجلة من عيون الأبطال...

اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، يا أرحم الراحمين.

وسوم: العدد 691