الشهيد نصوح جنيد
إن مما حفظ الناس من خيرة الكلام قول أحد الصالحين العارفين بالله: رأيت الناس هلكى إلا العالِمين, ورأيت العالمين هلكى إلا العاملين, ورأيت العاملين هلكى إلا المخلصين, ورأيت المخلصين حيارى لأنهم لا يدرون العاقبة!
أما شهيدنا نصوح – رحمه الله تعالى- فقد رأيناه يجمع بين العلم والعمل والإخلاص وحسن العاقبة – إن شاء الله تعالى- فقد استشهد غدراً على أيدي الآثمين من جند أسد, فأي عاقبة خير من الشهادة, وأي منزلة أكرم عند الله من منزلة الشهداء!!
أسرة العلم والعمل:
وأسرة الشهيد أسرة علم وعمل, وإخلاص وتفان, فوالده الشيخ محمد جنيد من أبرز علماء المدينة وأكثرهم زهداً ورقة قلب وعظيم إيمان, وعمه الشيخ محمود جنيد شيخ العلماء في المدينة والعالم بفنون الفقه على المذاهب الأربعة, والزاهد المتصوف المتفاني في طاعة الله ونشر العلم, وإخوته وأبناء عمومته من خيرة شباب مدينة ابن الوليد, وقد سبقه في درب الشهادة ابن عمه سلمان المؤمن الحيي رحمه الله تعالى.
ولد نصوح عام 1947, وفي أسرة علم نشأ وترعرع, عرف الدأب على التعلم منذ يفاعته, وألف السهر مع أمهات الكتب وهو ينمو يوماً بعد يوم, ورأى إلى جانب ذلك العمل بهذا العلم وتطبيقه في جميع مناحي الحياة, ثم لمس، إلى جانب هذا، الخلاصَ في العلم والعمل, فلا رياء ولا مظاهر, ولا أبهة ولا تكبر, بل تواضع لله وذلة للمؤمنين وخفض جناح للضعفاء والمساكين, رأى شهيدنا نصوح هذا كله فالتزم به ونحا نحوه، وزاد على ذلك ثقافة (عصرية) واختلاطاً بالمجتمع وتفهماً له، والتزاماً بدعوة الإخوان وتضحية في سبيلها، فكان أن رزقه الله محبه إخوان وثقة الناس به ورضى العلماء عنه، فكان بحق مبشراً بعالم عامل يعيد سيرة العلماء المجاهدين أرباب الدعوة والتضحية والفداء.
وقد اهتم شهيدنا نصوح بصورة خاصة بكتاب الله تعالى وعلم التجويد وفنون القراءات، ودرس ذلك على يد عالم بلاد الشام الفذ الشيخ عبد العزيز عيون السود رحمه الله تعالى, فحفظ القرآن الكريم كله، ونال من الشيخ إجازة في تسع قراءات.
الدراسة في الأزهر:
وعمل الشهيد نصوح فيما يكسبه قوت نفسه، ويعينه على حوائج الدنيا، ولكنه لم ينقطع عن العلم الذي شغف به، فدرس في الجامع الأزهر بالقاهرة، ولازم بشكل خاص العالم الكبير الشيخ (محمد أبو زهرة) واجتهاداته في مسائل الحياة المعاصرة,، فكان سفير خير ورسول علم وفقه بين الشيخ أبي زهرة وعلماء المدينة.
وتخرج الشيخ نصوح من الجامع الأزهر بالقاهرة، وعاد إلى مدينته ليستلم عملاً جليلاً هو الإشراف على المعهد الشعري بالمدينة ورعاية شؤون الطلاب فيه، فقام الشهيد بواجبه خير قيام، وحاز على ثقة العلماء المدرسين، والطلبة المتعلمين، وأضاف إلى حكمة العلماء حيوية الشباب ودقة التنظيم, وما تعلمه من المناهج الحديثة في التربية والتكوين.
هزيمة حزيران:
وقدر لشهيدنا نصوح أن يشهد بنفسه خيانة أسد الكبرى في حزيران عام 1967، فقد كان مجنداً إجبارياً حينها. وقد شهد له أصدقاؤه بالشجاعة في القتال، والدقة في الرماية حتى أنه كان الرامي الأول في ثكنته، ولكن هذا كله ذهب هباءً حين غدر أسد بجيشنا شر غدر، فكانت الخيانة المفضوحة، وكانت هزيمة حزيران المنكرة ووصمة العار التي لحقت بأسد يهود وما تزال تلازمه حتى اليوم.
الإمامة والتدريس:
ورجع نصوح فور انتهاء الخدمة الإلزامية، يحمل الهموم والآلام والأسى: أن نهزم أمام يهود!! وحمل مع همه وآلامه تمعناً دقيقاً في أسباب الهزيمة وحقيقة مدبريها وأسباب تلافي الهزيمة من جذورها!
وفور عودته عهد إليه بأحد مساجد المدينة يؤم الناس فيه ويعلمهم أحكام دينهم وقد شغف به أهل الحي لما كان عليه الشهيد من دراية بتلاوة القرآن الكريم وعلم بأحكامه، وحلاوة في الصوت مع رقة فيه وعذوبة، وضاعف ذلك من تأثيره في صفوف الناس, فكان موضع ثقتهم، وكان مرجعهم الأساسي ومرشدهم في دينهم ودنياهم.
استشهاده:
وكما هي عادة العلماء المخلصين حين تشتد المحن وتزداد الخطوب، فقد بذل شهيدنا نصوح جهده في رعاية أسر الشهداء والمعتقلين والحنو على أطفالهم الذين يتمهم الطاغية أسد وجنده, وقد حمل من هذا عبئاً كبيراً، لكثرة ما اعتقل من أقربائه وأفراد أسرته... ثم قدرت له الشهادة الغالية صباح يوم الاثنين /13/ شعبان 1401 هجرية حين أحاطت قوات البغي ببيت والده الشيخ محمد من كل جانب، وكان نصوح في بيت والده، ولما قرع الطغاة الباب خرج إليهم مستفسراً، فعاجلوه برصاصهم الغادر دون سؤال أو جواب، وكانت بذلك خاتمة حياته القصيرة الملأى بالعلم والعمل والإخلاص، ثم حسن العاقبة والختام.
ولم يكن أهل مدينة ابن الوليد ليحتاجوا عزاء باستشهاد ابنهم نصوح، فقد رآه من رآه قبل استشهاده طيب النفس، جليل الشأن، ثم رأوه في حلة الشهادة مضرجاً بدمائه الزكية قابضاً يده اليمنى باسطاً سبابتها، وكأنه يشهد شهادة الحق، ويشهد على الظالمين بأنهم قتلوا العلم والعمل وحاربوا الإسلام والإيمان..
وكان نصوح من الذين اصطفاهم ربهم الكريم عز وجل (ويتخذ منكم شهداء).
رحم الله الشهيد نصوحاً ورحم الله شهداء الجهاد المبارك في سورية المصابرة كلها، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم وارزقنا وإياهم رضوانك وجنتك إنك أكرم مسؤول.
وسوم: العدد 691