الأستاذ الدكتور الفقيه محمد يوسف موسى
(ولد في 1317 هـ/ يونيو 1899 م )
((توفي في 18 ربيع الأول 1383 هـ/ 8 أغسطس 1963))
هو فقيه مصري معاصر ، وأحد أعلام الأزهر المجددين عاش حياته مدافعاً عن تعاليم الإسلامي بلسانه وقلمه .
وكان متوازناً في فكره معتدلاً في أسلوبه ، ومن قرأ كتابه عن شيخ الإسلام ابن تيمية الذي طبع في سلسلة أعلام العرب يجد فيه العلم والانصاف والنزاهة والبعد عن التعصب والهوى .
ولكن هذا المفكر الإسلامي العملاق قد تعرض للإهمال والنسيان ، واليوم فما أحرى الشباب المسلم إلى نظرية الحكم في الإسلام التي دبجتها يراعه ، وما أحوجنا إلى فكره مع أمثاله من الدعاة ، وإني أدعو إخواني طلبة العلم أن يأخذوا الرسائل العلمية عن حياته وفكره وجهوده في الفقه والدعوة ، فهل أنتم فاعلون يا شباب الإسلام ...
الميلاد والنشأة :
ولد محمد يوسف موسى في الزقازيق - محافظة الشرقية - مصر، ولد في 1317 هـ/ يونيو 1899 م .ونشأ في أسرة مسلمة ملتزمة بتعاليم الإسلام ، وقد ورث علومه وفقهه ولده الشيخ الداعية حسين يوسف موسى ...رحم الله الجميع .
دراسته ومراحل تعليمه :
التحق بالكتاب فحفظ القرآن وهو صغير، وكان نادرة في الحفظ والذكاء، يحفظ لوحاً بمجرد كتابته، وأظهر نبوغاً في استظهار ما يقرأ حفظاً وتلاوة ، وبعد اثني عشر عاما من مولده أتم القرآن .
وبدأ في طلب العلم في رحاب الأزهر حتى نال العالمية .
ومن أبرز تلامذته القاضي الشيخ الدكتور مناع القطان .
ومن الذين تتلمذوا على كتبه د. يوسف القرضاوي الذي أثنى عليه في مذكراته فقال تحت عنوان : ((الدكتور محمد يوسف موسى يحسم الأمر )) :
كان الاختيار بين الشعبتين صعبًا، وكان الأمر محيرًا لي، ولم يُحسم هذا الأمر عندي إلا باستشارة أهل الذكر والخبرة، كما قال تعالى: {فَسَٔل بِهِۦ خَبِيرا} [الفرقان: 59]، وقال: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثلُ خَبِير} [فاطر: 14] ؛ لهذا توكلت على الله، وعزمت على زيارة أستاذنا الدكتور محمد يوسف موسى، وكان بيني وبينه مودة، رغم أني لم أدركه في كلية أصول الدين، ولم أسعد بتدريسه لي، وإن كنا سعدنا بتدريس كتبه، درسها لنا غيره، وقد زرته قبل ذلك في منزله بالروضة، ورحب بي مع أنه لم يكن يقبل زيارة من لم يأخذ موعدًا منه.
كان الدكتور موسى راهبًا من رهبان العلم والفكر، لم يتزوج غير العلم والمكتبة، وكان ضليعًا متمكنًا في علوم الفقه والشريعة، وعلوم الفلسفة والعقيدة، وقد حصل على الدكتوراه من فرنسا، ومن ثم كان أهلًا لأن يستشار في قضيتي.
ذهبت إليه، وطرقت عليه الباب، ففتح لي، ورحب بي. قلت له: سامحني أن جئتك بغير موعد سابق.
قال: ومتى جئت بموعد يا قرضاوي؟ بيتي بالنسبة لك مفتوح دائمًا.
قلت: جئت أستشيرك في قضية في غاية الأهمية بالنسبة لمستقبلي، ولم أجد غيرك يفتيني فيها!
قال: خير. ما هي؟
قلت: أمامي اختياران في الدراسة العليا بكلية أصول الدين: علوم القرآن والسنة، أو علوم العقيدة والفلسفة. وأنا مستوف الشروط للدراسة في كلتا الشعبتين، وربما كانت درجاتي أعلى في شعبة الفلسفة، وقد احترت بينهما حيرة شديدة، فأيهما تختار لي يا أستاذ؟
فقال: اسمع يا يوسف، لقد عرفت أني عشت أكثر عمري في كلية أصول الدين أدرس الفلسفة ونظريات الأخلاق، وتاريخ الفلسفات، وما إلى ذلك، وألفت في ذلك ما ألفت من كتب، لعلك درست بعضها في الكلية.
قلت: نعم، درسنا أكثر من كتاب منها حول فلسفة الأخلاق، وتاريخها.
قال: ثم انتهى بي المطاف الآن إلى تدريس الشريعة الإسلامية في كليات الحقوق، وأحمد الله قد ألفت فيها عددًا من الكتب تلقاها أهل العلم والاختصاص بالقبول.
قلت: نعم، وقرأنا الكثير منها، وانتفعنا به.
قال: والآن أجد أن ما درسته من قبل في الفلسفة ومذاهبها ومدارسها الفكرية، كأنما كان تمهيدًا أو مقدمة لدراسة الشريعة، فالشريعة هي الغاية، وهي اللب والجوهر، وكل ما عداها يجب أن يكون وسائل إليها. وأعتقد أنك قد درست في كلية أصول الدين من مذاهب واتجاهات الفلسفة الشرقية واليونانية والإسلامية والحديثة ما أطلعك على أصول الفكر الإنساني والمذاهب الفلسفية الكبرى، والنظريات الأخلاقية المختلفة، وأن لديك الآن من الإمكانات المعرفية ما تستطيع أن تتابع به حركة الفكر الإنساني في تطورها. وإنما الذي يحتاج إلى خدمة حقًّا هو: الشريعة وفقهها وأصولها، ومصدر الشريعة: القرآن والسنة، إذا تضلعت في علوم القرآن والسنة أمكنك أن تخدم رسالة الإسلام حقًّا، وأحسب أن لك دورًا - إن شاء الله - في الاجتهاد والتجديد لهذا الدين، أرجو ألا يخيب ظني فيه ... إلى آخر ما قال رحمه الله رحمة واسعة.
وكانت كلمات الدكتور موسى أشعة من نور أزالت غياهب الشك والتردد والحيرة من ذهني ونفسي تمامًا، وأقنعتني أن لا أبتغي بالقرآن والسنة بدلًا، ولا أبغي عنهما حولًا.
وودعت الأستاذ الكبير وشكرت له، ودعوت له من كل قلبي، وخرجت من عنده منشرح الصدر، مطمئن الضمير، مسدد الوجهة، مستبين الغاية والطريق..)) .
أعماله والوظائف التي تقلدها :
وعين مدرساً بمعهد الزقازيق الأزهري لثلاث سنوات، فصل بعدها لضعف بصره الذي سبب له مشاكل كثيرة جعلته يتجه إلى تعلم اللغة الفرنسية لتكون وسيلته لدراسة الحقوق والاشتغال بالمحاماة فيما بعد.
أكب محمد على دراسة الفرنسية وتفرغ لها حتى أتقنها ثم اشتغل بالمحاماة الشرعية متدرباً ثم متمرساً ولامعاً .
وعندما انتهت مشيخة الأزهر إلى الشيخ محمد مصطفى المراغي عين بالأزهر تاركاً المحاماة وبريقها وشهرتها مؤثراً التدريس والتعليم استجابة لميله الفطري وإيمانه بمكانة الأزهر الدينية والعلمية.
ظل محمد بالأزهر ومعاهده حتى رقي مدرسا بكلية أصول الدين التي درس فيها الفلسفة والأخلاق بمنهج جديد لم يكن معروفاً ولا مألوفا في الأزهر من قبل، وأخذ يكتب في المجالات العلمية، كما بدأ يترجم عن الفرنسية بعض الدراسات الخاصة بتاريخ الفلسفة في الشرق والغرب.
التوجه إلى فرنسا :
في 1357 هـ صيف 1938م سافر محمد يوسف إلى فرنسا للاتصال بأساتذة الفلسفة في جامعة باريس استعداداً للحصول على درجة الدكتوراه في الفلسفة، وهناك تعرف على المستشرق الفرنسي ماسينيون، واتفق معه على خطة الدراسة والبحث، وفي عام 1358 هـ/ 1939م عاد محمد يوسف من فرنسا لظروف الحرب العالمية الثانية والتي لم تحل بينه وبين المضي في دراسته الفلسفية، فاتصل بالشيخ مصطفى عبد الرازق وكان آنذاك أستاذاً للفلسفة بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليا)، وبعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية نال محمد يوسف إجازة من الأزهر بدون مرتب، وسافر على نفقته الخاصة، وبعد ثلاث سنوات من الدراسة والبحث حصل على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون عن (( الدين والفلسفة في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط))، بدرجة مشرف جداً وهي درجة لم يحصل عليها أزهري بعده إلا محمد عبد الله دراز؛ وبذلك يكون محمد يوسف موسى أول أزهري ينال هذه الدرجة العلمية الممتازة في ذلك الزمن الوجيز.
أثناء تواجده دارساً في فرنسا اختير موسى خبيراً في لجنة الميتافيزيقا بالمجمع اللغوي بالقاهرة، رشحه لها أستاذه ماسينيون، وظل بعد عودته من فرنسا يشارك في أعمال هذه اللجنة - التي سميت بعد ذلك لجنة الفلسفة - حتى آخر حياته.
رحلة علمية :
ولم تنته صلة موسى بالبحث والدراسة بعد حصوله على الدكتوراه بل انتدبه الأزهر لقضاء شهرين في رحلة علمية بإسبانيا وبلاد المغرب العربي طلباً لنفائس التراث الإسلامي في الفلسفة والعلوم الإسلامية المختلفة.
اختير محمد يوسف عُضوًا بلجنة الميتافيزيقا بالمجمع اللغوي المصري بالقاهرة وظل بها حتى آخر حياته .
آثاره :
تشهد آثار محمد يوسف العلمية على ثقافة جامعة، وأصالة فكرية، وعقلية تمقت الجمود والتقليد وتدعو إلى [الاجتهاد] والتجديد، ومن ذلك قوله: "إن علينا أن نذكر أولئك الجامدين من الذين يسمون أنفسهم فقهاء في هذه الأيام بأن رحمة الله واسعة تسع الناس جميعا في كل عصر، وبأن الله لا يخلي أمة في أي عصر من بعض ما يمكن أن يكونوا أئمة في التشريع باجتهادهم".
بعد وفاته، ترك محمد يوسف موسى على مكتبه فتاوى وإجابات للشعوب الأفريقية الآسيوية أذيعت بعد وفاته.
مؤلفاته :
تنوعت كتابات موسى ومؤلفاته ومقالاته ما بين الأخلاق والشريعة وعلم الكلام والترجمة والتحقيق، ثم المؤلفات الإسلامية العامة.
بعض هذه المؤلفات ترجم عن الفرنسية في الفلسفة والشريعة ومنها بحث في الفرنسية نشره عام 1415 هـ/ 1995م بمجلة (لا ريفي دي كير) بالقاهرة في عدد خاص بذكرى ابن سينا، بالإضافة إلى رسالة الدكتوراه التي كتبت بالفرنسية ثم ترجمها بعد ذلك إلى العربية.
في الأخلاق له أربعة مؤلفات حول:
1-مباحث في فلسفة الأخلاق .
2-فلسفة الأخلاق في الإسلام وصلاتها بالفلسفة الإغريقية : احتوي هذا الكتاب على مجموعة دروس في فلسفة الأخلاق في الإسلام تقوم على بتعريف مذاهب فلاسفة الأخلاق البارزين وخصائص كل منها، وعلى رد ما فيها من فكر إلى مصادرها في الثقافات القديمة ممثلة في أعلامها البارزين...
3-تاريخ الأخلاق.
-في الفلسفة له أحد عشر مؤلفاً في:
5-القرآن والفلسفة : أصدر الشيخ الأزهري الدكتور محمد يوسف موسى (1317-1383هـ/ 1859-1963م)، في سنة 1958م، الطبعة الأولى من كتابه (القرآن والفلسفة)، وهو في الأصل القسم الأول من رسالته للدكتوراه التي أعدها باللغة الفرنسية، وناقشها في جامعة السوريون الفرنسية سنة 1948م، وحصل بموجبها على دكتوراه دولة في الفلسفة بدرجة مشرف جدّاً، وهي أعلى الدرجات التي تمنحها الجامعة هناك، وحملت الرسالة عنوان (الدين والفلسفة في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط).
وبعد مناقشة الرسالة، قام الدكتور موسى بترجمتها من الفرنسية إلى العربية، وأصدرها في كتابين متعاقبين، الكتاب الأول حمل عنوان (القرآن والفلسفة)، والكتاب الثاني حمل نفس عنوان الرسالة، وصدر سنة 1959م.
وأول ما يستوقف الانتباه في هذا الكتاب، هو عنوانه اللافت بشدة (القرآن والفلسفة)، ولعله أول كتاب في المجال العربي الحديث والمعاصر يحمل هذا العنوان، ويضع القرآن والفلسفة في حالة اقتران بصيغة ثنائية مركبة، اقتران توافق واتصال وليس اقتران تخالف وانفصال، وبشكل يثير الانتباه والدهشة، مع أنه على ما يبدو لم يستقبل بطريقة تتسم بإثارة الانتباه والدهشة، ليس هذا فحسب، بل إنه بقي خارج الانتباه، وبعيداً عن الذاكرة والتذكر، وكأنه من المؤلفات التي صدرت ومرت ونسيت ولم تترك أثراً باقياً، حاله كحال عشرات أو مئات أو آلاف الكتابات والمؤلفات التي نسيت عند العرب والمسلمين مع مرور الوقت.
في هذا الكتاب (القرآن والفلسفة)، قدم الدكتور محمد يوسف موسى رؤية مهمة في العلاقة بين القرآن والفلسفة، وذلك في محاولة منه للدفاع عن الفلسفة من جهة، والتأكيد على عدم معارضة القرآن للفلسفة من جهة أخرى، ومن جهة ثالثة الكشف عما بين القرآن والفلسفة من علاقة.
وعند النظر في هذه الرؤية ضبطاً وتناسقاً، يمكن القول إنها تتحدد في العناصر الآتية:
أولاً: بيان أن القرآن كان من أهم العوامل التي دفعت المسلمين إلى التفلسف، وذلك لما اشتمل عليه من فلسفة، سواء ما يتعلق منها بالإنسان، وما يتعلق بالله وصلته سبحانه بالإنسان.
ثانياً: يرى الدكتور موسى أن القرآن قبل كل شيء هو كتاب العقيدة الحقة، والشريعة الصالحة لكل زمان ومكان، والأخلاق التي لا يقوم مجتمع سليم إلا بها، لكنه مع ذلك تعرض في كثير من آياته لأمهات المشاكل الفلسفية الإلهية والطبيعية والإنسانية، المشاكل التي كانت وما تزال تثير أفكار وعقول العلماء والفلاسفة، وتعرض القرآن لبعض هذه المشاكل وبخاصة الإلهية منها، كان على نحو يدعو إلى تعمقها وإنعام التفكير فيها، وبشكل يجعل الفكر يذهب مذاهب شتى.
ثالثاً: التأكيد على أن القرآن وإن دفع إلى التفكير الفلسفي، وكان المصدر الأول الذي استوحاه المتكلمون على اختلاف آرائهم ومذاهبهم، فإنه من ناحية أخرى كان حاجزاً دون ضرب آخر من التفكير الفلسفي، ويعني به الدكتور موسى التفكير الذي كان عماده الفلسفة الإغريقية، أو الذي تأثر بها إلى حد كبير، وذلك بفضل الآراء الحقة التي صدع بها القرآن، ودلل عليها في كثير من المشاكل التي كان المفكرون والفلاسفة منها في أمر مريج.
رابعاً: يعتقد الدكتور موسى أن لولا القرآن ما عرف تاريخ الفكر الإسلامي أكثر هذه المذاهب التي استمدها أصحابها، أو أقاموا الأدلة عليها من القرآن نفسه، وآية ذلك أن تفكير الفلاسفة من غير رجال علم الكلام، أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد، لم ينته إلى نحو مذاهب المتكلمين، لأن هؤلاء الفلاسفة لم يستوحوا القرآن في بناء وتكوين مذاهبهم، وإن حاولوا أحياناً أن يستدلوا منه على بعض ما ذهبوا إليه.
خامساً: بيان أن القرآن، وإن كان قد دفع أو وجه المسلمين للتفلسف، وأوحى بكثير من الآراء والمذاهب الفلسفية، إلا أن هناك عوامل أخرى بجانبه كان لها أثرها فيما أثر عن المسلمين من فلسفة، وهي عوامل أجنبية حصلت نتيجة اتصال المسلمين بالفلسفة اليونانية عن طريق اختلاطهم بحملتها من السريانيين وغيرهم، ثم عن طريق نقلها إلى اللغة العربية.
الأمر الذي يعني أن ما دفع المسلمين للفلسفة القرآن أولاً، ثم ما عرفوه ونقلوه من التراث الإغريقي ثانياً، وكل من هذين العاملين كان له أثر خاص به.
سادساً: نفي ما ذهب إليه المستشرق الألماني تنمان (ت 1819م)، في كتابه (المختصر في تاريخ الفلسفة)، الصادر بالألمانية سنة 1812م، من أن هناك جملة عوائق وقفت أمام تقدم المسلمين في الفلسفة، منها كتابهم المقدس الذي يتعارض ونظر العقل الحر.
ويرى الدكتور موسى أن تنمان لم يخطئ كل الخطأ، إن كان يريد أن القرآن يتعارض ونظر العقل الحر، بناءً على رأي بعض رجال الدين الذين كفروا بعض فلاسفة المسلمين، أو كان القصد بنظر العقل الحر الذي لا يقف عند الحدود التي جاء بها القرآن.
سابعاً: التنبيه على أن القرآن، وهو خاتمة الرسالات الإلهية للبشرية جميعاً في كل زمان ومكان، لم يدرس من هذه الناحية، الدراسة التي يجب أن يقوم بها المختصون، بل إن رجال علم الكلام لم يعرفوا كيف يفيدون منه الفائدة الكاملة، الأمر الذي يقتضي ضرورة معرفة الله المعرفة الحقة التي يؤمن بها القلب والعقل معا؛ أي المعرفة التي هي من بعض نواحيها فوق المعرفة الفلسفية التي تستند على العقل وحده.
هذه هي العناصر الأساسية المكونة لرؤية الدكتور محمد يوسف موسى، ولأطروحته في بحث العلاقة بين القرآن والفلسفة.
ونحن اليوم بحاجة إلى استعادة هذه الرؤية، وتسليط الضوء عليها، لاستعادة الهم والاهتمام بالفلسفة من جهة، ولتدعيم النقاش الفلسفي في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر من جهة أخرى، ومن جهة ثالثة للخروج من الآفاق الضيقة والهامشية التي حصرنا أنفسنا فيها، إلى الآفاق الرحبة والواسعة، التي تمدنا بها الفلسفة.
6-بين الدين والفلسفة في رأي ابن رشد .
7-فلاسفة العصور الوسطى .
8-ابن رشد الفيلسوف : يُعدُّ «ابن رشد» واحدًا من أهم وأشهر فلاسفة الإسلام. ظهر في منتصف القرن السادس الهجري في الأندلس، وتمتع بشهرة واسعة بين فلاسفة وعلماء عصره في العالم العربي، والغربي أيضًا، ودافع كثيرًا عن الفلسفة، وخاصة في كتابه «تهافت التهافت»، الذي ألفه ردًّا على الهجوم الشديد الذي وجَّهه الإمام «الغزالي» لأفكار وآراء بعض الفلاسفة في كتابه «تهافت الفلاسفة»، كذلك قام «ابن رشد» بتصحيح أفكار بعض الفلاسفة السابقين، أمثال: «ابن سينا»، و«الفارابي» في فهم بعض نظريات «أفلاطون» و«أرسطو». وفي هذا الكتاب يُقدِّم لنا «محمد يوسف موسى» عرضًا موجزًا لسيرة «ابن رشد» الذاتية، فيتحدث عن أسرته، ونشأته، وعلمه، ومحاولته التوفيق بين الفلسفة والشريعة الإسلامية؛ حيث كان ابنُ رشد يرى أنه لا يوجد تعارض فيما بينهما، كما يُلقي المُؤلِّفُ الضوءَ على نظريته في المعرفة.
9-الدين والفلسفة معناهما ونشأتهما وعوامل التفرقة بينهما .
10-بين رجال الدين والفلسفة .
11-ابن سينا والأزهر.
في الشريعة ألف موسى عشرة مؤلفات دارت حول تاريخ الفقه الإسلامي ورجاله وأحكامه وأثره في الفقه الغربي.
وفي الثقافة الإسلامية العامة كتب حول :
12- الإسلام وحاجة الإنسانية إليه .
13- والإسلام والحياة .
14- والإسلام والحكم.
15- المدخل لدراسة الفقه الإسلامي .
إضافة إلى ما سبق كتب موسى مقالات متنوعة وكثيرة في مجلات وصحف لها وزنها الثقافي والعلمي كالأزهر، والرسالة، والمسلمون، والمجلة، وتنوعت هذه المقالات من حيث الموضوعات لكن كثيرا منها دار حول المخاطر التي تهدد الأمة، وكان بعضها نقدا لمؤلفات تاريخية أو أدبية أو في الدراسات الفقهية بوجه عام.
وقد جمع موسى هذه المقالات في كتابه "الإسلام والحياة".
وقد قامت الحكومة المصرية بتسمية شارع باسم د. محمد يوسف موسى بمدينة نصر بالقاهرة .
16- ابن تيمية : طبع في سلسلة أعلام العرب ، و«ابن تيمية»؛ أحد أبرز أعلام العرب والمسلمين في القرن الثالث عشر الميلادي، لُقِّب «شيخ الإسلام». كان رجال أسرته من كبار علماء الدين والفقه الذين خُلِّدت أسماؤهم والكثير من آثارهم. وقد استطاع «ابن تيمية» الإلمام بالكثير من العلوم، وترك موروثًا ضخمًا من الكتب حول: تفسير القرآن الكريم، والحديث، والفقه، وعلم الكلام، والفلسفة، والعلوم الطبيعية، وغيرها، أما عن آرائه فقد اختلفت في كثير من الأحايين عن آراء غيره من علماء الدين؛ مما تسبب في كثرة معارضيه ومخالفيه من علماء وفقهاء عصره، ومن جاء بعدهم. وفي هذا الكتاب يُقدِّم لنا «محمد يوسف موسى» دراسة وافية عن سيرة «ابن تيمية» الذاتية، فيُحدِّثنا عن أهم ملامح وسمات عصره، كذلك أسرته، ونشأته، وعلومه، فضلًا عن أهم آرائه وفتاويه، وأبرز مواقفه الدينية والاجتماعية والسياسية.
وفاته :
توفي رحمه الله في 18 ربيع الأول 1383 هـ/الموافق 8 أغسطس 1963م ..
وترك خلفه تراثاً علمياً وفكرياً يثري ثقافة الأجيال، وينهض بالأمم ، لأنه بالعلم ترتقي الأمم وبالأخلاق تسود ...
اللهم أكرم نزله، ووسع مدخله ، واجمعنا به في فسيح الجنان . آمين .
ومن كلماته ومقالاته المتميزة ما نورده فيما يلي :
1-الحج بين الدين والفلسفة والاجتماع :
يقدّم العلامة الفقيه الدكتور «محمد يوسف موسى» رحمه الله (1899- 1963م) في هذا المقال رؤيته الرصينة عن الحج، هو لا يقف موقف الفقيه الأصولي – كما عوّدنا في كتاباته–، وإنما يحاول قدر جهده أن يُبسّط للقارئ معاني الحج وفلسفته والحكمة من أدائه، وهي حِكم عظيمة في الدين والاجتماع.
زهد المادية
1. الحج ركن من أركان الإسلام كما نعلم جميعًا، وفريضة لا يتم للمسلم دينه إلا إذا أتى بها – متى كان قادرًا عليها وتهيأت له أسبابها – ولو مرة واحدة في حياته، وقد فرضه الله تعالى بقوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97]، وبقوله: {﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 196]، كما أشار بعد ذلك إلى أعماله في آيات أخرى، ليس من الضروري ذكرها، وجماع هذه الأعمال ثلاث: الإحرام، والوقوف بعرفة، والطواف بالبيت المحرم.
وفي سبيل تأكيد هذه الفريضة، سُميت سورة من سُوَر القرآن الكريم بسورة الحج، ووردت فيه أحاديث كثيرة عن الرسول، ومن هذه الأحاديث قوله: «من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت الله الحرام فلم يحج، فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا».
كان لابد أن يجيء الإسلام بعمل يلفتنا بقوة عن هذه الحياة المادية، وذلك بما يستلزم من إعراض عن زينة الدنيا وطيباتها
وليس القصد من هذه الكلمة بيان ما للحج من مقدمات وشروط وأعمال لا يتم إلا بها، بل بيان أنه عمل اجتماعي يدعو إليه الفكر الفلسفي وصالح المسلمين عامة لو لم يكن الدين قد دعا إليه وجعله فرضًا مفروضًا.
2. الإنسان جسم ونفس، أو مركب من عنصرين: عنصر أرضي وهو الجسد، وآخر سماوي إلهي وهو الروح. والنزاع بين هذين العنصرين في الإنسان نزاع قديم أبدي، عرفه الإنسان منذ عرف الحياة. والناس في ميلهم لهذه الناحية أو تلك بين مُفْرط ومفَرِّط، إلا من آتاه الله شيئًا من الحكمة فعرف لكل منهما حقه وأرضاها بقدَر. وجاء الدين الحق حاثًّا على التوسط بين هذين الطرفين بعد أن مالت اليهودية كل الميل نحو الناحية المادية، ومالت المسيحية السمحاء كل الميل نحو الناحية الروحية، ثم ارتدت كسابقتها إلى الناحية المادية.
من أجل هذا وذاك، كان لابد أن يجيء الإسلام بعمل يلفتنا بقوة عن هذه الحياة المادية، وذلك بما يستلزم من إعراض عن زينة الدنيا وطيباتها، وبما يفرضه من مساواة تجعل الغني يحسّ تمامًا بأنه أخ لغيره من عباد الله الذين لم يُخوِّلهم ما خوّله من مال وغنى، فنراه في أيام الحج لا يتميز عنهم في ملبسه ومظهره وعامة أحواله.
هذا العمل ليس إلا الحج الذي يقوم في الإسلام مقام الرهبانية في المسيحية؛ إذ فيه ما في الرهبانية من انقطاع لله، وإقبال عليه، وتجرد له، وسُموّ بالروح، مع سلامته مما يُلازم الرهبانية من كَبْت وعَنَت وإرهاق ومحاولة للخروج عن الطبيعة البشرية، ولهذا يقول الله عنها: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ [الحديد: 27].
بيت واحد وأمة واحدة
ثم في الحج –مع هذا– زيارة البيت العتيق الذي أضافه الله إليه لشرفه، واجتماع أكبر عدد من المسلمين كل عام في صعيد واحد يؤمّون غرضًا واحدًا، ولكل من هذين الأمرين حكمته وأثره البعيد في حياة الأمة الإسلامية. إن شقاء المسلمين قد يرجع فيما يرجع إلى تناكرهم وتفرّق السبل بهم، وعدم وحدة أهدافهم. والإسلام الذي حثّ أمة القرآن على أن يأتمروا بينهم بمعروف، جعل للمسلمين مؤتمرات: منها ما هو يومي، وهو الصلاة جماعة خمس مرات، ومنها ما هو أسبوعي، وهو لهذا أوسع وأعم من سابقه، وهو صلاة أهل الحيّ الجمعة في مسجد واحد، ومنها ما يكون مرتين في العام، وهو صلاة العيدين، وأخيرًا المؤتمر، المؤتمر الذي على كل مسلم قادر أن يشهده ولو مرة واحدة في العمر، وهو الحج إلى البقاع المقدسة.
وليس الناس جميعًا قادرين على فهم الحقائق عارية مجردة غير مرموز لها بمُثُل محسة، فكان من الحكمة أن يكون من شعائر الحج الطواف بالبيت، واستلام الحجر الأسود؛ رمزًا لما يجب أن يكون عليه المسلمون من وحدة في الهدف، واتحاد في التوجه لله جلّ وعلا.
إنّ البيت الذي أُمرنا بالطواف حوله هو بيت الله الذي جعله مثابة للناس وأمنًا، وفي الطواف حوله تشبُّه بالملائكة الحافّين بالعرش، الطائفين به قانتين مسبّحين لا يفتُرُون، وفي هذا ما فيه من سمو بالروح، وعروج بها إلى السموات العُلا، ونفس الحلول بالبيت الحرام، تمهيد لرؤية صاحبه متى صفت النفس، وصارت أهلاً لهذه السعادة القُصوى.
والحجر الأسود هو كما جاء في الحديث الشريف، يمين الله يُصافح بها خلقه؛ ففي استلامه –وهذا ما يرمز له– حافز قوي على وفاء الحاج بما يُعاهد الله عليه من بُعد عن الشر، وحب للفضيلة، وحرص على عمل الخير.
الحج الصحيح عند الشبلي الزاهد
والشِّبلي… يرى أن من عقد الحج لله، ولم يفسخ بهذا العقد كل عقد يُخالفه، كان كأنه ما عقد الحج ونواه
3. وللحج، بعد ما نعرف من الأعمال الظاهرة، حقائق باطنة يجب النفوذ إليها، وأحوال نفسية يشعر بها الحاج وينعم بها، والشِّبلي رضوان الله عليه، وهو صوفي حريّ بهذا الوصف، وليس كأدعياء التصوف هذه الأيام، يرى أن من عقد الحج لله، ولم يفسخ بهذا العقد كل عقد يُخالفه، كان كأنه ما عقد الحج ونواه، وأن من تجرد من ثيابه للإحرام، ولم يتجرد مع هذا من المعاصي، يكون كأنه ما تجرّد من ثيابه، وأن من لبّى ولم يذُق عن الله جواب تلبيته، يكون كأنه ما لبّى، وأن من أشرف على مكة، فلم يُشرف عليه حال من الله تعالى، يكون كأنه ما دخلها، وأن من صافح الحجر الأسود فلم يجد أثر الأمن، كان كأنه ما صافحه أو لمسه؛ لأن من صافح الحجر فقد صافح الحق – سبحانه وتعالى – وصار في أمن وسلام منه، وأن من رمى الجمار، فلم يرمِ بهذا جهله، ولم يزدد به علمًا يظهر عليه، كان كأنه ما رمى، وأن من مضى من مكة إلى المدينة فزار الروضة الشريفة، ثم لم يكاشف بشيء من الحقائق، كان كأنه ما زار؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم- يقول: «الحُجّاج والعُمَّار زوار الله، وحق على المزور أن يُكرم زواره». وهكذا نجد من الشِّبلي رحمة الله عليه تحليلاً دقيقًا طريفًا للحج وأعماله ومشاعره، تحليلاً نفهم منه كثيرًا من أسرار الحج وفلسفته وحكمته التي شرعه الله من أجلها.
ومن الحق أن نوافق الشبلي وأمثاله في نظرهم للحج وحكَمِه وأسراره هذه النظرة الفلسفية العالية؛ فإن منا من يبذلُ في سبيل السفر للحجاز كثيرًا من المال، ويتحمل كثيرًا من المشاق، وذلك في سبيل الظفر بلقب «حاج» ينال به من عروض هذه الحياة، ومنّا من يعيش أيام الحج في تلك البقاع المقدسة والأجواء الروحية السامية، ثم لا يتذوق منها شيئًا فيعود أغلظ قلبًا مما ذهب!، ومنّا أخيرًا من عرف يقينًا خطر ما هو مقبل عليه، وعلم أنه يهجر الوطن والأهل والشهوات واللذات في سبيل الله وزيارة بيته الحرام فهو يقدر البيت قدره، ويرى لربه عظمته وجلاله، ويُجاهد نفسه وهواه حتى يرجع لبلده خيرًا مما ذهب، ويعود لأهله وقد تقبّل الله حجه ورضيه وأرضاه.
الحج في كل الأديان
4. ذلك الحج للكعبة وإن كان من خصائص أمتنا الإسلامية، فإن الحج باعتباره قصدًا إلى مكان مقدس قد عرفته الأمم جميعًا في العصور المختلفة؛ عرفه اليونان فكانوا يحجّون قبل الديانات السماوية إلى معابد مقدسة لديهم، وعرفه الهنود والصينيون القدامى، ثم عرفه اليهود والمسيحيون الذين لا يزالون يحجون إلى بيت المقدس.
ومما يجدر ملاحظته أن الحجاج من هذه الأمم المختلفة وغيرها، يلتزمون أثناء الحج التقشف والزهد في طيبات هذه الحياة كما نلتزم؛ وذلك ليشعروا أنفسهم شيئًا من الروحية العالية، وليس هذا التوافق بعجيب!، فالإنسان هو الإنسان في كل زمن وإنه ليحس دائمًا الحاجة للسمو الروحي، والتقرب من الله أو الرمز الذي اتخذه له، ولهذا السمو والتقرب سبل عدة، من أهمها الحج للمكان المقدس الذي يراه ألصق البقاع بإلهه.
5. هذا هو خطر الحج عند الأمم غير الإسلامية لما يعتبرونه مقدسًا من مكان، فكيف عندنا وهو تلبية لنداء أبينا الخليل عليه السلام إذا يقول: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: 37]، وهو مع ذلك استجابة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين أمره الله بقوله: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ [الحج: 27، 28]. فقد روى أنه عليه الصلاة والسلام لما نزلت هذه الآيات، صعد جبل أبا قُبيس وقال: «يا أيها الناس!، حُجّوا بيت ربكم»، فأسمعه الله تعالى من في أصلاب الرجال وأرحام النساء فيما بين المشرق والمغرب ممن سبق في علمه تعالى أنه يحج من الطائفين والقائمين والرُكّع السجود.
وكيف، والرسول يقول، فيما رواه زيد بن علي عن أبيه عن جده علي رضي الله عنهم جميعًا: «من أراد الدنيا والآخرة فليَؤمَّ هذا البيت؛ فما أتاه عبد يسأل الله دنيا إلا أعطاه الله منها، ولا يسأله آخرة إلا ذخر له منها. ألا أيها الناس عليكم بالحج والعمرة فتابعوا بينهما؛ فإنهما يغسلان الذنوب كما يغسل الماء الدرن عن الثوب، وينفيان الفقر كما تنفي الناس خبث الحديد».
6. إني أحاول أن أتصور دينًا خلا من الحج لمشهد مقدس وبقاع طاهرة، فلا أكاد أظفر إلا بصورة باهتة لدين ميت لا حياة فيه. إنه من النافع كل النفع أن يصلي المرء؛ ففي الصلاة رياضة للجسم والروح، وحسن جميل أن يصوم ففي الصوم تعويد على الصبر، وترقيق للنفس، وفائدة للجسد، ومن الخير للمجتمع أداء الزكاة على اختلاف أنواعها، ففي هذا اقتلاع للحسد والحقد من قلوب المعوذين على القادرين، وعون للفقراء على متاعب الحياة، وإغلاق لكثير من السجون، وفتح لغير قليل من المنشآت الاجتماعية.
ولكن هذه العبادات كلها لا تُغني عن التزام الأئمة الحج لمكان واحد، وقصد غرض واحد، والعيش فترة طويلة من الزمن في تجرد عن مفاتن الحياة، وإقبال على الله وحده، واستعداد لتلقي فيضه ورحمته، ما دمنا قد سعينا على بيته مخلصين النية له.
* نُشر المقال في مجلة «المسلمون»، العدد العاشر، السنة الأولى، عدد ذو الحجة سنة 1371هـ/أغسطس آب 1952م.
2-الأمة مصدر السلطات :
يقوم نظام الديمقراطية على فكرة مركزية، هي أن الأمة مصدر السلطات؛ أي السلطات الثلاث التي تقوم عليها الدولة، وهي: السلطة التشريعية، والقضائية، والتنفيذية.
وعن هذه الفكرة المركزية تتفرع سائر المقولات الأساسية للديمقراطية؛ من: اختيار الحاكم بواسطة الأمة، وحق الأمة في محاسبته وعزله، وكذلك حقها في تداول السلطة، والتمتع بالحريات العامة، وتكوين الأحزاب، وإصدار الصحف.. إلى غير ذلك من أسس ومبادئ.
فالديمقراطية “مذهب يقوم على أن الأمة مصدر السلطات، وأن إرادتها هي أصل السيادة ومصدرها في الحكم”([1]).
ولكي نفهمَ الأساس الأهم الذي تقوم عليه الديمقراطية- وهو الأمة مصدر السلطات- وندركَ مدى اتفاقه أو اختلافه مع أسس النظام السياسي الإسلامي، لابد أن نتعرف على معنى “السيادة” المراد إسنادُها إلى الشعب، كحق أصيل له في النظام الديمقراطي.
مفهوم السيادة
يقصد بالسيادة تلك السلطة العليا التي لا تعرف- فيما تنظم من علاقات- سلطة عليا أخرى بجانبها. ولها وجهان: سيادة داخلية، وسيادة خارجية. فالسيادة الخارجية يقصد بها: عدم خضوع الدولة لدولة أجنبية، وذلك فيما عدا ما تعقده من اتفاقيات دولية، فهذه الاتفاقات إنما هي مظهر من مظاهر سيادة الدولة. وسيادة داخلية، ويقصد بها: أن للدولة سلطة لا تعلوها سلطة أخرى في ميدان نشاطها داخل الدولة، أي في علاقاتها بالأفراد أو الجماعات التي تقطن أرض الدولة([2]).
والسيادة نوعان: سيادة قانونية، وسيادة سياسية؛ السيادة القانونية: هي السلطة القانونية المطلقة التي تملك- دون منازع- الحقَّ القانوني في مطالبة الآخرين بالالتزام، والخضوع على النحو الذي يحدده القانون. أما السيادة السياسية فهي: القوة السياسية غير المقيدة، أي القادرة على فرض الطاعة، وهو ما يستند غالبًا إلى احتكار قوة الإرغام([3]).
اتجاهان في الفكر الإسلامي
يمكن أن نلاحظ انقسامًا في الفكر الإسلامي بشأن “نظرية السيادة”- التي انبنى عليها أن الأمة مصدر السلطات- إلى اتجاهين:
الأول: ومن أشهر أصحابه أبو الأعلى المودودي، وسيد قطب؛ وهذا الاتجاه يُرجع السيادة في النظام الإسلامي إلى الله عز وجل، وأن هذه السيادة- أو الحاكمية- لا يمكن تجزئتها، واعتبروا تجزئة الحاكمية فتنةً وكفرًا([4]).
يقول المودودي: “ليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو حزب أو لسائر القاطنين في الدولة، نصيب من الحاكمية؛ فإن الحاكم الحقيقي هو الله، والسلطة الحقيقية مختصة بذاته تعالى وحده، والذين من دونه في هذه المعمورة إنما هم رعايا في سلطانه العظيم. ليس لأحد من دون الله شيء من أمر التشريع، والمسلمون جميعًا- ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا- لا يستطيعون أن يشرِّعوا قانونًا، ولا يقدرون أن يغيروا شيئًا مما شرع الله لهم”([5]).
كما يؤكد المودودي أن “حق السيادة لله وحده؛ الذي خلق البشر، ويسَّر لهم أمور حياتهم ومعاشهم؛ ناصيةُ الخلائق بيده، وشئون العوالم كلها في قبضته، وأي ادعاء بالسلطة والسيادة ضمن نطاق سيادة الله وسيطرته، فهو ادعاء باطل سخيف غير ذي موضوع، وما ينجم من آثار سيئة يقع على المدعين أنفسهم، الذين تجاوزوا مكانهم الحقيقي، ووضعهم الصحيح؛ سواء كان هذا الادعاء من شخص، أو طبقة، أو كان مما يسمونه الجماهير”([6]).
أما الاتجاه الثاني، فمن أبرز القائلين به: د. محمد يوسف موسى، ود.الترابي، ود.القرضاوي، ود.محمد عمارة، وآخرون. وهم يرون أن الأمة مصدر السلطات، وصاحبة السيادة، ولكن في حدود الشريعة الإسلامية وثوابتها ومقاصدها.
يؤكد د. محمد يوسف موسى أن “مصدر السيادة هو الأمة وحدها لا الخليفة، وذلك لأنه وكيل عنها في أمور الدين، وفي إدارة شئونها حسب شريعة الله؛ وهو لهذا يستمد سلطانه منها، ولها حق نصحه وتوجيهه وتقويمه إن أساء، بل حق عزله.. فيكون من المنطق أن يكون مصدر السيادة هو الموكل الأصيل، لا النائب الوكيل. وهذا ما قال جمهور الفقهاء والعلماء بالفقه السياسي من المسلمين القدامى والمحْدَثين”.
ويستدل د. موسى على رأيه بحديث: “لا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلالَةِ”، أو كما جاء في رواية أخرى: “سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لاَ تَجْتَمِعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلاَلَةٍ وَأَعْطَانِيهَا”. وبأن القرآن في كثير جدًّا من آياته يتوجه بالخطاب في الأمور العامة إلى المؤمنين، أي إلى الجماعة الإسلامية كلها؛ وما هذا إلا لأنها صاحبة الحق في تنفيذ الأوامر، والرقابة على القائمين بها؛ وهذا بيقين مظهر السيادة والسلطان”([7]).
ويشير د. موسى إلى نقطة مهمة، وهي أنه إذا كانت السيادة للشريعة- كما هو ثابت فعلاً- فلابد للسيادة ممن يمثلها، فيقول: “مصدر السيادة هو التشريع، الذي يؤخذ من الكتاب والسنة الصحيحة إذا أسعفت النصوص، والذي- فيما لا نصوص فيه- لا يتعارض مع شيء من روح هذين الأصلين المقدسين ومقاصدهما. ومن الطبيعي أنه لابد للسيادة ممن يمثلها؛ وهنا نقول: إن الذي يمثلها هم أهل الحل والعقد نيابةً عن الأمة كلها؛ وحينئذ تكون قراراتهم والقوانين التي تصدر بناءً على ما يتفقون عليه، صحيحة شرعًا، وملزمة للأمة جميعا”([8]).
لماذا حدث اللبس؟
حتى نستطيع تحرير المسألة بصورة أوضح، من المهم أن ننتبه إلى الفرق بين السيادة السياسية والسيادة القانونية؛ فالخلط بينهما هو- في رأيي- ما أحدث اللُّبْسَ عند البعض.
فـ “السيادة السياسية”– بمعنى السلطة الفعلية الواقعة في الحياة، والقيام بتنظيم علاقات الناس بعضهم ببعض- في المنظور الإسلامي هي حق للأمة، ويتولاها الحاكم نيابةً عنها، برضاها التام، وتحت رقابتها الدائمة؛ لأن الأمة مستخلَفة عن الله، بينما الحاكم مستخلَف عن الأمة، ولذا كانت الأمة هي الأصل. يقول د. عمارة: “فالأمة هي المستخلَفة عن الله، سبحانه وتعالى، أما الدولة [أو الحاكم] فهي الخليفةُ عن الأمة بالاختيار، والخاضعةُ لرقابتها وحسابها؛ فالطرف الأصيل في نظرية الخلافة والاستخلاف هو الأمة”([9]).
أما “السيادة القانونية”، فقد يراد بها: “التشريع”؛ وهو حق لله سبحانه وتعالى، لا ينازعه فيه أحد، قال تعالى : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} (الأعراف: 54). وقال أيضًا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (يوسف: 40).
وقد يراد بها: “التقنين”– وهو المعنى الشائع لكلمة “التشريع”- فهي سلطة ممنوحة للعلماء المجتهدين، ولأولي الأمر- بإشراف العلماء- من باب “المصالح المرسلة”، وهذا هو العمل المنوط بالمجالس التشريعية في المفهوم الإسلامي؛ فهي لا تشرِّع ابتداءً، إلا فيما سكت عنه الشرع، وفي هذه الحالة يجب عليها أن تلتزم بالضوابط الشرعية المقررة في باب الاجتهاد وشروطه.
و”الديمقراطية تجعل السيادة في التشريع ابتداءً للشعب والأمة؛ إما صراحة، وإما في صورة ما أسماه بعض مفكريها بـ(القانون الطبيعي)، الذي يمثل بنظرهم أصولَ الفطرة الإنسانية؛ فالسيادة وكذلك السلطة في الديمقراطية هما للإنسان، الشعب والأمة. أما في الشورى الإسلامية، فإن السيادة في التشريع ابتداءً هي لله سبحانه وتعالى، تجسدت في الشريعة التي هي (وضْعٌ إلهي)، وليست إفرازًا بشريًّا ولا طبيعيًّا. وما للإنسان في التشريع هي: سلطة البناء على هذه الشريعة الإلهية، والتفصيل لها، والتقنين لمبادئها وقواعدها وأصولها، والتفريع لكلياتها. وكذلك لهذا الإنسان سلطة الاجتهاد فيما لم ينزل به شرع سماوي، شريطة أن تظل (السلطة البشرية) محكومة بإطار الحلال والحرام الشرعي، أي محكومة بإطار فلسفة الإسلام في التشريع”([10]).
ومن ثم، فإن مفهوم السيادة القانونية في المنظور الإسلامي يختلف اختلافًا جذريًّا عنه في منظور الديمقراطية؛ بخلاف مفهوم السيادة السياسية الذي يكاد يتفق عند الجانبين، من حيث إعلاء إرادة الأمة وإنفاذها.
سيادة الله وسيادة الأمة.. في مقابل ماذا؟
نستطيع أن نخلص إلى أنه إذا كان جوهر الديمقراطية يتمثل في “سيادة الأمة”؛ فإن الديمقراطية في هذا تلتقي مع نظرية الإسلام في الحكم، غير أن الديمقراطية لا تضع سقفًا لهذه السيادة؛ بينما الإسلام يجعل تلك السيادة تدور في فلك الشريعة وقيمها، التي لا تعجز عن تلبية طموحات الإنسان عبر اختلاف الزمان والمكان.
فـ “سيادة الأمة”- في المنظور الإسلامي- تَرِدُ في مواجهة طغيان الحكام واستبدادهم، أما “سيادة الله” فترد في مواجهة من يريد الخروج بسيادة الأمة على منهج الله.
بمعنى: إذا أراد أحد أن يستبد، نقول له: لا؛ إن السيادة للأمة. وإذا أراد أحد أن ينحرف بالتشريع عن منهج الله، نقول له: لا؛ إن السيادة لله.
وليس من المقبول- إسلاميًّا- أن تَرِدَ سيادة الأمة في مقابل سيادة الله سبحانه؛ بل هي في مقابل الاستبداد والطغيان.
وبهذا يتبين لنا موضع التقاء وافتراق المنهج الإسلامي بالنسبة لنظرية “سيادة الأمة”، التي مثلت الأساس لمبدأ “الأمة مصدر السطات”، أهم إحدى ركائز الديمقراطية.
مصادر الترجمة :
1-الموسوعة الحرة .
2-مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة .
3-مجلة الابتسامة ...وغيرها من المصادر والمواقع الإلكترونية .
4- نظرية الحكم في الإسلام – د. موسى ، ص 105 .
5-ابن تيمية : د. محمد يوسف موسى – سلسلة أعلام العرب .
وسوم: العدد 701