أحمد وضاح سلحدار
إذا عبرت القنطرة العتيقة في باب الحديد بمدينة حلب، وانعطفت يمنة مصعداً في الشارع العتيق المرصوف بحجارة صلدة قديمة وأفضت بك خطواتك إلى مسجد (أبي ذر الغفاري) تجده اليوم خالياً منهوباً من كل شيء، إلا من أصداء التراتيل والدعوات ودموع المتبتلين – ستجد أثراً من أثار أبي التقى (أحمد وضاح سلحدار)، وستسمع ترجيع الآيات التي كان يرتلها في أعماق الليل هو وإخوانه في المسجد العتيق.
ومثلما ألف المسجد وضاح، وأنس بترتيله، ألفته كلية الهندسة فتى ذا أدب رفيع وخلق كريم، وعقل مستنير.
ويدوي صوت النفير، ويكون وضاح من أوائل الواثبين على صهوات الجهاد، يدفعه شوق المرابط إلى الفوز بإحدى الحسنيين.
ويكون اللقاء مع دورية من عملاء الطاغية عند جامع السلام، ويدوي أزيز الرصاص، ويتترس وضاح وأحد إخوانه بمدخل بناء، ويناوشهم الأخ المرافق، ثم يمضي شهيداً.
ويصعد وضاح إلى السطح، ليبدأ استنزاف قوتهم بطلقاته القليلة، وجن جنونهم، وهم يرون عناصرهم يتساقطون، فيصبون أحقادهم من سطح بناء مجاور، لتشغيل خزانات الوقود الموجودة على السطح، ويصبح البطل بين نارين، وقد جرح جرحاً بليغاً، فيتحامل على جراحه، ثم يعود إلى النزول، ولم يبقَ معه سوى قنبلة واحدة، وعند مدخل البناء، يخط بدمه (الشهادة أقرب طريق إلى النصر، أرواحنا فداء للإسلام – أحمد وضاح سلحدار).
ويلبث المجرمون، وعيونهم تدور من الخلف، لا يعرفون ماذا يفعلون، أيدخلون؟ أم يقفون حتى الصباح؟ ويجدون في رشات من الرصاص ما يبدد شيئاً من ذعرهم. ولم يأت الجواب ويدخل في روعهم أن البطل قد مات، فينقضون مسرعين، وكل منهم يريد الوصول إلى مدخل البناء، ليثبت أمام أسياده شجاعة وإقداماً. وتدافعوا، ولكن إلى حتفهم كانوا يسارعون، وقبل أن يصلوا، عاجلهم وضاح بالقنبلة الأخيرة التي في حوزته صائحاً (الله أكبر)، فتهاوى بعضهم، وفر الآخرون.
وراحوا يقذفون حمم الرعب من مكان بعيد، وارتفع صوت المؤذن ليملأ سماء حلب الرحيبة عزة وإيماناً بأذان الفجر وينطلق من روح وضاح، وهي تصعد إلى عليين..
ولملم الزبانية قتلاهم، وحملوا جثة الشهيد، وبقيت الكلمات التي خطها وضاح بدمه أرجوانية دافئة، لم تمحها رصاصات حقدهم ولا أصبغة زيفهم.
وفي الصباح الباكر أطلت سيدة مسنة، لا تعرف القراءة والكتابة، وتأملت الحروف الحمراء المنقوشة على الجدار، الذي استند إليه وضاح آخر مرة، ومدت يدها لتلمسها في صمت وخشوع وحنان، وتمتمت بعينين دامعتين (إذا كنا لم نتشرف بخدمتهم فيكفينا أن نتبارك بدمهم).
وسوم: العدد 703