الشهيد مصطفى حورية
بعد أن يطمئن أبو أسامة إلى أن إخوانه قد رقدوا بعد ساعات من الجهد، كان يأخذ زاوية من القاعدة، وينكب فوق شمعة أو سراج خافت، ويبدأ يقلب بين يديه أوراقاً صغيرة، وصلت إليه من إخوة له موزعين في أنحاء جبل الزاوية وفي مناطق أخرى من محافظة إدلب، فتراه يبتسم حيناً، ويتحرق ألماً حيناً آخر، وتتساقط من عينيه دمعات في أحيان كثيرة، ثم يبدأ برسم رموز صغيرة على أوراق في دفاتر صغيرة وضعها في جيب سترته (الخاكية) بانتظام معهود، فقد كانت له رحمه الله (شيفرات) خاصة به، يُودِعُ فيها من المعلومات ما يحتاج إلى سرية وكتمان، لأنه كان كغيره من إخوانه – معرضاً في كل حين لمداهمة لئيمة، أو كمين مفاجئ، ثم يبدأ برسم خطة لتحرك إخوانه، فيجهز لهم الرسائل والتوصيات إلى الإخوة في مختلف الأنحاء يرد فيها على استفسارتهم ويحل لهم ما أشكل حله.. يواسي جراحاتهم ويخفف آلامهم أو يبارك مهمتهم ويشد على أيديهم طالباً منهم اليقظة والحذر.
وما إن يسدل الظلام أستاره، حتى ينطلق الإخوة جميعاً كلٌّ إلى هدف، فيكون مصطفى في جملة المنطلقين بعد أن يودع كل أخ أخاه ويطلب منه الدعاء والحذر.
حين يطلب منه مرافقه أن يأذن له بالسير أمامه، ويلح عليه بقوله، إن قتلت (أنا) فإن الجماعة تخسر فرداً، وإن أصابك شيء فإنها تخسر أفراداً!!
يجيبه أبو أسامة مذكراً:
- يا أخي قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
إن من يعرف مصطفى يعرف فيه القائد ذا الحنكة والعزيمة الصلبة التي لا تلين، إلى جانب بديهة حاضرة، وذهن متوقد، وحسن تقدير للأمور.
كان دقيقاً في عباراته وألفاظه، عذب الحديث، ساعدته ذاكرته القوية على جمع ثقافة علمية إسلامية متميزة، يسعى لإفادة إخوانه، فيختار لهم الكتب، ويطلب تلخيصها ونقدها في أوقات الفراغ والراحة، ويستشيرهم بما يعترضه من أمور، أو يَجِدُّ من أحداث، ويشعر الواحد منهم أنه يتعلم منه.
كما كان على ثقة كبيرة بقيادته، ويسعى لنقل هذه الثقة إلى نفوس إخوانه، وما زلت أذكر قوله وهو يجيبني على استفسار لي:
إن ثقتي بقيادتي تجعلني أتصور أن يكون الأمر على الوجه التالي.. ويشرح الأمر، ثم يعقب على ذلك بقوله: ويجب أن يكون ذلك صحيحاً، وهو كذلك!!
وكان الإخوة يتأدبون معه ويجلونه أكبر الإجلال، وبينهم من هو أكبر منه سناً! ذلكم مصطفى! الزهرة التي صوحت وهي ما تزال في ربيعها، والحلم الذي توارى والألم الذي راود قلب كل من عرفه أو سمع به، فلا عجب أن فداه إخوانه بأرواحهم لو استطاعوا، أو حرصوا عليه حرص الجند على القائد، عندما تَحْلَو لِكُ الأيامُ وتدلهم الخطوب ويحار أصحاب العقول.
وسنوات أربع من الجهاد المتواصل قضاها بين كمين وقاعدة وكَرٍّ وفَر، كانت حافلة بالعمل المتواصل والجهد المستمر، الذي لا يعرف الملل ولا الفراغ، وهكذا كانت حياته ملأى بالجد والنشاط، منذ نشأته وحيداً لأبوين كريمين حظي منهما بتربية فريدة بأصالتها ونبلها، وكان قرة عينٍ لهما إلى أن أقر الله عينيهما بأطفالٍ أربعة لمصطفى، كان محط اهتمامهما وإذا هو يصبح آمالٍ ليس لقريته بسامس فحسب، وإنما لكل (جبل الزاوية) بل ولكل من يرى أن الدين والوطن بحاجة إلى رجال يرفعون راية القرآن ويطهرون أرض الوطن من أوضار الحاقدين.
ولقد بدأت تباشير الأمل تلوح في سلوكه منذ أن كان طالباً في ثانوية أريحا، ثم قبيل التحاقه بالجامعة، وهناك في رحاب كلية العلوم، في جامعة حلب، تعرف إلى إخوة ضموه إلى صفهم دونما تردد.
ويتخرج في فرع الرياضيات في عام 1975م بين الثلاثة الأوائل الذين يحق لهم متابعة الدراسة العالية في خارج القطر.
غير أنه حرم من ذلك بسبب سلوكه القويم والتزامه بمبادئ دينه وعقيدته، ويعود إلى قريته بسامس ليصبح مدرساً للرياضيات في ثانوية احسم قريباً من قريته وهناك يتفرغ للأمر الذي ملك عليه قلبه وغطى جوانحه، ويصبح المدرس والواعظ والخطيب، وكانت له على منبر القرية وقفات علم الناس – من خلالها – لمن تكون العبودية وكيف تكون في زمن يتحكم فيه العبيد والطواغيت، فزرع في النفوس الشعور بعزة المؤمنين وبث فيها روح الجهاد والتضحية، وكان يطلق نداء المؤمن، وصيحة المفجوع يرثي حال الأمة بعد أن وصلت إلى ما هي عليه من مذلة وهوان.
ولم يكن البغاة ليتركوا مصطفى على هذه الحال، ولم يكن هو ليأمن جانبهم، فكان حذراً وحريصاً في الآن نفسه، على أن يبقى يمارس نشاطه بسرية، ريثما تحين الفرصة إلى أن حاصروه في يوم من أيام نيسان، واستطاع بتيقظه ومساعدة تلاميذه، أن يتسلل ويقفز على سور المدرسة، وينجو من أيديهم اللئمية لينطلق للغاية المرجوة والهدف المنشود، ولتبدأ مرحلة جديدة من العمل والتنظيم والاستعداد وتهيئة الجبل لخوض المعركة الفاصلة.
لقد كان البغاة يعرفون مقدار تأثيره في النفوس، ومدى استجابة الناس له حينما يدعوهم، فراحت تمارس أبشع أنواع الإجرام بحق تلك القرى التي كانت ضائعة في جوانب جبل الزاوية، بين الدروب الوعرة، وإذا اسمها يملأ الآفاق بعدما انضوى أبناؤها تحت راية الجهاد وراحوا يتسابقون إلى الشهادة وقد تعلموا على يديه وأيدي أمثاله، كيف تُفدى العقيدة بالأهل والمال والأرواح، وإذا بكل قرية تصبح شوكة حادة في أيدي المجرمين، يحسبون لها ألف حساب، ويعرضونها مرات للتمشيط والمداهمات بفرقة من الجيش أو أكثر، وبأسراب عديدة من الطائرات الحوامة.
وعندما كان يبلغه نبأ ما يلاقيه أهله بخاصة وأهل المجاهدين عامة من عنت المجرمين وحقدهم، كان يعلق على ذلك بقوله: (يؤجر المرء رغم أنفه.. لعل الله يختارهم شهداء في سبيله).
وفي ربيع عام ثلاثة وثمانين، صعدت السلطة حملتها في ملاحقة المجاهدين واعتقال أقاربهم وذويهم، بعد أن بدأت تشعر بخطرهم فسخرت لذلك كل ما لديها من عملاء وتافهين، وكان الإخوة يحرصون على تجنب المصادمة معهم، بانتظار المعركة الحاسمة.
وكان الموقف صعباً وحرجاً، وكان على أبي أسامة، أن يواجه ذلك الموقف بوعي تام وسهر متواصل فراح يسعى لتأمين الملاجئ للإخوة الملاحقين، ويحاول إنقاذ الإخوة الذين يتهددهم الاعتقال.
ولو رأيته في تلك الأيام لرأيت شاباً نحيف الجسم، قد عصر عقله التفكير، ولم يترك في رأسه سوى شعرات، ورسمت الملاجئ المعتمة أثرها على عينيه، حتى كادت تنتزع منه بصره، فبقي لفترة يسير ومعه قائد يقوده! وكان الإخوة يلحون عليه لكي يأذن لهم بمواجهة العناصر الباغية، بعد أن راحوا يزرعون له الكمائن على الطرقات، ويداهمون البيوت فكان يطمئنهم بقوله: على أي حال، إنهم لن يستطيعوا نصب كمين على طريق الجنة!! وكان يطلب الشهادة بصدق ويدعو الله بقوله: (اللهم إن كانت خالصة لوجهك فارزقنيها)...
وكان بين الإخوة من يعترض عليه لشدة حبه وتعلقه به فيقول: (بل أنا قبلك)! فيرضيه بقوله: (على الذي يسبق أن يذكر أخاه عند ربه).
وبدأ موسم الشهادة باستشهاد ثلاثة من الإخوة في كمين قوامه أكثر من مئة عنصر، رابطوا في المكان منذ غروب شمس ذلك اليوم ويتهافت المجرمون على أحد الإخوة ظناً منهم أنه مصطفى، فيحاولون طعنه وإمساكه، حياً فيحطم الأخ أحلامهم بقنبلة مزقت جسد أعتى واحد فيهم، وكان طائفياً حاقداً يحمل رتبة مساعد في الوحدات الخاصة.
وتتابعت قوافل الشهداء بدءاً بأبي صالح وأبي إبراهيم وأبي جهاد، ومروراً بأبي بشار وأبي رضوان، ودحام والصادق وجمعة.. وانتهاءً.. لا، بل ومروراً بأبي أسامة مصطفى حورية وأبي الصادق "علي".
ومتى انتهى ركب الشهادة حتى يتوقف عند مصطفى؟ فمن عنده ومن عند إخوانه، سيبدأ موكب الثأر العريان لتلبسه حللاً.. حاشاه حاشاه أن نتركه عرياناً..
كانت الأحداث تتتابع في تلك الأيام التي سبقت اليوم الذي خرج فيه مصطفى وبصحبته أحد إخوانه، بعد أن عرف كل واحد منا واجبه، غير أنه أسمعنا في تلك الليلة الكاملة، ما سمعناه منه من قبل في مثل هذا الوضوح والصراحة لقد بدأ يوصينا بالصبر، والاحتساب، وراح يطلع بعضنا على تفصيلات الأمور الهامة فقد خرج إخوة من هذا المكان قبل أيام ولم يعودوا إليه!!
وهناك على مقربة من (مرج بلين)، اتخذ الأخوان من قاعدة فيه محطة لهما، ليتابعا مهمتهما في الليلة التالية، فكانت حملة تمشيط للمنطقة بمواجهتهما وعندما شعر الأخوان أن أمرهما قد انكشف، راحا يعدان للأمر عدته، وبدأ أبو الصادق يقاوم الحملة الأسدية، بينما قام أبو أسامة بإتلاف ما بحوزته من شفرات وأوراق، بعد أن حطم جهاز اللاسلكي الذي معه واستعد للسفر الخالد.
واستمرت المقاومة ساعات، اتبع الأخوان خلالها مناورة بهدف مدّ المقاومة حتى الليل، علهما يتمكنان من الانسحاب، غير أن الموعد حان قبل الليل... وتنبهت القرى المحيطة بالمكان على صوت المعركة، فانصرفت الأذهان إلى كل أخ ملاحق، عدا مصطفى، فقد كانوا يشعرون أن مصطفى لن يموت قريباً، على يديه وأيدي إخوانه، سيكون النصر القريب، وهل يترك الله جنده وتلهفت القلوب تفديه بالأبناء والإخوة، عله يسلم!!
ويستبسل مصطفى وأخوه أيما استبسال ويقاومان حتى أعيتهما المقاومة فاستسلما لا للطغاة وإنما للقدر، راضين بقضاء الله فرحين بلقائه: مصطفى وأخاه شهيدين في سبيله ويحمل المجرمون الجسدين الطاهرين إلى إدلب بين رصاص النصر وهتاف الفرح!! كما سبق لهم أن فعلوا يوم حملوا جثمان الشهيدين حسون بكور ومحمد زيدان..
وهناك أمام مبنى المحافظة راحوا يتوجون نصرهم! فهل درى الناس بماذا توجوه؟! إنهم لم يصدقوا أنهم قتلوا مصطفى، فأقاموا له بل لجسده محكمة ميدانية لأن المجرمين على يقين أنهم ما استطاعوا أن يقتلوا روحاً أبية مؤمنة يوماً!
وحكموا عليه بالإعدام ونفذوا الحكم على جسده، فهل سمع الناس بمحاكمة الأجساد في مملكة من ممالك الوحوش والذئاب، على مدار التاريخ؟! ثم راحوا يعلنون للملأ بعد أن نفذوا (حكم) الخسة في جسد مصطفى، أن الذي قتلوه هو قائد الإخوان، وأن قصة الجهاد هناك قد انتهت.. فهل انتهت حقاً؟
لا.. لم تنته بعد، وسينبت الثأر للثأر أبطالاً وفدائيين يثأرون لكل قتلة بألف قتلة، وعندما سيعرف البغاة، أن مصطفى لم يمت، وإن نفذوا فيه أحكام الأوهام، وإن قصة الجهاد لم تتوقف، لأنها لن تنتهي يوماً.. ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
على مصطفى وسلاماً على إخوانه الشهداء، وعهداً على الجهاد والثأر وأننا على العهد باقون.
وسوم: العدد 705