الشهيد محمد محمد درويش
"أفحكم الجاهلية يبغون.. ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون..".
أحرف من نور الإسلام الحنيف واستفهام إلهي للعباد حمله جند الله بقيادة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم إلى من أعمتهم الجاهلية فأناروا به الظلمات وبددوا به حلكة الشرك ورفعوا صرح دولة الإسلام المنيعة..
ما أروعك يا أخي الشهيد وأنت تزين منبر قريتك بهذه الآية التي اتخذتها شعاراً لك ولإخوانك ,انت تعتلي المنبر لأول مرة في قريتك "أطمة" المصابرة.
ولد شهيدنا المجاهد محمد بن محمد درويش في أحد البيوت المؤمنة في قرية أطمة في عام 1949م وذاق مرارة الحرمان والفقر الذي كان يخيم على قريته المطلة على لواء اسكندرون في محافظة إدلب والمتاخمة لمنطقة عفرين.
بدأ دراسته الابتدائية سنة 1956م ومسحة الجد تملأ وجهه ونظرات التأمل تلازمه حتى غاص في أعماق الكتب في ريعان الشباب وكأنه يبحث عن شيء يفقده، وحينما التحق بدار المعلمين في إدلب سنة 1965م شد إليه انتباه معلميه وزملائه بطباعه الحسنة وتفوقه وحرصه على العبادات، فكانت هي المسلك الصحيح ليجد من يبحث عنهم من المسلمين وكان اللقاء ونعم الوارد والمورود.
وفي عام 1969م يودع المجاهد دار المعلمين ومعها يودع إدلب التي وجد فيها ضالته. غادر شهيدنا إدلب وهو يحمل في قلبه رسائل الإمام الشهيد وفي حقيبته شهادة أهلية التعليم وأبحرت نظراته التأملية في جذور المجتمع وفي فروعه.
وأخذ يرسم لنفسه مخطط الإبحار في لجة المجتمع المتردي.. لكن اليأس لم يكن له في يوم من الأيام مكان في معجم دعوته. حط الشهيد رحاله في قرية (مارع) عام 1970م وبدأ الدعوة فلاقى القبول وعاش في قلوب أبنائها ورجالها ويكمل عامه في قرية أخرى هي (دير بلوط) فيستهوي أفئدة أهليها عرباً وأكراداً ويتوج عامه بجمع التبرعات لبناء مسجد في هذه القرية الصغرة. وفي عامه التالي يبدأ في مرابع صباه وشبابه في قريته التي أحبها وأحبته يبدأ حملة الإصلاح والدعوة. يربي الصغار في مدرسته وينصح الكبار في مجالسه، ويدعو من يجد عنده صدق العزيمة، فالتفت حوله القلوب فأخذ يربيها على نهج الإسلام القويم إلى أن بلغ مبلغ الجهاد وصِدْقَ التفاني في سبيل الله.. ورأى غراسه تزهر وتثمر ففاض البشر على محياه بلحيته المهيبة، فبدأ يوسع من دائرة معارفه خارج قريته حتى غزا بدعوة الإخوان المسلمين جُلَّ القلوب..
ها هو شهيدنا يحمل لواء الحق يوم أن أعلن مشروع الدستور السوري الزائف يبين للناس ما تنطوي عليه نفس الزنديق أسد من عداء للإسلام، ويطالب بصوت يدوي بالحق أن دين الدولة الإسلام ودين رئيسها الإسلام والسنة. وكانت يومها كل المنابر في سورية المقهورة تدوي بهذا النداء.
ويلتحق الأخ أبو مصطفى بالخدمة العسكرية الإلزامية ويرى الانحلال والانحراف في صفوف القادة ومن والاهم من الرتباء والمجندين وكأنهم بهائم تعلف في زريبة السلطان. ولو نظرت يومها في وجهه لقرأت استنكاره وتأسفه وحزنه على شباب الإسلام التائهين بين قطعان الذئاب..لو نظرت يومها إلى وجهه لقرأت في قسماته أنه لا بد من الثبات ولا بد من التغيير، وينظر بعض الرقباء الذين اكتووا بنار الطائفية إلى شيخنا أبي مصطفى قائلين:
يا أخانا أبا مصطفى كيف ستبقى لحيتك وقائد القاعدة طائفي يعادي كل ما يمت للإسلام بصلة.. يا أخي اتق شر هذا الفاجر واحلق لحيتك وإلا....
ويقاطعهم من لم يعرف الخوف إلا في الله قائلاً:
- لن أحلق لحيتي إن شاء الله مهما كلفني ذلك من أثمان.
كان ذلك الحوار يوم وصل شهيدنا أبو مصطفى إلى مطار التيفور لأداء خدمة العلم.. لقد أغاظ الحاقد الطائفي إبراهيم الحسن وهو المقدم قائد القاعدة الجوية أغاظه أن يرى شيخنا وقد أحبه الرئيس والمرؤوس لانضباطيته العسكرية وأدائه الواجبات على أكمل الوجوه ولدماثة أخلاقة، كيف لا والإسلام كان كالدم يجري في عروقه وفي تصرفاته وكل حياته.. ولهذا شن هذا الطائفي الحاقد وساعده الأيمن ضابط أمن القاعدة على شيخنا حملة حقد وضغينة خرج منها شهيدنا هو الغالب، وكادوا له ويكيد الله لهم ويمهلهم ولا يهملهم.. ويبدأ بعد وصول شيخنا إلى القاعدة عرض هذه المسرحية التي وضع فصولها المجرم إبراهيم الحسن.
ضابط أمن القاعدة: يا رقيب محمد أنت إنسان انضباطي ولا أحب أن ترتكب أي مخالفة.
الشهيد محمد درويش: وما هي المخالفة التي تقول عنها؟
الضابط: يا شيخ محمد إن اللحى ممنوعة في الجيش ويجب أن تحلق لحيتك.
الشهيد: إن اللحية أولاً ليست مخالفة بل هي طاعة.. ثانياً أنا طالب كلية شريعة.. ثالثاً: إنني كنت إمام مسجد. وكلها تستلزم الأخذ بهذه الشعيرة من شعائر الإسلام ما دام دين الدولة الإسلام.
ضابط أمن القاعدة: أنا نصحتك وعليك الطاعة وإلا تدبر أمرك مع قائد القاعدة وأنا أنصحك بحلق لحيتك وعدم تعريض نفسك للمشاكل.
الشهيد: الله وحده هو المدبر.. وهو يتولى عباده..
الضابط: انصرف يا درويش ولكل حادث حديث..
ولم يمض إلا نصف ساعة على انصراف الأخ أبي مصطفى حتى أرسل الحاقد إبراهيم الحسن في طلبه ودخل الشهيد غرفة الطائفي إبراهيم الحسن وأدى التحية العسكرية وقدم اسمه حسب الأصول.. وكان ذلك الحاقد يقرأ في مجلة ماجنة فلم يرفع رأسه ولم يرد التحية إلا بعد بضع دقائق من الصمت المخابراتي حيث رفع عقيرته ليقول:
المقدم – أنت محمد درويش..
الشهيد – نعم أنا محمد محمد درويش.
المقدم – سمعت أنك تتحدث عن الإسلام والشريعة ودين الدولة. فهل أنت مدني أم عسكري؟
الشهيد – أنا عسكري. ولكن مسلم! من قبل ومن بعد.
المقدم: وهل تظن أنك وحدك مسلم! ونحن غير مسلمين؟
الشهيد: الله وحده أدرى أينا مسلم وأينا غير مسلم.
المقدم: هذا لا يهم، لكن أما تعلم بأن اللحية هذه ممنوعة عندنا في الجيش ومحرمة.
الشهيد: أنا أولاً طالب شريعة وثانياً عندي ترخيص بإطلاقها وأنا لم أخالف دستور الدولة.
المقدم: وماذا يقول الدستور بلحيتك.
الشهيد: (وبكل شموخ الإسلام وعزته) إن دستور البلاد يقول إن دين الدولة الإسلام ويسمح لكل فرد في المجتمع أن يمارس شعائر دينه بحرية تامة. وأنا لم أقم إلا بتطبيق إحدى هذه الشعائر الإسلامية عندما أطلقت لحيتي...
المقدم: اسمع يا درويش.. ألا يقول الله "أطيعوا ولي الأمر منكم"
الشهيد: نعم يقول الله سبحانه: "أطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم" ويقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق".
المقدم: يا رقيب درويش.. أنت تقول بأنك مسلم وأن دين الدولة الإسلام وبالطبع أنت تهمك مصلحة هذا الوطن. أليس كذلك؟
الشهيد: بكل تأكيد.
المقدم: لنفرض أن تركيا الآن دولة إسلامية بالشكل الذي ترضاه أنت وقامت بعدوان على وطنك سوريا.. فما موقفك أنت؟
الشهيد: عندما تعلن تركيا تطبيق الشريعة الإسلامية كما أراد الله عندها أفكر في ذلك ولا حاجة بنا لاستباق الأحداث.
المقدم: "بكل الحقد الطائفي والمكر والمراوغة" اسمع يا درويش يبدو أنك إنسان مثقف وذكي وأنا لا حاجة بي لإقناعك فأنا أستطيع إحضار عسكريين الآن ليحلقوا لك لحيتك بالقوة.. ولكن لن أفعل ذلك لأني واثق من أنك ستتعاون معنا لخدمة هذا الوطن ولن ترفض هذا الأمر، اذهب الآن ولديك فرصة تفكر فيها بالأمر ويجب أن تحلق لحيتك امتثالاً للقانون العسكري ولا أريد منك إجابة الآن، انصرف وفكر في الأمر جلياً وفي اليوم الثالث أرسل في طلبه كما أرسل فرعون في طلب موسى بعد أن جمع حوله كل ماكر وساحر ودخل شهيدنا حلبة السحرة وهم يقهقهون بسخف الحاقدين وألقى السحرة حبالهم وعصيهم لكنها لم ترهب المجاهد أبا صطيف بل خرج من عندهم أكثر ثباتاً رافعاً رأسه بعزة الإسلام وكبريائه الذي استشاطهم غضباً.. فاستوقفه كبير السحرة الماكرين إبراهيم الحسن وأعطاه فرصة أخرى للتفكير حتى يكيد هذا الحاقد مكيدته بدقة ثم قرر الحاقد وزمرته في القاعدة على أسلوب التهديد فأرسل في طلبه بعد يومين ليكون الحوار التالي:
المقدم إبراهيم الحسن: وما قرارك يا شيخ درويش؟ (قالها والسم يغلي في حروفها) أتحلق لحيتك؟ أم أرسلك إلى المخابرات لتعرف معنى موقفك هذا؟! وإني لك من الناصحين.
الشهيد: إنني أفضل أي شيء على حلق لحيتي.
المقدم: إذن أنت مصر على ركوب رأسك ولم تعد تنفعك النصيحة. خذ هذا الكتاب وغداً تكون عند محمد الخولي وتعطيه له.. وتعرف ما معنى رفضك هذا..
وفي اليوم التالي كان شهيدنا يصلي ركعتين في جامع السلطان سليم بدمشق قرأ فيها سورة (قريش) ودعا على هؤلاء الحاقدين أن يأخذهم الله بعذاب منه، وتوكل على الله، وتوجه إلى مبنى الأركان. وهناك استوقفه مساعد الاستعلامات، ثم جاء عسكري بعدها، وأدخله إلى المكان الذي سينتظر فيه إذن الدخول. وتقصد العسكري المرافق للشيخ محمد أن يمر به في صالة تحوي جلادي الحاقد الخولي حيث كانوا يستعرضون عضلاتهم أمامه، فهذا يقفز في الهواء، وهذا يضرب الحائط بقبضته، وذاك يحمل الأثقال، وغيرهم يلعبون الملاكمة، ويصرخون كالحمير، وينهقون.. وبعد أن أدخل المجاهد محمد درويش زنزانة الانتظار بساعتين أخرجه ذاك العسكري ليقول عد في الغد..
واستطاع الشيخ محمد الحصول على رخصة وتوصية بترك لحيته من وزير الأوقاف آنذاك فحملها مع كتاب قائد القاعدة، وقرر عدم إخراج الكتاب إلا إذا طلب منه. وأدخل زنزانة الانتظار مروراً بنفس المشاهد السابقة.. وبعد برهة أدخل إلى غرفة الحاقد الخولي ليقول له هذا المارق:
الخولي: أنت محمد بن محمد درويش؟
الشهيد: نعم أنا محمد درويش.
الخولي: اسمع يا درويش لقد أتتني كل المعلومات المطلوبة عنك من إبراهيم. لكنني لست متفرغاً لهذه الأمور .. لماذا لا تنفذ أوامر قائد قاعدتك؟
الشهيد: سيدي أنا لدي رخصة وأنا...
الخولي (مقاطعاً): يكفي.. يكفي لست بحاجة إلى فلسفاتك فأنا أعرف كل شيء عنك.
الشهيد: سيدي أنا عندي رخصة من وزير الأوقاف بإطلاق لحيتي و....
الخولي: أنا الآن مسافر إلى لبنان ولا مجال عندي لمعالجة أمرك اذهب إلى عند أمير قاعدتك وأعطه الرخصة وهو يتصرف بقناعة.. هيا انصرف.
هنا يُخرج الشهيد كتاب إبراهيم الحسن ويلقيه إلى الخولي ويخرج وقد علم أن الخولي وإبراهيم الحسن ما كانوا يريدون سوى إدخال الخوف إلى نفسه، فتعلو وجهه المشرق ابتسامة سخرية من هؤلاء الحاقدين.
وفي الصباح يكون أبو صطيف شامخاً كالطود الأشم والعيون عالقة به في ساحة الاجتماع تتساءل: كيف عاد ولم يُصِبه أذى من هؤلاء المجرمين؟
ويستشيط الحاقد الطائفي إبراهيم غضباً، ويكاد يتميز من الغيظ، فيرسل خلفه. ويحضر أبو صطيف إلى مقر هذا المسعور فيقول له: لم تحلق لحيتك حتى الآن؟
الشهيد: سيدي أحضرت لك رخصة بإطلاقها وقد قال لي محمد الخولي...
إبراهيم الحسن (مقاطعاً): اخرس وسترى الآن كيف تُحلق اللحى بطريقتنا الخاصة. ويستدعي عنصرين من الشرطة العسكرية ليقودا المجاهد إلى تدمر.. نعم إلى تدمر.. فقط لتحلق هذه اللحية الطاهرة التي طالما كانت تخيف كل حاقد ومسعور.
ويتحدث حراس السجن في تدمر بغرابة عن أول حالة من نوعها.. رقيب لم يقترف أي مخالفة سوى إطلاق لحيته.. فيسجن في تدمر بضع أيام وتحلق لحيته ثم يعود، ويضرع الشهيد إلى الله بالدعاء قائلاً في خلوته:
- اللهم إني مظلوم فانتصر.. اللهم إني ما أخذت بهذه الشعيرة إلا لمرضاتك. اللهم وإنهم قد منعوني ولا حول لي ولا قوة. فأسألك بقوتك يا رباه أن تكف أيديهم عني وعن المسلمين. اللهم انصرنا على القوم الظالمين.
وتخترق دعوات المجاهد عنان السماء لتصل إلى بارئها، ويكون القرار الإلهي.. ينقل هذا المغرور الحاقد إبراهيم الحسن إلى دمشق ويعود بعد أيام ليودع سحرته وأتباعه بطريقة خاصة، فيصعد الطائرة الحربية، ثم يبدأ ألعابه البهلوانية في الفضاء.. والكل يرقبه من محزونٍ لفراق معلم الفجار إلى مظلوم تخترق دعواته حجب السماء وينقض الفاجر بطائرته ولا يستطيع الصعود ويقذف بالمظلة دون إرجاع كرسي القيادة فتتهشم ساقاه فيرتطم بالأرض كتلة لحمية لم تفارقها الروح. ويعجز الطب عن إنقاذه في سورية وفي أوربا ويعود قعيداً في فراش العقاب جراء ما اقترفت يداه "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى". ويفقد المجرم بصره وسمعه.. وتبقى الكلمة لله وحده.
وينهي البطل المجاهد خدمته العسكرية ومعها ينهي الدراسة في كلية الشريعة، فيتقدم إلى مسابقة المدرسين، فلا يروق لزبانية أسد أن يكون مدرساً يربي شباب الأمة وينقذهم من ضلالات النظام المقيت. فيمنع من ذلك.
ويعود المجاهد إلى قريته أطمة وإلى إخوانه المسلمين. وقد تركت تلك الأيام الماضية في نفسه أثراً لا ينسى.. فيكثف لقاءاته مع إخوانه ويروي لهم ما لاقاه من هؤلاء الحاقدين. ويعرفهم على مخططات هؤلاء الطائفيين. فتشحذ الهمم، ويتأجح الإيمان، وتهفو النفوس إلى يوم الجهاد.
وفي عام 1979م تبدأ السلطة الباغية بملاحقة المسلمين العاملين فيلجأ المجاهد وإخوانه إلى الجبال المحيطة بمنطقته.. تأهباً لمنازلة هؤلاء المجرمين أتباع أسد وزبانيته وتصل إلى السلطة الباغية تقارير العملاء المغرضين فيعد الحاقدون حملة مكونة من ثلاث سيارات تحمل أكثر من ثلاثين عسكرياً لمداهمة القرية واعتقال المجاهدين وعلى رأسهم الشيخ محمد درويش.. فيخيب فألها وتعود كما جاءت.
وفي كانون الثاني من عام 1980م بلغ السلطة أنباء مفادها أن قرية أطمة وما حولها قد اتخذها المجاهدون مركزاً لتدريب المجاهدين من أبناء محافظتي إدلب وحلب فجن جنون السلطة الباغية فتجهز قوة كبيرة تتألف من عدّة طائرات هليوكبتر وعشرات السيارات المحملة بالعساكر والعتاد.
وتحت جنح الظلام كعادة كل رعديد جبان تزحف القوات لتنتشر في المناطق المتاخمة للقرية. وتسد منافذ القرية من الجنوب والشرق ويزحف جنود الطغاة مع أول خيوط الفجر إلى غرب القرية عبر وادٍ قريب من القرية استعداداً لمعركة كانوا يعدون لها منذ ثلاثة أيام.
ولكن خاب فأل الحاقدين فلم يكن يومها في القرية سوى المجاهد أبا صطيف الذي اضطره سوء حالته الصحية إلى ذلك.
ويخترق سكون الفجر هدير مراوح الطائرات العمودية قادمة من الشرق في الوقت الذي كان فيه المجاهد يطبع آخر قبلاته على وجنات ثلاثة أطفال ما كانوا ليعرفوا أنه آخر وداع.
وينطلق المجاهد باتجاه شمال القرية ليتوارى بين حقول التين والزيتون ويقلب ناظريه غرباً وشرقاً، فإذا بزحف لا يقل عن (70) جندياً آتين من غرب القرية، وقد رأوه فأخذوا يهتفون بمكبرات الصوت: أن لا تهرب، وسَلِّمْ نفسك، ويدخل المجاهد بين أشجار الزيتون عندها تكون الطائرات قد أحاطت بالقرية من كل اتجاه وبدأت هي بدورها تنذره وتطلب إليه تسليم نفسه وإلقاء سلاحه.. عندها يدرك المجاهد أن لقاء الأحبة في جنات ونهر قد آن ولم يبق بينه وبين الجنة إلا ساعات.
وتدور معركة غير متكافئة ولكنها كانت أسطورة الحكمة للمجاهد الفذ أبي صطيف حيث يدخل في غار مناسب من مغاور القرية قرب الكروم فيحمي به ظهره ويستعد للقاء ومكبرات الصوت تنذره ولا يجرؤ أحد على الاقتراب.
وتصعد الكلمات بالنور من داخل هذه المغارة:
"ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصر على القوم الظالمين..".
وتضيق القوات على أبي صطيف من كل الجهات فقد أنزلت الطائرات عساكرها حول المغارة من كل مكان ليبدأ هذا المشهد:
ملازم: سيدي إنه اختبأ في المغارة ولا ندري إن كان فيها سواه.
ويأتي الجواب من قائد الحملة يومها المدعو عدنان رام حمداني.
يا ملازم يا جبان هيا اقتحموا المغارة أنت ومجموعتك..
ويتقدم عناصر المجموعة فيتساقطون واحداً إثر آخر وينطلق صوت الشهيد: خسئتم يا أعداء الله.. فو الله لن تصلوا إليّ وفيَّ عرق ينبض.
ويتقدم الملازم مع عنصرين آخرين فَيُجندلهم المجاهدُ فوق بعضهم ويدوي صوت الشهيد من جديد.
الله أكبر الله أكبر "سيهزم الجمع ويولون الدبر"
ويتهاوى الجبناء كالعصف المأكول على باب المغارة.
ويصرخ أحد الجنود عبر اللاسلكي سيدي لقد قتل الملازم ومجموعته لقد بلغ قتلانا العشرة.
ليكون رد هذا الرام حمداني:
هل هناك جرحى يا نقيب عدنان
ويأتيه جواب عدنان عاصي: لدينا خمسة جرحى مخطرين.
وتهبط الطائرة العمودية لتحملهم مسرعة إلى حلب حيث يراهم من مكان هناك شاهد عيان.
ويأمر الرام حمداني بالاقتحام، فتكون النتائج أسوأ، وتهبط الطائرة لإخلاء جرحى آخرين، والناس يرقبون من بعيد.. ويبلغ عدد القتلى من جنود الطغاة حسب مصادر السلطة الباغية نفسها ثلاثة وعشرين قتيلاً مع عدد من الجرحى.
وتقصف المغارة (بالأر بي جي) ومن الطائرة وقنابل الغاز حتى ليختفي المكان كله عن أنظار أهل القرية من شدة ما أطلق من نيران ورصاص.
وتصعد الروح الطاهرة إلى بارئها راضية مرضية، فيسرق الجثمان الطاهر بسيارة المخابرات وتبقى سطور المجاهد التي تركها بدمه على جدران المغارة "لا إله إلا الله ، الله أكبر، والنصر للإسلام".
فروَّى الدم الطاهرة ثرى قريته التي أحبته ولقن الأعداء درساً قاسياً من دروس البطولة والفداء.
وسوم: العدد 710