المجاهدة الصابرة أم كلثوم بنت محمد صلى الله عليه وسلم
حـكايــــات من بيت النبوة
يقول المستشرق (لامنس) :
" إن المؤرخين المسلمين تناسوا فاطمة بنت محمد كما تناسوا بقية بنات الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم ــ فلم يحفلوا بها أول مرة حتى إذا ظهرت فكرة التشيع في الإسلام عادوا يطلبون الحديث عنها وأخذت شهرتها تذيع و تنتشر على حين ظلت أخواتها وليس لهن ذكر و لا عنهن حديث."
تــقـــدمــــــــة
لا شك أننا ـ نحن المسلمين ـ نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحب آل بيته المؤمنين الطيبين الطاهرين .. و لاشك أن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضم جميع أزواجه أمهات المؤمنين وأولاده وبناته وأحفاده وحفيداته ونحن نحترمهم كلهم ونحبهم كلهم دون تفريق بين زوجة وبنت وبين حفيد وولد فكلهم من رسول الله وكلهم ينتسب إلى سيدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن ظهرت بعض الفرق والطوائف الضالة المنحرفة التي رفعت بعض آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى درجة التقديس وأحيانا العبادة .. وخفضت بعضهم الآخر إلى درجة السب والشتائم ووصفهم بالكفر والفسوق والعصيان والفاحشة ظلما وكذبا وزوراً .. لقد خصص هؤلاء المنحرفون الضالون الأدعياء كل الحب والتقدير والتقديس للحبيبة فاطمة الزهراء حبيبة رسول الله وابنائها من بعدها .. بينما أهملت بقية أبناء وبنات وأزواج رسول الله صلى الله عابه وسلم بل ربما وصل الأمر إلى اتهامهن في دينهن وأعراضهن وسبهن ووصفهن بأشنع وأسفل الصفات ولا حول ولا قوة إلا بالله .. حتى أن بعض فساق الشيعة في البصرة لعنه الله لم يتورع أن يقول في خطبة على المنبر : ( روي عن أم الفاسقين عائشة لعنها الله .. ) بل لعنه الله بفسقه وفجوره وكفره خاصة وأن الله أنزل الوعيد الشديد على من أساء إلى السيدة عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك .. وأنا حين أقرأ السيرة العطرة لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحز الألم في نفسي حين أجد هذا التناقض وهذا الإنحراف الخطير في مفهوم آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وأنني انتسب إلى هذه الشجرة الطيبة الطاهرة المباركة إلى سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .. لقد حز في نفسي أن تكثر الكتابات والأقوال والسير والتمجيد والتعظيم والتقديس للزهراء فاطمة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهمل ذكر بقية آل البيت حتى لا نكاد نسمع عنهم شيئا .. رغم حبي الشديد للزهراء فاطمة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم أبيها .. لذلك قررت الحديث والكتابة عن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الطيبين الطاهرين عبر قصص هادفة موجهة تزيل الغبار والغبش والسخام الذي أثاره بعض المنحرفين الضالين عن آل بيت رسول الله الطاهرين الطيبين .. ورأيت أن تكون القصة الثالثة عن ( المجاهدة الصابرة أم كلثوم بنت محمد صلى الله عليه وسلم ) والتي بدأت جهادها الميمون في حصار شعب أبي طالب مع أمها خديجة وأختها فاطمة الزهراء .. مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان هذا أول الجهاد تبعه بعد ذلك حلقات أخرى من الجهاد والهجرة مع سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت بحق المجاهدة الصابرة التي وقفت مع والدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفة مشرقة بعد وفاة أمها وبعد هجرتها إلى المدينة فكانت خير ابنة لخير أب رضي الله عنها وأرضاها .
أمر آخر دفعني و بشدة للكتابة عن المجاهدة الصابرة أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا وهو التأثر العنيف الذي كان ينتابني كلما قرأت سيرتها الطاهرة وجهادها وصبرها والمحن والشدائد التي مرت بها منذ أن خرجت من بيت أبويها إلى دار حمالة الحطب وحتى وفاتها في المدينة المنورة في حياة والدها رسول الله صلى الله عليه وسلم .. لقد وجدت في هذه الأحداث والمآسي والآلام والأحزان التي لاقتها المجاهدة الصابرة أم كلثوم بنت محمد رضي الله عنها مادة غزيرة ودروساً قيمة في الصبر والجهاد والتضحية والبذل والعطاء في سبيل الله وفي سبيل رفع راية الإسلام وراية التوحيد في ربوع الجزيرة العربية .. لقد عاشت المجاهدة الصابرة أم كلثوم بنت محمد رضي الله عنها حياة ملؤها الصعاب والأهوال والإحن ملؤها الدروس القيمة رضي الله عنها .
أمر ثالث دفعني وبشدة للبدء بكتابة هذه السلسلة القصصية عن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا وهو الهدف لتصحيح الانحراف الفكري والعقيدي الذي وصل في كثير من الأحيان إلى حد التقديس والتأليه للسيدة فاطمة الزهراء وزوجها وأبنائها الحسن والحسين عند بعض الطوائف الفاسدة المنحرفة الضالة وإهمال بقية آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الطيبين الطاهرين في حين كانت الزهراء فاطمة وزوجها أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب مثالاً للتواضع والبساطة والتقشف والبعد عن زينة الحياة الدنيا .. فكان هذا الهدف في تصحيح الإنحراف الفكري والعقيدي هو الدافع الأهم لكتابة هذه السلسلة القصصية الهادفة لأبنائنا الطلاب وللناشئين .. وهذا كله مع حبي الشديد للزهراء فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وأبنائها الكرام الأجلاء وزوجها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم وأسكنهم فسيح جناته .. ولا أريد أن بفهم من كلامي هذا أنني أتحامل على بعض آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين الطاهرين الطيبين وذلك لانتسابي إلى هذه الشجرة الطيبة فأنا منهم وهم مني ولكنني أردت أن أصحح خطأ تاريخيا أدى إلى كثير من الانحراف والضلال عند بعض الطوائف المنحرفة الضالة التي تدعى الحب لرسول الله وآل بيته فأوصلهم التطرف والغلو في كثير من الأحيان إلى الانحراف والضلال بل ربما أوصل بعض الغلاة إلى الكفر والخروج عن ملة الإسلام والعياذ بالله تعالى ..
إنني لأتطلع إلى توفيق الله وعونه للوصول إلى هذا الهدف الهام الذي لا أرجو منه إلا رضاء الله جل وعلا .. كما أرجوه جل وعلا أن تكون هذه السلسلة المبسطة الهادفة عوناً لأبناء هذه الأمة على تصحيح الفكر وتقويم المسار والعودة إلى معين الإسلام الصافـي بعد أن ران على قلوب كثير من المسلمين وأبصارهم الغبش والضباب .. وبعد أن دخلت كثير من الشبهات والافتراءات والأضاليل عقول أبناء المسلمين وأفكارهم .
وفي الختام لا يسعني إلا أن أشكر كل من ساهم في إخراج هذه القصة بهذا الشكل إلى القاريء الكريم راجياً الله جل وعلا أن يعلمنا ماينفعنا وينفعنا بما علمنا وأن ينفع بهذه السلسلة القصصية التاريخية أبناء المسلمين إنه خير مسؤول ..
محمد ماهر مكناس
ميسيساغا- كندا
في .........
المجاهدة الصابرة
أم كلثوم بنت محمد صلى الله عليه وسلم
في بيت النبوة
في مكة المكرمة وبجوار بيت الله الحرام عاش الزوجان السعيدان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صاحب الحسب والنسب والشرف الرفيع وخديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الطاهرة صاحبة الحسب والنسب والشرف الرفيع في سعادة وهناء بعد أن رزقهما الله بالمولودة الأولى زينب .. وكانت خديجة بعد ولادتها بزينب قد تجاوزت الأربعين من عمرها وكان ظن نساء قريش أن خديجة دخلت سن اليأس ولم تعد تنجب وذلك بعد ولادتها الأولى بزينب ولكن إرادة الله اقتضت أن تستمر خديجة أم المؤمنين بالحمل والولادة رغم كبر سنها ورغم تجاوزها الأربعين من العمر وذلك لتقر عين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفرح قلبه ويأنس بالأولاد والأحفاد في حياته وحياة زوجته خديجة .. ولم تمض أشهر قليلة على ولادة خديجة بزينب حتى شعرت بالحمل من جديد فكادت تطير من الفرح فها هي تنتظر ولدها الثاني رغم كبر سنها وتجاوزها الأربعين من العمر .. آثرت خديجة أن لا تخبر زوجها محمد بن عبد الله حتى يتأكد حملها .. ولما بدأت آثار الحمل تظهر عليها هرعت إلى زوجها محمد بن عبد الله تزف له البشرى بمولود جديد وهنا عمت الفرحة من جديد بيت النبوة وطار الخبر إلى نساء قريش اللواتي نشرنه في كل بطاح مكة المكرمة وأخذت الغيرة تشتد وتحتد عند نساء مكة وشوابها عندما علموا أن خديجة التي ودعت عهد الشباب قد حملت بولدها الثاني .. وتمر الأيام والشهور وقد مضى على ولادة زينب عام كامل أو يزيد حتى جاءها المخاض من جديد لتضع ولداً ذكراً وهنا عمت الفرحة أرجاء مكة كلها فهذا هو المولود الذكر لمحمد بن عبد الله وللذكر في الجاهلية معنىً آخر وكان ذلك في العام الثاني والعشرين قبل هجرة المصطفى إلى المدينة .. فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الفرح وفرحت خديجة وأغدقت العطايا والهدايا على ذوي الحاجة وأقيمت الولائم وذبحت الذبائح فلم يعد في بطاح مكة جائع أو محروم في تلك الأيام السعيدة .. وكان هذا الولد هو القاسم الذي يكنى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال له ( أبا القاسم ) حتى بعد وفاة القاسم بن محمد .. لقد خفق قلب خديجة وزوجها لهذا المولود الجديد إذ كان يتوقع له أن يكون سيداً من سادات قريش في قابل الأيام .. ولقد كانت فرحة الرسول صلى الله عليه وسلم أشد وأقوى لأن خديجة قد تزوجت سابقاً ورزقت من الأولاد فيما مضى .. أما محمد بن عبد الله فهذا هو الولد الثاني الذي وهبه الله لرسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم خاصةً وأنه جاء ولداً ذكراً ليخرس ألسنة الكفر والإلحاد التي كانت تصف الرسول بأنه أبتر لا عقب له .. وتمر الأيام ويكبر الأولاد والرسول الكريم ينظر إلى زوجته وأولاده بمنتهى الغبطة والفرح والسرور خاصة وأن زوجته قد تعدت مرحلة الشباب وتجاوزت الأربعين من عمرها .. ولقد كان من عادة أشراف مكة أن يقذفوا بأبنائهم إلى المرضعات للعناية بهم ورعايتهم فلم تنس خديجة بنت خويلد أن تهيئ أفضل المرضعات للمولود الجديد القاسم بن محمد بن عبد الله .
ولكن فرحة الأبوين الكريمين بالمولود الجديد لم تكد تكتمل حتى مرض القاسم بن محمد مرضاً شديداً حاول الوالدان كل ما في وسعهما لانتشاله من المرض إلا أن إرادة الله اقتضت ولا راد لإرادته أن تنتهي حياة القاسم بن محمد ولم يتجاوز عمره سنة واحده .. حزن الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الحزن على ولده القاسم وحزنت خديجة أشد الحزن على وليدها القاسم ولبنها الذي كانت ترضع منه القاسم لم يجف أو ينقطع حتى بعد وفاته .. ويُروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على زوجه خديجة بعد البعثة وهي تبكي ابنها القاسم فقالت يا رسول الله ( درت لبينه القاسم .. فلو كان عاش حتى يستكمل رضاعته .. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم إن : له مرضعاً في الجنة تستكمل رضاعته .. فقالت : لو أعلم ذلك لهون علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن شئت أسمعتك صوته في الجنة .. فقالت : بل أصدق الله ورسوله ) .
ومن هذه الرواية نجد أن القاسم* بن محمد بن عبد الله قد مات صغيراً قبل أن يتم رضاعته وترك في الأسرة الكريمة حزناً شديداً ما لبث أن انقشع فيما بعد.. حينما شعرت خديجة بآثار الحمل من جديد فمسحت دموعها واستبشرت خيراً وطلبت من الله جل وعلا أن يعوضها فقيدها الرضيع بولد آخر تقر به عينها وعين زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وأثناء الحمل كانت خديجة مثالاً رائعاً للأم الصابرة والزوجة المخلصة فلم يشغلها حملها ولا أولادها عن زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كانت خير زوجة لخير رجل على وجه المعمورة ولكي نعرف قدر هذه المرأة العظيمة ما روي عن الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم أنه قال بعد وفاتها : ( والله ما أبدلني الله خيراً منها .. آمنت بي حين كفر الناس .. وصدقتني إذ كذبني الناس .. وواستني بمالها إذ حرمني الناس .. ورزقني منها الله الولد دون غيرها من الناس ) وتقول الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها ( ما حسدت امرأة ما حسدت خديجة .. وما تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد ما ماتت ) .
وتمر الأيام والأسابيع والشهور والسيدة خديجة تثقل في حملها وتقترب شيئاً فشيئاً من المخاض وما إن دخلت في حملها الجديد شهرها التاسع حتى بدأت تستبشر بالمولود الجديد وتخبر زوجها بأن المولود الجديد سيأتي إلى الحياة في وقت قريب وستعم الفرحة والبهجة ربوع مكة بأثرها .. وتمضي أيام قليلة في الشهر التاسع من الحمل وتستعد خديجة بنت خويلد لاستقبال المولود الجديد .. وجاء المخاض وكانت خديجة بنت خويلد في غرفتها في الجانب الشرقي من بيت النبوة بينما كان محمد بن عبد الله في غرفته يتفكر في ملكوت السماء والأرض يتعبد ربه على عقيدة التوحيد التي تعود إلى شريعة إبراهيم عليه السلام .. ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بل طوال حياته كلها لم يسجد لصنم قط .. لقد كان محمد بن عبد الله يقف في محرابه يدعو ربه .. وينتظر اللحظة المرتقبة الحاسمة بشوق ولهفه وقلق زائد وربما خوف من المستقبل المجهول في كثير من الأحيان حتى سمع صيحة عالية من زوجته خديجة تبعها صمت طويل ثم زغاريد الحاضرين فعرف من خلال ذلك أن زوجته خديجة أنجبت مولودها الثالث .. نعم لقد سمع محمد من الغرفة المجاورة أصوات الفرح تعلوا فتيقن باكتمال الولادة وجاءته البشرى وعمه الفرح والغبطة والسرور ، وما هي إلا دقائق معدودات حتى جاءت القابلة سلمى مولاة صفية بنت عبد المطلب تحمل بين ذراعيها المولود الثالث لمحمد وكانت أنثى فحملها محمد بن عبد الله بين ذراعيه والفرحة ترتسم على وجهه والغبطة والسرور تسريان في كل جوارحه واتجه بعد ذلك إلى غرفة خديجة ليطمئن على صحتها وليبارك لها مولودها الجديد .. كانت خديجة في شبه غيبوبة من آلام المخاض والولادة ولما رأت زوجها الحبيب يقدم إليها حاملاً وليدته الجديدة .. أشاحت بوجهها قليلاً وقالت : إني وضعتها أنثى .. وليس الذكر كالأنثى خاصة في مجتمع جاهلي كان يقدس الأولاد الذكور ويحط من قدر الإناث بل ربما في بعض الأحيان يحتقر الإناث ويدفنهن وهن أحياء حتى قال قائلهم :
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا أبناؤهن أبناء الرجال الأباعد
أجل لقد أشاحت خديجة بوجهها وهي تقول لقد وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى .. هذه الكلمة قالتها امرأة عمران حين وضعت السيدة مريم أم نبي الله عيسى عليه السلام : ( قالت ربي أني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى والله أعلم بما وضعت وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) فكانت هذه الأنثى مريم بنت عمران أفضل نساء العالمين .
استبشر بيت النبوة بالمولودة الجديدة وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ( رقية بنت محمد ) فأقيمت الأفراح ونحرت الذبائح وعم البشر والسرور كل أرجاء مكة فرحاً بالمولودة الجديدة ( رقية بنت محمد ) وكان ذلك في العام الحادي والعشرين قبل الهجرة على خلاف بين المؤرخين في تاريخ ميلادها .
فرحت خديجة بمجيء المولودة الجديدة ( رقية ) وفرح معها رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة بعد وفاة ابنها القاسم حيث عوضهما الله بمولودة جديدة أزاحت عنهما شبح الحزن والأسى بفقد ابنهما القاسم .. وكانت هناك في بيت النبوة زينب أول أولاد المصطفى من زوجته خديجة وكانت في عامها الثاني تحبو وترتع وتفرح وتمرح وإن كانت لا تدري لماذا تفرح ولكن ما لبثت أن كبرت قليلاً وعرفت أن لها أختاً تصغرها بعامين أو أكثر فكانت لا تفارق أختها رقية إلا في أوقات النوم .. لقد عرفت هذه الطفلة الصغيرة معنى المحبة والأنس منذ نعومة أظفارها خاصة وأن أباها محمد بن عبد الله في شغل شاغل عنها في تفكره وتحنثه وتعبده وبدأت الأيام تمر سراعاً وتكبر زينب وأختها رقية ويزداد تعلقهما ببعض وتزداد الألفة والمودة والمحبة بين الطفلتين السعيدتين في كنف الوالدين الحبيبين .. عاشت الشقيقتان طفولة رائعة تظللها السعادة والمحبة والألفة حتى ظهرت آثار الحمل من جديد على خديجة بنت خويلد زوج الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم وثقلت في حملها ثم جاءها المخاض لتلد بعد ذلك مولوداً جديداً وكانت أيضاً أنثى فكانت الابنة الثالثة في بيت النبوة والشقيقة الثانية للحبيبة بنت الحبيب زينب بنت محمد وللمهاجرة الصابرة رقية بنت محمد فسماهـا أبوهـا (أم كلثوم) بنت محمد .. عاشت هذه المولودة الجديدة في كنف الأبوين الكريمين وفي صحبة الأختين العزيزتين أسعد حياة وأهنأ عيشة تظللهم السعادة والألفة والمحبة والمودة ولم تمض سنة أو سنتين حتى بدت آثار الحمل من جديد على خديجة مرة أخرى .. لقد كانت خديجة في سباق مع العمر فهي لم تعد صغيرة فقد تزوجت في بداية عقدها الخامس وبين الحمل والولادة والرضاعة والفطام للبنات الثلاث جعلتها تقترب من العقد السادس فإلى متى ستظل في نضارتها وإنجابها وهي تقارب الخمسين من عمرها وفي هذا الحمل بالذات كانت تتمنى لو رزقها الله بغلام ذكر قبل أن يدركها سن اليأس ولكن إرادة الله كانت غير ذلك ومشيئته كانت غير ذلك ولا راد لمشيئة الله فجاءت البنت الرابعة التي كانت أشبه ما تكـون بوالـــدها محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام والتي سماها رسول الله ( فاطمة بنت محمد ) ..
الشقيقات الأربع
اجتمع في بيت النبوة أربع شقيقات هن زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة وذلك خلال فترة لم تتجاوز عشر سنوات من عمر الزواج السعيد بين محمد بن عبد الله وخديجة بنت خويلد .. ولكن هل ظهر القنوط والتأفف على نفس خديجة أو على نفس الزوج الحبيب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ؟! .. وهل ولادة البنت الرابعة عكر عليهما صفو حياتهما في بيئة مجبولة على حب الذكور وتفضيلهم على الإناث بل في بيئة كان بعضهم يئد البنات أحياءً خشية العار في بعض الأحيان ؟! .
الحقيقة أن كلاً من خديجة وزوجها محمد صلى الله عليه وسلم كان راضيا أشد الرضا بما قسمه الله لهما وبما قدره الله من ولادة الشقيقات الأربع دون أن يرزقهما الله بولد ذكر .. وأقبل محمد عل زوجه خديجة مهنئاً بسلامة الحمل والولادة ثم استلم ابنته الرابعة ليدعوا لها ويبـارك لخديجة مـولودهـا الجديد الرابع .. عاشت الشقيقـات الأربـع زينـب ورقيـة وأم كلثـــوم وفاطمــة فـي بيت النبـوة فـي محبـة وألفـة وسعــــادة .. وترعرعن في كنف الأبوين الكريمين بل في كنف بيت النبوة ..
لقد كان رسـول الله صلـى الله عليه وسلم يتطلع إلى السماء حامداً شاكراً راضياً مستبشراً بأن الخير كل الخير فيما قسمه الله له ومـا أراده الله له ، مما زاده محبـة وحنانـاً ورحمـةً ورعايـــةً لتلك الزهـرات المتفتحات اللواتي أضفين على بيت النبوة سعادة وبشرا وحيوية ورضاء بما قسمه الله ربما لم يعرفه زوجين آخرين في الوجود .. ولم تنقطع خديجة بنت خويلد عن الحمل والولادة فهي في سباق مع العمر حتى بعد الخمسين من عمرها على غير عادة النساء في ذلك الزمان إنما بقيت في حيويتها ونشاطها وإنجابها حتى بعد الخمسين من عمرها حيث ما لبثت أن حملت وأنجبت ولدها الذكر الثاني والذي سماه الرسول صلى الله عليه وسلم ( عبد الله ) .. والذي كان يسمى بالطيب أحيانا وبالطاهر أحيانا أخرى .. ولكن أبناء الرسول صلى الله عليه وسلم الذكور لم يعيشوا طويلاً إنما وافتهم المنية ولم يتجاوزوا سن الرضاعة إلى سن الفطام وذلك لحكمة بالغة أرادها الله جل وعلا لبنيه وللمؤمنين ولدين الإسلام في مستقبل الأيام .. فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم وحزنت خديجة حزنا شديداً على وليدها عبد الله أشد الحزن .
وتفيد روايات السيرة أن القاسم قد مات في سن الرضاعة قبل البعثة أما أخوه عبد الله الملقب بالطيب والملقب بالطاهر أيضاً فقد مات في سن الرضاعة بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم. وبذلك خيم الحزن المقرون بالرضا بما قسمه الله على بيت النبوة إذ لم تطل فرحة الرسول وآل بيته بولادة الغلامين القاسم وعبد الله حتى وافتهم المنية وجاءهم قدر الله حيث استرد الأمانة التي أودعها بيت النبوة وذلك في فترة قصيرة جداً .. ولعل مما كان يسيء إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى آل بيته قالة السوء والاتهامات التي كانت ترد على ألسنة المشركين من زعماء قريش خاصة بعد بعثة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم وبدء انتشار الدعوة إلى عقيدة التوحيد ونبذ الأصنام والأوثان وعقيدة الشرك فقد نعته بعضهم بأبي البنات وأنه لا عقب له ولا ذرية من الذكور في مجتمع جاهلي لا يعترف بالذرية إلا من قبل الذكور إضافة إلى بعض النعوت و الصفات الأخرى .. إلا أن قالة السوء التي صدرت عن العاص بن وائل السهمي أحد أشراف مكة حيث قال: ( دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عقب له ولو مات لانقطع ذكره واسترحتم من أمره ) .. فأنزل الله في ذلك سورة الكوثر ( إنا أعطيناك الكوثر .. فصلِّ لربك وانحر.. إن شانئك هو الأبتر ) فانطفأ اسم العاص بن وائل السهمي انطفاءً تاماً ولم يعد أحد في الدنيا يذكره إلا في معرض الذم والسوء أما محمد بن عبد الله فقد عم اسمه بلاد العالم بأثره وأصبح معروفاً على كل لسان في الماضي والحاضر وحتى تقوم الساعة .
ومهما يكن من أمر ومهما بلغت دعاوى المشركين وأقوالهم واتهاماتهم فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمن أشد الإيمان ويثق أكبر الثقة بأن الله بالغ أمره وناصر رسوله .. ومخلدٌ دعوته حتى يرث الله الأرض ومن عليها .. وقدر الله سيأتي ودعوة الله سيتم أمرها وتنتشر عبر المكان والزمان دونما حاجة إلى أولاد ذكور يحملون هذه الدعوة من بعده كما كان يظن سفهاء قريش وكبراؤها في الجاهلية .. وهكذا كانت إرادة الله حيث انتشرت دعوة الإسلام لتعم الأرض كل الأرض وتنتشر في جميع بلاد الله الواسعة ويصبح عدد المسلمين يزيد على ثلث سكان الأرض قاطبة. وبذلك كان الأبتر هو العاص بن وائل الذي انقطع ذكره وانقطع أثره عبر التاريخ وصدق الله تعالى " إن شانئك هو الأبتر".
ولقد ظل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حتى آخر حياته يتوق إلى ولد ذكر ويلتمس في ذلك الوسيلة حتى إذا وهبه الله على الكبر غلاماً من زوجه مارية القبطية امتلأت نفسه غبطة وامتلأ بيت النبوة فرحا بقدوم إبراهيم الذي كان آخر أولاده ولكن إرادة الله الذي أعطى قدرت استرجاع الأمانة لحكمة بالغة وإرادة حكيمة فلم يلبث إبراهيم في حضن الأبوين السعيدين سوى عامين أو تزيد حتى قبضه الله إليه وهو لم يتجاوز العام الثالث من حياته فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم وحزن آل بيته الطيبين الطاهرين لفقد إبراهيم أشد الحزن فلم يكتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألمه ولم يملك دموعه فبكى طفله الأخير إبراهيم وهو قانع مستسلم لقضاء الله وقدره الذي شاء لحكمة عظيمة سامية ألا يكون لنبيه المصطفى خلفة من الذكور فقال بقلب مليء باللوعة والأسى: " إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون لا نقول ما يغضب الرب" ..
وهنا أريد أن أنوه إلى أن الحزن وفق المعايير الشرعية المستنبطة من السنة النبوية الشريفة أمر جائز شرعاً ولكن ضمن الضوابط الشرعية فلا يجوز لطم الوجوه أو دق الصدور ولا يجوز العويل والصراخ ولا يجوز تمزيق الثياب ولا تجوز تلك الطقوس الدخيلة على الإسلام والتي يتبعها بعض المبتدعين المنحرفين ممن يدعون حب الرسول أو حب آل بيته الطيبين الطاهرين ادعاءً كاذباً خارجاً عن تعاليم السنة النبوية المطهرة كما أريد أن أنوه إلى أن إطلاق كلمة ( لا تحزن ) بصورة عامة حتى يظن الناس أن الحزن حرام أو أمر معيب فهذا أيضاً أمر مخالف لسنة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي يظهر حزنه عليه الصلاة والسلام بشكل واضح وصريح وذلك بقوله ( إن العين لتدمع وإن القلب ليخشع وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزنون ) .. يجب أن يكون في معلوم أبناء الأمة الإسلامية أن الحزن طبيعة بشرية ميز الله بها بني آدم عن سائر المخلوقات فإطلاق كلمة ( لا تحزن ) بشكلها العام أمر خاطئ ومخالف للسنة النبوية المطهرة .
عاشت المجاهدة الصابرة أم كلثوم بنت محمد رضي الله عنها مع أخواتها زينب ورقية وفاطمة قبل النبوة حيث استمرت حياتهن في أنس وسعادة إلى ما بعد الهجرة حيث توفيت بناته الثلاث زينب ورقية وأم كلثوم في حياة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم ولم يبق له من الولد حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى إلا ابنته الزهراء فاطمة رضي الله عنهم جميعا .. لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم أعظم أب في التاريخ أحب أبناءه بقوة وحنى عليهم بصدق وفارقهم بلوعة وحزن وأسى منقطع النظير ولكنه وهو النبي المرسل من رب السماء والأرضين لم ينس لحظة واحدة أن الله هو الذي أعطى وأن الله هو الذي أخذ وأنه يحتسب كل المصائب والإحن والأحزان عند الله جل وعلا ,, فلم يجزع ولم يدق الصدر ولم يمزق الثياب ولم يقم بطقوس للحزن جاهلية مبتدعة كما يفعل الكثيرون من المنحرفين والمخالفين والضالين والخارجين عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما احتسب كل مصائبه بصبر وأناة عند رب لا يغفل ولا ينسى .. لقد مات القاسم ومات الطيب وهما لم يتجاوزا سن الرضاعة ومات إبراهيم فيما بعد وهو لم يتجاوز عامه الثالث وماتت خديجة فيما مضى من الأيام ومات عمه أبو طالب وجده عبد المطلب والرسول الكريم صابر محتسب وماتت بناته زينب ورقية وأم كلثوم والنبي الكريم حزين صابر محتسب .. وآذاه المشركون أيما إيذاء وهو صابر محتسب يحتسب كل هذه المصاعب والمآسي والآلام عند رب كريم لا يضيع عنده مثقال ذرة في السماوات والأرض .
وهكذا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تربى وسط الشدائد والمصائب والمحن والأحزان فكانت هذه الشدائد والمصائب والمحن دروساً واجهها بالصبر في الشدائد والرضى بما قسمه الله له والتسليم بقضاء الله وقدره والتعالي على هموم الدنيا ومصائبها وأحزانها وزينتها كيف لا وأن هذه الدروس وغيرها هي زاده في طريق الدعوة إلى الله وتبليغ رسالة السماء إلى الناس كافة .
ولعل من المفيد هنا ونحن نتحدث عن أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبناته أن نرد على شبهة المنحرفين في أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب فاطمة الابنة الصغرى ويفضلها على بقية بناته وبالتالي بنو على هذه الفكرة الباطلة أفكاراً وأوهاماً وانحرافات ما أنزل الله بها من سلطان معتقدين أن الخلافة والإمامة يجب أن تكون في نسل فاطمة من علي رضي الله عنهم أجمعين دون غيرهم .. ونحن نحب فاطمة ونحب علياً ونحب أحفاد النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين ونحب أئمة الإسلام المؤمنين الطاهرين الطيبين ولكننا في الوقت ذاته لا نفرق بين واحد منهم ولا نقدس أحداً منهم كلهم عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما .. نعم إن هذه الأفكار المنحرفة هي التي فرقت الأمة الإسلامية وهي التي ابتدعت في دين الله طقوساً ومبادئ وانحرافات عن دين الله ما أنزل الله بها من سلطان .. الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان يحب جميع أولاده ولئن كان حب فاطمة أكثر فهو لأنها أصغر البنات ولأنها الوحيدة التي بقيت حتى آخر حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ولأنها وأختها زينب أنجبتا وبقي نسلهما حتى بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن فاطمة هي الوحيدة من بناته التي عاشت حياة الفقر والحرمان ولم تتمتع بزينة الحياة الدنيا فقد عاشت جل حياتها مع الفقر والرحمان .. وليس لفضل خاص بها يبنى عليه مثل هذه الانحرافات ولعل أصدق ما نرد به على هؤلاء المنحرفين الضالين قول الرسول صلى الله عليه وسلم في موضوع المرأة المخزومية التي سرقت : ( والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) .. لا محاباة في الإسلام ولا تفريق في حب رسول الله لأبنائه فكلهم من أل بيته المؤمنين الطاهرين الطيبين .
وهكذا عاشت الشقيقات الأربع في بيت النبوة في أكرم بيت على وجه الأرض من سلالة عريقة ونسب شريف أصيل لم تعرف الدنيا أعز منه ولا أشرف .. عاشت الشقيقات الأربع في بيت كريم معطاء لم تحظ به لداتهن من المجتمع القرشي في مكة المكرمة .. فكانت كل واحدة منهن تمثل زهرة متفتحة وثمرة طيبة لزواج طاهر عفيف سعيد قام على الحب والسكينة والمودة والرحمة .. فكنَّ قرة عينه عليه الصلاة والسلام وكنَّ أنسه وسكينته بعدما ذاق في طفولته من اليتم وما قاسى في فتوته من الحرمان وما لاقاه في شبابه من المصاعب والأهوال وأحداث الزمان .. لقد عاشت الشقيقات الأربع في طفولة سعيدة ناعمة بعيدة كل البعد عن الخشونة وشظف العيش والفقر والحرمان كيف لا وأمهن خديجة بنت خويلد المرأة الثرية التاجرة التي كانت تسير القوافل بتجارتها في رحلة الشتاء والصيف إلى بلاد اليمن وبلاد الشام .. ولكن خديجة تركت الدنيا وما فيها تركت المال والتجارة وتفرغت لزوجها وأولادها وأقبلت بكل طاقتها ترعى بيت النبوة كأحسن ما تكون الرعاية فكان كل جهدها منصب على رعاية هذا البيت الكريم وهذه الأسرة السعيدة الطيبة الطاهرة .. وهكذا عاشت الشقيقات الأربع في كنف الأم الحنون والأب الطيب الكريم وترعرعن في المنبت الطيب الطاهر .. وعلى الرغم من وجود الخدم والموالي فإن السيدة خديجة رضي الله عنها كانت تتولى بنفسها مهمة تربية بناتها لتعدهن للمستقبل المنشود ..
شبت المجاهدة الصابرة أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبحت في عون أمها خديجة التي جاوزت الخمسين فما كان منها ومن أختها رقية بعد أن تزوجت أختهما الكبرى زينب إلا أن تحملا مع أمهما أعباء البيت ومسؤولية العناية بأخواتها وخاصة الصغيرة فاطمة الزهراء .. مما زاد أواصر المحبة والألفة بين الشقيقات الأربع في بيت النبوة .. فكن شقيقات رفيقات يجمعهن الملعب المشترك والفراش الواحد والغرفة الواحدة والطباع المتشابهة والمزاج النابه الأصيل فكانت حياتهن رفيهة هنية حتى أصبحت زينب ورقية بنتا رسول صلى الله عليه وسلم عروسان متفتحتان واعيتان ذواتا أصل شريف وحسب ونسب فكانتا محط أنظار العرسان من أشراف قريش ولم يدر بخلد المجاهدة الصابرة أم كلثوم بنت محمد رضي الله عنها أنها ستنتقل إلى بيت الزوجية مع أختها رقية التي تكبرها بسنتين في يوم واحد ..
********
خطوبة مفاجئه
ما كادت زينب بنت محمد تزف إلى ابن خالتها أبو العاص بن الربيع وهي في ربيعها العاشر أو يزيد حتى طار عقل الهاشميين .. فهم يعتبرون أنفسهم أحق من بني أسد في بنات محمد رغم أن أبا العاص بن الربيع لا يقل عن الهاشميين أصلاً وحسباً ونسباً وشرفاً إضافة إلى أنه كان من أغنياء قريش وتجارها ولكن العادات والتقاليد الجاهلية كانت تقتضي أن تزوج الفتاة من أبناء عمومتها الأقربين ومن قبيلتها وعشيرتها خاصة وأن زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم كانت في قمة الشرف والأصل والحسب والنسب والجمال .. كانت هاشمية قرشية يمتد نسبها إلى عدنان حتى يصل إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام .. ولكن أسكتهم أن صاحب الحظ السعيد أبو العاص بن الربيع كان ابن أخت خديجة بنت خويلد الأسدية حبيبة محمد بن عبد الله .. وأصبحوا يشاورون على بنات محمد الأخريات رقية وأم كلثوم وفاطمة وهن لم يتجاوزن سن الطفولة إلى سن الفتوة والشباب .
كانت أم كلثوم عند زواج أختها زينب تزهو بربيعها الثامن أو التاسع وكان أختها رقية تكبرها بثلاث سنوات تقريباً على اختلاف بسيط بين المؤرخين .. ما إن بلغت رقية الحادية عشرة حتى بدأت أنظار أبناء قريش تحوم حولها لئلا تفلت من أيديهم فتزف إلى عريس آخر لا يمت إلى القرابة الهاشمية بصلة .. أما أم كلثوم فقد كانت عندها قناعة تامة أن الدور قد جاء على شقيقتها رقية وأنها لم تزل صغيرة على الزواج ولم يدر في فكرها في لحظة من اللحظات أن بني هاشم سيطلبونها عروساً هاشمية مع أختها رقية في يوم واحد .
كانت رقية تنمو وتكبر وتزداد أنوثة ونضارةً وجمالاً ودلالاً إضافة إلى ما تمثله من الأصل والشرف والحسب والنسب .. كانت تشارك أمها التي تجاوزت الخمسين أعباء الأسرة ومسئولية البيت مما طبع شخصيتها بطابع الجد وتحمل المسئولية .. فأصبحت فتاة ناضجة واعية وهي لم تتعد مدارج الطفولة إلى سن الفتوة والصبا والشباب فهي في تلك الفترة من حياتها لم تتعد الحادية عشر من عمرها ، أما أم كلثوم فكانت أقرب إلى الطفولة منها للصبا والشباب فهي لم تتعد الثامنة إلى التاسعة من عمرها ولكن خوف أشراف مكة من بني هاشم من أن تضيع منهم فرصة ثمينة لا تعوض في خطبة بنات محمد بن عبد الله بعد أن ضاعت منهم زينب فقد عجلوا إلى بيت محمد بن عبد الله وعلى رأسهم شيخ قريش أبو طالب بن عبد المطلب وحمزة بن عبد المطلب وعبد العزى بن عبد المطلب والد العروسين الهاشميين عتبة وعتيبة .
بعد زواج زينب بنت محمد بوقت قصير استقبل البيت المحمدي وفداً من آل عبد المطلب جاءوا يتلمسون مصاهرة ابن عمهم الأمين محمد بن عبد الله فقد خافوا أن يسبقهم إلى ذلك كفء كريم من شباب قريش .. كانت الشقيقتان الهاشميتان لا تزالان صغيرتين على الزواج وتحمل أعباء الزواج .. ولكن عندما طرق الباب وعلمت البنات أن وفد بني هاشم وعلى رأسهم أبو طالب بن عبد المطلب قد جاء لزيارة محمد بن عبد الله فخفق قلب الفتاتين الصغيرتين رقية وأم كلثوم وعلمتا أن الضيوف لم يأتوا إلا لأمر جلل .. فهم لا شك قادمون لخطبة رقية بنت محمد .. وجرى بين الفتاتين حوار هادئ :
أم كلثوم : أظن أنه جاء دورك يا رقيه ..
رقـيـــــــــــــة : ولكني لا أزال صغيرة على الزواج يا أختي الحبيبة .
أم كلثوم : ولكن شيخ قريش أبو طالب لا يمكن أن يقدم إلينا إلا لأمر جلل .
رقـيـــــــــــــة : ربما .. ولكني لا أزال صغيرة يا أختي الحبيبة .
أم كلثوم : لا عليك .. فلابد وأن نعلم بالخبر الأكيد بعد قليل .
دخلت عليهم والدتهم خديجة بنت خويلد وطلبت منهم المساعدة في إعداد واجب الضيافة لشيوخ بني هاشم وعلى رأسهم أبو طالب بن عبد المطلب فخفتا لمساعدة والدتهما .
كانت فاطمة بنت محمد تجلس في حجر والدها أثناء قدوم شيوخ بني هاشم ونظراً لصغرها فقد آثرت أن لا تفارق والدها بل بقيت تستمع لما يدور بينهم من حديث فسمعت شيخهم أبا طالب بن عبد المطلب يقول لوالدها ..
أبو طـالب : انك يا بن أخي قد زوجت ابنتك زينب أبا العاص بن الربيع وإنه لنعم الصهر شرفاً وحسباً ونسباً غير أن بني عمك لهم عليك مثل ما لابن أخت خديجة وليسوا دونه شرفاً وحسباً ونسباً .
فأجابهم محمد : ( صدقت يا عم .. ) .
أبو طـالب : ولقد جئناك نخطب ابنتينا رقية وأم كلثوم .. وما أظن أنك تضن بهما على ابني عمك .
كانت كلمة الشيخ أبو طالب مفاجأة محيرة لكل الحاضرين وخاصة للوالد الرحيم محمد بن عبد الله ذلك لأن رقية لم تتجاوز ر بيعها العاشر بينما أم كلثوم لم تتجاوز الثامنة من عمرها .. إنهما صغيرتان على الزواج .. صغيرتان على تحمل مسؤولية الزواج والبيت .. تفلتت فاطمة من حجر أبيها وهرعت تزف الخبر إلى أمها وأختيها وعندما دخلت غرفة الأختين سمعتهما تتحاوران ..
أم كلثوم : أنا أؤكد لك أن الشيخ أبا طالب جاء لخطبتك ..
رقـيـــــــــــــة : لا أظن ذلك فهو يعلم أنني لا أزال صغيرة على الزواج .
أم كلثوم : بل أؤكد على ذلك فأختنا زينب تزوجت ولم تتجاوز اثني عشر ربيعاً يوم زواجها .
وهنا دخلت فاطمة الصغيرة لتلقي بنفسها في حجر أختها رقية وتقول بشيء من الدلع المحبب ..
فـــاطمــــــة : عندي لكم الخبر اليقين ..
أم كلثوم : ماذا ..؟! خطبة رقية ..
فـــاطمــــــة : بشيء من الدلع والدهاء .. بل خطبتكما معاً ...
أم كلثوم : ماذا تقولين يا فاطمة ؟! .
فـــاطمــــــة : أجل خطبتكما معاً .. فلقد سمعت الشيخ أبا طالب يقول : ( وجئناك نخطب ابنتينا رقية وأم كلثوم ) .
رقـيـــــــــــــة : باستغراب وذهول .. رقية وأم كلثوم ؟! إننا لا نزال صغيرتان على الزواج.
أم كلثوم : أبهذه السرعة نتخطف من بيت والدينا ؟! .
رقـيـــــــــــــة : ولكن من هو صاحب الحظ السعيد يا فاطمة ؟!.
فـــاطمــــــة : تمط شفتيها متجاهلة .. لا أعرف هذا ما سمعته من الشيخ أبي طالب ولم أصبر حتى أسمع بقية الخبر بل هرعت إليكما لأزف لكما البشرى .
أم كلثوم : إنني صغيرة .. لا أزال صغيرة يا أختاي .
فـــاطمــــــة : أنا لا أريد الزواج .. سأظل عند أبي وأمي .
رقـيـــــــــــــة : تبتسم .. ليس هذا الأمر بيدك أو بيدي ..
أم كلثوم : لا بد لك من الزواج .. فهذه سنة الحياة .
فـــاطمــــــة : بل سأظل في حضن والديَّ ولن أتركهما أبداً .
رقـيـــــــــــــة : ( تضحك ) .. لا تزالين صغيرة على هذا الأمر يا حبيبتي .
وجمت الأختان الحبيبتان رقية وأم كلثوم لهذا الخبر المفاجئ الذي وقع عليهما كالصاعقة .. مفاجأة غير متوقعة وخيم على جو الغرفة صمت رهيب ووجوم شديد وراحت رقية وأم كلثوم تتبادلان النظرات الواجمة التي توحي بألف سؤال دون أي جواب ..
-لماذا التعجل في الزواج .. ؟ .
-ألسنا صغيرتين على الزواج .. ؟ .
-هل أستطيع حمل مسئولية الزواج والبيت .. ؟ .
-هل أستطيع فراق والدي الحبيبين .. ؟ .
-هل سيوافق أبوهما على هذه الخطبة المفاجئة .. ؟ .
ولفهما صمت ووجوم خيم على جو الغرفة .. كما أصاب الأختين الحبيبتين رقية وأم كلثوم شيء من الحيرة والخوف من المستقبل المجهول .. خاصة وأنهما لا تعلمان من هما العريسان القادمان وما هو طبيعة البيت الجديد الذي ستنتقلان إليه .. وهنا سمعت صوت والدتهما تناديهما لإعداد واجب الضيافة من المأكل والمشرب للضيوف من أشراف قريش .
أما فاطمة بنت محمد الصغيرة فقد أطرقت وهي وحيدة في الغرفة بعد أن هرعت أختاها لمساعدة أمهما في إعداد الضيافة لشيوخ بين هاشم .. أطرقت ساهمة تفكر فيما يحدث لهذا البيت السعيد .. لقد انتزعت زينب من هذا البيت منذ شهور .. وتركت في قلوب الأسرة الكريمة الوحشة والحزن وألم الفراق وعما قريب سيعود نفس المشهد القاسي من جديد حيث تفارق أختاها رقية وأم كلثوم وسوف يخيم على البيت من جديد أطياف الوحشة والحزن وألم الفراق .. بل هذه المرة سيكون الفراق أقسى والألم أشد ذلك لأن فاطمة الصغيرة ستبقى وحيدة فريدة في بيت النبوة لا أنيس لها ولا جليس فأخذت تبكي ألم الفراق قبل أن يحل الفراق وتندب حظها ووحدتها قبل أن تعيش هذه الوحدة .. لقد استطاعت فاطمة أن تعيش هذا الجو القاسي الأليم في خيالها قبل أن يتحقق في عالم الواقع .. أجل لقد بكت الصغيرة المدللة فاطمة وحق لها أن تبكي حين فقدت صحبة أختها زينب الكبرى وبكت أكثر وأكثر حين استشعرت فراق أختيها رقية وأم كلثوم وقد أزف وقت رحيلهما معاً حيث ستبقى وحيدة في بيت النبوة تكابد ألم الوحدة وقسوة الفراق وفي هذه الأثناء دخلت الوالدة الحنون خديجة بنت خويلد لتضم صغيرتها إلى قلبها وتمسح دموعها وتسألها وهي تعلم ما يبكيها ..
خـــديجــــة : ما يبكيك يا حبيبتي فاطمة .. ؟.
فـــاطمــــــة : لا شيء يا أماه .. لا شيء .
خـــديجــــة : بل هناك أشياء يا صغيرتي .. أخبريني يا فاطمة ما الذي يبكيك ..
فـــاطمــــــة : لقد أزفت لحظة الفراق يا أماه ..
خـــديجــــة : الفراق ... ؟! .
فـــاطمــــــة : أجل يا أمي الحبيبة .
خـــديجــــة : ماذا تقصدين يا فاطمة ؟ !.
فـــاطمــــــة : لقد ودعنا زينب منـــذ شهــــــور إلى بيت زوجهـــا والآن .. ( تغلبها غصة قوية ثم موجة من البكاء الشديد ) ..
خـــديجــــة : والآن ماذا يا فاطمة ؟! .
فـــاطمــــــة : والآن جاء دور رقية وأم كلثوم دفعة واحدة ..
خـــديجــــة : ولكن زينب سعيدة في بيت زوجها وستكون رقية وأم كلثوم أيضاً سعيدتان في بيت زوجيهما أيضاً ..
فـــاطمــــــة : ولكني لست سعيدة بهذا الزواج .. سأظل وحيدة هنا يا أماه ..
خـــديجــــة : هذه سنة الكون يا بنيتي كل الفتيات مصيرهن إلى الزواج .
فـــاطمــــــة : ولكني لا أريد أن أغادر هذا البيت أبداً يا أماه .
خـــديجــــة : قلت لك هذه سنة الحياة غداً ستكبرين وستكونين عروساً محل أنظار أشراف قريش ..
فـــاطمــــــة : ( وهي تبكي ) .. لا يا أماه .. لا أريد أن أكون عروساً .. لا أريد أن ينتزعني أحد منك ومن أبي ..
خـــديجــــة : لا شك أنك عندما تكبرين ستغيرين رأيك .
فـــاطمــــــة : بشيء من العصبية والإصرار بل أريد أن أظل بقربكما فلست أطيق فراقكما .
خـــديجــــة : ( تبسمت ) .. أجل يا صغيرتي لن تتركينا حتى تريدي أنت .
فـــاطمــــــة : ( بعفوية وطفولية ) إنني لا أريد فراقكما أبداً يا أمـاه .
خـــديجــــة : هكذا كنا نقول في سالف الأيام ولكن الأيام غيرت أفكارنا ولا بد أن تغير أفكارك يا صغيرتي عندما يحين الأوان .
جلست خديجة بنت خويلد فهرعت إليها فاطمة لتجلس في حجرها وتعانقها عناقاً حانياً ثم أسيلت جفنيها تفكر وتسرح في حالها وعادت بها الذكرى إلى أيام طفولتها حيث كانت تنصرف بنفس الطريقة التي تراها في ابنتها فاطمة طريقة طفولية ساذجة بريئة .. عادت رقية وأم كلثوم بعد قيامهما بإعداد الضيافة لشيوخ بني هاشم وجلستا مع أمهما وفاطمة .. وساد جو الغرفة شيء من الصمت الرهيب والمفاجأة التي لم تكن بالحسبان وخجلت العروسان من سؤال أمهما عن العريسين الهاشميين القادمين بهذا الشكل المفاجئ ولكن الصغيرة فاطمة كانت أكثر جرأة منهما فسألت أمها .. وكأن الأمر لا يعنيها من قريب أو بعيد ..
فـــاطمــــــة : يا أماه هل علمت سبب مجيء الشيخ أبو طالب مع شيوخ بني هاشم إلينا اليوم ؟ .
خـــديجــــة : طبعاً يا بنيتي .. وهل يخفى علي ما يسعون إليه ..
فـــاطمــــــة : ولكن كيف علمت بالخبر وأنا لم أخبرك بذلك .
خـــديجــــة : من يوم خطبة أختك زينب وشيوخ بني هاشم لا يقر لهم قرار ..
رقـيـــــــــــــة : ولكنك لم تخبرينا كي نعد أنفسنا لهذا الأمر ولا تصدمنا المفاجأة ..
خـــديجــــة : لم أرد أن أشغل بالكما حتى يتأكد هذا الأمر .. خاصة وأنكما لا تزالان صغيرتان على الزواج .
أم كلثوم : والآن يا أمي ؟.
خـــديجــــة : الآن قد تأكد ظني وجاء شيوخ بني هاشم لخطبتكما .
فـــاطمــــــة : ومن يكون الخاطبان يا أماه ؟! .
خـــديجــــة : لا أعلم بالضبط ولكن ....
رقـيـــــــــــــة : أكملي لماذا توقفت عن الكلام يا أماه .
خـــديجــــة : أظن أنهما عتبة وعتيبة أبناء العم عبد العزى فهما أكثر فتيان قريش حسباً ونسباً وغنىً .
أم كلثوم : ولكن يا أماه ... ؟.
خـــديجــــة : ماذا يا بنيتي .. هل هناك من أمر .. ؟ .
أم كلثوم : ولكن أمهما ..
رقـيـــــــــــــة : أجل أمهما ...
خـــديجــــة : أم جميل بنت حرب ..
رقـيـــــــــــــة : أجل أم جميل ..
خـــديجــــة : وماذا بها يا بنيتي ؟! .
رقـيـــــــــــــة : امرأة شديدة قاسية ..
أم كلثوم : سليطة اللسان يا أماه ..
خـــديجــــة : إنها من أصل شريف ونسب أصيل ولا شك أنها ستفرح بكما عروسان هاشميتان لابنيها ..
رقـيـــــــــــــة : أرجو أن لا يكون ذلك يا أماه ..
أم كلثوم : ألا يوجد في الهاشميين غير أولاد أم جميل بنت حرب ..
وهنا أشفقت خديجة على ابنتيها الصغيرتين وتمنت من قلبها أن لا يكونا أبناء أم جميل بنت حرب ذلك لأن خديجة أعرف الناس بأم جميل وفظاظتها وطول لسانها ولكنها كتمت هذا الأمر بنفسها لأنها لا تستطيع أن ترد طلب الشيخ أبي طالب الذي يعتبر الرجل الأول ليس على الهاشميين وحدهم ولكن على قريش والقبائل العربية كلها وهنا بدأت الدموع تتساقط من عينها شفقةً وحزناً على الزهرتين المتفتحتين الناعمتين رقية وأم كلثوم أن تقعا تحت تسلط أم جميل زوجة العم عبد العزى .
رقـيـــــــــــــة : ما بك يا أماه ؟ .
خـــديجــــة : لا شيء .. يا ابنتي ...
رقـيـــــــــــــة : وهذه الدموع ..
خـــديجــــة : تذكرت يوم فراق أختك زينب والآن أعد نفسي لفراق أصعب وأمر ..
رقـيـــــــــــــة : أصعب وأمر ؟! .
خـــديجــــة : أجل يا بنيتي ..
رقـيـــــــــــــة : ولماذا أصعب وأمر ؟! .
خـــديجــــة : لأنني الآن سأفارق ثلاثة بنات دفعة واحدة .
أم كلثوم : وهل هناك شيء آخر يا أماه ؟ .
خـــديجــــة : أجل يا بنيتي ..
أم كلثوم : ولا تريدين اطلاعنا عليه ..
خـــديجــــة : لا يا بنيتي .. ولكني فارقت زينب إلى بيت خالتها وابن خالتها وهم كما تعلمون من دماثة الأخلاق والطيبة وحسن المعشر .. وأنا مطمئنة عليها كما لو كانت عندنا ..
رقـيـــــــــــــة : وماذا بعد يا أماه ؟ .
خـــديجــــة : أما أم جميل بنت حرب فلا اعلم عنها إلا شراسة الطبع وسلاطة اللسان وسوء الخلق ..
رقـيـــــــــــــة : وماذا عن أبنائها عتبة وعتيبة ؟ .
خـــديجــــة : هما زينة فتيان بني هاشم ولا يعيبان بشيء .
رقـيـــــــــــــة : إذن مالنا وأم جميل بنت حرب مادام العريسان كما تصفين ؟!.
خـــديجــــة : لا شيء إنما أخشى أن تؤثر عليهما أو تقسو عليكما ولا يستطيعان ردها عما تقول أو تفعل فهي امرأة متسلطة على زوجها وأولادها .
رقـيـــــــــــــة : ولكننا لم نتأكد من ذلك .
أم كلثوم : لندع هذا الأمر حتى تستقر الأمور على شيء ثابت ومحدد .
فـــاطمــــــة : أذهب إلى غرفة والدي أجلس في حجره وأستطلع لكم الخبر ..
خـــديجــــة : لا حاجة لذلك فوالدك لن يقطع أمراً قبل أن يستشيرنا وخاصة العروسان رقية وأم كلثوم .
وهنا يظهر محمد بن عبد الله قادم من غرفته يدخل على زوجته وبناته بوجهه البشوش ليعلن للعائلة الكريمة عن الخاطبين الهاشميين عتبة وعتيبة ابنا العم عبد العزى .. وهنا أحست خديجة بنت خويلد بانقباض شديد من هذا الخبر رغم أنها لا تستطيع رفض مثل هذا الطلب الذي ربما فرق الأهل والعشيرة وأثار غضب الهاشميين عليها وهنا ما كان من خديجة إلا أن وافقت زوجها على خطوبة ابنتيها وتبعتها ابنتاها رقية وأم كلثوم بالموافقة على هذه الخطوبة رغم ما كانتا تضمرانه من خوف وحذر وترقب .
وهنا قعدت السيدة خديجة وحيدة في غرفتها بعد موافقتها على هذا القرار الصعب تفكر وقد شعرت بانقباض شديد لا تدري له سبباً سوى أنها لا تستريح إلى أم جميل بنت حرب بن أمية بن عبد شمس زوجة العم عبد العزى بن عبد المطلب ذلك لما فيها من صلف أحمق وطيش أهوج وشراسة في الطباع وحدة في اللسان فهي صورة لا مثيل لها في الشريفات القرشيات اللواتي يتميزن بدماثة الأخلاق وحسن المعشر والاتزان والهيبة والوقار .. لذلك فقد أشفقت السيدة خديجة على ابنتيها الصغيرتين اللتين لا تزالان ترتعان في مراتع الطفولة .. خشيت أن تكون قد تسرعت وزوجها بإعطاء الموافقة على هذا الزواج غير المتكافئ والذي جاء بشكل مفاجئ بعيداً عن كل التوقعات .. خشيت خديجة على ابنتيها من معاشرة تلك الزهرتين المتفتحتين لأم جميل بنت حرب وبما تتصف به ولكنها رغم كل ذلك وافقت زوجها فما هي بالزوجة التي تفرق بين الأهل والأقارب والعمومة والعشيرة لقد همت خديجة أكثر من مرة أن تفضي إلى زوجها بما يعتلج في ضميرها من شكوك ومخاوف إلا أن محمد بن عبد الله كان في شغل شاغل عن أمور الدنيا كلها إنه منقطع في غرفته يتعبد ويتحنث وينتظر أمراً جللاً لا يعرف كنهه ومداه إلا الله رب العالمين .. عندها تراجعت خديجة عن رأيها لتترك الأمور تسير فالله معهم ولن يضيعهم وهو فوق كل العباد ونعم بالله .
جلست العروسان الهاشميتان في الغرفة المجاورة بعد أن خرجت خديجة تتجاذبان أطراف الحديث وقفت الصغيرة المدللة فاطمة ترقبهما عن بعد في شيء من الحيرة والترقب ذلك لأن الأمر لم يكن كما عهدت أثناء خطبة أختها الكبرى زينب .. فالأمر اليوم يختلف تماماً عما شاهدته من أختها زينب يوم إعلان خطبتها لابن خالتها أبي العاص بن الربيع لقد كانت زينب بادية البشر والإشراق ... كانت الابتسامة المشرقة لا تغادر ثغرها .. كانت تستعد للفرح في غبطة وسرور رغم حيائها .. أما رقية وأم كلثوم فقد علا وجههما الاكتئاب والقلق والوجوم ولم تستطع فاطمة الصغيرة أن تميز في ذلك الوقت بين زواج قام على الألفة والمودة والرحمة والتعاطف وزواج آخر تعقده أوامر القربى والعشيرة وهنا همست رقية إلى أختها أم كلثوم .
رقـيـــــــــــــة : ما بال الأسرة تتعجل زواجنا ..
أم كلثوم : أليس من الضروري أن نأخذ فرصة للتعرف على البيت الجديد والأسرة الجديدة .
رقـيـــــــــــــة : وقد التفتت إلى أختها تسألها باهتمام زائد .. إنك تعلمين أن أبانا لن يقضي هذا الأمر دون موافقتنا فماذا أنت فاعلة يا أم كلثوم .
أم كلثوم : لست بالتي تعق أباها فتعرضه للحرج أمام أهله وعشيرته وخاصة أعمامه شيوخ بني هاشم ..
رقـيـــــــــــــة : ولكن كيف لنا أن نعيش مع أم جميل ؟! .
أم كلثوم : لا عليك يا أختاه فسنكون معاً على أم جميل إن هي أساءت لنا ..
رقـيـــــــــــــة : تبتسم في وجه أختها وتقول .. أجل سنكون معاً على أم جميل إن هي أساءت لنا ..
*******
العروسان الهاشميتان
انتشر خبر خطوبة عتبة وعتيبة ابنا العم عبد العزى للعروسين الهاشميتين رقية وأم كلثوم بنتا محمد بن عبد الله في جميع أرجاء مكة .. وتلقت القبائل هذا الخبر بالفرح والرضا تارة وبالسخط والحقد تارة وبالغيرة والحسد تارة أخرى وكان فتيان قريش يتسابقون للتقرب من هذا النسب الشريف ولكن ضاعت منهم رقية وأم كلثوم كما ضاعت أختها زينب بنت محمد من قبل .. لقد تفاجأ الجميع لهذا الحدث الهام خاصة وأن رقية وأم كلثوم لا تزالان أقرب إلى الطفولة منهما إلى الفتوة والصبا .. وحسماً للموقف وإسكاناً للقيل والقال فقد آثر العريسان يدفعهما أبويهما عبد العزى وأمهما أم جميل بنت حرب للإسراع في هذا الزواج الميمون .. كان عتبة وعتيبة زينة فتيان قريش وشبابها شرفاً وخلقاً وثراءً إضافة إلى ما يتميزان به من جمال المنظر وأناقة المظهر ودماثة الأخلاق وحسن المعشر .
تهيأ البيت المحمدي لهذه المناسبة السعيدة خاصة وأن أم جميل أرادات أن تكون فرحتها بزواج ابنيها عتبة وعتيبة حدثاً هاماً لم تسمع القبائل العربية مثله خاصة وأن العم عبد العزى كان من أصحاب المال والتجارة والثراء .. وانتقلت الفرحة العارمة إلى البيت المحمدي فامتلأ البيت غبطة وفرحاً وسروراً وحركةً وضجيجاً حيث كان من عادة أشراف العرب إحداث مثل هذا الصخب والأهازيج عند إعداد العروس وزفها إلى بيتها الجديد .. بعث محمد بن عبد الله ليجهز ابنتيه بأزكى العطور وأنفس الألبسة الحريرية وبعثت خديجة بنت خويلد إلى التجار ليأتوها بأفخر ما لديهم من بضائع فارس وبلاد الشام واليمن من ألبسة ومتاع وحلي وزينة تليق بالعروسين الهاشميتين ، أما العم عبد العزى والد العريسين فقد فتح بيته في مكة للزوار الوافدين والمهنئين فكان يصرف بسخاء منقطع النظير فرحاً وابتهاجاً بزواج ابنيه عتبة وعتيبة خاصة وأنه كان من التجار الأثرياء المعروفين في مكة .
وجاء موعد الزفاف وحان موعد الفرحة الكبرى ليس للعروسين الهاشميتين فحسب وإنما لجميع الأهل والأقارب وأخذت أجواء مكة تردد أصداء هذا الحفل المبارك وقام الرسول الكريم وزوجته خديجة بذبح الذبائح وإكرام الضيوف كما قام العم عبد العزى والد العريسين بذبح الذبائح وإكرام الضيوف ودعي كل أهل مكة إلى هذا الحفل الطيب المبارك المشهود .. وتمت زفة العروسين رقية وأم كلثوم في بيت النبوة وعم الفرح والسرور أرجاء مكة وعندما حل المساء صحبت الأسرة المحمدية العروسين الهاشميتين الصغيرتين إلى بيتهما الجديد لتزفان إلى عريسيهما حيث لبثوا هناك غير بعيد يباركون للعروسين وأزواجهما السعيدين .. هذا اللقاء المبارك الميمون ويغبطونهم بالفرحة والبشر ويهونون على العروسين الهاشميتين الصغيرتين آلام البعد والفراق عن الأهل والأخوات .. ثم عاد الجميع ليتركوا العروسان عند زوجيهما ينعمان بالألفة والمودة والسعادة خاصة وأن عتبة وعتيبة لم يكونا غرباء عن العروسين فهما أبناء العمومة الأقربين ..
عاشت رقية وأختها أم كلثوم في بداية حياتهما حياة سعيدة مرفهة مع زوجيهما ولكن هذه الحياة لم تكن تخلو من بعض المنغصات والكلمات الجارحة والتعليقات المستهجنة من حماتهما أم جميل بنت حرب إضافة إلى إرهاقهن بالطلبات المتكررة والأعمال الكثيرة في بيتها .. ولكن الأختين ظلا صابرتين مادام العريسان يعاملانهما بالحب والمودة والأخلاق الحسنة أما العم عبد العزى فكانت فرحته بالعروسين لا تقدر بثمن لدرجة أنه كثيراً ما يتلقى الاستهزاء والسخرية من زوجته أم جميل بنت حرب لإفراطه في حبه وتدليله للعروسين الهاشميتين رقية وأم كلثوم إلا انه كان يأخذ كلامهما على محمل الدعابة والمزاح ويتجاهل سلاطة لسانها بشيء من الحكمة والصبر .
كان عتبة وعتيبة يخرجان بين فترة وأخرى في تجارة أبيهما عبد العزى فيترك كل منهما عروسه الغالية وزوجته الحبيبة في كنف أهلها ليعودا بعد رحلة شاقة وهما أكثر شوقاً وأعمق محبة .. فلقد تعودت كل من رقية وأم كلثوم عند مغادرة زوجها إلى التجارة أن تنتهز هذه الفرصة لتنضم إلى بيت النبوة وإلى حضن أمها وأبيها وإلى أختها الصغيرة فاطمة فراراً من الوحدة أولاً ومن لسان أم جميل ثانياً والتماساً لذكريات الطفولة السعيدة مع أمها وأخواتها وكانت خديجة تنتظر مثل هذه الزيارات المتكررة من هذه البنت أو تلك بفارغ الصبر وذلك لتترك المجال لزوجها الذي كان يجلس وحيداً يتعبد إما في غرفته أو في غار حراء الذي أخذ يتردد عليه بشكل متكرر .
لقد كانت خديجة تحس بما ينتظر زوجها من النبوة والرسالة وذلك مما سمعت من ابن عمها ورقة بن نوفل الذي بشرها بأن زوجها هو نبي هذه الأمة وأنه هو الرسول الخاتم إلى البشرية جمعاء فكانت خديجة تراقب زوجها عن كثب وتترك له كامل الحرية في تعبده ووحدته لذلك فقد كانت تأنس لأية بنت تقدم إليها ..
كانت رقية تقضي وقتها في كنف العائلة الكريمة تشاركهم أفراحهم وذكرياتهم وتساعد أمها في تدبير شؤون المنزل وذلك عند تقدم إلى بيت النبوة خاصة وأن خديجة قد تداركها الكبر وأتعبتها مواسم الحمل والولادة المتكررة إضافة إلى رعاية زوجها الذي بدأت تظهر عليه إرهاصات النبوة وآثار الرسالة فكان من الواجب على خديجة أن تؤمن لزوجها الجو المناسب من الهدوء والرتابة والطمأنينة والسكينة انتظاراً لوحي السماء الذي لا تستطيع هي أن تدرك كنهه رغم اليقين الذي كان ينتابها بأنه قادم لا محالة .
******
الحدث الجلل
سارت الحياة في بيت أم كلثوم بنت محمد بن عبد الله رتيبة هنيئة هادئة ترفرف عليها أجنحة السعادة والمحبة والهناء ولا يعكر صفو هذه الحياة إلا بعض الترهات والكلمات والممارسات الخاطئة من أم جميل بنت حرب بين حين وآخر .. أما بيت النبوة فقد كان يشهد تحولاً جذرياً وإرهاصات تنذر بميلاد حدث عظيم وأمر جديد جلل لا يستطيع أحد أن يعلم مداه إلا خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم التي عرفت من ابن عمها ورقة بن نوفل ضخامة الحدث الذي ينتظر خديجة وزوجها .. لقد كان ورقة بن نوفل من أحبار النصرانية ويقرأ التوراة والإنجيل والكتب المقدسة ويعلم منها إرهاصات ظهور نبي جديد يعتبر خاتم الأنبياء والمرسلين سيظهر في هذا الزمان في منطقة جبال فاران التي تحف مكة من كل جوانبها .. لقد أخبرها ورقة بن نوفل أن بعثة نبي جديد قد حلَّ وقتها وأن النبي المرتقب لابد وأن يظهر في هذه المنطقة بالذات كما ورد في الكتب المقدسة والأخبار المتواترة وأنه يأمل أن يكون محمد بن عبد الله هو نبي هذه الأمة وهو النبي الخاتم لقد كان ورقة بن نوفل وخديجة بنت خويلد ينتظران هذا الحدث الجلل بفارغ الصبر ليؤمنوا بهذا النبي الخاتم ويؤازروه ويقفوا معه في دعوته إلى الله حين يعاديه أهله وعشيرته فضلاً عن القبائل العربية الأخرى التي ناصبت العداء الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام وأتم التسليم منذ اللحظة الأولى وكانت معاداتها سافرة جاهرة ظالمة لم تدع وسيلة من وسائل الظلم إلا اتبعتها مع هذا الدين الجديد ومع هذا النبي الكريم الخاتم .. كانت خديجة تعلم هذا الأمر وتنتظر وتترقب هذا الحدث الجلل الذي سيغير حياتها وحياة عائلتها وحياة المجتمع المكي بل حياة العالم بأسره .. وفي مثل هذه الظروف كانت أم كلثوم بنت محمد في زيارة أهلها بعد أن ودعت زوجها عتيبة بن عبد العزى الذي سافر في تجارة والده إلى بلاد الشام .. فالتقت عند الباب بأمها فدخلت على عجل لترى أختها زينب وأختها فاطمة .. كانت خديجة تسير بتلهف واضطراب شديد فسألتها ابنتها أم كلثوم ..
أم كلثوم : ما بالك يا أماه ؟! .
ولم ترد خديجة على سؤال ابنتها وإنما أسرعت باهتمام كبير ولهفة عظمى إلى غرفة زوجها تطمئن عليه ولما رأته واطمأنت عليه عادت إلى ابنتها أم كلثوم وقد عاودها البشر والهدوء وملأت وجهها البشاشة وأخذت خديجة تحدث ابنتها أم كلثوم حديثاً عجباً لم تعهده من قبل .. فلقد كانت خديجة عائدة لتوها من عند بن عمها ورقة بن نوفل الذي حدثته عن الحادث الذي حدث لزوجها محمد بن عبد الله في الأمس في غار حراء .. وهنا قاطعتها ابنتها أم كلثوم لتسألها :
أم كلثوم : ولكن ما لذي حدث لوالدي يا أماه ؟! .
خـــديجــــة : لقد عاد يوم أمس مساءً من غار حراء .
زيــنـــــــــــب : وماذا في الأمر فهو دائماً يذهب إلى غار حراء يتعبد فيه ثم يعود بعد أيام ..
خـــديجــــة : لقد عاد بوضع غريب .. كان مضطرباً شاحباً يرتجف من الخوف .. كانت الرعدة تدب في أوصاله .. لم يسأل عن طعام أو شراب .. وسكتت خديجة لتأخذ أنفاسها ..
أم كلثوم : أكملي يا أماه لقد أثرت شجوننا ..
خـــديجــــة : لم يسأل عن طعام أو شراب وإنما يقول بصوت خائف مضطرب زملوني دثروني .
فــــاطمـــــة : نعم لقد رأيته وخفت عليه كثيراً ..
زيــنـــــــــــب : وماذا بعد يا أماه ؟ .
خـــديجــــة : وبعد أن هدأت هذه الرعدة وزال عنه الخوف سألته ما الذي حل به فأخبرني ....
أم كلثوم : ماذا أخبرك يا أماه .. لقد شغلت بالنا .
خـــديجــــة : أخبرني بأنه كان يتعبد وحيداً في غار حراء وإذا بطائر كبير جداً غطت أجنحته عنان السماء هبط عليه في غار حراء وغطه بجناحيه بشدة وقال له اقرأ .. فقال له : ما أنا بقارئ .. ثم غطته ثانية بجناحيه بشدة أكثر وقال له اقرأ .. فأجابه بخوف شديد ما أنا بقارئ .. ثم غطه ثالثة وبشدة أكبر وقال له : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق .. خلق الإنسان من علق .. اقرأ وربك الأكرم .. الذي علم بالقلم .. علـم الإنسان ما لـم يعلم ) .. ثم تركه وغاب وهو في حالة من الذعر أو الخوف الشديد .. ليعود إلى داره في مكة وهو يرتعد ويقول زملوني دثروني ..
كانت الفتيات الثلاث أم كلثوم وزينب وفاطمة يستمعون إلى والدتهن بإصغاء كامل وخوف شديد .. وساد جو الغرفة صمت شديد قطعته زينب وهي تقول ..
زيــنـــــــــــب : وماذا بعد يا أماه ؟! .
خـــديجــــة : لا شيء .. لا شيء !! .
رقـيـــــــــــــة : تبتسم .. بل هناك أشياء يا أماه اخبرينا فكلنا آذان صاغية ..
خـــديجــــة : قلت لا شيء بعد .. هذا ما حصل لوالدكم .
زيــنـــــــــــب : وأين كنت ؟! لقد رأيتك تعودين إلى البيت وأنت في حالة من الخوف والذعر
خـــديجــــة : لقد ذهبت إلى ابن عمي ورقة بن نوفل لأقص عليه الخبر ..
رقـيـــــــــــــة : لماذا توقفت .. ؟! أكملي ماذا قال لك ابن العم ورقة بن نوفل فهو حبر من أحبار النصارى ويعلم علم الكتب المقدسة السابقة .
خـــديجــــة : قال لي إنه والله الناموس الذي نزل على عيسى وموسى من قبل .. وأقسم لي أنه إن صدق قولي هذا فإن محمداً هو نبي هذه الأمة المنتظر وهو النبي الخاتم وأن ورقة بن نوفل سيكون من أوائل المؤمنين به وسيكون عوناً للنبي الخاتم محمد وإن قومه سيكذبونه ويؤذونه ويخرجونه من مكة ويقاتلونه وإنه سيكون عوناً لمحمد إذا ما أدرك محنة الرسول محمد في مستقبل الأيام .. سكتت خديجة فترة من الزمن تلتقط أنفساها وأبناؤها في وضع لا يحسدون عليه من الخوف والحيرة ولكنهم ينتظرون من والدتهم بقية الحكاية .. فقالت فاطمة الصغيرة ..
فــــاطمـــــة : أكملي يا أماه هل انتهت الحكاية ؟ .
خـــديجــــة : تضم صغيرتها إلى صدرها وتقبلها .. لا لم تنته بعد يا حبيبتي .. إنها ليست حكاية إنها حقيقة واقعة ونبوة ورسالة يا بنيتي فلقد سمعت من ابن عمي ورقة قولاً عجيباً وشعراً رقيقاً في والدكم الحبيب ..
زيــنـــــــــــب : هات أسمعينا ماذا قال ابن العم ورقة ؟ .
خـــديجــــة : لقد أنشدني هذه الأبيات وأنا في أشد حيرتي :
لججت وكنت في الدنيا لجوجا لهـــــم طالـمـــا بعث النشيجا ووصف من خديجة بعد وصف لقد طال انتظاري يا خديجا ببطن المكتين علا رجائي حديثك أن أرى منه خروجا بما خبرتنا من قول قس من الرهبان أكره أن يعوجا بأن محمداً سيسود فينا ويخصم من يكون له حجيجا ويظهر في البلاد ضياء نور تقوم به البرية أن تعوجا فيلقى من يحاربه خساراً ويلقى من يسالمه فلوجا فياليتي إذا ما كان ذاكم شهدت وكنت أولهم ولوجا *******
وعندما انتهت خديجة من شعر ورقة بن نوفل أخذت الدموع تنهمر من عيونها لتمنعها عن الكلام فترة من الوقت .
لقد أنصتت زينب وهي أكبر البنات سناً وأنصتت أخواتها معها رغم حداثة سنهن إلى هذا الخبر العظيم خبر نزول الوحي من السماء على والدهن ولم يدركن بعد معنى الوحي أو معنى النبوة في عصر كله جاهلية مطبقة وأوثان وأصنام تعبد من دون الله أما موضوع النبوة أو موضوع البعثة أو الرسالة أو موضوع الوحي من السماء فهذه الأمور كلها لا علم لهن بها من قريب أو بعيد خاصة وأن يكون الوالد الحبيب هو النبي المنتظر لهذه الأمة وهو الرسول وهو ا لمبعوث رحمة للعالمين لقد كانت هذه الأمور كلها مفاجأة شديدة .. وكان أمر النبوة حدثاً عظيماً في تاريخ الأسرة لم تستطع عقولهن الفتية معرفة كنهه أو الوصول إلى أبعاده الحقيقية .. لبثت أم كلثوم في مكانها ساكنة هامدة شاردة الفكر لا تدري ما تقول ولا تعرف من أين تبدأ ولا إلى أين ستنتهي ولا تعرف بماذا تجيب والدتها عن هذا الخبر العظيم .. لقد كانت على العكس من والدتها التي كانت فرحة مسرورة بهذا الحدث العظيم .. أما زينب أكبر البنات فقد استشعرت ببعد نظرها خطورة الموقف فقالت لأمها ..
زيــنـــــــــــب : حدث جلل ولكننا لا ندري إلى أين سيقودنا ؟ .
خـــديجــــة : إلى الخير طبعاً .. إلى خير الدنيا والآخرة .
زيــنـــــــــــب : ولكني سمعت ابن العم ورقة يذكر الأمر بشيء من الخوف والهلع على والدي ..
نظرت الأم خديجة إلى ابنتها ولم تعقب على كلامها وكأنها لم ترد من ابنتها أن تقطع عليها فرحتها بذلك الحلم السعيد بنبوة زوجها وبعثته ورسالته السماوية إلى الناس أجمعين .
زيــنـــــــــــب : لقد قال ذات مرة أن قريشاً ستعاديه وتحاربه وتضيق عليه وتخرجه من مكة إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً .
خـــديجــــة : ربما ولا ضير في ذلك فمحمد وراءه بنو هاشم وبنو أسد وبنو زهرة وهو الصادق الأمين الذي لم يطعن بصدقه وأمانته وشرفه وحسبه ونسبه ورجاحة عقله أحد من العرب قاطبة .
زيــنـــــــــــب : ولكن ابن العم ورقة بن نوفل قال إن هذا الأمر محدث عنه في التوراة والإنجيل وإن هذا الأمر هو سنة جميع الأنبياء والمرسلين حتى يظهرهم الله على من عاداهم .
خـــديجــــة : بشيء من الحزم .. وليكن ذلك فو الله لأقفن معه أنا وبنو أسد حتى آخر قطرة من دمائنا .
زيــنـــــــــــب : أرجو ذلك يا أماه وإن كنت أشفق على والدي من ظروف الأيام القادمة والمصائب والمحن التي تنتظر والدي الحبيب.
كان هـذا الحــــوار يدور بين الأم وبناتهــا الثلاث زينــب أم كلثوم وفاطمة أما رقية فقد بقيت عند زوجها عتبه لأنه آثر أن يبقى مع أبيه في مكة بينما سافر أخوه عتيبة مع القافلة إلى بلاد الشام .. ولكنها رغم ذلك فقد اشتاقت إلى أهلها فاستأذنت زوجها ليوصلها إلى بيت أهلها تمكث فيه يومان أو ثلاثة مع أمها وأبيها وأخواتها وبينما خديجة وبناتها في هذا الحوار اللذيذ إذ قرع الباب ودخلت رقية لتنضم إلى العائلة الكريمة وليكتمل عقد الأسرة إلا من الوالد الحبيب الذي كان مشغولاً عن الدنيا باتصاله مع ربه وخالقه .. وبعد قدوم رقية سادت فترة صمت رهيبة وكأن قدوم رقية قطع على العائلة الكريمة حديثها فبادرت تسأل أمها ..
رقـيـــــــــــــة : أراكم صامتون .. هل هناك من أمر ؟! .
زيــنـــــــــــب : أجل يا أختي الحبيبة ..
رقـيـــــــــــــة : أخبروني إذن .. واسمحوا لي أن أشارككم متعة الحديث .
زيــنـــــــــــب : لقد جاء الناموس إلى الوالد الكريم
رقـيـــــــــــــة : الناموس ؟! .
زيــنـــــــــــب : أجل وأصبح والدنا نبي هذه الأمة .
رقـيـــــــــــــة : الناموس .. نبي هذه الأمة .. ما هذه الكلمات التي لا أستطيع فهمها ؟!.
خـــديجــــة : لقد جاء الناموس الأكبر الذي نزل على نبي الله عيسى ونبي الله موسى على والدك يا رقية .. وهذا يعني أن محمد بن عبد الله أصبح نبي هذه الأمة وهو النبي الخاتم .. كما أخبرني ابن العم ورقة بن نوفل ..
رقـيـــــــــــــة : لقد فاجأتموني بهذا الخبر السعيد .. لا شك أن بني هاشم سيكونون أول الناس إيماناً بالدين الجديد ..
زيــنـــــــــــب : بل ربما أبعدهم وأشدهم عناداً ومعاداة للوالد الحبيب.
رقـيـــــــــــــة : دعونا من هذا الكلام فالمستقبل بيد الله ولا يعلمه إلا الله .
خـــديجــــة : ونعم بالله يا حبيبتي ..
أم كلثوم : مالك يا زينب ؟ .. تعالي حديثنا أحاديثك العذبة ..
زيــنـــــــــــب : لا شيء ولكني أحسب أن هذا الحدث جلل وأن الأيام القادمة ستكون صعبة ومريرة وقاسية يا أختاه .
أم كلثوم : أما تحبين أن تكوني ابنة نبي هذه الأمة ؟! .
زيــنـــــــــــب : بلى يا أختي الحبيبة .. وأي فتاة لا يفرحها مثل هذا الشرف العظيم ؟! .. ولكن ؟! ..
أم كلثوم : ولكن ماذا ؟! .
زيــنـــــــــــب : أشفق على والدي الحبيب فالعرب كلهم سيحاربون الدين الجديد عن قوس واحدة كما ذكر الخال ورقة بن نوفل وهذا ما يخيفني ..
رقـيـــــــــــــة : لا تخافي يا أختي مادام أبي نبي الله فالله هو الذي يحميه ويحفظه من كل مكروه .
زيــنـــــــــــب : أرجو ذلك .. ونعم بالله .. فلقد سمعت أمي تقول لأبي بعد نزول الوحي في غار حراء . ( الله يرعاك ويرعانا يا أبا القاسم .. أبشر يا بن العم وأثبت واللهِ ما يخزيك اللهُ أبداً .. إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتؤدي الأمانة وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ) .
أم كلثوم : وقد ابتسمت وابتسمت معها شقيقاتها الثلاث زينب ورقية وفاطمة وهم يبتهلون إلى الله أن يحفظ أباهم .
وفي هذا الجو العاصف كانت خديجة في صمت ووجوم فقد أدركت صعوبة الموقف وشدة الأيام القادمة فالعرب لن يتخلوا عن دينهم ودين آبائهم وأجدادهم بسهولة حتى ولو كان على باطل ذلك لأنهم ورثوا هذا الدين وهذه ا لأصنام والأوثان منذ القدم وتوارثوه أباً عن جد فليس الأمر بهذه السهولة .. لا شك أن زوجها سيواجه المصاعب والشدائد في المستقبل القريب عندما يصدع بدعوته ويجهر بدينه ويدعو الناس كل الناس إلى الدين الجديد الذي جاء به من عند الله الواحد القهار .. لقد أحست خديجة بنت خويلد بالخطر الجسيم الذي ينتظر العائلة الكريمة فأخذت تفكر وتفكر بينما أولادها يفرحون ويلعبون ويمرحون بهذا الخبر العظيم خبر الوحي من السماء خبر الرسالة والنبوة خبر الدين الجديد وقد عجزت أفكارهن عن الإحاطة بهذا الحدث الجلل الذي سيهز الدنيا بأسرها .والوحيدة من البنات التي أحست بالخطر هي زينب أكبر بنات رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم التي عركتها الأيام وصقلتها المسؤولية فبدأ على وجهها شيء من الفتور والوجوم والكآبة والترقب للمستقبل المجهول الذي لا تعرف عنه أي شيء .
******
حديث ذو شجون
كانت أم كلثوم بنت محمد صلى الله عليه وسلم تشعر بالغبطة والسعادة في بيت الزوجية حتى لكأنها تظن أنه لا يوجد أسعد منها بين لداتها في كل أنحاء مكة المكرمة فقد كان ابن العم عتيبة بن عبد العزى زينة شباب بني هاشم وكان خير زوج وحبيب وكان عمها عبد العزى يحبها ويعطف عليها ويرعاها لصغر سنها وإن كان الأمر لا يخلو من بعض المنغصات التي تأتي من حماتها أم جميل بنت حرب ولكنها تبقى منغصات وقتية محمولة في جو الألفة والمحبة والغنى والرفاهية التي تخيم على بيت العم عبد العزى .. لقد كان عتيبة دمث الأخلاق حسن المعشر يحبها ويحترمها ويجلها ولا يتصرف أي تصرف يسيء إليها أو يجرحها بل لقد كان يفتخر بين أقرانه بأنه حظي بالعروس الهاشمية رقية بنت محمد صاحبة الحسب والنسب والشرف الرفيع .. لقد كان عتيبة بن عبد العزى في تلك الآونة خير زوج لخير عروس آنذاك في مكة المكرمة .
كان عتيبة يسافر في قوافل أبيه للتجارة فتذهب أم كلثوم إلى بيت أمها وأبيها لتنعم بالألفة والمحبة مع أمها وأخواتها وما إن يعود زوجها من سفره حتى يستقبل زوجته الحبيبة وتستقبله زوجته الحبيبة أم كلثوم بنت محمد بمزيد من الشوق ومزيد من الحب ولكن هذه الحالة لم تدم طويلاً حيث أصبح يساورها الخوف والجزع عند سفر زوجها وأصبحت تفضل أن يكون دائماً بجانبها أو قريباً منها لما تراه من حالة والدها ولما تسمعه من أخبار من أمها .. لقد كانت أم كلثوم تحس أن أمراً جللاً سيحدث في بيت النبوة .. فقد كان أبوها في تلك الفترة يحب الاعتزال عن الناس حتى عن أهله .. كان يجلس في غرفته طويلاً يتعبد ويتحنث ويتفكر في ملكوت السموات والأرض وأصبح من عادته أن يذهب إلى غار حراء ويبيت الأيام والليالي هناك مكتفياً من زاد الدنيا ببعض الماء والرطب .. لقد أصبح محمد بن عبد الله بعيداً عن أهله حتى عن أحب الناس إلى قلبه خديجة بنت خويلد وبناته زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة .. كانت أم كلثوم ترجع إلى بيت زوجها وحبيبها عتيبة بن عبد العزى إذا ما عاد من سفره وتجارته فتفضي إلى زوجها بما يساورها من خوف وقلق وترقب وتصف له حالة أبيها من العزلة والابتعاد عن الناس كما تذكر له حديث والدتها وحديث خالها ورقة بن نوفل عن النبي المنتظر الذي يأملان أن يكون هو محمد بن عبد الله ونظراً لهذا التغير المفاجئ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبه للعزلة والتعبد المستمر والتفكير الطويل في ملكوت الله فقد زادت الإرهاصات والدلائل على أنه هو النبي المنتظر المبعوث رحمة للعالمين ولكن الإنسان دائماً يخاف ما يجهل وهذا ما كان من أمر أم كلثوم بنت محمد صلى الله عليه وسلم أما عتيبة بن عبد العزى زوجها فكان دوره تطييب خاطرها وبث الثقة والطمأنينة بقلبها وإعادة البسمة إلى ثغرها والاشراقة إلى وجهها وهذا كله قبل أن يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بالدعوة إلى الله وينذر عشيرته الأقربين .
وبدأ الوحي ينزل من السماء على رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله تعالى : ( يا أيها المزمل .. قم الليل إلا قليلا .. نصفه أو انقص منه قليلا .. أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا .. إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلا .. إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلا ) .. فكانت هذه الآيات الكريمة تكليف من الله جل وعلا لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بالنبوة وتكليف له وحده بالعبادة وقيام الليل .. ثم توالت الأيام حتى نزلت الآيات بتكليف الرسول صلى الله عليه وسلم بنشر الدين الإسلامي الجديد ودعوة أقربائه وعشيرته الأقربين ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) .. ثم توالت الأيام ليأتي التكليف بإنذار الناس من حوله .. ( يا أيها المدثر قم فأنذر .. وربك فكبر وثيابك فطهر .. والرجز فاهجر .. ولا تمنن تستكثر .. ولربك فاصبر ) .
ثم توالت الأيام ليأتي الأمر الإلهي إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعلان الدعوة إلى دين الإسلام جهرة علانيــة على رؤوس الأشهاد .. ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عـن المشركين ) ..
وفي مثل هذه الأجواء كانت الأحاديث تدور في بيت النبوة .. وكانت الشقيقات الأربع يتجاذبن أطراف الحديث عند كل لقاء بشيء من الاضطراب والخوف من المستقبل المجهول .. كانت أم كلثوم تزداد خوفاً واضطراباً لما كانت تسمعه من خالها ورقة بن نوفل من الصعاب والتكذيب والمشاكل والأذى التي ستواجه النبي المنتظر فكان الأمر في الأيام السالفة لا يعنيها أما اليوم وقد أصبح والدها هو النبي المنتظر فقد أصبح هذا الأمر يمسها ويمس عائلتها بشكل مباشر .. لقد كانت تحس بالخطر القادم المحدق وتحس بالمسؤولية الواجبة عليها وعلى أمها وأخواتها وكانت ترتعش لمجرد تصور تلك الأحداث والصعاب القادمة من بعيد .. ولو كان ذلك بعد حين وعندما يجتمع شمل الأسرة كثيراً ما يدور بين أفراد الأسرة حديث ذو شجون عن هذا الحدث الجلل الذي قلب كيان الأسرة بشكل كامل ..
رقـيـــــــــــــة : ما بالك يا زينب ؟! أراك حزينة .
زيــنـــــــــــب : لا شيء .. أفكر في والدي بعد أن أصبح نبي هذه الأمة .
أم كلثوم : وماذا في الأمر يا أختي الحبيبة .. ألا يسرك أن تكوني بنت نبي هذه الأمة ؟! .
زيــنـــــــــــب : لا يا أختي الحبيبة .. الأمر ليس كذلك .. وإنما أحس بالمخاطر التي ستحدق بوالدي الحبيب بعد إعلان الدعوة والرسالة على قومه .. إن قريشاً لن تتخلى عن مجدها وزعامتها للقبائل ولن تتخلى عن دينها الذي ورثته أباً عن جد بمثل هذه السهولة .
أم كلثوم : لا عليك فإن الله لا يضيعنا .
زيــنـــــــــــب : ونعم بالله يا أختي الحبيبة ..
ابتسمت زينب وابتسمت أخواتها فهم الآن واثقون كل الثقة أن الله سيحفظهم ويرعاهم ولن يضيعهم أبداً ..وفي مثل هذه الأجواء الساخنة المتوالية كانت خديجة وبناتها في حيرة من أمرهم ولكن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) قام بدعوة أهله أولاً .. خديجة وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة فآمنوا به جميعاً .. ثم قام بدعوة عشيرته الأقربين أعمامه أبي طالب وحمزة والعباس وأبنائهم .. ثم ما لبث أن آمن به ابن عمه علي بن أبي طالب .
عاد عتيبة بن عبد العزى من سفره ليجد مكة وقد تغيرت وبدا له أن أمراً جللاً قد حدث في مكة كان يلمحه في كلام الناس وهمساتهم ونجواهم وكل ما استطاع فهمه أن نبياً جديداً قد ظهر في مكة المكرمة .. لم يدر بالاً لهذا الأمر بادئ ذي بدء ولكن لما سمع أن نبي هذه الأمة هو محمد بن عبد الله والد زوجته أم كلثوم قد جعله في حيرة من أمره وذهب إلى بيته ليرى زوجته وقد علا وجهها الذهول والوجوم .. لبثت أم كلثوم مكانها ساكنة شاردة على غير عادتها لا تدري ماذا تقول ولا من أين تبدأ الحديث .. كانت عادتها أن تستقبل زوجها الحبيب بالبسمة والبشر والفرح والسرور .. ولكن ماذا حدث في هذا اليوم ؟ وما الذي قلب حال زوجته الحبيبة أم كلثوم .. ؟! .
عــــتـيــبـــــة : ما بك يا زوجتي الحبيبة ؟.
أم كلثوم : لا شيء وسكتت وهي تسرح بأفكارها وكأنها تسبح في بحر لجي من الأحلام يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب فلا تدري بماذا تجيب زوجها الحبيب .
عــــتـيــبـــــة : بل هناك شيء كبير قد حصل يا رقيه .. أجيبيني أيتها الحبيبة ما الذي حصل ؟.
أم كلثوم : لقد نزل الوحي من السماء على والدي ..
عــــتـيــبـــــة : الوحي ؟! وماذا تعنين بالوحي يا أم كلثوم ؟! .
أم كلثوم : الناموس الذي ينزل على الأنبياء من السماء ..
عــــتـيــبـــــة : وهو يبتسم .. الناموس ؟!! .. لقد عقدت المسألة أكثر أوضحي يا أم كلثوم .
أم كلثوم : لقد أصبح والدي نبي هذه الأمة .
عــــتـيــبـــــة : (يبتسم بشيء من السخرية ) نبي هذه الأمة ..!! محمد بن عبد الله الفقير اليتيم نبي هذه الأمة ؟! .
أم كلثوم : في فرحة غامرة واعتزاز وفخر عندما سمعت زوجها يردد ( محمد نبي هذه الأمة ) دون أن تتكلم بكلمة واحدة .
عــــتـيــبـــــة : (في ذهول شديد يردد هامساً ) محمد بن عبد الله نبي هذه الأمة !! ثم يضحك بأعلى صوته لا شك أنك واهمة يا رقية .
أم كلثوم : بل لست واهمة يا عتيبة .. محمد بن عبد الله نبي هذه الأمة وأنا على ثقة تامة من ذلك .
عــــتـيــبـــــة : بشيء من السخرية والشدة .. لا شك أنك واهمة وأبوك أيضاً واهم يا أم كلثوم ؟ .
أم كلثوم : إنني أؤكد لك أن الوحي من السماء قد نزل على والدي .
عــــتـيــبـــــة : أبعدي عن رأسك هذه الأفكار السخيفة .. فلقد انتهى عهد الأنبياء والمرسلين يا عزيزتي ..
أم كلثوم : أتعتقد أن محمد بن عبد الله كاذب يا عتيبه .
عــــتـيــبـــــة : ليس بالضبط .. فما علمت عليه من كذب وإنما ربما كان واهماً أو أصابه مس من الجنون .
أم كلثوم : اسمع يا عتيبه .. إنني أدعوك إلى الدين الجديد دين الإسلام الذي آمنت به لتحظى بخيري الدنيا والآخرة .
عــــتـيــبـــــة : بشيء من الحدة والعصبية .. أفعلتها يا أم كلثوم ؟! .
أم كلثوم : نعم لقد أسلمت يا عتيبة وأسلم كل من في بيتنا والدتي وأخواتي .
عــــتـــبـــــــة : لا بد أن يكون لهذا الأمر رد ستجدينه قريباً يا رقيه.
أم كلثوم : اسمع مني يا بن العم فلقد آمن عدد من رجــــالات قريش .
عــــتـيــبـــــة : وهل فكرت يا أم كلثوم بعد تصرفك هـــــذا بمصيــر زواجنا؟.
أم كلثوم : وما علاقة زواجنا بما أدعوك إليه من الحق ؟! .
عــــتـيــبـــــة : هل فكرت يا أم كلثوم حين أسلمت وتبعت الدين الجديد ماذا سيحدث لو أني بقيت على دين آبائي وأجدادي .
أم كلثوم : نعم فكرت وأرجو أن تكون من السابقين إلـــى الإسلام يا بن العم ..
وهنا صمت عتيبة بن عبد العزى بعد أن سمع من زوجته أم كلثوم هذا الكلام فترة ما لبث أن هب مسرعاً وخرج من بيته متوجهاً إلى دارة الندوة بينما بقيت أم كلثوم وحيدة تنتظر ما يؤول إليه حال زوجها على أحر من الجمر .
كان أشراف قريش مجتمعين في دار الندوة يتدارسون ويتشاورن تلك الشائعات والأقاويل عن ظهور نبي في مكة وأن محمد بن عبد الله هو نبي هذه الأمة وفي هذا الوقت بالذات صعد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى الصفا وأخذ ينادي بالقبائل قبيلة قبيلة ليجتمعوا إليه ليحدثهم بأمر هام وأخذ الحاضر يبلغ الغائب حتى اجتمع الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف فيهم خطيباً .. روي في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما أنزل الله تعالى قوله : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الصفا فصعد عليه فهتف : ( يا صباحاه ) فقالوا من هذا .. قالوا : محمد فاجتمعوا إليه فقال : ( أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقيَّ ؟) قالوا ما جربنا عليك كذباً .. قال : ( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) قال عمه عبد العزى : تباً لك يا محمد ما جمعتا إلا لهذا .. فنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : ( تبت يدا أبي لهب وتب .. ما أغنى عنه ماله وما كسب .. سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حب من مسد ) .. ومنذ ذلك اليوم أصبح اسم عبد العزى بن عبد المطلب ( أبي لهب ) وأصبح اسم زوجته أم جميل بنت حرب ( حمالة الحطب ) وهنا بدأ العداء السافر بين قريش وغيرها من القبائل العربية وبين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .
عاد عتيبة إلى بيته بعد منتصف الليل واجماً مطرقاً يعلو سيماه الهم والحزن والأسى فاستقبلته زوجه بنفس همه وحزنه وأساه ولم تزد في كلامها على كلمة الترحيب المعتادة .
أم كلثوم : أهلاً بك يا عتيبة .
عــتــيـبـــــة : صمت قليلاً .. لقد لقيت أباك ..
أم كلثوم : بلهفة عارمه .. وماذا جرى بينكما .
عــتــيـبـــــة : لا شيء .. لقيته في الكعبة ودعاني ..
أم كلثوم : أكمل يا عتيبه .. دعاك إلى ماذا ؟ .
عــتــيـبـــــة : دعاني للدخول في الدين الجديد .
أم كلثوم : وبماذا أجبته ؟ .
عــتــيـبـــــة : وهـــل أدخل في دينه وأدع أشراف العرب يتحدثون عني؟!! .
أم كلثوم : أشراف العرب !! يتحدثون عنك ! .. ولماذا يا عتيبة ؟!!.
عــتــيـبـــــة : سيقولون عتيبة بن عبد العزى الهاشمي القرشي ترك دين آبائه وأجداده ليتبع زوجته وأبيها .
أم كلثوم : سامحك الله يا عتيبة .. وهل تترك الحق والصدق من أجل قالة الناس .
عــتــيـبـــــة : دعينا الآن من هذا الحديث .
صمت عتيبة في وجوم وذهول وأشاح بوجهه عن زوجته الحبيبة أم كلثوم وسكت عن الكلام وسكتت أم كلثوم عن الكلام وابتعدت عنه لتجلس في ركن آخر بعيداً عن زوجها فلقد كانت تحلم أن يستجيب زوجها فور سماعه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وأن يكون عتيبة بن عبد العزى عوناً للرسول صلى الله عليه وسلم وسنداً له في الأيام العصيبة القادمة يوم يكذبه قومه ويؤذونه ويحاربونه ويحاصرونه ولكن ويا للأسف لقد آثر أن يبقى على دين قومه دين الشرك ويترك الانصياع للحق المبين الذي جاء به خير المرسلين رغم حبه الشديد لزوجته أم كلثوم ورغم حبه الشديد لابن عمه محمد بن عبد الله الذي يعرف عنه أنه الصادق الأمين .. أجل لقد كان الموقف بين الزوجين الحبيبين عصيباً صعباً فلقد كان أمل أم كلثوم بنت محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون زوجها الحبيب من السابقين إلى الإسلام وتوقعت منه أن يلبي داعي الله ولا يقف في صف المشركين عبدة الأصنام والأوثان خاصة وأنها تعرف عنه شرفه وعراقة أصله ورجاحة عقله وانصياعه للحق إذا استبان له الحق .. إضافة إلى هذا أو ذاك قرابته من والدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنها في هذه المرة أخطأ ظنها فيه فلقد آثر الحفاظ على مركزه وشرفه وعلو نسبه في المجتمع المكي وترك الحق والصدق والنبوة .. وفي كل يوم يجري بين الزوجين الحبيبين حديث ذو شجون ما يلبث أن يتبعه صمت طويل ملئ بالحزن والأسى ..
أم كلثوم : يا بن العم ..
عــتــيـبـــــة : لبيك يا أم كلثوم .
أم كلثوم : هل تشك بصدق أبي ؟ .
عــتــيـبـــــة : ما كنا نشك في صدقه قبل هذا الوهم الذي جاء به هذه الأيام .
أم كلثوم : والله أن أبي لصادق وليس بواهم يا عتيبة .
عــتــيـبـــــة : ولكن الأمر الآن قد تطور إلى مدى آخر .
أم كلثوم : وكيف ذاك ؟ !.
عــتــيـبـــــة : لقد قال إنه جاءه الوحي بكلام فيه هجاء لأبي وأمي.
أم كلثوم : ولكن من الذي بدأ الهجاء يا عتيبة ؟ .
عــتــيـبـــــة : لا أدري ولكن أباك الآن قد أشعل الحرب بيننا وبينه.
أم كلثوم : أليس والدك الذي قال لابن أخيه أمام أشراف مكة كلها : ( تباً لك يا محمد ألهذا دعوتنا ) .
عــتــيـبـــــة : وليكن .. فلقد قام بهجاء أبي وأمي يا أم كلثوم .
أم كلثوم : أليست أمك هي التي تمشي بين الناس وتكيل لوالدي أحط الشتائم .
عــتــيـبـــــة : .......
أم كلثوم : أليست والدتك هي التي كانت تضع الشوك والأقذار في طريق أبي إلى الكعبة المشرفة .
عــتــيـبـــــة: ........
أم كلثوم : أليست أمك هي التي حاولت أن تضرب والدي بفهر من حجر لولا أن أعمى الله بصيرتها عنه .
عــتــيـبـــــة : ........
أم كلثوم : أليست ...
عــتــيـبـــــة : بشيء من العصبية .. كفى .. كفى .. يا بنت محمد .. إنني لأظن أن البيت لم يعد يسعنا معاً يا أم كلثوم .
أم كلثوم : سامحك الله يا بن العم فما أردت إلا أن تنصاع للحق المبين وللدين الجديد ولك بعد ذلك عز الدنيا والآخرة .
عــتــيـبـــــة : يخرج من بيته والهم والغم والعصبية تكلل هامته .
******
الفـــــــراق الـمـــــر
أصر عتيبة بن أبي لهب على عناده وبقي على دين آبائه وأجداده .. واستمرت الغمة على أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. واستمرت الجفوة بينها وبين زوجها .. إذ كيف يعيش الحب والود بين قلب مسلم مؤمن بالله مؤمن بالدين الحق .. وبين قلب كافر مشرك يؤمن بعبادة الأصنام والأوثان .. وكيف تكون المودة والرحمة بين قلب اهتدى بنور الله وبين قلب ران عليه ظلام الجاهلية والشرك .. لا شك أن الفارق كبير والبون شاسع خاصة وأن قريشاً والقبائل الأخرى قد ناصبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العداء وأخذوا يحاربون المسلمين في دينهم وأموالهم وأرزاقهم وحتى طردهم وإخراجهم من ديارهم .. كيف تستقيم المودة والحب بين أم كلثوم وزوجها وهو يتآلف مع هؤلاء الناس الظالمين الأشرار .. لقد طالبت قريش بني هاشم أن يسلموهم محمداً ليقتلوه لأنه سب آلهتهم وأصنامهم وأوثانهم وسفه أحلامهم وخرج على دين الآباء والأجداد وجاء بدين جديد إلا أن عشيرة النبي الأقربين من بني هاشم رفضوا وبشدة هذا الأمر بل على العكس من ذلك وقفوا مع رسول الله وآزروه ونصروه ودافعوا عنه ضد جميع القبائل التي لا تزال على الشرك .. إلا ما كان من عمه أبي لهب وأولاده عتبة وعتيبة وزوجته أم جميل بنت حرب الذين آثروا الوقوف مع المشركين من قريش .
ولقد بدأ عداء قريش للرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم منذ اللحظة الأولى منذ أن قام ينذر عشيرته الأقربين كما أمره ربه ومنذ أن قام يصدع بالحق المبين كما أمره ربه أمام الناس جهاراً نهاراً حتى بدأت موجات العداء والإيذاء للرسول الكريم وللمسلمين الصابرين حتى من أقرب الناس إليه من عمه أبي لهب وزوجة عمه حمالة الحطب .. لقد اجتمع أشراف قريش في بيت الندوة ليتشاوروا في أمرهم في موضوع محمد وما جاء به من الدين الحديد فكان أول قرار ظالم يصدر عن دار الندوة التي أنشئت خصيصاً لنصرة المظلوم على الظالم حيث اتفقوا على طلاق بناته الثلاث زينب ورقية وأم كلثوم وإعادتهم إلى بيت أبيهم .. فقاولوا : ( إنكم قد فرغتم محمداً من همه فردوا عليه بناته فاشغلوه بهن ) .. ومشوا إلى أصهاره فكان أولهم أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت محمد وطلبوا منه أن فارق صاحبتك ونحن نزوجك أي امرأة تشاء من قريش فأجابهم أبو العاص بن الربيع وما ذنب زوجتي وأولادي إذا أنتم عاديتم محمد بن عبد الله .. أما صهري الرسول صلى الله عليه وسلم عتبة زوج رقية وعتيبة زوج أم كلثوم فلم يكن يصعب على أمهم حمالة الحطب أن تقنعهم بالطلاق فوافقوا على هذا الطلب الظالم الجائر .. لقد قامت حمالة الحطب أم جميل بنت حرب بإثارة حفيظة زوجها أبي لهب على العروسين الهاشميتين بعد أن أقسمت أمام الناس ألا يظلها وبنتي محمد سقف واحد .. وهكذا ظلت أم جميل تثير حفيظة زوجها أبي لهب حتى قال لأولاده أمام ملأ من أشراف مكة : ( رأسي من رأسيكما حرام إن لم تطلقا ابنتي محمد ) .. وقد كان الظن بابني العم ألا يفعلوا أسوة بأبي العاص بن الربيع .. بل كان الظن بالعم أن لا يقف هذا الموقف المشين من حفيدتي أخيه عبد الله وابنتي محمد الذي كان أشد الناس ابتهاجاً وفرحاً بولادته فأعتق جاريته التي بشرته بولادة محمد بن عبد الله .. ولقد كان الظن بالعم أبي لهب وزوجته حمالة الحطب أن يكتفيا بطلاق رقية وأم كلثوم إرضاء لزعماء قريش من المشركين إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لقي من عمه أبي لهب ومن زوجته حمالة الحطب كل سوء وشر فما كان أحد أشد عداوة منهما للنبي صلى الله عليه وسلم ولا بلغ أحد من إيذائه قدر ما بلغاه . ولا سمع أن أحداً من بني هاشم ظاهر قريشاً على حفيد هاشم كما فعل أبو لهب وزوجته حمالة الحطب .. وعلى النقيض مما فعله أبو لهب فقد وقف الهاشميون جميعاً في صف النبي الهاشمي حتى أولئك الذين بقوا على دين الشرك وعلى رأسهم عمه أبو طالب إلا أنهم آزروه ونصروه ووقفوا سداً منيعاً في وجه قبائل العرب كلها بل لقد نالهم من الظلم والحصار والمقاطعة وهم مشركون تماماً كما نال محمداً وأصحابه المسلمين فقعدوا مع محمد وأصحابه في شعب أبي طالب وطبق عليهم الحصار بشكل كامل إلا أبا لهب الذي كابر وظاهر المشركين ضد ابن أخيه محمد وضد عشيرته الأقربين من بين هاشم ..
ولعل من المفيد هنا أن نذكر قصة إسلام عم النبي صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب ونقارن موقفه المشرف بموقف العم الآخر أبو لهب الذليل المخزي السافل إذ وقف مع الظالمين ضد ابن أخيه وترك الوحوش تنهش لحم ابن أخيه
ذكرت كتب التاريخ أن عم الرسول المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب أقبل من رحلة صيد ذات يوم متوشحاً قوسه فلقيته امرأة من قريش تقول له : ( يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفاً من أبي الحكم بن هشام ؟! لقد رآه ها هنا جالساً فآذاه وسبه وسفه دينه وبلغ منه ما يكره فاحتمل حمزة بن عبد المطلب الغضب ولم يكن قد أسلم وقت ذاك واندفع في الطريق بشده حتى عثر على أبي الحكم بن هشام جالساً في القوم بالبيت العتيق فأقبل إليه ومسكه من تلاليبه وهزه هزةً عنيفة ثم أخذ قوسه وضربه على رأسه فشجه شجةً منكرة ثم قال له : أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول ، فرد ذلك علي إن استطعت ومضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه وأسلم من يومه هذا .
إن البون شاسع جداً بين الأخوين حمزة بن عبد المطلب وعبد العزى بن عبد المطلب .. حمزة آمن وصدق فكان من المؤمنين السابقين إلى الإسلام وكان سيد الشهداء وكان من المبشرين بالجنة أما عبد العزى فقد أنزل الله به قرآناً يقرأ مدى الأزمان فهو أبو لهب الذي سيصلى ناراً ذات لهب .
طلق كل من عتبة وعتيبة زوجته تلبيةً لقرار زعماء قريش من المشركين وإقراراً لقرار كلٌ من أبي لهب وحمالة الحطب والديهما .. وعادت أم كلثوم بنت محمد مع أختها رقية إلى بيت النبوة بعد طلاقهما من زوجيهما عتيبة وعتبة ابنا أبي لهب .. وقد تم إعلان هذا الطلاق أمام زعماء قريش في دار الندوة إمعاناً في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراراً لعداوة أبي لهب لابن أخيه محمد بن عبد الله .. عادت أم كلثوم بنت محمد إلى بيت النبوة كسيرة الخاطر حزينة القلب فقد كانت تنتظر من ابن العم أن يكون شهماً كريماً يرفض الظلم تماماً كما تصرف ابن خالتها أبو العاص بن الربيع مع أختها زينب .. ولكن أبا لهب ووراءه زوجته حمالة الحطب كانوا للعريسين عتيبة وعتبة بالمرصاد فأقسم أبو لهب وهو أحد زعماء قريش وأحد رؤوس الكفر على ابنيه أن طلقا بنتي محمد .
ومهما يكن من أمر ومهما تحدث المؤرخون عن خلاص رقية وأم كلثوم من بيت حمالة الحطب ومن سلاطة لسانها وفحش قولها فإنني مع هذا الحادث الأليم أرى غير ما تحدث به المؤرخون حيث كانوا يصفون هذا الزواج زواج كريمتي رسول الله من عتيبة وعتبة بأنه كارثة أو مصيبة إلا أنني أرى أن عتيبة وعتبة ابنا العم عبد العزى كانوا من خيرة شباب بني هاشم وكانوا على درجة عالية من دماثة الطباع وحسن الخلق وكانت رقية وأختها سعيدتين فرحتين مسرورتين في بيت زوجهما كما أنني أستشف فرحة العم أبي ولهب بهذا الزواج المبارك الميمون فلولا رغبته الجامحة بالاستئثار ببنتي محمد بن عبد الله لما قدم بنفسه مع الشيخ أبي طالب لخطبة العروسين الهاشميتين .. إنني لأظن أن عتيبة وعتبة ابنا أبي لهب ما كانا ليطلقا بنتي محمد لولا القسم الذي أقسمته أمهما حمالة الحطب فكل منهما كان يحب زوجته ويتعلق بها ويحترمها ويعزها إلا أن إلحاح حمالة الحطب وقسمها أمام الأشهاد ألا يظلها وابنتي محمد سقف واحد دفع العم أبو لهب وهو يحب حفيدتي أخيه أن يقسم أمام الأشهاد على ابنيه لكي يطلقا ابنتي محمد وهو كما أظن كاره لهذا الأمر .. لأنه لن يجد بعد رقية وأم كلثوم في العرب كافة من تماثلهما شرفاً وحسباً ونسباً إضافة إلى النضارة والجمال والتربية الراقية والأخلاق السامية فلقد قام العم أبو لهب تحت ضغط اجتماعي قوي بهذه الخطوة الظالمة مارسها عليه رؤوس الكفر أمثال أبي جهل بن هشام وغيره .. ومهما يكن من أمر فإن الطلاق صعب سواء للرجل أو المرأة ولكنه للمرأة أصعب خاصة في مجتمع الجاهلية في تلك الفترة من الزمان ولقد عادت رقية وأختها أم كلثوم إلى بيت النبوة حزينتين مكسورتي الخاطر تندبان حظهما فاحتسبتا هذه المصيبة عند الله الذي لا تضيع عنده المظالم .. لقد عز على العروسين الهاشميتين في بداية زواجهما أن تتركا بيت النبوة وهما صغيرتين ولكن عودتهما الآن مطلقتين لهو أشد وأصعب وأقسى مهما تحدث الناس عن صعوبة العيش مع حمالة الحطب .. لقد كان زواجهما تجربة صعبة إذ انتزعتا من حضني أبويهما وهما صغيرتان أما طلاقهما فقد كان صفعة قاسية لكل معالم الود والقربى .
عادت رقية وأم كلثوم من بيت الزوجية مطلقتين تحملان همومهما إلى بيت البنوة ولكن بيت النبوة لم يعد كما كان فقد تغيرت الحياة فيه بشكل عام .. الوالد الكريم مشغول بتعبده ودعوته للناس ، مشغول بتلقي الوحي بين فترة وأخرى .. مشغول بالأعباء والتكاليف التي فرضها عليه ربه جل وعلا .. .مشغول بدعوة عشيرته الأقربين .. مشغول بالعداوة الشديدة التي أبداها قومه قريش وغيرهم من القبائل العربية .. لقد كان بيت البنوة كما عهدناه سابقاً بيت الألفة والمحبة والراحة والهدوء والطمأنينة والسكينة ، أما الآن فقد مضى عهد الراحة والهدوء ومضى عهد الصفاء والرخاء وأقبل عهد الجد والعمل والصبر والمصابرة والمقاومة والمجادلة والدعوة إلى الدين الجديد الذي أنزله الله على نبيه المصطفى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ولذلك كان محمد يقوم الليل كله إلا قليلاً يتفكر في ملكوت السموات والأرض ويتعبد الله جل وعلا .. يناجي ربه في ظلمة الليل عندما يكون الناس نيام ويخاطب زوجته خديجة فيقول لها ( لقد مضى عهد النوم يا خديجة ) .. أجل لقد مضى عهد النوم .. وجاء عهد السهر والاضطهاد والامتحان والابتلاء والعذاب في سبيل الله لقد كان الوالد الحبيب يعود إلى بيته مهموماً حزيناً مما يلاقيه من عنت قريش وعداوتهم وصدهم عن سبيل الله .. ليلقى زوجته الحبيبة الأصيلة خديجة بنت خويلد تمسح دمعته وتجفف عرقه وتهون عليه مصائب الدنيا وتقوي عزيمته وتدفعه إلى الإصرار والصمود في وجه كل العقبات حتى يزول ما به من حزن وهم وأسى .
لقد عادت رقية وأم كلثوم لتشاطرا أبويهما ما يلاقيانه من صعوبات وعقبات في سبيل الله .. لقد أراد المشركون أن يشغلوا رسول الله بإعادة بناته إليه ولكن الله أراد أن تعود العروسان الهاشميتان إلى بيت النبوة لتساعدا أبويهما وتقفا معهما في هذه المحنة العصيبة فكانتا خير معين للأبوين الكريمين في اشد الأيام محنة وقسوة وصعوبة .
*********
الزواج الميمون
خاب ظن مشركي قريش وخاب ظن أبي لهب حين قال لأبنائه ( رأسي من رأسيكما حرام إذا لم تطلقا بنتي محمد ) .. وخاب ظن حمالة الحطب زوجة أبي لهب حين أقسمت على أبنائها أن لا يظلها وابنتي محمد سقف واحد فلقد كانت عودة العروسين الهاشميتين عودة محمودة هادئة رتيبة .. دون صخب أو مضض وبيت النبوة في أمس الحاجة لعونهما ومساعدتهما فلقد تجاوزت خديجة عامها الخمسين وأصبحت لا تستطيع وحدها سد المطالب الرئيسية لبيت النبوة .. خاصة وأن خديجة أصبحت شغلها الشاغل في رعاية زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم والوقوف إلى جانبه في محنته ومصائبه مع قريش وعدائها السافر للدين الجديد .. عادت رقية وأم كلثوم للوقوف بجانب الأم الكريمة ومساعدتها في جميع شئون البيت ريثما يجيء الفرج القريب من الله المجيب .
وفي هذا الأثناء تقدم لخطبة رقية شاب شهم شريف من أشراف مكة ثري من أثريائها صاحب تجارة ومال وفير فلقد شاءت إرادة الله جل وعلا أن يبدل العروس الهاشمية رقية بنت محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم زوجاً مؤمناً صالحاً كريماً من النفر الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام وأحد العشرة المبشرين بالجنة .. أبدلها الله بأفضل شباب مكة حسباً ونسباً وشرفاً وأصلاً.. أبدلها الله بشاب بهي الطلعة جميل الملامح فخم السمات رضي الخلق موفور المال .. ذلك هو عثمان بن عفان ابن أبي العاص ابن أمية بن عبد الشمس أعزه الله في الجاهلية فكان من أعرق فتيان قريش نسباً وشرفاً وعزةً .. يلتقي نسبه مع الرسول الكريم من جهة الأب عند عبد مناف بن قصي وينتهي نسبه إلى الرسول الكريم من ناحية الأم عند عبد المطلب بن هاشم فجدة عثمان لأمه هي البيضاء بنت عبد المطلب جد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم .. قال بن مسعود رضي الله عنه يصف عثمان بن عفان : ( كان عثمان أوصلنا للرحم وكان من الذين آمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ) .
وفي جو الحزن والكآبة الذي خيم على العروسين الهاشميتين رقية وأم كلثوم .. وفي جو الترقب والحذر الذي خيم على بيت النبوة تقدم عثمان بن عفان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله شرف المصاهرة ضارباً في ذلك أحلام قريش وآرائها وخططها عرض الحائط .. فلقد كان من يمن رقية بنت رسول الله أن تترك بيت الكفر والضلال والشرك لتنتقل وبسرعة إلى بيت النور والهداية والإيمان فوافق الرسول الكريم على هذا الزواج الميمون وبارك للعروسين السعيدين زواجهما وحياتهما الجديدة .
ونكاية بالمشركين من قريش فقد قام الصحابي الجليل عثمان بن عفان صاحب المال الوفير والشرف والجاه بإعلان زواجه من رقية بنت محمد رضي الله عنها في حفل دعى إليه القاصي والداني حيث أقيمت الولائم وذبحت الذبائح وجاء الناس من كل حدب وصوب ليباركوا هذا الزواج الميمون ولقد كان حظ النساء في هذه المناسبة أكبر وأوفر حتى أن النساء كنَّ يغنين ويضربن بالدفوف في حفل الزواج الميمون هذا ..
أحسن شخصين رأى إنسان رقيـــــة وبعلها عثمـــــان
كان عثمان بن عفان من أشراف قريش وتجارها المعدودين وشبابها المشار إليهم بالبنان امتلك النسب العريق والحسب الشريف فهو من علية القوم شرفاً وحسباً ونسباً فهو وإن لم يكن هاشمياً فهو أعز وأكرم من كثير من الهاشميين الذين خذلوا رسول الله وظاهروا أعداءه من المشركين وأخيراً طلقوا بناته وأعادوهم إلى بيت أهلهم لا لذنب اقترفوه أو جريمة جنوها وإنما بدافع من الحقد والكراهية لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عقيدة التوحيد التي سفهت آلهتهم وأصنامهم .
لقد كان عثمان بن عفان صاحب خلق رفيع ودماثة في الطباع وسمو في الأخلاق وكان محبوباً في قومه وعشيرته حتى المشركين منهم فقد كان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين في كثير من الأحيان كان صادقاً أميناً تقياً ورعاً كريماً جواداً سباقاً إلى الخير .. كان عثمان بن عفان من التجار الأثرياء المعروفين في مكة المكرمة والمعروفين بكثرة تجارتهم فقد كان يسير القوافل إلى بلاد الشام واليمن في رحلتي الشتاء والصيف وإن كان سفره ضمن هذه القوافل قليلاً إذ كان يؤثر المبيت في مكة ويرسل غيره في تجارته .. كان عثمان بن عفان يتميز على أقرانه من شباب مكة بالجدية والحزم وقوة الشخصية وسعة فـي الخبرة وكثرة في المال وجمال في المنظر وأناقة في المظهر قل أن تجد مثل هذه الصفات تجتمع لشاب من شباب مكة بل لشاب في كل القبائل العربية ..
وعلى الرغم من حضور كل المسلمين وعدد وفير من المشركين حفل زواج عثمان بن عفان من كريمة الرسول صلى الله عليه وسلم رقية إلا أن زعماء قريش من المشركين آذاهم هذا الزواج الميمون وسفه أحلامهم وكسر كلمتهم فلم يحضروا هذا العرس الكريم بل باتوا بغيظهم وحقدهم يتهامسون عن هذا الخصم العنيد الذي يزداد قوة ومنعة كلما ازدادوا طغياناً وعدواناً .
اشتد أذى قريش على المسلمين المؤمنين الذين اتبعوا الدين الإلهي الجديد فكانت كل قبيلة تحاول أن تفتن غلمانها المؤمنين عن هذا الدين الجديد واشتد الأذى وعم البلاء ووصل الأمر إلى حد السجن والضرب والتقييد بالسلاسل وأحياناً التعذيب حتى الموت كما حدث لأم عمار سمية أول شهيدة في الإسلام حيث قام عدو الله أبو جهل فبقر بطنها وهي حامل فماتت ومات الجنين معها فكانت أول شهيدة في الإسلام وكذلك ياسر والد عمار الذي لاقى العذاب الشديد بسبب إسلامه بالدين الجديد ولقد كان رسول الله يمر على أصحابه وهم يُعذبون وليس لديه من قوة ترد الضرر والأذى عن هؤلاء المؤمنين الطيبين الطاهرين فكان يدعو لهم الله أن يحتسب لهم أجر هذا الأذى يوم القيامة فكان يقول لسمية وزوجها وابنها وهم يُعذبون في الحر الشديد على بطحاء مكة ( صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة ) ..
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حماية الهاشميين وعلى رأسهم عمه أبو طالب .. وفي حماية بني أسد وعلى رأسهم خديجة بنت خويلد الأسدية وفي حماية أخواله وأقارب أمه من بني زهره فلم يتجرأ المشركون في تلك الفترة من التاريخ أن يصلوا إليه بالأذى والتعذيب إذا ما استثنينا بعض الشتائم والبذاءات التي كانت تصدر عن سفهاء قريش إلا أنه بشكل عام كان يتحرك بكامل حريته وملء إرادته .. وكان يبذل جهداً كبيراً شاقاً من أجل الدعوة إلى الله ونشر دين الله بين قبائل العرب .. وكان ينتهز الفرص والمناسبات التي تجمع القبائل العربية وخاصة في موسم الحج لتبليغ الرسالة وتأدية الأمانة .
ومن يركب سيارة اليوم ويتوجه من مكة المكرمة إلى مدينة الطائف عبر طرق ممهدة مزفته ليصعد الجبال ويهبط الوديان يستطيع أن يستشعر كيف ذهب محمد رسول الله من مكة إلى الطائف ماشياً عبر المسالك الوعرة ليصل إلى مدينة الطائف يدعو أهلها إلى الإسلام فيأبوا إلا أن يسلطوا عليه غلمانهم وسفهائهم ويضربوه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين .. فنزل جبريل عليه السلام وقال : ( يا محمد إن الله يقرئـك السلام وقـد أ رسل معي ملك الجبال فلو أمرتـه أن يطبق عليهم الأخشبين لفعل ) .. فقـال الرسول الكريم ذو القلب الرحيـم : ( بل استأني بهم لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحده ويعبده ) .. هذه العظمة وهذه النفس السامية وهذه الروح الطيبة الرحيمة الشفوقة الحريصة على نشر دين الله في كل بقعة يمكن أن يصل إليها ، لا يمكن أن تتحقق إلا لنبي مرسل من عند الله بل إلا لمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
كانت المجاهدة الصابرة أم كلثوم بنت محمد صلى الله عليه وسلم تقف مع أمها خديجة إلى جنب رسول الله تعيناه على مصائب الدنيا ومصاعبها وتقفان إلى جنبه في وجه عدوان قريش والمشركين من القبائل الأخرى .. إضافة إلى مساعدة أمها خديجة في أعمال البيت المختلفة حيث أن فاطمة الزهراء كانت صغيرة نحيفة لا تقوى على مسؤوليات بيت النبوة .. لقد ظلت أم كلثوم رضي الله عنها تكافح وتجاهد ضد عدوان المشركين فترة طويلة من الزمان خاصة وأن والدها في تلك الفترة كان في شغل شاغل في الدعوة إلى الله ونشر دين الإسلام وتبليغ أوامر الله لكل من يستطيع الوصول إليه .
اشتد أذى قريش على المسلمين الصابرين الصادقين بشكل كبير حتى أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه في الهجرة إلى الحبشة وكان على رأس المهاجرين عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت محمد رضي الله عنها وقعدت المجاهدة الصابرة أم كلثوم مع أختها الصغيرة فاطمة تتحملان المصائب والأذى من المشركين بعد سفر أختها رقية مع زوجها عثمان بن عفان إلى الحبشة .. كما تتحملان أعباء البيت ومساعدة الأبوين الكريمين على مصاعب الحياة .
******
الحصار الظالم
بدأت دعوة الإسلام تنتشر في مكة بشكل ملفت للنظر حتى وصل إلى بيوت زعماء قريش من المشركين فأحسوا بالخطر الداهم على سيادتهم وزعامتهم .. اجتمع زعماء قريش في دار الندوة وتعاهدوا على مقاطعة بني هاشم وبني عبد المطلب وبني عبد مناف وحصارهم حصاراً شديداً حتى يتخلوا عن محمد بن عبد الله ويسلموه إلى قريش لتقتله وتتخلص من خطره الداهم عليهم .. بعد أن سفه أحلامهم وسب آلهتهم ونال من عزتهم وسيادتهم على القبائل العربية وللتأكيد على هذه المعاهدة وهذا الاتفاق الظالم قاموا بكتابة هذه المعاهدة على صحيفة علقت في سقف الكعبة من الداخل دلالة على أهمية هذه الصحيفة وأهمية الالتزام بها .. قام بكتابة هذه الصحيفة ( بغيض بن عامر بن هاشم ) الذي دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت يده التي كتب بها الصحيفة .. ولقد كان من بنود هذه الصحيفة الظالمة :
أن لا يبيعوهم أية سلعة كانت . أن لا يشتروا منهم أية سلعة كانت . أن لا يتزوج من بناتهم . ولا يزوج شبابهم . أن يمنعوا عنهم المأكل والمشرب والميرة والمؤونة . أن لا يجالسوهم ولا يكلموهم .
انحاز بنو هاشم وبنو عبد المطلب وبنو عبد مناف مؤمنهم وكافرهم للوقوف مع محمد بن عبد الله ضد بقية القبائل وذلك بدعوة من الشيخ أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم وزعيم الهاشميين إلا أبا لهب عم الرسول فإنه تحالف مع قريش ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعشيرته الأقربين .. ودخل بنو هاشم في الحصار دعماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الصابرين معه .. دخل بنو هاشم مسلمهم وكافرهم للوقوف بجانب الحق المبين ضد الظلم والظالمين ولاقوا في هذا الحصار صنوف العذاب لاقوا الجوع والمرض والبرد الشديد والعطش حتى وصل بهم المقام أن يجمعوا الحشائش من الأرض وأوراق الشجر ليأكلوها ويطعموا أبناءهم الذين علت صيحاتهم من ألم الجوع والعطش والمرض .. ولكن زعماء قريش لم يبقوا على قلب واحد في عدائهم للرسول الكريم وعشيرته الأقربين وذلك بعد أن فشل حصارهم أمام صمود المؤمنين الصابرين وأمام صمود حتى المشركين منهم من بني هاشم ضد ظلم قريش .. لقد رأى بعض المنصفين المآسي والأحزان والجوع والمرض والبرد الذي دب في أوصال أبناء العمومة من بني هاشم والأقارب من بني أسد والقبائل الأخرى فكانوا يرسلون المؤن والزاد والطعام والألبسة خلسة إلى شعب أبي طالب حيث تم حصار الرسول الكريم وصحبه المؤمنين الطاهرين مع بقية من عشيرة الرسول الأقربين .
كانت المجاهدة الصابرة أم كلثوم مع والديها وأختها فاطمة الزهراء في ذلك الحصار الظالم وكانت تصارع الجوع والمرض وتساعد والديها وتساعد المرضى والجياع من المؤمنين الصابرين .. كانت تشفق على أختها فاطمة الصغيرة النحيفة التي لا تستطيع مواجهة الصعاب ومقاومة الجوع والمرض ... كانت أم كلثوم تقف بجانب أختها الصغيرة فاطمة وتؤثرها على نفسها كيف لا وقد أصبحت أكبر البنات في بيت النبوة حيث هاجرت أختها رقية مع زوجها إلى الحبشة وبقيت أختها زينب بحماية زوجها أبي العاص بن الربيع في مكة .
بقي بنو هاشم محاصرين محبوسين في شعب أبي طالب فضيق عليهم وذلك من أول المحرم سنة سبع من البعثة وبقوا تحت الحصار الظالم ثلاث سنوات حتى بلغهم الجهد وأمضهم المرض والجوع وسمع الناس أصوات صبيانهم يتضاغون بالبكاء من شدة الجوع والبرد والمرض والعطش .
ولعل من المفيد هنا ن نذكر أن الله جل وعلا أطلع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو محاصر في شعب أبي طالب أن الأرضة ( وهي حشرة من حشرات الأرض ) قد أكلت جميع ما في الصحيفة من جور وظلم وقطيعة إلا ذكر الله عز وجل .. وهنا جاء التحدي الصاعق لقريش فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب بخبر السماء فخرج أبو طالب شيخ بني هاشم إلى قريش فأخبرهم أن ابن أخيه محمد بن عبد الله قد قال كذا وكذا .. فإن كان كاذباً خلينا بينكم وبينه وإن كان صادقاً رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا فقالوا قد أنصفت وصدقت يا أبا طالب .. فلما فتحوا باب الكعبة المقفل وأنزلوا الصحيفة وجدوا بأم أعينهم معجزة الرسول الكريم .. وجدوا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أكلت الأرضة كل ما في الصحيفة من كلمات الظلم ولم يبق مما كتب فيها إلا كلمة واحدة هي ( باسمك اللهم ) .. ولكن المشركين بعد هذه المعجزة الظاهرة البينة لم يزدادوا إلا ظلماً وكفراً وجحوداً ..
والحقيقة أن المآسي والأحزان والجوع والمرض والبرد والعطش الذي يلاقيه بنو هاشم قد أثار العواطف الإنسانية عند عدد من زعماء قريش كان على رأسهم المطعم بن عدي وحكيم بن خويلد وغيرهم خاصة وأنهم أعطوا الشيخ أبي طالب عهداً إن صدق محمد في خبر الصحيفة بفك الحصار ورفع الظلم إضافة إلى ذلك فقد تيقنوا من صدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصدق دعوته ودينه وتيقنوا أيضاً أن خبر السماء يأتيه بالبينة والصدق فتعاهدوا على فك الحصار وإلغاء الظلم وكان ذلك بعد ثلاث سنوات مريرة قضاها المؤمنون مع عشيرتهم في أسوأ حال خاصة وأن عدداً من بني هاشم قد قضوا نحبهم وهم تحت هذا الحصار الظالم .
خرج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من الشعب مع صحابته المؤمنين وعشيرته الأقربين بعد ثلاثة أعوام وفرح المؤمنون بالفرج وعادت أواصر القربى والنسب وعادت العلاقات الاجتماعية بين أبناء العمومة وعادت المعاملات المادية والبيع والشراء والزواج وذلك بفضل الله أولاً وبفضل الصبر والمصابرة التي كسرت هذا الحصار الظالم .
عادت أم كلثوم إلى بيت النبوة بعد شوق زائد وقد أمضها الحصار وأنهكها التعب والجوع والمرض عادت لتتسلم زمام بيت البنوة بدلاً عن أمها خديجة بنت خويلد التي أنهكها طول العمر والتعب والشقاء والجوع والمرض في فترة الحصار الظالم فكانت أم كلثوم هي الراعية الأولى في بيت النبوة تلبي حاجة والدها ووالدتها وأختها الصغيرة فاطمة .. ولقد كانت المجاهدة الصابرة أم كلثوم بنت محمد خير من يرعى بيت النبوة بعد أن تراجعت صحة والدتها خديجة فكانت تقوم بدلاً عن أمها بكل مسئوليات هذا البيت الكريم .
عام الأحزان والمصاعب
لم تكتمل فرحة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وآل بيته الطاهرين الطيبين وصحابته المؤمنين بفك الحصار الظالم من قريش فلم يمض على فك الحصار ستة أشهر حتى مات الشيخ أبو طالب عم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والسند القوي المتين أمام مشركي قريش فحزن الرسول الكريم أشد الحزن على وفاة عمه أبي طالب وحزن أكثر أن دعاه إلى الإسلام والإيمان فأبى .. وبعد وفاة الشيخ أبي طالب بأيام ماتت السيدة خديجة بنت خويلد زوج الرسول الكريم وأم المؤمنين فزاد حزن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على وفاة زوجته المؤمنة الطاهرة التي وقفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفة مشرفة حتى قال عنها رسول الله بعد وفاتها : ( والله ما أبدلني الله خيراً منها ) .
كان لوفاة الشيخ أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم ثم وفاة خديجة بنت خويلد زوج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أكبر الأثر على بيت النبوة فقد حزن الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الحزن وحزنت أم كلثوم المجاهدة الصابرة على عمها ووالدتها أشد الحزن أما فاطمة الصغيرة فقد كان وقع المصاب الأليم عليها أشد وأمر فلقد كانت الصغيرة المدللة عند أمها التي تحبها وترعاها وتحنو إليها ولكنها الآن فقدت أمها منبع العطف والحب والحنان .. لقد حاولت المجاهدة الصابرة أم كلثوم بنت محمد أن تضفي على أختها الصغرى فاطمة مزيداً من الحب والرأفة والرحمة ولكن لا شيء يعوض حب الأم وعطفها وحنانها .. لقد كانت تهرع إلى حضن والدها الحبيب ولكنها كانت تلمح معالم الحزن والألم على وجه والدها بل ربما لمحت قطرات من الدموع تجول في عينيه فتعانقه لعلها تخفف عنه ذلك المصاب الأليم .
وفي هذا الوقت بالذات اشتد أذى قريش على الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم خاصة بعد أن كثر أتباعه وانتشرت دعوته لتصل إلى القبائل والمدن المجاورة مما ينذر بالخطر على سيادة قريش وزعامتها على القبائل العربية .. لم يتجرأ سفهاء قريش على التعرض المباشر والعداء السافر والأذى الشديد للرسول صلى الله عليه وسلم في حياة عمه أبي طالب وزوجته خديجة وذلك لما كان للعم أبي طالب من مركز وشرف ومكانة ليس في بني هاشم أو قريش فحسب وإنما في القبائل العربية كلها وكذلك الأمر بالنسبة لخديجة التي كان وراءها بنو أسد لا يتأخرون عن أمر تأمر به خديجة بنت خويلد .. أما بعد وفاتها فقد خلت الساحة لسفهاء قريش وصبيانها ليعتدوا على الرسول وعلى بناته أم كلثوم وفاطمة بشتى أنواع الأذى والضرر فلم يتورعوا عن ضربهم بالحجارة أو إلقاء الشوك والقاذورات أمام بيتهم والرسول الكريم وبناته الطيبين الصابرين محتسبين كل هذه المصاعب عند رب رحيم لا يغرب عنه مثقال ذرة ي السموات والأرض .
بحث الرسول الكريم في مكة عن ركن قوي يركن إليه يساعده ويعينه ويحميه لتبليغ الرسالة السماوية ولكن زعماء قريش كلهم قد تألبوا عليه أو وقفوا على الحياد في أسهل الأحوال لذلك فكر في الانطلاق خارج مكة المكرمة فتوجه مع خادمه زيد بن حارثه إلى الطائف أقرب المدن إلى مكة المكرمة فأقام فيها عشرة أيام لا يدع أحداً من أشرافهم وزعمائهم إلا جاءه وكلمه ولكنهم رفضوا دعوة الله وأصروا على كفرهم وعنادهم وقبل أن يغادر النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم الطائف كان زعماء الطائف قد أغروا صبيانهم وسفهاءهم ليقفوا على جانبي الطريق محملين بالحجارة والأوحال فأخذوا يرمون رسول الله وخادمه حتى دميت قدماه وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم أما زيد بن حارثه الذي كان يحاول أن يحمي رسول الله بنفسه فقد شح رأسه وجرح حتى تمكنوا من الخروج من الطائف .. وانصرف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى مكة وفي طريق العودة جلس على صخرة وأخذ يدعوا ربه ( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي .. وقلة حيلتي .. وهواني على الناس .. يا أرحم الراحمين .. أنت رب المستضعفين .. وأنت ربي .. إلى من تكلني .. إلى بعيد يتجهمني .. أم إلى عدو ملكته أمري .. إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي .. غير أن عافيتك هي أوسع لي .. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات .. وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة .. أن يحل عليَّ غضبك .. أو ينزل بي سخطك .. لك العتبى حتى ترضى .. ولا حول ولا قوة إلا بك ) .
وفي هذه اللحظات الحاسمة جاءه جبريل ومعه ملك الجبال فقال : ( يا محمد إن الله يقرئك السلام وهذا ملك الجبال معي لو أمرته أن يطبق عليه الأخشبين لفعل ) .. فقال الرسول الكريم ذو القلب الرحيم ( بل أستأني بهم لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئاً ) ..
وعاد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى مكة ودخل مكة بجوار المطعم بن عدي الذي أجاره وحماه فدخل المسجد الحرام وصلى فيه وعاد إلى بيته لتستقبله ابنتاه أم كلثوم وفاطمة بمزيد من الشوق والخوف واللوعة وأخذت المجاهدة الصابرة أم كلثوم تضمد جراح أبيها وقلبها يقطر حزناً وألماً على ما أصابه .
لم يتوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تبليغ دعوة السماء إلى الناس كافة رغم الجحود والصددود التي كان يلاقيها من المشركين خاصة وأن زعماء قريش وعلى رأسهم عمه أبو لهب وأبو جهل الحكم بن هشام كانوا يسيرون خلفه يكذبون دعوته ويتهمونه بالمس والجنون والكذب وغير ذلك من الصفات السيئة لكي ينفض الناس عن رسول الله ويبتعدوا عن طريق الحق والصواب الذي جاء به من عند الله .. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواسم الحج والتجمعات العربية يلتقي بوفود القبائل العربية فرداً فرداً ويعرض عليهم أن يؤمنوا بالدين الجديد الذي جاءه من الله جل وعلا وكان يسأل عن وفود القبائل ومنازلهم قبيلة قبيلة ويقول لهم : ( يا أيها الناس .. قولوا لا إله إلا الله تفلحوا .. وتملكوا بها العرب .. وتدين لكم بها العجم .. فإذا آمنتم كنتم ملوكاً في الجنة ) وكان عمه أبو لهب يمش وراءه ويقول : ( لا تطيعوه فإنه صابئ كذاب ) .
كان رسول الله صلى الله وسلم يعود إلى بيته ليرى ابنته المجاهدة الصابرة أم كلثوم بنت محمد تواسي آلامه وتضمد جراحه وتبذل كل جهد لإسعاد والدها الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم أما الصغيرة فاطمة فكانت أنسه في غربته وسلوته في وحدته وفرحه ومرحه كلما عاد إلى بيته .
****** الهجرة إلى المدينة
جاء موسم الحج وأقبلت القبائل العربية بقضها وقضيضها إلى مكة المكرمة لأداء الحج حسب ما توارثوه عن الآباء والأجداد من لدن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام .. وعلى الرغم مما دخل على عقدية التوحيد عند العرب من شوائب ولوثات الشرك إلا أن تعظيم بيت الله الحرام وتقديس الكعبة المشرفة والأماكن المقدسة ظل ماثلاً قائماً عند معظم القبائل العربية أو ربما كل القبائل العربية .. أقبلت وفود الحجيج من كل أرجاء الجزيرة العربية وتحت ضيافة قريش القائمة على خدمة الحجيج في مكة المكرمة .
انتهز رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الفرصة وأخذ يتصل بوفود الحجاج ويكلمهم فرداً فرداً راجياً من الله جل وعلا أن يشرح صدور بعض المشركين وتتفتح قلوبهم إلى هذا الدين القويم .. وكان من بين القادمين وفود من قبيلتي الأوس والخزرج من مدينة يثرب والتي يقطنها بعض قبائل اليهود ..
كان أهل المدينة من الأوس والخزرج يسمعون من يهود المدينة أن نبياً من الأنبياء مبعوث في هذا الزمان سيخرج من بين جبال فاران فنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وثمود .. وكان اليهود لا يحجون إلى مكة المكرمة .. فلما رأى نفر من الأوس والخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا الناس إلى الله والى دين الله الجديد وتأملوا أحواله وسألوا عن سيرته في قومه قال بعضهم لبعض ( تعلمون والله يا قوم أن هذا الرجل هو النبي المنتظر الذي تواعدكم به يهود المدينة فلا يسبقنكم إليه ) .
آمنت وفود الأوس والخزرج بسرية تامة وعادوا إلى أهلهم بالمدينة فأسلموا بإسلامهم حتى لم تبق دار من دور الأنصار في مدينة يثرب إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون إسلامهم .
اشتد أذى قريش واضطهادها للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين الطيبين الطاهرين فأمر أصحابه بالهجرة إلى مدينة يثرب والتي سميت بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها بالمدينة المنورة .. حيث تحالف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قبيلتي الأوس والخزرج المقيمتين في مدينة يثرب وذلك للنصرة والحماية بعد أن آمن زعماء هاتين القبيلتين وكثير من الأوسيين والخزرجيين فكانت هذه الهجرة المباركة هي بداية الدولة الإسلامية التي انتشرت فيما بعد في جميع أنحاء العالم .. هاجر معظم أصحاب رسول الله من المؤمنين الطاهرين الطيبين إلى مدينة يثرب وبقي رسول الله صلى اله عليه وسلم مع نفر قليل من أصحابه في مكة .. وبقيت ابنته زينب بنت محمد في حماية زوجها أبي العاص بن الربيع الذي كان من أشراف بني أسد فلم تهاجر إلى مدينة يثرب بادئ ذي بدء أما رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم فقد هاجرت مع زوجها وابنها الرضيع عبد الله بن عثمان رضي الله عنهم إلى الحبشة بينما كما هاجرت أم كلثوم وفاطمة إلى المدينة قبل هجرة رسول الله بأيام قليلة .. ولم يدم الأمر طويلاً حتى فتحت قريش أعينها على أصحاب رسول الله وقد هاجروا بقضهم وقضيضهم إلى مدينة يثرب وشكلوا فيها قاعدة قوية بحماية الأوس والخزرج وأحست قريش أن هذه القوة المؤمنة المدعومة من قبيلتي الأوس والخزرج قد تشكل قوة ضاربة تهدد كيان قريش كلها وتهدد زعامتها على القبائل العربية كلها .. اجتمع قادة قريش وزعماؤها في دار الندوة في مكة وتباحثوا أمرهم في شأن محمد وفي تكاثر أتباعه وتعاظم قوته فلم يجدوا حلاً إلا في قتل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .. ذلك لأنه إذا وصل إلى أتباعه في مدينة يثرب ستكون لهم قوة وشأن يضربون بها قوة قريش وسيادتها وزعامتها على كل القبائل العربية ولكن من سيقتل محمداً ووراءه بنو هاشم وبنو أسد وبنو زهره وغيرهم من المتعاطفين معه وإن لم يكونوا قد أسلموا بعد .. من سيتورط في مثل هذا الأمر الجلل ولكنهم توصلوا أخيراً إلى حل يرضي الجميع ألا وهو أن تشترك جميع القبائل في قتله صلى الله عليه وسلم .. لقد كانوا يتآمرون ويتفقون على قتل محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنهم يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ..
اختارت كل قبيلة من القبائل العربية فتىً جلداً شديداً يمثلها في قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا ضربوه ضربة رجل واحد تفرق دمه في القبائل كلها واضطر بنو هاشم لقبول الدية إذ لا يستطيعون مجابهة كل القبائل في الحرب وفي أخذ الثأر .
كانت هذه الأخبار تصل إلى زينب عن طريق زوجها أبي العاص بن الربيع الذي كان واحداً من أشراف قريش المجتمعين في دار الندوة .. وكان أبو العاص بن الربيع يشفق على رسول الله من تخطيط قريش وتآمرها واتفاقها على قتله .. وكانت زينب عند سماعها لمثل هذه الأخبار من زوجها تلح على رسول الله أن يغادر مكة المكرمة حتى لا تطاله يد سفهاء قريش .. وكانت زينب تنقل إلى والدها كل ما تسمع وكل ما يقال في أندية قريش .
وفي اليوم الموعود تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بالهجرة من السماء فطلب من صاحبه الصديق أن يجهز الرواحل والدليل وزاد الطريق وكل ما يلزم للهجرة الميمونة إلى مدينة يثرب وذلك كله بسرية تامة بعيداً عن أعين قريش ومسامعها .. وفي نفس الوقت بالذات كانت قريش قد اتخذت قرارها وجهزت كل قبيلة من القبائل فتىً يمثلها في قتل محمد صلى الله عليه وسلم وعلمت زينب الخبر ولكنها لا تستطيع أن تقدم لوالدها الحبيب أية مساعده ولكنها كانت تعلم حق العلم أن الله سيحمي والدها من كيد قريش وعدوانها .. وتحت جنح الظلام اجتمع فتيان القبائل حول بيت محمد وانتظروا خروجه لصلاة الفجر كعادته .. وكان عبد الله بن أبي قحافه أبو بكر الصديق رضي الله عنه قد جهز ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبات ينتظره في مكان ما متفق عليه .. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين العصبة المشركة الذين تآمروا على قتله .. خرج من بين أظهرهم وهم نائمون فأخذ يحسو التراب على رؤوسهم واحداً واحداً وهو يقول : ( شاهت الوجوه .. شاهت الوجوه ).. وفي ذلك يقول ربنا جل شأنه : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليقتلوك أو يثبتوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) .
خرج محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق من مكة المكرمة وهو يقول : ( والله لإنك أحب بلاد الله إلى قلبي ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت منك ) .. أفاق فتية مكة المتحلقين حول بيت رسول الله والمتربصين برسول الله من غفوتهم على نبأ خروج محمد بن عبد الله من بين أظهرهم دون أن يعلموا واستشاطت قريش غضباً وأخذت بمطاردة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل جهة من جهات مكة .. وسرى الهمس بين مشركي مكة عن خروج محمد صلى الله عليه وسلم فأخذوا يبحثون عنه في كل مكان ويطاردونه في كل اتجاه .. وأعلنوا عن جائزة كبيرة لا يحلم بها أي فتى من فتيان مكة لمن يأتي بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أحياءً أم أمواتاً .. وانطلق الشباب الغر في كل اتجاه وكل واحد منهم يحلم بالجائزة السخية التي وضعتها قريش لمن يأتي بمحمد وصاحبه .. كانت خطة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يختبئ مع صاحبه في غار خارج مكة هو غار ( ثور ) الذي يقع جنوب غرب مكة بعكس اتجاه طريق يثرب لتموه على المشركين حتى تهدأ الأوضاع وتفقد قريش أملها في الإمساك بمحمد صلى الله عليه وسلم بعدها ينطلقوا إلى مدينة يثرب بمعية الله وحمايته .
كان فرسان قريش يطوفون في كل اتجاه ويبحثون في كل مكان حتى وصلوا إلى الغار الذي يختبئ به رسول الله وصاحبه حيث أشفق الصديق على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له صاحبه هامساً : ( يا رسول الله لو نظروا إلى أقدامهم لرأونا ) .. فيرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الواثق بحماية الله ثقة كاملة مطلقه : ( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالهما ) .. ما أجمل هذه الكلمة وما أعظم هذه الثقة وما أروع هذا التسليم المطلق بمعية الله وفي ذلك يقول ربنا جل شأنه في هذه الحادثة بالذات : ( إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ).
وهنا أريد أن أقرر فكرة هامة ألا وهي فضل الصحابي الجليل أبي بكر الصديق الذي وصفه الله جل وعلا بأنه صاحب رسول الله وشريكه في رحلة الهجرة بينما نسمع بعض السفهاء المارقين يتهمونه وابنته الصديقة بنت الصديق بأبشع الصفات قاتلهم الله أنى يؤفكون .. وفي هذه الأثناء كانت زينب أشد الناس قلقاً وخوفاً على رسول الله ذك لأنها كانت في مركز الأحداث وتسمع كل يوم الكثير الكثير من الشائعات والأكاذيب عن قتل محمد والإمساك بمحمد فكانت تبكي ما وسعها البكاء وزوجها أمامها وهو من زعماء مكة وأشرافها ولا يستطيع أن يحرك ساكناً .. كانت زينب تعيش أشد حالات الخوف والفزع والهلع على مصير والدها وهي تسمع عن خروج صناديد مكة وفرسانها في مطاردة والدها خاصة وأن الشائعات في مثل هذه الأجواء المضطربة تكثر ويشتد أثرها فكثيراً ما كانت تسمع عن قتل والدها أو قتل صاحبه أو عن أ سر والدها وإحضاره إلى مكة موثقاً مكبلاً بالأغلال أمام أشراف قريش أو غير ذلك كثير من الشائعات الكاذبة المضللة .. ولكنها رغم كل شيء فقد كانت واثقة بنصر الله وحمايته ورعايته لحبيبه المصطفى صلى اله عليه وسلم .. أما أصحاب رسول اله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار في مدينة يثرب وعلى رأسهم أم كلثوم وفاطمة بنتا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانوا يعيشون فترة حرجة على أحر من الجمر وهم أيضاً يسمعون أنباء المطاردة الشرسة العنيدة التي تقوم بها قريش ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدأت الأنباء تتسرب إلى زينب في مكة المكرمة وإلى بنات رسول الله وأصحابه في مدينة يثرب عن اقتراب وصول رسول اله صلى الله عليه وسلم إلى مدينة يثرب حيث لا يستطع فرسان قريش من الاقتراب من هذه المنطقة التي لا سلطة لهم عليها .. خاصة وأن قبيلتي الأوس والخزرج متحالفون مع رسول الله .. كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرجون مع بزوغ شمس كل يوم ويصعدون رابية مرتفعة ينظرون نحو الجنوب لعلهم يروا طيف قادم من بعيد أو خبراً من الركبان يطمئنهم عن وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا شيح بعيرين من بعيد فاستبشروا بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهرع فرسان يثرب باتجاه البعيرين القادمين ليستقبلوا موكب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ينشدون بصوت مرتفع يشق عنان السماء :
طلـــــع البـــــــدر علينا
من ثـنيــــــات الوداع وجب الشكر علينـا
مـــــــا دعـــا لله داع
أيهـــــــا المبعوث فينا
جئت بالأمر المطاع جئت شرفت المدينــة مرحباً يا خيــــر داع
وصل رسول الله صلى اله عليه وسلم إلى مأمنه في دار الهجرة في مدينة يثرب التي بارك الله فيها للمؤمنين وجعلها مركز انطلاق لهذا الدين القويم وبداية أول دولة إسلامية في التاريخ حيث انتشر الإسلام يعد ذلك في كل أصقاع المعمورة .. وهذه معية الله .. وهذه حماية الله للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه .وهذه منة من الله جل وعلا على الرسول الكريم وعلى أصحابه الغر الميامين الطيبين الطاهرين .. فقد حفظ الله نبيه حتى أكمل الرسالة وأدى الأمانة ونصح أمة الإسلام وأتم بناء الدولة المسلمة التي أراد الله فيها الخير العميم ليس لمدينة يثرب فحسب وليس للمؤمنين وحدهم وإنما للبشرية جمعاء .
*******
كانت المجاهدة الصابرة أم كلثوم وأختها فاطمة الزهراء رضي الله عنهما في أشد الشوق الممزوج بالخوف والحذر على والدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وصل إلى مدينة يثرب التم شمل الأسرة الصغيرة التي ضمت رسول اله صلى الله عليه وسلم مع ابنتيه أم كلثوم وفاطمة .. ثم ما لبثت أن لحقت بهم رقية بنت رسول الله مع زوجها عثمان بن عفان رضي الله عنهم وأرضاهم .. أما زينب فقد بقيت وحيدة في مكة المكرمة بحماية زوجها أبي العاص بن الربيع أحد زعماء بني أسد .
كانت أم كلثوم ترعى رسول الله في غربته وفي موطنه الجديد وتقوم على خدمته ورعايته فقد كانت سيدة بيت النبوة في تلك الفترة من التاريخ بلا منازع بعد أن توفيت والدتها خديجة وتزوجت أختاها زينب ورقية ولم يبقى معها إلا أختها الصغيرة فاطمة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
لقد كان أول عمل قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة هو بناء مسجد قباء أول مسجد في الإسلام حيث شاركت المجاهدة الصابرة أم كلثوم بنت محمد وأختها الزهراء فاطمة وشارك معظم المسلمين من المهاجرين والأنصار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء هذا المسجد الذي نراه اليوم صرحاً شامخاً من صروح مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وبعد إتمام بناء مسجد قباء والذي كان مسجداً متواضعاً .. أركانه جذوع النخل وسقفه من عسيب النخل .. انطلق على ظهر ناقته والصحابة الكرام من المهاجرين والأنصار يتجمعون حوله كلٌ يريد أن يأخذ بخطام ناقته ليذهب برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته .. أما رسول الله فكان يقول : ( دعوها فإنها مأموره ) .. وظلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسير حتى بركت قرب بيت أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وهذا المكان بالذات هو موقع بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وموقع المسجد النبوي الشريف الذي لا يزال شاخصاً عبر التاريخ الطويل ليعيد لنا ذكرى هجرة الرسول الكريم إلى المدينة المنورة .. ومن ذلك اليوم بدأت دولة الإسلام وبدأت راية الإسلام ترتفع .. ومن هذه البقعة الطاهرة بالذات ابتدأ المد الإسلامي ليصل إلى كل بقاع الدنيا حتى عم العالم بأثره .
غزوة بدر الكبرى
التم شمل بيت النبوة في المدينة المنورة بعد وصول رقية وزوجها عثمان بن عفان إلى المدينة .. ولم يبقى في مكة إلا زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث بقيت مع أولادها وبحماية زوجها أبي العاص بن الربيع الذي كان أحد زعماء قريش ، لقد كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة حدثاً هاماً في تاريخ الإسلام بشكل عام فقد آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار وأصبحوا مجموعة متماسكة صلبة تتمسك بعقيدتها وتؤمن بربها وتصدق رسولها فكانت هذه العصبة المؤمنة الموحدة نواة لدولة الإسلام الأولى ما لبثت أن قويت واشتد عودها وأصبحت لها كلمتها في كل القبائل العربية .
اشتدت شوكة الإسلام في المدينة المنورة حيث دخلت قبيلتان كبيرتان في الإسلام بشكل كامل هما الأوس والخزرج واتفق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قبائل يهود على الدفاع المشترك عن المدينة المنورة ضد أي عدوان خارجي وخاصة ما يتوقع أن يكون من قريش ووافقت القبائل اليهودية مجتمعة على هذا الاتفاق .. كانت مدينة يثرب تقع على طريق قوافل قريش التجارية بين مكة وبلاد الشام .. وكانت أكبر قوافل قريش التجارية بزعامة أبي سفيان بن حرب في طريق عودتها من بلاد الشام إلى مكة مروراً بمدينة يثرب .. ورأى المسلمون الفرصة سانحة لاسترداد بعض الحقوق المغتصبة للمسلمين الذين فروا بدينهم من ظلم قريش واضطهادها وذلك في اعتراض قوافل قريش التجارية وضرب عصب التجارة لقريش وتحطيم قوتها المالية والاقتصادية خاصة وإن قريش قد وضعت في هذه التجارة جل أموالها في تجارتها إلى بلاد الشام .. وجاءت الأخبار إلى قريش كالصاعقة المدمرة فهزت أركان قريش وتزعزعت مكانتها وسيادتها وسمعتها واقتصادها ومالها وهيبتها وكبريائها .. هل يتجرأ محمد بن عبد الله الذي خرج بالأمس طريداً هارباً ضعيفاً من مكة ومن معه من القلة القليلة من المسلمين أن يواجه قريشاً بقوتها وعظمتها وكبريائها وجبروتها .. هل يستطيع محمد ومن معه أن يتحدى قريشاً تحدياً سافراً بقوتها وعظمتها .. وتتابعت الأخبار التي يتناقلها الركبان عن اقتراب عاصفة مدمرة عاتية بين قريش بكبريائها وعزتها وسيادتها على كل القبائل العربية وبين محمد ومعه القلة القليلة من المؤمنين وذلك عندما وجدوا الدعم والسند القوي من الأوس والخزرج في مدينة يثرب .. خاصة وأن فئة قليلة من المسلمين استطاعت أن تستولي على قافلة صغيرة سابقة بقيادة عمر بن الحضرمي .. ولكن قافلة أبي سفيان غير قافلة ابن الحضرمي لأن قافلة أبي سفيان تضم معظم أموال قريش .. لقد عاشت قريش أحلك أيامها وهي تسمع تلك الأخبار المؤلمة المتواترة عن اعتراض محمد صلى الله عليه وسلم قافلة أبي سفيان بن حرب حتى تأكد لهم الخبر حين قدم ضمضم بن عمرو الغفاري الذي كان عائداً من الشام مع أبي سفيان فوقف أمام الكعبة على بعيره وهو يصبح بأعلى صوته بعد أن شق ثوبه ( يا معشر قريش .. اللطيمة اللطيمة .. الغوث الغوث .. أموالكم في قافلة أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ما أرى أن الوقت يسمح لكم أن تدركوها ) .. تعالت أصوات الغضب تستنكر هذا التصرف من محمد وأتباعه من المهاجرين والأنصار فقال أبو جهل عمر بن هشام : ( أيحسب محمد وأتباعه أن قافلة قريش مثل قافلة ابن الحضرمي .. لا والله وليعلمن محمد وأصحابه غير ذلك ) .
وفي هذا الوقت بالذات مات عبد الله بن عثمان حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحزنت رقية حزناَ شديداً على ولدها الصغير الذي لم يكد ينهي رضاعته من أمه حتى وافته المنية ليترك بعد ذلك الحسرة والحزن والأسى في قلب الأبوين الكريمين حزنت رقية بنت رسول الله رضي اله عنها حزناً شديداً على وفاة ابنها عبد الله وهو الولد الأول والوحيد عندها وعاشت تحت وطأة الثكل المرير وجاءتها الحمى فأقعدتها طريحة الفراش فترة طويلة من الزمن ..
لقد وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه في المدينة المنورة أنصاراً كثراً ومقاماً محموداً ودعماً سخياً حتى أصبح في مقدورهم أن يهددوا قوافل قريش ويقطعوا عليهم أهم طرق التجارة خاصة وأن قافلة أبي سفيان كانت تضم النقل المالي والاقتصادي لقريش ... لقد عاشت قريش أحلك أيامها وهي تسمع تلك الأخبار المتواترة المؤلمة عن اعتراض محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه قافلة أبي سفيان .. أما القافلة بقيادة داهية العرب أبي سفيان بن حرب الذي ما إن سمع باعتراض المسلمين للقافلة حتى اتجه بالقافلة باتجاه الساحل دون أن يمر في المدينة المنورة ودون أن يمر بمنطقة بدر الطريق المعهود لقوافل الشام وبذلك استطاع أن ينجو بالقافلة .. وفي ذلك فقد كان حرياً بالمشركين حين نجت القافلة أن يرضوا بنجاة القافلة وعودة أموالهم وتجارتهم إليهم إلا أن عمرو بن هشام أبو جهل أصر على الاستمرار في الطريق إلى المدينة لقتال محمد وصحبه وقال قولته المشهورة : ( والله لا نرجع حتى نرد بدراً فننحر الإبل ونشرب الخمر وتعزف علينا القبان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا ) .. وهنا استقر رأي زعماء قريش على حرب محمد فانطلقوا بألف مقاتل من خيرة مقاتلي قريش بكامل عدتهم وعتادهم وخيلهم ورواحلهم بزعامة أبي جهل عمرو بن هشام ..
وفي هذه الفترة الحرجة كانت المجاهدة الصابرة أم كلثوم بنت محمد رضي الله عنها تساعد أختها المريضة رقية التي اشتد بها المرض وأقعدها طريحة الفراش لا تستطيع القيام بأي عمل أو جهد كما أنها كانت تقوم بإعداد بيت النبوة الجديد جانب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت تبذل قصارى جهدها في إعداده وفرشه انتظاراً لعودة الوالد الحبيب من بدر متنصراً غانماً .
وتواردت الأخبار عن تجهزي قريش جيشاً كبيراً لقتال محمد رسول الله وصحبه ونجاة قافلة أبي سفيان وبدأت بوادر الحرب تظهر في الأفق وما هي إلا أيام معدودات حتى نشبت الحرب وانتصر المسلمون بقيادة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم على مشركي قريش انتصاراً ساحقاً مدمراً لجيش الكفر والشرك بقيادة أبي جهل عمر بن هشام قتل فيها زعماء قريش وعلى رأسهم أبو جهل عمر بن هشام .
عاد المسلمون يحملون الغنائم الكبيرة ويسوقون أمامهم الأسرى مكبلين بالأصفاد وكلهم من زعماء قريش وساداتها وفي هذه الفترة كانت أم كلثوم بنت محمد تقف إلى جانب أختها رقية التي كانت تزداد مرضاً وحزناً وكانت الحمى لا تفارقها .
لقد كانت أم كلثوم تواجه الصعاب والأحداث الجسام بكل صبر وثقة بالله جل وعلا فلقد شهدت وفاة عمها أبي طالب وشهدت وفاة أمها خديجة بنت خويلد .. وشهدت عدوان قريش على أبيها وإيذائه أشد الأذى وشهدت مرض أختها رقية .. أما عثمان زوج أختها فلقد كان نعم الزوج المؤمن الصالح الصابر .
عاد المسلمون المجاهدون من غزوة بدر الكبرى فرحين مسرورين بما آتاهم ربهم من نصر ومنعة وأسرى كثيرون وغنائم ضافية وفي هذا الوقت بالذات كانت رقية بنت رسول الله تصارع سكرات الموت .. واشتدت عليها سكرات الموت ثم ما لبثت أن اختلجت شفتاها في حشرجة غير مفهومة وعيناها معلقتان على زوجها الحبيب عثمان بن عفان وأختها المجاهدة الصابرة أم كلثوم ثم ما لبثت أن رفت روحها الطاهرة وغابت عن الوجود .. أما عثمان فقد ظل واجماً شاخصاً ينظر إلى زوجته المهاجرة الصابرة رقية بنت رسول الله يتزود منها بنظرات ملؤها الحزن والأسى في رحلة فراق لا لقاء بعدها في هذه الحياة .. بينما أختها أم كلثوم وفاطمة تبكيان في حرفه وألم وحزن شديد على فراق الفقيدة الغالية رقية بنت محمد ..
لقد خيم الحزن والأسى مرة أخرى على بيت النبوة وتوفيت رقية بنت محمد بعد وفاة والدتها خديجة .. بعد حياة حافلة بالصبر والهجرة والجهاد في سبيل الله حافلة بالإحداث الأليمة حافلة بالصعاب والمسرات حافلة بالحب والفراق فتركت بصمات الحزن والأسى على الزوج الكليم وعلى الأب الرحيم وعلى الأخوات الكريمات فترة طويلة من الزمان ..
لقد فجع بيت النبوة من جديد بالمصاب الأليم بفقد الحبيبة الغالية رقية بنت محمد وهي في ريعان الصبا بعد فقد أم المؤمنين خديجة .. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنته المتوفاة وزوجها إلى جانبها يبكي في حرقة وأسى فاستودعها الله وطلب من النساء اللواتي حولها قائلاً ( اغسلنها وتراً ثلاثاً أو خمساً واجعلن في الآخرة كافورا ) .. وما إن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ابنته رقية حتى تبعه عثمان بن عفان فغادرا مخدع الحبيبة المتوفاة بخطوات مترنحة ونظرات شاردة وقلب حزين فوقفا خارج البيت منتظرين حتى انتهت النساء من غسلها وتجهيزها كما أمرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حملها الرجال المؤمنون إلى مسجد النبي فصلوا عليها ثم حملوها إلى مرقدها الأخير الذي لا يؤوب منه راحل في ثرى طيبه الطيبة رضي الله عنها وأرضاها .. أما الأخوات الطيبات الطاهرات أم كلثوم وفاطمة الزهراء فكانتا أشد الناس حزناً على رقية التي كانت الشقيقة والصديقة والتي عانت في حياتها أشد المعاناة ولكنها صبرت واحتسبت حتى جاءها أمر الله .. رحم الله السيدة رقية بنت رسول الله فقد كانت مثالاً رائعاً للمرأة المسلمة .
الزواج الميمون
لم يستطع عثمان بن عفان رضي الله عنه أن يخرج من حزنه ولا أن ينسى الحبيبة بنت الحبيب رقية بنت محمد رضي الله عنه .. لقد أحبها بكل قلبه وبذل في سبيلها كل ما يملك من عواطف الحب وودعها بكل ما يملك من لوعات الحزن والأسى .. لقد كان حبه لرقية بنت محمد رضي الله عنها شديداً عنيفاً مخلصاً فلما اختارها الله للقاء ربها لم يستطع أن يستحمل هذا المصاب الأليم .. لقد آثر عثمان في تلك الفترة من الزمان العزلة والابتعاد عن الناس قدر ما يستطيع وآثر العزوف عن النساء فلم ينفتح قلبه لامرأة بعد رقية حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عرض عليه ابنته حفصه فأبى واعتذر لأن قلبه لا يزال معلقاً بالحبيبة الغالية رقية رضي الله عنها .
كانت أم كلثوم تلمح عثمان وهو يلازم أباها رسول الله فلا يفارقه .. فلقد كان كل منهما يواسي الآخر في هذا المصاب الأليم فقد الحبيبة الغالية رقية إلى أن كان يوم من أيام شهر ربيع حيث أوى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته يستريح بصحبة ابنتيه أم كلثوم وفاطمة فإذا عمر بن الخطاب يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأذن له بالدخول .. دخل عمر على رسول الله مستثار الغضب يشكو للرسول الكريم صاحبيه أبا بكر الصديق وعثمان بن عفان فقال : لقد عرضت ابنتي حفصه بعد أن مات عنها زوجها خنيس بن حذافة السهمي رضي الله عنه على أبي بكر فسكت ولم يجب وكأنه ليس له حاجة في النساء .. ثم عرضت ابنتي حفصه على عثمان بن عفان فرد علي وهو حزين كئيب بقول ما أريد أن أتزوج اليوم .
كانت أم كلثوم تسمع إلى الحوار الذي يدور بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه .. فسمعت أباها عليه الصلاة والسلام يقول لعمر ممازحاً ملاطفاً له .. ( يتزوج حفصة من هو خير من عثمان .. ويتزوج عثمان من هي خير من حفصة ) .
وعندما سمعت أم كلثوم بنت محمد رضي الله عنها كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى خفق قلبها لما سمعت وأخذت تسأل نفسها .. ترى من هو خير من أبي بكر وعثمان وعمر على اعتبار أن عمر والد حفصة ؟! لا شك إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم خفق قلبها أكثر وهي تسأل نفسها ترى من هي خير من حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها لا شك أنها أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذت تفكر وتفكر هل هي المقصودة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لتشغل مكان أختها الراحلة إلى رحاب ربها .. وهل حقاً هي العروس التي تناسب الرجل الطيب التقي الورع الجواد الكريم عثمان بن عفان .. ولقد عجبت أن أباها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحدثها عن هذا الأمر من قبل وهي تعلم حق العلم أن أباها لا يزوج أي بنت من بناته حتى يستشيرها في الأمر .
وعادت بها الذكرى إلى الماضي البعيد أيام الطفولة والصبا والشباب فتخيلت نفسها مع أختها رقية طفلتان بريئتان تسرحان في مدارج الطفولة ثم فتاتان يافعتان كانتا محط أنظار فتيان بني هاشم بل فتيان مكة كلها ثم عروسان رائعتان في يوم واحد في بيت حمالة الحطب .. ثم مطلقتان عائدتان إلى بيت النبوة في يوم واحد فهل تلتقي مع أختها رقية أيضاً في زوج واحد وإن اختلفت الأيام وتباعدت قبل أن يضمها ثرى طيبة الطيبة في مكان واحد .
لقد كان قلبها يخفق بل كان يرف وكأنه يريد أن يطير ليس لأن عثمان بن عفان من أطيب وأكرم وأنقى شباب المدينة آنذاك فحسب ولكنها لأنها أحبت أن تكون حلقة الوصل بينها وبين أختها رقية في الحياة قبل أن يضمها مع أختها رقية ثرى طيبة بعد وقت لا يعلم مداه إلا الله .. وبينما كانت أم كلثوم ساهمة تفكر في ماضيها ومستقبلها والروابط العجيبة التي ربطت بينها وبين أختها رقية إذ وصلتها دعوة والدها النبي محمد صلى الله عليه وسلم فهرعت إلى غرفة أبيها ليزف إليها البشرى فقد جاءه أمر السماء أن يزوج أم كلثوم للصحابي الجليل عثمان بن عفان رضي الله عنه ..
وفي شهر ربيع الأول سنة ثلاث من الهجرة تم عقد زواج أم كلثوم بنت محمد على عثمان بن عفان على مثل صداق رقية ومثل صحبتها وزفت إلى بيت عريسها في حفل متواضع يناسب المصاعب والأحزان التي تحيط بهذا الزواج المبارك الميمون ولما دخلت بيت عثمان تراءى لها طيف أختها رقية تنتظرها داخل بيت عثمان ما لبث هذا الطيف أن غاب لتنتبه أم كلثوم إلى نفسها وإلى عريسها الذي كان ينتظر لحظة اللقاء .
عاشت أم كلثوم مع زوجها المؤمن الطيب الكريم أسعد حياة بعد الكد والتعب والمصائب والآلام والأحزان والجهاد الطويل .. عاشت ستة أعوام في كنف الزوج الحبيب رأت فيها عزة الإسلام وانتصاراته المتوالية وشاهدت والدها الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم يخرج من غزوة ليبدأ غزوة أخرى وينتقل من نصر إلى نصر آخر مؤيداً بدعم من الله جل وعلا .
أما عثمان بن عفان الذي سمي بعد زواجه من أم كلثوم بعثمان ذي النورين فكان غازياً مجاهداً مع رسول الله بنفسه وماله وكان كثيراً ما يصطحب زوجته المجاهدة الصابرة أم كلثوم بنت محمد صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها في غزوات رسول الله تعين المسلمين في كثير من أمور الحرب .
كان عثمان بن عفان رضي الله عنه من أكرم الرجال المؤمنين فقد روي أن ( بئر دومه ) كانت ليهودي في المدينة فاشتراها وجعلها في سبيل الله ليشرب منها لمسلمون .. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من يزيد في مسجدنا .. ؟ ) فاشترى عثمان موضع خمس سوار فزاده في مسجد رسول الله .
وفي شهر ذي العقدة من السنة السادسة للهجرة خرج رسول الله على راحلته القصواء في نحو ألف وأربعمائة من أصحابه يريدون مكة لقضاء العمرة وخرجت المجاهدة الصابرة أم كلثوم بت محمد رضي الله عنها مع زوجها عثمان بن عفان ولكن قريشاً تصدت لهم عند الحديبية لتمنعهم من دخول مكة ومن الوصول إلى بيت الله الحرام .. عندها انتدب رسول الله صلى الله عليه وسلم صهره عثمان بن عفان لمقابلة زعماء قريش فقال له : ( اذهب إلى قريش فأخبرهم إنا لم نأت لقتال أحد وإنما جئنا زواراً لهذا البيت معظمين لحرمته ومعنا الهدي ننحره وننصرف ) ذهب عثمان ملبياً طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل شجاعة ورباطة جأش بينما أمسكت المجاهدة الصابرة أم كلثوم بنت محمد صلى الله عليه وسلم قلبها خوفاً وجزعاً على زوجها من أذى المشركين خاصة وأنه صهر الرسول الكريم محمد صلوات الله وسلامه عليه .. وانتظرت وطال الانتظار ولم يرجع عثمان حتى ساورها القلق والخوف على زوجها من أذى سفهاء قريش وفي هذا الوقت بالذات ذاع نبأ مفاداه أن قريش قد قتلت رسول رسول الله عثمان بن عفان .. فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع هذا الخبر الصاعق أن قال : ( لا نبرح حتى نناجز القوم ) .. وقال عن عثمان : ( إنه ذهب في حاجة الله وحاجة رسوله ) .. ودعا المسلمين إلى بيعة الرضوان لنصرة الصحابي الجليل عثمان بن عفان .. ولكن ما لبث عثمان بن عفان أن عاد سالماً من رحلته إلى مكة .
فرحت أم كلثوم فرحاً كبيراً بعودة زوجها عثمان بن عفان سالماً غانماً معافى لم يمسه المشركون بأي سوء .. وكان من يمن المجاهدة الصابرة أم كلثوم بنت محمد أن حضرت صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش فكان هذا الصلح فاتحة خير للإسلام والمسلمين تمكن فيه المسلمون بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتفرغوا لقبائل العرب كافة ولملوك العرب والعجم حيث ابتدأت الدعوة الإسلامية تأخذ مسارها العالمي ليس في جزيرة العرب فحسب وإنما في كل الدول المحيطة بجزيرة العرب فلقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل برسائل إلى المقوقس عظيم مصر وإلى قيصر عظيم الروم وإلى ملوك وزعماء الدول المجاورة .. لقد كان صلح الحديبية فاتحة خير وبركة على المسلمين أجمعين .
وكان من يمن أم كلثوم بنت محمد رضي الله عنها أن خرجت مع والدها رسول الله في النصر الأكبر ألا وهو فتح مكة وذلك بعد عامين من صلح الحديبية وهنا وقفت أم كلثوم في مكة المكرمة لتتذكر أيام الطفولة والصبا حيث عاشت أجمل لحظات حياتها في بيت النبوة مع أمها وأخواتها وعاصرت كل الأحداث التي مرت ببيت النبوة رضي الله عنها وأرضاها .. ولقد كان من يمن المجاهدة الصابرة أم كلثوم بنت محمد رضي الله عنها أن أدركت خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في شهر رجب من سنة تسع للهجرة ولبى المسلمون داعي الجهاد رغم أن المسافة بعيدة والحر شديد والعدو قوي ومجهز بالعدة والعتاد .. ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه الذين قدموا للجهاد والرسول يقول لهم لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع ألا يكونوا مع المجاهدين في جيش العسرة إلى تبوك .. وهنا قام الصحابي الجليل عثمان بن عفان فجهز جيش العسرة بألف بعير وسبعين فرساً مع كامل عدتها وعتادها .. رضي الله عنه .
وما إن جاء العام التاسع للهجرة حتى ماتت المجاهدة الصابرة أم كلثوم بنت محمد صلى الله عليه وسلم فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحزنت فاطمة أختها وحزن عثمان بن عفان زوجها وحزن المسلمون كافة حزناً شديداً على وفاتها قبل أن تنجب أي ولد من زوجها عثمان بن عفان وانتقلت إلى جوار ربها وحملها المسلمون حيث دفنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثرى طيبة الطيبة ثم وقف رسول الله أمام قبر ابنته دامع العينين مثقل القلب يعتصره الحزن والألم فها هو ذا يدفن بيديه الكريمتين الطاهرتين ابنته الثالثة بعد زينب ورقية وابنيه القاسم وعبد الله .
رحم الله المجاهدة الصابرة أم كلثوم بنت محمد ورضي الله عنها وأرضاها فلقد كانت نعم الابنة ونعم الزوجة ونعم المجاهدة الصابرة .. ولقد جاءت وفاتها قبل وفاة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم فلم تفجع بوفاة والدها بعد عام واحد فقط من وفاتها .
****** ثبت المراجع
تم أخذ المادة التاريخية مع شيء من التصرف فيما عدا ما يخص رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث تم نقله كما ورد في الروايات وذلك عن الكتب التالية :
الطبقات الكبرى لابن سعد الإصابة في معرفة الصحابة لابن حجر جمهرة أنساب العرب مجمع الزوائد تاريخ الطبري الطبري سيرة ابن هشام لابن هشام الاستيعاب لابن عبد البر عيون الأثر صحيح البخاري البخاري صحيح مسلم مسلم مسند الإمام أحمد أحمد بن حنبل الذخائر لابن حزم تفسير الكشاف للزمخشري الشفا للقاضي عياض تراجم سيدات بيت النبوة الدكتورة بنت الشاطيء
* هناك روايات متعددة عن تاريخ ولادة القاسم بن محمد ولكني ارتحت إلى هذه الرواية التي تفيد أن تاريخ ولادته بعد ولادة زينب وقبل ولادة رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم .
وسوم: العدد 730