الحبيبة بنت الحبيب زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم
حـكايــــات من بيت النبوة
يقول المستشرق (لامنس) :
" إن المؤرخين المسلمين تناسوا فاطمة بنت محمد ــ كما تناسوا بقية بنات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ــ فلم يحفلوا بها أول مرة حتى إذا ظهرت فكرة التشيع* في الإسلام عادوا يطلبون الحديث عنها وأخذت شهرتها تذيع و تنتشر على حين ظلت أخواتها وليس لهن ذكر و لا عنهن حديث."
تــقـــدمــــــــة
لا شك أننا ـ نحن المسلمين ـ نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحب آل بيته المؤمنين الطيبين الطاهرين ، ولاشك أن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضم جميع أزواجه أمهات المؤمنين وأولاده وبناته وأحفاده وحفيداته ونحن نحترمهم كلهم ونحبهم كلهم دون تفريق بين زوجة وبنت وبين حفيد وولد فكلهم من رسول الله وكلهم ينتسب إلى سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن ظهرت بعض الفرق والطوائف الضالة المنحرفة التي رفعت بعض آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى درجة التقديس وأحيانا التأليه والتقديس والعصمة والتلقي من الوحي والعبادة والعياذ بالله تعالى ، وخفضت بعضهم الآخر إلى درجة السب والشتائم ووصفهم بالكفر والفسوق والعصيان والفاحشة ظلما وكذبا وزوراً ، لقد خصص هؤلاء المنحرفون الضالون الأدعياء كل الحب والتقدير والتقديس للحبيبة فاطمة الزهراء حبيبة رسول الله وابنائها من بعدها ، بينما أهملت بقية أبناء وبنات وأزواج رسول الله صلى الله عابه وسلم بل ربما وصل الأمر إلى اتهامهن في دينهن وأعراضهن وسبهن ووصفهن بأشنع وأسفل الصفات ولا حول ولا قوة إلا بالله ، حتى أن بعض فساق الشيعة في البصرة لعنه الله لم يتورع أن يقول في خطبة الجمعة على المنبر في المسجد : ( روي عن أم الفاسقين عائشة لعنها الله ) .. بل لعنه الله بفسقه وفجوره .. وأنا حين أقرأ السيرة العطرة لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحز الألم في نفسي حين أجد هذا التناقض وهذا الإنحراف الخطير في مفهوم آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وأنني انتسب إلى هذه الشجرة الطيبة الطاهرة المباركة إلى سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقد حز في نفسي أن تكثر الكتابات والأقوال والسير والتمجيد والتعظيم والتقديس للزهراء فاطمة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهمل ذكر بقية آل البيت حتى لا نكاد نسمع عنهم شيئا ، رغم حبي الشديد للزهراء فاطمة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم أبيها حتى أنني جمعت من مواقع الشبكة العنكبوتيه مايزيد على ألف اسم للزهراء فاطمة وألوف القصائد الشعرية كلها تقديس وتبجيل وتأليه وافتراء فما أدري من أين جاء هؤلاء المنحرفون بكل هذه الأقوال والأسماء ، لذلك قررت الحديث والكتابة عن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كل آل البيت ، عبر قصص هادفة موجهة تزيل الغبار والغبش والسخام الذي أثاره بعض المنحرفين الضالين عن آل بيت رسول الله الطاهرين الطيبين ، ورأيت أن أبدأ هذه السلسلة القصصية بأول ولد من أولاد الرسول صلى الله عليه وسلم الحبيبة بنت الحبيب زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم ، أجل لقد كانت زينب أول أولاد النبي صلى الله عليه وسلم واكبر أولاده لذلك كانت في مجموعتي القصصية هذه أول القصص التي تتحدث عن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
أمر آخر دفعني و بشدة للكتابة عن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا وهو التأثر العنيف الذي كان ينتابني كلما قرأت سيرة زينب وما عانته من آلام ومصاعب ومصائب لم تعانيها بقية بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث وجدت من هذه الأحداث المتتابعة السعيدة منها والأليمة مادة غزيرة للكتابة عن بنت من بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، التي عاشت حياة ملؤها السعادة والحب في بداية حياتها ثم عاشت حياة ملؤها الصعاب والأهوال والإحن في النصف الثاني من حياتها وهذه الأحداث هي الدافع الأول للبدء في هذه المجموعة القصصية عن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
أمر ثالث دفعني وبشدة للبدء في قصة الحبيبة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا وهو الهدف في تصحيح الانحراف الفكري والعقيدي الذي وصل في كثير من الأحيان إلى حد التقديس والتأليه لفاطمة وزوجها وأبنائها عند بعض الطوائف الفاسدة المنحرفة الضالة وإهمال بقية آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان هذا الهدف في تصحيح الإنحراف العقيدي هو الدافع إلى كتابة هذه القصة والقصص التي تليها عن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا كله مع حبي الشديد للزهراء فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وأبنائها الكرام الأجلاء وزوجها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم وأسكنهم فسيح جناته ، ولا أريد أن يفهم من كلامي هذا أنني أتحامل على بعض آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين الطاهرين الطيبين ذلك لانتسابي إلى هذه الشجرة الطيبة فأنا منهم وهم مني ولكنني أردت أن أصحح خطأ تاريخيا أدى إلى كثير من الانحراف والضلال عند بعض الطوائف التي تدعى الحب لآل بيت رسول الله فأوصلهم التطرف والغلو في كثير من الأحيان إلى الانحراف والضلال عن منهج الله القويم وصراطه المستقيم ، بل ربما أوصل بعض الغلاة إلى الكفر والخروج عن الملة الإسلامية والعياذ بالله تعالى ، هذه هي الغاية والهدف من كتابة هذه السلسلة القصصية الهادفة وإنني لأتطلع إلى توفيق الله وعونه للوصول إلى هذا الهدف الذي لا أرجو منه إلا رضاء الله جل وعلا ، كما أرجوه جل وعلا أن تكون هذه السلسلة التاريخية عونا لأبناء هذه الأمة الخيرة على تصحيح الفكر وتقويم المسار والعودة إلى معين الإسلام الصافي بعد أن ران على قلوب كثير من المسلمين وأبصارهم الغبش والضباب ، وبعد أن دخلت كثير من الشبهات والافتراءات والأضاليل عقول أبناء المسلمين وأفكارهم ..
وفي الختام لا يسعني إلا أن أشكر كل من ساهم في إخراج هذه القصة بهذا الشكل إلى القارئ الكريم راجيا من الله جل وعلا أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا وأن ينفع بهذه السلسلة القصصية التاريخية أبناء المسلمين إنه خير مسئول ..
محمد ماهر مكناس
ميسيساغا- كندا
في .........
الأمين الصادق
عاش الفتى محمد بن عبد الله فترة طفولته وصباه حياة مليئة بالآلام والأحزان حيث مات أبوه عبد الله بن عبد المطلب وهو لا يزال في بطن أمه وماتت أمه وهما في الطريق إلى مدينة يثرب وهو لم يتجاوز السابعة من عمره وعاش أيامه بعد ذلك يتيماً حزيناً فقيراً مطرقاً دائم التفكير وذلك بكنف جده عبد المطلب زعيم الهاشميين وشيخ من شيوخ مكة ، لم يكن يسرح ويمرح ويلهو مع أقرانه من شباب مكة وصبيانها كان دائم التفكير يتطلع إلى المستقبل المجهول وإلى الغيب المحتوم جاداً في أفعاله وتصرفاته حاد النظرات طيب القسمات رحيماً شفوقاً على الفقراء والضعفاء أميناً صادقاً حتى اشتهر في مكة كلها بل عند العرب كافة بالأمين الصادق ، كان جده وهو طفل صغير يجلسه إلى جانبه وهو مجتمع مع سادة قريش وأشرافها لقد حاول الجد الرحيم أن يمسح عن محمد ظلال الكآبة والحزن واليتم بعد وفاة أبيه وأمه وأن يضمد تلك الجراح الدامية التي عاش معها كل طفولته والتي بقيت تخيم علي قلب حفيده الغالي محمد بن عبد الله ولكن ما إن ألف محمد بن عبد الله إلى رعاية جده وحبه الكبير الذي ربما عوضه شيئاً من حنان الأب وعطف الأم حتى جاءهم طائف الموت من جديد فأخذ معه أحب إنسان إلى قلبه ، فقد كان الشاب اليتيم محمد بن عبد الله يرقد قرب جده عبد المطلب وهو يغالب سكرات الموت فكان آخر شيء فعله قبل أن يغادر الحياة أن أدنى ابنه أبا طالب إليه وأوصاه بابن أخيه اليتيم محمد بن عبد الله ثم فارق الحياة إلى غير رجعة .
وقف الغلام اليتم محمد بن عبد الله يرقب شعلة الحياة وهي تنطفئ فجأة عن أحب الناس إليه واقرب الناس إليه جده عبد المطلب الذي كان له أباً بعد أن فقد أباه وكان له أماً بعد أن فقد أمه وكان له نعم الصاحب والأنيس والجليس بعد أن ترك أصحابه وأقرانه من شباب مكة ، وعلى الرغم من أن جده عبد المطلب كان سيد قريش إلا أنه لم يكن لديه المال الكثير الذي يعين أبنائه من بعده على ظروف الحياة ومصاعبها ..
انتقل محمد بن عبد الله إلى بيته الجديد ليعيش في كنف عمه أبي طالب والذي كان نعم المربي ، كان حافظاً تماماً لوصية والده عبد المطلب الذي أوصاه برعاية محمد بن عبد الله قبل أن يغادر الحياة فضم محمداً إلى أسرته رغم انه كان فقيراً كثير العيال ، لم ينخرط محمد بن عبد الله مع صبية بني هاشم في اللهو واللعب وإضاعة الوقت وإنما كان دائم التفكير دائم التطلع إلى الأفق البعيد وكأنه ينتظر الوحي من السماء ، كان يأتي إلى بيت الله العتيق في أوقات فراغه يتأمل الناس حوله ويتأمل القادمين المعتمرين من حوله ويتأمل الأصنام والأوثان التي ينحتها الناس بأيديهم ثم يعبدونها فيسفه معتقداتهم ويحتقر هذه الآلهة الصماء التي لا تضر ولا تنفع ثم يقف يتطلع إلى السماء قرب البيت العتيق شارد البال يفكر في أمور كثيرة كان أهمها عمه الفقير الذي كان يعيله مع أولاده ثم ما يلبث أن يجمع قواه عائداً إلى بيت عمه أبي طالب ، لقد عاش في كنف عمه أبي طالب سبعة عشرة عاماً وقد آن الأوان أن يرحل عن هذا البيت بعد أن صار شاباً يافعاً قادراً على الكسب والعمل وفي هذا الأثناء كان تجار قريش يعدون العدة لرحلة الصيف إلى بلاد الشام فما كان من خديجة بنت خويلد أن طلبته للإتجار بقافلتها إلى بلاد الشام نظراً لما كان يتصف به من الصدق والأمانة والشرف وعراقة النسب وكانت هذه القافلة هي بداية الطريق إلى حب جمع بين قلب المصطفى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وبين خديجة بنت خويلد أجمل وأشرف وأغنى امرأة في مكة آنذاك .
كانت خديجة قد أرسلت مع قافلتها إلى الشام غلامها ميسرة لمساعدة محمد بن عبد الله في أمر هذه القافلة وأمور التجارة وغيرها خاصة وأن ميسرة قد خرج أكثر من مرة مع التجار الذين كانوا يخرجون بقافلة خديجة في رحلتي الشتاء إلى بلاد اليمن والصيف إلى بلاد الشام فكانت لديه معرفة بأمور التجارة فكان خير عون لمحمد بن عبد اله في هذه الرحلة المباركة ، لقد رأى في محمد بن عبد الله الصدق والأمانة ، رأي فيه دماثة الأخلاق وطيبة الصحبة ، رأى فيه الشفقة والرحمة ، لم يكن متكبراً صلفاً ، ولم يكن فظاً غليظ القلب بل كان مثالاً رائعاً للأخلاق الفاضلة والصفات الحسنة ، لقد رأى ميسرة في صحبته مع محمد بن عبد الله الخير والبركة ما أذهل بصره وأخيراً رأى من المعجزات حيث أظلتهم الغمام طيلة مسيرتهم من مكة إلى بلاد الشام وطيلة عودتهم من بلاد الشام إلى مكة ..
أخذت القوافل تغز السير نحو مكة عائدة من بلاد الشام وما إن وصلوا منطقة (مر الظهران) حتى شعروا بالفرحة والغبطة والنشوة واستبشروا بقرب الوصول إلى أم القرى بعد رحلة طويلة وتعب مرير وهنا استأذنه ميسرة قائلاَ ( أسرع أنا إلى سيدتي فأخبرها بما صنع الله لها على يديك فإنها ستعرف لك ذلك ) .. فتركه محمد بن عبد الله يمضي وتفرغ لتأملاته وذكرياته السالفة وأحلامه القادمة وأوقظه من تأملاته وأحلامه ضجيج الركب مختلطاً يهاتف المستقبلين من مكة ومضى محمد على بعيره قاصداً دار خديجة ، وكانت خديجة ترقب الركب من بعيد وهي تقف على ربوة قرب دارها في لهفة عارمه لتتحقق من أقوال غلامها ميسره الذي ملأ سمعها بأحاديث مثيرة عن رحلته مع محمد بن عبد الله حتى ظهر لها محمد بن عبد الله في طلعته الوسيمة البهية وملامحه الجادة النبيلة حتى هرعت تستقبله لدى الباب مرحبة مهنئة بسلامة العودة .
دخل محمد بن عبد الله دار خديجة بطلعته الجادة المهيبة غاضاً بصره فقص عليها أخبار رحلته وتجارته وما وفقه الله إليه من الربح الوفير والخير العميم وما أحضر لها من روائع الشام وطيباتها وعطورها وحريرها ، فأنصتت خديجة إليه بذهول دون أن تتكلم بكلمة وكأنما كان عقلها يسير في طريق آخر غير طريق القافلة والتجارة ، ثم سلمها الأمانة وعاد إلى دار عمه أبي طالب وهو يحس بشي من الرضا فلقد أصبح رجلاً قادراً على مساعدة عمه على ظروف الحياة وصعابها .
ثابت خديجة إلى رشدها بعد ذهول طويل وعادت تفكر بمحمد بن عبد الله الصادق الأمين ، لقد عرفت خديجة الكثير من الرجال واختبرت كثيراً من التجار وتزوجت زوجين من سادة قريش وأشرافها واستأجرت في تجارتها العديد من الشباب والكهول إلا أنها لم تر في حياتها ذلك النمط الفريد من الرجال ، لقد عزفت عن الزواج رغم جمالها وردت الخطاب من سادة قريش وأشرافها إلا أن العاطفة عادت إليها من جديد حيث رأت محمد بن عبد الله في هذه الصفات الفريدة التي لم تر ولم تسمع بمثلها في حياتها من قريب أو بعيد ، لقد خفق قلبها من جديد رغم أن الشباب قد آذن على الرحيل ، فهل يستجيب محمد بن عبد الله لهذه العاطفة ويقبل بها زوجة وأماً لأولاده ، ثم ما تلبث أن تدفع هذه الفكرة بعيداً لأن الفارق كبير ، محمد شاب يافع تتمناه كل فتيات قريش ، فهل يقبل محمد بامرأة هي أقرب إلى الكهولة منها إلى الشباب ، وهل يقبل بامرأة أرملة قد تزوجت برجلين قبله وهو الذي انصرف عن عذارى مكة وزهرات بني هاشم ، إنه حلم بعيد وأمل لا يمكن أن يتحقق ، وهنا زارتها صديقتها ( نفيسة بنت منية ) فأفضت إليهـا بما يعتلج فـي فكرها ، وجاءت نفيسة محمداً فسألته فيم عزوفه عن الدنيا وقضاؤه على شبابه بالحرمان ؟.. هلا سكن إلى زوج تحنو عليه وتؤنسه وتزيل وحشته ، فأمسك الشاب دمعة كادت تخونه وهو يذكر ما ذاق من حرمان منذ تركته أمه صبياً في السادسة من عمره وتكلف الابتسام ليرد على محدثته :
محمـد : ما بيدي ما أتزوج به ..
نفيسة : فإن دعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تجيب ؟..
فما مس سؤالها أذنيه حتى أدرك من تعني ، تلك هي خديجة ورب الكعبة ، ومن سواها تدانيها شرفاً وجمالاً وكفاءة ومالاً ، ألا لو دعته لأجاب ، ولكن هل تدعوه ؟ ..
انصرفت نفيسة وتركت محمداً بن عبد الله مشغول البال يفكر في حديثها معه ، هل طلبت خديجة منها أن ترى رأيه في مثل هذا الزواج ؟!.. أم إنها تتصرف من نفسها خاصة وأن خديجة ردت سادات قريش وأغنيائها وأشرافها حين تقدموا لخطبتها ، ولم يطل به التفكير حتى تلقى دعوة من خديجة للزواج فسارع إليها مع عميه أبو طالب بن عبد المطلب وحمزة بن عبد المطلب وتوجهوا إلى بيت خديجة بنت خويلد فوجدوا قومها من بني أسد ينتظرون قدوم شيوخ بني هاشم وكان كل شيء مهيأ للزواج ، فتكلم أبو طالب يطلب خديجة للزواج من ابن أخيه محمد بن عبد الله فقال : ( أما بعد فإن محمداً ممن لا يوازن به فتىً من قريش إلا رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلاً وإن كان في المال قل فإنما المال ظل زائل وعارية مسترجعه وله في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك ) ..
فأثنى عليه عمها ( عمر بن أسد ) وأنكحها منه على صداق قدره عشرون ناقة بكر ..
الـعـروســان
في مكة المكرمة ، وبجوار بيت الله الحرام ، عاش الزوجان السعيدان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ، صاحب الحسب والنسب والشرف الرفيع وخديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي ، القرشية الطاهرة صاحبة الحسب والنسب والشرف الرفيع في سعادة وهناء لم يتوقعه أحد من الناس في قريش ، خديجة بنت خويلد الأرملة التي تزوجت من زوجين من أشراف قريش هما النباش بن زراره التميمي ولها منه ابنتان هما هند وهاله وقد أسلمتا والزوج الثاني عتيق بن عابد المخزومي والذي رزقت منه بابنة واحدة هي هند وقد أسلمت ، خديجة بنت خويلد التي ودعت عهد الشباب بتجاوزها الأربعين من عمرها ، خديجة بنت خويلد الأسدية التي رفضت العديد من الراغبين في الزواج منها من أشراف قريش هل يعقل أن ترتد إليها رغبة الصبا والشباب وتعود إليها عاطفة الحب والزواج ، هل يعقل ذلك بعد أن رغبت نفسها عن الزواج ورفضت أشراف قريش وعلية القوم الذين طلبوها للزواج بعد وفاة زوجها الثاني ..
أما محمد بن عبد الله الشاب اليافع القرشي الهاشمي الذي كانت فتيات قريش وزهراتها يتطلعن إليه ويتمنين الزواج من حفيد سيد قريش عبد المطلب بن هاشم ، محمد بن عبد الله الذي حباه الله الفصاحة والجمال و الشباب الغض كيف يقبل بالزواج من امرأة أرملة تكبره بخمسة عشر عاماً أو تزيد ..
وفي مقابل ذلك ومن جهة أخرى خديجة بنت خويلد صاحبة المال الوفير و التجارة الواسعة ، خديجة بنت خويلد صاحبة الجمال الفريد الذي يفوق جمال نساء مكة حتى بعد أن تجاوزت الأربعين من عمرها ، بينما محمد بن عبد الله كان فقيرا لا يملك إلا النذر اليسير من متاع هذه الدنيا الفانية ..
محمد بن عبد الله صاحب الخصال الحميدة و السمات الجليلة والشخصية البارزة في قومه رغم صغر سنه حيث كان يجلس ومنذ صغر سنه بجانب جده سيد قريش عبد المطلب بن هاشم ، خصال كثيرة كانت ذات قيمة كبيرة في مجتمعات الجاهلية العربية ربما كانت تقف حاجزا في طريق إتمام مثل هذا الزواج ولكن إرادة الله كانت وراء هذا الزواج الميمون الطاهر ، وهكذا فقد كانت تعقد المقارنات بين شباب مكة وفتياتها عن العروسين محمد بن عبد الله وخديجة بنت خويلد ، ولكن رغم كل هذه الفوارق فإن إرادة الله شاءت أن يجتمع هذين القلبين الطاهرين في بيت ترفرف فيه علائم الحب والسعادة والسكينة والمودة والرحمة لأن الله جل وعلا يقول : " هو الذي خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة "
ولاشك أن الغيرة والحسد قد انتابت رجالاً من أشراف قريش وزعمائها تقدموا لخطبة خديجة بنت خويلد ولكنها فضلت عليهم شابا فقيرا لا يملك شيئا من المال إلا النذر اليسير وهم أشراف مكة وأعيانها وكبرائها ، ولاشك أيضا أن الغيرة والحسد قد انتابت بنات قريش الهاشميات اليافعات وتحدثن طويلا عن الشباب الغض الزاهر يضيع في سيدة أرملة تزوجت من قبل مرتين ولها من البنين والبنات وتكبره بأكثر من خمسة عشر عاماً وتصرفه عن العذارى الهاشميات ذوات الصبا والجمال ، ولكن إرادة الله هي التي جمعت بين قلبين كبيرين في رباط الزوجية العفيف الطاهر حيث كان ينتظرهما موقف عظيم ورسالة ربانية وقول إلهي قوي وثقيل ربما لا تستحمل الفتيات اليافعات من صبايا قريش هذه المهمة الصعبة ، فكانت خديجة بنت خويلد خير عون لهذا النبي الكريم إبان البعثة وبعدها حتى توفاها الله في أحلك الظروف وأشد الأيام التي مرت على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد ، لقد كانت خديجة بنت خويلد في عزتها و شرفها وثروتها وجمالها كفؤاً لمحمد بن عبد الله ، ولقد كان محمد بن عبد الله بشرفه وحسبه ونسبه وشبابه وجماله وشخصيته وصفاته المميزة أيضاً كفؤًا لخديجة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها ، إضافة إلى ذلك كله وهو الأهم أنها تزوجت من نبي هذه الأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، نعم لقد التم الشمل وحظي محمد بن عبد الله بعروسه وبدأت بينهما حياة زوجية هانئة يظللها الحب المتبادل والتقدير المشترك والمودة والسكينة والرحمة حيث نهل الزوجان السعيدان من معين الحب والألفة و السعادة الشيء الكثير ..
وتمر الأيام والشهور ويمضي على الزواج السعيد ثلاثة أعوام حتى بدت ثمرات هذا الزواج الطاهر الطيب تظهر على خديجة ، فلما لاحت بوادر الحمل ملأتها الغبطة وهزها الفرح فـأقبلت على زوجها تزف إليه البشرى في المولود الجديد ، وانتشر خبر حمل خديجة بنت خويلد الأسدية من محمد بن عبد الله في كل بطاح مكة المكرمة وعمت الفرحة أرجاء مكة وشعابها وأغدقت العطايا والهدايا على ذوي الحاجة فلم يعد هناك في بطاح مكة جائع أو محروم في تلك الأيام السعيدة ، وخفق قلب الزوجين السعيدين فرحا وغبطة وسرورا للمولود القادم بعد حين واشتعلت عاطفة الأمومة والأبوة في قلب خديجة وزوجها وإن كانت هذه العاطفة في قلب محمد بن عبد الله أشد وأقوى لأن المولود القادم هو الولد الأول لمحمد بن عبد الله بينما كان لخديجة أولاد آخرون من أزواجها السابقين ، لقد فرح الزوجان بالمولود القادم الذي سيبعث الفرحة وسيتمم السعادة الزوجية ويعمق أواصر المحبة والمودة بين الزوجين السعيدين محمد بن عبد الله وخديجة بنت خويلد ، وتمر الأيام ويكبر الجنين في بطن أمه والزوج السعيد ينظر إلى زوجته بمنتهى الغبطة والفرح وهي تنتقل هنا وهناك وهي تحمل في بطنها الوليد المرتقب ..
ولعل من المؤكد أن تثار الشائعات الكثيرة عن خديجة الأرملة التي تجاوزت الأربعين من عمرها بأنها لن تحمل من محمد لكبر سنها أو لعدم رغبتها بالإنجاب بعد أن رزقت عدداً من الأولاد من أزواجها السابقين ولكن حمل خديجة قد أسكت تلك الشائعات واثبت لهم أن خديجة لا تزال في ذروة أنوثتها وحيويتها تحمل وتنجب وتلد خلافا لكل تلك الشائعات والتوقعات ، وتمر الأيام تتبعها الأيام وتمضي شهور الحمل التسعة وتستعد خديجة لاستقبال المولود الجديد ، ولقد كان من عادة أشراف مكة أن يقذفوا بأولادهم إلى المرضعات للعناية بهم ورعايتهم فلم تنس خديجة زوج النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن تهيئ أفضل المرضعات للمولود الجديد ، وجاء المخاض وكانت خديجة بنت خويلد في غرفتها في الجانب الشرقي من بيت النبوة بينما كان محمد بن عبد الله في غرفة تعبده حيث كان يتعبد على عقيدة التوحيد على طريقة الحنفيين الذين تعود ديانتهم إلى ديانة إبراهيم عليه السلام ، ذلك لأن الرسول صلى الله علية وسلم قبل البعثة لم يسجد لصنم قط ، لقد كان محمد بن عبد الله يقف في محرابه ينتظر اللحظة المرتقبة الحاسمة بشوق ولهفة وقلق زائد حتى سمع صيحة من زوجه تبعها صمت طويل عرف من خلالها أن زوجه خديجة قد أنجبت مولودها ثم سمع بعد ذلك أصوات الفرح تعلو من مخدع خديجة فتيقن باكتمال الولادة وجاءته البشرى وعمه الفرح والغبطة والسرور ، وما هي إلا دقائق معدودات حتى جاءت القابلة سلمى مولاة صفية بنت عبد المطلب تحمل بين ذراعيها أول مولود لمحمد بن عبد الله وأول طفلة رزقه الله بها وكانت هذه الطفلة هي الحبيبة بنت الحبيب زينب بنت محمد بن عبد الله باكورة أولاد النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فأقيمت الأفراح ونحرت الذبائح وعم البشر والسرور كل إرجاء مكة فرحا بالمولودة الجديدة زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك في العام الثالث والعشرين قبل هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم على خلاف بين المؤرخين في تاريخ ميلادها .
********
بناء الكعبة*
لقد كان من يمن هذه المولودة الجديدة الحبيبة بنت الحبيب زينب بنت محمد بن عبد الله أن صادف سني حياتها الأولى حادثا عظيما جليلاً في تاريخ مكة والبيت العتيق ذلك هو بناء الكعبة ، وهناك بعض الروايات تقول إن بناء الكعبة كان بعد ولادة زينب ، ولكن مهما يكن من أمر فإن هذه الحادثة قد وقعت مع اختلاف المؤرخين وكتاب السير في موعد وقوعها ، ومما كتبه المؤرخون أن الكعبة المشرفة قد أصابها ضرر كبير نتيجة حريق أحرق ستائرها وصدع بنيانها وكذلك نتيجة السيول والركام القادم من أعالي جبال مكة ، فتهدمت أجزاء من بناء الكعبة المشرفة ، ونظراً لمكانة الكعبة المشرفة عند العرب في ذلك الزمان والتشريف والتعظيم لها والذي توارثوه أبا عن جد من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أول من بنى الكعبة بيت الله الحرام في التاريخ ، يقول ربنا جل شأنه : " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير" .. أجل لقد توارث العرب تعظيم بيت الله الحرام الكعبة المشرفة من لدن نبي الله إبراهيم عليه السلام وتوارثوا هذا التعظيم جيلا بعد جيل وإن كانوا قد انحرفوا عبر الأجيال المتواترة عن عقيدة إبراهيم عقيدة التوحيد وخلطوها بعقائد الشرك والوثنية ولكن بقية من آثار إبراهيم وإسماعيل لا تزال باقية ومنها تعظيم وتقديس بيت الله الحرام الكعبة المشرفة ، ونظراً لأن إعادة بناء الكعبة لا بد له من هدمها أولاً ليتم إعادة البناء على أسس متينة وقواعد سليمة ، ولكن من يتجرأ على هدم الكعبة المشرفة بيت الله الحرام المقدس المعظم عند العرب بشكل عام وعند قريش بشكل خاص ، خاصة وأن قصة الفيل وقصة أبرهة الحبشي الذي أراد أن يهدم الكعبة لا تزال راسخة في عقولهم وأفكارهم يتوارثونها أبا عن جد ، ولذلك أجمعت قريش أمرها على إعادة بناء الكعبة المشرفة وبذلت لذلك كل غالٍ ورخيص وكل مال يحتاجه هذا العمل المقدس الهام ، ولكنها في المقابل لم تجمع أمرها على هدم الكعبة لإعادة بنائها وتخوفت وتهيبت لهذا الأمر الجلل إذ لم يتجرأ أحد من عظماء قريش أن يبدأ بهذا العمل أو يبدأ بهدم حجر واحد من بناء الكعبة المشرفة ، وانتظرت قريش وطال بها الانتظار والتصدع ببناء الكعبة وجدرانها يزداد يوما بعد يوم دون أن يتجرأ رجل من رجالات قريش على المساس بحجر واحد من أحجارها حتى تلك المهدمة ، ووقف الناس في حيرة من أمرهم بل خوف ورهبة شديدة من الإقدام على هدم الكعبة نظراً للاحترام والتقديس والتشريف لبيت الله الحرام ، وترددت قريش وطال التردد ، وتهيبت وطال بها التهيب ، وتحرجت وطال بها الحرج الشديد ، وتخوفت وطال بها التخوف ، لقد كان لهذا البيت العتيق مكانة سامية مرموقة لدى العرب مما جعل مكة المكرمة مثابة للناس وأمنا ومكان حجهم وعبادتهم ومهوى أفئدتهم مما أعطى قريشاً التي كانت تجاور بيت الله الحرام مكانة مرموقة ومنزلة سامية لا تدانيها منزلة قبيلة أخرى من قبائل العرب ، وتم الاستعداد لتجديد بناء الكعبة المشرفة وتسابقت القبائل وتنافست في جمع الأحجار والأخشاب وما يلزم للبناء وبذلت الأموال وقدمت الرجال لكنها توقفت فترة أخرى متهيبة هدم الكعبة المشرفة من أجل إعادة بنائها على قواعد وأسس قوية ومتينة حتى قام أحد عظماء قريش وهو الوليد بن المغيرة المخزومي والد خالد بن الوليد فأخذ المعول وصعد الكعبة وقال بأعلى صوته : ( اللهم إننا لم نزغ .. اللهم إننا لا نريد إلا الخير ) .. ثُم أهوى بمعوله على جدران الكعبة وبدأ بهدمها والناس حوله ينظرون بين الترقب والحذر خائفين مرتاعين من أن تصيبهم كارثةٌ كيوم الفيل أو صاعقةٌ أو عقابٌ شديد كأيام عاد وثمود ، فلما لم يصبه شيء من سوء استمهلوا أنفسهم تلك الليلة لعل أمراً سيحل بالوليد بن المغيرة هذا المساء ، ولكنه خرج في الصباح متوجها إلى الكعبة المشرفة لإكمال هدمها سالماً معافى لم يصبه سوء ولم يمسه شيء من الشر فعندها اطمأن الناس وتقدموا معه لهدم الكعبة ..
وبدأ البناء على بركة الله وتنافست القبائل على بذل المال والجهد وجلب الحجارة والأخشاب وكل ما يلزم لإعادة بناء أقدس بيت في الدنيا في أطهر بقعة على وجه الأرض ، ولما ارتفع البناء وتمت القواعد والأسس بدأ الاختلاف يدب بين القبائل وذلك من أجل رفع الحجر الأسود ذلك الحجر المقدس الذي يجب وضعه في أحد أركان البيت تماما كما كان يوم بناه نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام ، وكانت كل قبيلة تريد أن تستأثر بهذا الشرف الرفيع لنفسها دون غيرها من القبائل ، واشتد الخلاف واحتدم النزاع مما أنذر بالوصول إلى تحكيم السلاح وتوقف البناء ومكثت قريش ومكثت القبائل الأخرى خمسة أيام ونذير الخطر يزداد يوماً بعد يوم وأصبحت القبائل العربية تعيش على شفير الصدام والحرب فيما بينها حتى قام أحد زعامات قريش أبو أمية بن المغيرة المخزومي عم خالد بن الوليد ووالد أم المؤمنين أم سلمه رضي الله عنها وكان أكبر الحاضرين سناً فخطب الناس وناشدهم السلم والتعاون على إكمال بناء بيت الله الحرام الكعبة المشرفة وقال لهم : ( يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه حكماً ، هو أول من يدخل إليكم من باب هذا الحرم فيقضي بينكم في خصومتكم هذه ) .. فقبل الجميع وتعلقت عيونهم جميعاً نحو الباب يترقبون الحكم المجهول ليقضي بينهم بالحق والعدل وينهي هذه الخصومة التي تكاد أن تشعل حرباً شعواء بين قبائل العرب ، وبينما هم ينظرون إلى الباب وينتظرون الحكم المجهول إذ أقبل رجل شاب بهي الطلعة نام الفتوة متزن الخطوات حسن الصفات رزين المشية في جد ووقار منقطع النظير وكان هذا الشاب هو محمد بن عبد الله فصاح الجميع لما رأوه : ( هذا الأمين .. هذا الصادق .. هذا محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي رضينا به حكما فيما بيننا ) .. وتقدم الناس نحو محمد بن عبد الله ليشرحوا له ما اختلفوا فيه وتخاصموا عليه مما ينذر بنشوب قتال وخصام وحرب بين القبائل .. فطلب منهم ثوباً ثم تناول الحجر بيديه الشريفتين ووضعه فوق الثوب وقال لهم : ( لتأخذ كل قبيلة بطرف من أطراف الثوب ثم ارفعوا الثوب ومعه الحجر جميعاً ) ففعلوا حتى إذا بلغ الحجر مكانه رفعه محمد بن عبد الله بيديه الشريفتين ووضعه مكانه ودعم بناءه وثبته في ركنه الركين وبذلك حكم بين القبائل بالعدل والحكمة والأمانة وذلك قبل النبوة عليه الصلاة والسلام ، وعادت القبائل العربية تتنافس في البذل والتضحية والعطاء وتتنافس في بناء الكعبة المشرفة بعد أن كادت تشتعل بينها الحرب بفضل حكمة النبي المصطفى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم حتى قبل بعثته ونبوته ورسالته عليه أفضل الصلاة والسلام .
*********
الشقيقات الأربع
لم يكد يمضي على زواج العروسين محمد بن عبد الله وخديجة بنت خويلد ثلاثة أعوام حتى بدت بوادر الثمر المبارك للزواج السعيد ، والذي أشاع الفرح والغبطة والسعادة والسرور في قلب العروسين السعيدين ، لقد ثارت في قلب محمد بن عبد الله عاطفة الأبوة في أول مولود سيملأ بيت الزوجية سعادة وفرحا وهناءً ، وكان هذا المولود الجديد الأول في حياة محمد بن عبد الله هو زينب الحبيبة بنت الحبيب ، ولم يطل المقام سنتين أو تزيد حتى بدأ الثمر الجديد يظهر على خديجة بنت خويلد فحملت ووضعت وكانت أنثى وليس الذكر كالأنثى وكانت الابنة الثانية في بيت النبوة والشقيقة الأولى للحبيبة بنت الحبيب زينب حيث سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية وعاشت الشقيقتان طفولة رائعة تظللها السعادة والمحبة والألفة ثم ظهرت آثار الحمل من جديد على خديجة بنت خويلد زوج الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم وثقلت في حملها حتى أنجبت ولداً ذكراً سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم ( القاسم ) وبه كان يكنى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه ما لبث أن توفى ولما يكمل حولي رضاعته ليترك في نفس الأبوين ألماً وحزناً ولكن خديجة وزوجها لم يصبهما القنوط لأنهما واثقين بقدر الله ومشيئته فما لبثت خديجة أن ظهرت عليها آثار الحمل من جديد فحملت وثقلت في حملها ثم جاءها المخاض لتلد بعد ذلك مولوداً جديداً وكانت أيضاً أنثى فكانت الابنة الثالثة في بيت النبوة والشقيقة الثانية للحبيبة بنت الحبيب زينب فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم كلثوم حيث عاشت هذه المولودة الجديدة في كنف الأبوين الكريمين وفي صحبة الأختين العزيزتين أسعد حياة وأهنأ عيشة تظللهم السعادة والألفة والمحبة والمودة ولم تمض سنة أو سنتين حتى بدت آثار الحمل من جديد تظهر على خديجة مرة أخرى لقد كانت خديجة في سباق مع العمر فهي لم تعد صغيرة فقد تزوجت في بداية عقدها الخامس وبين الحمل والولادة والرضاعة والفطام للبنات الثلاث جعلتها تقترب من العقد السادس فإلى متى ستظل في نضارتها وإنجابها وهي تقارب الخمسين من عمرها وفي هذا الحمل بالذات كانت تتمنى لو رزقها الله بغلام ذكر قبل أن يدركها سن اليأس ولكن إرادة الله كانت غير ذلك ومشيئته كانت غير ذلك ولا راد لمشيئة الله فجاءت البنت الرابعة التي كانت أشبه ما تكون بوالدها محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام والتي سماها رسول الله فاطمة ، وبذلك اجتمع في بيت النبوة أربع شقيقات هن زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة وذلك خلال فترة لم تتجاوز عشر سنوات من عمر الزواج السعيد بين محمد بن عبد الله وخديجة بنت خويلد ، ولكن هل ظهر القنوط والتأفف على نفس خديجة أو على نفس الزوج الحبيب محمد بن عبد الله ؟!.. وهل ولادة البنت الرابعة عكر عليهما صفو حياتهما في بيئة مجبولة على حب الذكور وتفضيلهم على الإناث بل في بيئة كان بعضهم يئد البنات أحياءً خشية العار في بعض الأحيان ؟! .
الحقيقة أن كلاً من خديجة وزوجها محمد صلى الله عليه وسلم كان راضيا أشد الرضا بما قسمه الله لهما وبما قدره الله من ولادة الشقيقات الأربع دون أن يرزقهما الله بولد ذكر ، وأقبل محمد على زوجه خديجة مهنئاً بسلامة الحمل والولادة ، ثم استلم ابنته الرابعة ليدعوا لها ويبـارك لخديجة مـولودهـا الجديد الرابع ، عاشت الشقيقـات الأربـع زينـب ورقيـة وأم كلثـــوم وفاطمــة فـي بيت النبـوة فـي محبـة وألفـة وسعــــادة وترعرعن في كنف الأبوين الكريمين بل في كنف بيت النبوة ..
أما رسـول الله صلـى الله عليه وسلم فكانت قناعته بما قسمه الله تصرفه عن قالة الناس عن أبوته لبنات أربع أو وصفه بأبي البنات أو وصفه بالأبتر الذي لا عقب له وذلك في بيئه تعتبر أن الأبناء من الذكور فقط هم أبناء القبيلة وحماتها وحملة اسمها ، فكان محمد بن عبد الله يتطلع إلى السماء حامداً شاكراً راضياً مستبشراً بأن الخير كل الخير فيما قسمه الله له ومـا أراده الله له ، مما زاده محبـة وحنانـاً ورحمـةً ورعايـــةً لتلك الزهـرات المتفتحات اللواتي أضفين على بيت النبوة سعادة وبشرا وحيوية ورضاء بما قسمه الله ربما لم يعرفه زوجين آخرين في الوجود ، ولم تنقطع خديجة بنت خويلد عن الحمل والولادة فهي في سباق مع العمر حتى بعد الخمسين من عمرها على غير عادة النساء في ذلك الزمان إنما بقيت في حيويتها ونشاطها وإنجابها حتى بعد الخمسين من عمرها حيث ما لبثت أن حملت وأنجبت ولدها الذكر الثاني والذي سمــاه الرسول صلى الله عليــه وسلـم ( عبد الله ) والذي كان يسمى بالطيب أحيانا وبالطاهر أحيانا أخرى ، ولكن أبناء الرسول صلى الله عليه وسلم الذكور لم يعيشوا طويلاً إنما وافتهم المنية ولم يتجاوزوا سن الرضاعة إلى سن الفطام ، فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم وحزنت خديجة حزنا شديداً على ولديها فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة بعد بعثته وهي تبكي على ولدها القاسم فقالت : ( يا رسول الله درت لبينة القاسم فلو عاش حتى يستكمل رضاعته ) .. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن له مرضعاً في الجنة تستكمل رضاعته ) .. فقالت خديجة : لو أعلم ذلك لهون علي .. فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن شئت أسمعتك صوته في الجنة ) .. فأجابت بل ( أصدق الله ورسوله ) .
وتفيد روايات السيرة أن القاسم قد مات في سن الرضاعة قبل البعثة أما أخوه عبد الله الملقب بالطيب والملقب بالطاهر أيضاً فقد مات في سن الرضاعة بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبذلك خيم الحزن المقرون بالرضا بما قسمه الله على بيت النبوة إذ لم تطل فرحة الرسول وآل بيته بولادة الغلامين القاسم وعبد الله حتى وافتهم المنية وجاءهم قدر الله حيث استرد الأمانة التي أودعها بيت النبوة وذلك في فترة قصيرة جداً ، ولعل مما كان يسيء إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى آل بيته قالة السوء والاتهامات التي كانت ترد على ألسنة المشركين من زعماء قريش خاصة بعد بعثة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم وبدء انتشار الدعوة إلى عقيدة التوحيد ونبذ الأصنام والأوثان وعقيدة الشرك فقد نعته بعضهم بأبي البنات وأنه لا عقب له ولا ذرية من الذكور في مجتمع جاهلي لا يعترف بالذرية إلا من قيل الذكور إضافة إلى بعض النعوت و الصفات الأخرى ، إلا أن قالة السوء التي صدرت عن العاص بن وائل السهمي أحد أشراف مكة حيث قال : ( دعوه فإنما هو رجل أبتر لاعقب له ولو مات لانقطع ذكره واسترحتم من أمره ) .. فأنزل الله جل وعلا في ذلك سورة الكوثر ( إنا أعطيناك الكوثر .. فصلِّ لربك وانحر.. إن شانئك هو الأبتر ) .
ومهما يكن من أمر ومهما بلغت دعاوى المشركين وأقوالهم واتهاماتهم فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمن أشد الإيمان ويثق أكبر الثقة بأن الله بالغ أمره وناصر رسوله ، ومخلدٌ دعوته حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، وقدر الله سيأتي ودعوة الله سيتم أمرها وتنتشر عبر المكان والزمان دونما حاجة إلى أولاد ذكور يحملون هذه الدعوة من بعده وهكذا كانت إرادة الله حيث انتشرت دعوة الإسلام لتعم الأرض كل الأرض وتنتشر في جميع بلاد الله الواسعة ويصبح عدد المسلمين يزيد على ثلث سكان الأرض قاطبة وبذلك كان الأبتر هو العاص بن وائل الذي انقطع ذكره وانقطع أثره عبر التاريخ وصدق الله تعالى " إن شانئك هو الأبتر".
ولقد ظل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حتى آخر حياته يتوق إلى ولد ذكر ويلتمس في ذلك الوسيلة حتى إذا وهبه الله على الكبر غلاماً من زوجه مارية القبطية امتلأت نفسه غبطة وامتلأ بيت النبوة فرحا بقدوم إبراهيم الذي كان آخر أولاده ولكن إرادة الله الذي أعطى قدرت استرجاع الأمانة لحكمة بالغة وإرادة حكيمة فلم يلبث إبراهيم في حضن الأبوين السعيدين سوى عامين أو تزيد حتى قبضه الله إليه وهو لم يتجاوز العام الثالث من حياته فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم وحزن آل بيته الطيبين الطاهرين لفقد إبراهيم أشد الحزن فلم يكتم ألمه ولم يملك دموعه فبكى طفله الأخير إبراهيم وهو قانع مستسلم لقضاء الله وقدره الذي شاء لحكمة عظيمة سامية ألا يكون لنبيه المصطفى خلفة من الذكور فقال بقلب مليء باللوعة والأسى: " إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون لا نقول ما يغضب الرب" ..
عاشت زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم مع أخواتها رقية وأم كلثوم وفاطمة قبل النبوة حيث استمرت حياتهم في أنس وسعادة إلى ما بعد الهجرة حيث توفيت بناته الثلاث زينب ورقية وأم كلثوم في حياة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم ولم يبق له من الولد حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى إلا ابنته الزهراء فاطمة رضي الله عنهم جميعا ، لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم أعظم أب في التاريخ أحب أبناءه بقوة وحنى عليهم بصدق وفارقهم بلوعة وأسى منقطعة النظير ولكنه وهو النبي المرسل من رب السماء والأرضين لم ينس لحظة واحدة أن الله هو الذي أعطى وأن الله هو الذي أخذ وأنه يحتسب كل المصائب والمحن عند الله جل وعلا ، فلم يجزع ولم يدق الصدر ولم يمزق الثياب ولم يقم بطقوس للحزن جاهلية مبتدعة كما يفعل الكثيرون من المنحرفين والضالين والمخالفين والخارجين عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما احتسب كل مصائبه بصبر وأناة عند رب لا يغفل ولا ينسى ، لقد مات القاسم ومات الطيب وهما لم يتجاوزا سن الرضاعة ومات إبراهيم فيما بعد وهو لم يتجاوز عامه الثالث ومات جده عبد المطلب ومات عمه أبو طالب وماتت زوجته خديجة والرسول الكريم صابر محتسب وماتت بناته زينب ورقية وأم كلثوم والنبي الكريم صابر ومحتسب وآذاه المشركون أيما إيذاء وهو صابر محتسب يحتسب كل هذه المصاعب والمآسي عند رب كريم لا يضيع عنده مثقال ذرة في السماوات والأرض .
وهكذا نجد رسول الله قد تربى وسط الشدائد والمصائب والمحن فكانت هذه الشدائد والمصائب والمحن دروسا واجهها بالصبر على الشدائد والرضى بما قسمه الله له والتسليم بقضاء الله وقدره والتعالي على هموم الدنيا وزينتها كيف لا وأن هذه الدروس وغيرها هي زاده في طريق الدعوة إلى الله وتبليغ رسالة السماء إلى الناس كافة .
ولعل من المفيد هنا ونحن نتحدث عن أبناء رسول الله وبناته أن نرد على شبهة المنحرفين في أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب فاطمة الابنة الصغرى ويفضلها على بقية بناته وبالتالي بنو على هذه الفكرة الباطلة أفكاراً وأوهاماً وانحرافات ما أنزل الله بها من سلطان معتقدين أن الخلافة والإمامة في نسل فاطمة من علي رضي الله عنهم أجمعين ، ونحن نحب فاطمة ونحب علياً ونحب أحفاد النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين ونحب أئمة الإسلام المؤمنين الطاهرين الطيبين ولكننا في الوقت ذاته لا نفرق بين واحداً منهم ولا نقدس أحداً منهم كلهم عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ، نعم إن هذه الأفكار المنحرفة هي التي فرقت الأمة الإسلامية وهي التي ابتدعت في دين الله طقوساً ومبادئ وانحرافات عن دين الله ما أنزل الله بها من سلطان ، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب جميع أولاده ولئن كان حب فاطمة أكثر فهو لأنها أصغر البنات وليس لفضل خاص بها يبنى عليه مثل هذه الانحرافات ولعل أصدق ما نرد به على هؤلاء المنحرفين الضالين قول الرسول صلى الله عليه وسلم في موضوع المرأة المخزومية التي سرقت : " والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ". لا محاباة في الإسلام ولا تفريق في حب رسول الله لأبنائه فكلهم من أل بيته الطاهرين الطيبين ، وهكذا عاشت الشقيقات الأربع في بيت النبوة في أكرم بيت على وجه الأرض من سلالة عريقة ونسب شريف أصيل لم تعرف الدنيا أعز منه ولا أشرف ، عاشت الشقيقات الأربع في بيت كريم معطاء لم تحظ به لداتهن من المجتمع القرشي في مكة المكرمة ، فكانت كل واحدة منهن تمثل زهرة متفتحة وثمرة طيبة لزواج طاهر عفيف سعيد قام على الحب والسكينة والمودة والرحمة فكنَّ قرة عينه عليه الصلاة والسلام وكنَّ أنسه وسكينته بعدما ذاق في طفولته من اليتم وما قاسى في فتوته من الحرمان وما لاقاه في شبابه من المصاعب والأهوال وأحداث الزمان ، لقد عاشت الشقيقات الأربع في طفولة سعيدة ناعمة بعيدة كل البعد عن الخشونة وشظف العيش والفقر والحرمان كيف لا وأمهن خديجة بنت خويلد المرأة الثرية التاجرة التي كانت تسير القوافل بتجارتها في رحلة الشتاء ورحلة الصيف إلى بلاد اليمن وبلاد الشام ، ولكن خديجة تركت الدنيا وما فيها تركت المال والتجارة وتفرغت لزوجها وأولادها وأقبلت بكل طاقتها ترعى بيت النبوة كأحسن ما تكون الرعاية فكان كل جهدها منصب إلى رعاية هذا البيت الكريم وهذه الأسرة السعيدة الطيبة الطاهرة ، وهكذا عاشت الشقيقات الأربع في كنف الأم الحنون والأب الطيب الكريم وترعرعن في المنبت الطيب الطاهر ، وعلى الرغم من وجود الخدم والموالي فإن السيدة خديجة رضي الله عنها كانت تتولى بنفسها مهمة تربية بناتها لتعدهن للمستقبل المنشود ..
شبت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبحت في عون أمها خديجة التي جاوزت الخمسين فما كان من زينب أكبر البنات إلا أن تحمل مع أمها عبء البيت ومسؤولية العناية بأخواتها وخاصة الصغيرة فاطمة الزهراء ، مما زاد في أواصر المحبة والألفة بين الشقيقات الأربع في بيت النبوة ، فكنَّ شقيقات رفيقات يجمعهن الملعب المشترك والفراش الواحد والغرفة الواحدة والطباع المتشابهة والمزاج النابه الأصيل فكانت حياتهن رفيهة هنية حتى أصبحت زينب كبرى بنات الرسول صلى الله عليه وسلم عروسا متفتحة واعية ذات أصل شريف وحسب ونسب فكانت محط أنظار العرسان من أشراف قريش ..
********
العروس الهاشمية
ما كادت زينب تقارب العاشرة من عمرها حتى بدأت أنظار القرشيين وخاصة الهاشميين منهم تتطلع لخطبتها وإن كانت لم تبلغ سن الرشد ونضارة الشباب ، لقد أخذ أشراف مكة يتطلعون لخطبتها لما تميزت به زينب من كريم الأصل وشرف النسب والمال والجمال والوعي والإدراك رغم صغر سنها ، ولم لا وقد اجتمعت لديها كل الخصال الحميدة التي ترغب أشراف قريش للنيل بها زوجا لأحد أبنائها ولكن ترى من يقع عليه الاختيار من فتية قريش ليحظى بهذا الشرف العظيم ، ترى من يختار محمد بن عبد الله زوجا للحبيبة بنت الحبيب زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم .. وتمر الأيام وينتظر شباب مكة حتى تنضج زينب وتصبح أهلا للزواج وبينما هم ينتظرون بين الترقب والحذر جاءت المفاجأة قاسية وأليمة على الجميع عندما عرفوا أن صاحب الحظ السعيد هو أبو العاص بن الربيع أحد أشراف مكة وأثريائها وتجارها المعروفين ، ولكن لماذا أبو العاص بن الربيع رغم ثرائه وعلو منزلته وشرفه وفي الهاشميين القرشيين من يعادله شرفاً وثراءً وتجارة بل يعلوه في ذلك كله ..؟!
كان أبو العاص بن الربيع ابن أخت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم وأم زينب العروس المرتقبة وكانت خديجة تحب أبا العاص هذا كأحد أولادها وتنزله من قلبها منزلة الولد ومن هذا الباب فقد أتيحت له منزلة سامية في بيت النبوة لم تتح لغيره من شباب مكة ، حيث كان يزور خالته خديجة متى شاء ومن هذا القبيل فقد كان أبو العاص يعامل بكل الود والألفة والمحبة والاحترام من قبل بيت النبوة وذلك منذ صغره ، وكلما دخل بيت خالته يجد المودة والترحاب والود الصادق في أعين الجميع خاصة وإن الشقيقات الأربع كن في سن الصغر ، ولما شب وكبر كان يتطلع إلى خطبة زينب ابنة خالته خاصة وأنه يراقبها وهي تنمو وتكبر وتزداد أنوثة وجمالاً ونضارة ودلالاً ، ولما بدت عليها آثار النضوج وهي لم تغادر العاشرة أو الحادية عشرة من عمرها كانت تشارك أمها التي بلغت الخمسين من عمرها في مسؤولية البيت وأعباء الأسرة مما طبع شخصيتها بطابع الجد وتحمل المسؤولية وزاد من نضوجها وهي لم تتعد مدارج الطفولة إلى سن الصبا والشباب فهي في ذلك الحين لم تبلغ العاشرة من عمرها بعد ولكن خوف أبي العاص بن الربيع من أن تضيع منه فرصة ثمينة لا تعوض مثل زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم فقد عجل في خطبتها وطلبها للزواج ..
كان أبو العاص بن الربيع ابن أخت خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم من أشراف مكة وشبابها المشار إليهم بالبنان امتلك النسب العريق والحسب الشريف فهو من علية القوم شرفاً وحسباً ونسباً ولكنه لم يكن هاشميا ً ، وأعراف المجتمع آنذاك كانت تعطي ميزة خاصة للهاشميين على غيرهم من القبائل وكان أبو العاص ابن الربيع من التجار الأثرياء المعدودين في مكة المكرمة والمعروفين بكثرة أسفارهم وتجارتهم وكان صاحب خلق رفيع وصدق وأمانة وكان محبوبا في قومه وعشيرته وكان فوق هذا وذاك ابن أخت خديجة وابن خالة العروس زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم وكان يتمتع بمنزلة خاصة ومودة ومحبة خاصة من بيت النبوة فقد كانت خالته خديجة تحبه محبة فائضة وكأنه أحد أولادها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه لمحبة زوجته خديجة ويعطف عليه لما يتميز به من الأصل الشريف والحسب والنسب .. ومن جهة أخرى فقد كان أبو العاص بارا بخالته كثير الزيارة لها مما أتاح له فرصة التعرف على زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم عن كثب فعرف منها الخصال الحميدة والأنوثة الناضجة والصبا والنضرة والبهاء والجمال فخفق قلبه لها منذ حداثة سنها وتمنى أن يكون هو لا غيره صاحب الحظ السعيد وأن يكون هو لا غيره من شباب مكة الزوج والحبيب لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. كان أبو العاص يراها في بيت خالته فيؤخذ بذكاء ملامحها وملاحتها وعذوبة حديثها وحنانها وأنوثتها ولطيف خصالها ولكن مشاغله الجسام كانت تمسكه أحياناً عن زيارة خالته فلقد كان كثير الأسفار كثير التجارة رغم شبابه وصغر سنه خاصة في أوقات المواسم الكبرى وأوقات تجارة الشتاء والصيف إلى بلاد اليمن وبلاد الشام وأيام الحج التي كانت تجذب أعداداً كبيرة من الناس إلى مكة المكرمة ، وكانت رحلاته وأسفاره كثيراً ما تطول أسابيع وأشهرا مبتعدا عن مكة الحبيبة رغم حبه الشديد لهذا البلد الطيب المعطاء ولكنه رغم سفره وبعده كان دائم الشوق إلى خالته خديجة وكان دائم الشوق إلى بيت خالته وخاصة تلك التي خفق لها قلبه ، تلك الصبية الرقيقة الوديعة التي يتألق وجهها نضارة وحيوية ويفيض ثغرها بابتسامة حلوة تضفي على ملامحها مزيداً من العذوبة والجمال وتشع من عينيها ملامح الفطنة والذكاء ، وكان أبو العاص بن الربيع رغم مشاغله الكثيرة وأسفاره يعلم أن الشباب من أشراف بني هاشم يتنافسون فيما بينهم ليحظوا بزينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم ولم يخطر ببالهم أن المنافس الأشد في هذا الأمر هو أبو العاص بن الربيع الذي لم يكن من بني هاشم رغم حسبه ونسبه وشرفه ولكنه كان مطمئن البال من هذه الناحية لما يعلمه من محبة خالته خديجة وأنها لن تفرط به أو تتجاوزه إلى غيره من أشراف مكة المكرمة ، لقد كانت مكانة أبي العاص ابن الربيع في بيت النبوة مكانة عالية مرموقة لم يصلها أحد حتى من أشراف مكة الهاشميين ، ولم يرد أبو العاص ابن الربيع أن يدخل مع أشراف قريش وشبابها في منافسة مكشوفة إذ ربما في مثل هذه الحالة يخسر المنافسة أمام الهاشميين ولكنه آثر أن يرتب الأمر مع خالته خديجة بنت خويلد زوج النبي محمد صلى الله عليه وسلم بشيء من السرية والكتمان فما كان منه إلا أن أودع سره ورغبته في خطوبة زينب خالته خديجة التي وجد منها كل عون ومآزره في تحقيق أمنيته الغالية وفي الوصول إلى هدفه الأسمى وهو الاقتران بزينب بنت خالته وعندها سيكون أسعد إنسان في مكة المكرمة بل ربما أسعد إنسان في الوجود .. والجدير بالذكر أن هذه الأمور كلها كانت تحدث وتمر قبل بعثة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث كان رسول الله لا يزال في السادسة والثلاثين من عمره بينما بعثته كانت في الأربعين من العمر ، وعندما آنس أبو العاص ابن الربيع بوادر الموافقة من خالته خديجة كان من الواجب عليه أن يستعين على قضاء حاجته وإمضاء هدفه بالكتمان والكتمان الشديد ذلك لأن تسرب الأمر إلى بني هاشم ربما أفسد عليه هدفه وضيع عليه فرصة العمر فرصة الاقتران ببنت خالته زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم .. ولقد كلفه هذا الموقف جهداً كبيراً وفرض عليه من القيود الشيء الكثير وكان أول جهد بذله في سبيل هذا الهدف العظيم هو كتمان الأمر والحرص على عدم وصول هذا الأمر إلى شباب بني هاشم أو رجالها أو حتى نسائها ، والأمر الثاني كان عليه أن يكسب ثقة العروس زينب وأن يجعلها تطمئن إليه وتأنس له فهي وإن كانت تعتز بابن خالتها وتحترمه وتوده كأخ لها فيما سبق إلا أن موضوع الزواج موضوع آخر مختلف كل الاختلاف عن المودة والأخوة السابقة ، وعلى الرغم من الصفات الحميدة التي كان يتحلى بها أبو العاص بن الربيع من قيافة وأناقة في المظهر وجمال في المنظر وقوة في الشخصية وسعة في الخبرة وكثرة في المال والتجارة قل أن تجدها في شباب مكة وعلى الرغم من عراقة الأصل وشرف الحسب والنسب إلا أن بني هاشم كانوا لا يفرطون في بناتهم إلى القبائل والأعراق الأخرى وهذا ما كان يخيفه ويحسب له ألف حساب رغم حصوله على الموافقة المبدئية من خالته أم العروس ، ولقد اعتاد أبو العاص أن يجعل بيت خالته خديجة هدفه الأول فكان يهرع إليه أول ما يعود من سفره براً بخالته ومحبة بأهل بيت النبوة إضافة إلى الاطمئنان على زينب التي ستكون يوماً ما زوجته في المستقبل القريب ، فكان يقص على العائلة الكريمة من طرائف الأخبار وغرائب الأماكن التي يزورها في أسفاره إضافة إلى قصص عن القبائل والشعوب كثيرا ما كان يصادفها أثناء حله وترحاله ، وكانت زينب ترتاح إلى محضره ويطيب لها أن تصغي وبلهفة جامحة إلى ما في جعبته من أخبار وقصص وحكايات وطرائف وغرائب جمعها من هنا وهناك ليقدم خلاصة تجاربه إلى العائلة الكريمة بشكل عام وإلى زينب بشكل خاص ذلك لأنه كان يحرص أشد الحرص على لفت انتباهها وجذب فكرها خاصة وأنها ومنذ صغرها كانت لماحة الذكاء وصلت إلى سن الرشد والعقل قبل لداتها بأعوام .. أما الهدايا فكان يختار أفضل ما أبدع صاغة الشام واليمن ليقدم الهدايا للجميع ويخص زينب بما انتقاه لها وبما يناسب أجمل عروس في بني هاشم ، وتمر الأيام بسرعة عجيبة والعروس الهاشمية تكبر وتزداد نضوجا وإشراقا وفهما ودراية وجمالاً وجاذبيةً ، وكانت أمها خديجة بنت خويلد تراقب هذا النضوج والتفتح عن كثب وكانت أيضاً تراقب علائم القناعة والرضى من زينب على ابن خالتها أبي العاص بن الربيع ذلك لأنها بدون هذا الرضى من زينب على ابن خالتها وهذه القناعة ما كان لها أن تفرض ابن أختها عليها دون قناعة تامة وموافقة طوعية ورغبة أكيدة من العروس الهاشمية زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم ، لقد عرفت خديجة بنت خويلد الأسدية الحب الطاهر العفيف حين تعلق قلبها بمحمد بن عبد الله ورضيت به زوجا لها رغم فقره وقلة ذات يده وبذلك أرادت أن تزوج بناتها على مثل هذا الحب الطاهر العفيف وما إن لمحت من زينب علائم الثقة والإعجاب والرضى بابن خالتها حتى هرعت إلى زوجها الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم لتنبئه بكل ثقة وتلطف عن هذه العاطفـة الطاهـرة الشريفـة العفيفة التي لمستها في قلب ابنته الأولى زينب ، فرق قلب النبي صلى الله عليـه وسلم لذلك الحـب العفيـف ألطاهـر ، وتخيل ابنته الحبيبة زينب عروساً تتحدث عنها كل فتيات مكة وشبابها وفتيانها ، وتمثلها مع زوجها ينهلان في حياتهما الزوجية من نبع الحب الحقيقي العفيف الطاهر السخي المبارك ، ولقد كانت رغبة الأبوين الكريمين في تأجيل هذا الزواج المبارك حتى تكبر زينب وتزداد وعياً ونضوجاً خاصة وأنها العون الوحيد للأم المتعبة إلا أن خديجة كانت تخاف فتية بني هاشم أن يسبقوا ابن أختها أبي العاص بن الربيع إلى زينب فوافقت ابن آختها بل ربما دفعته لأن يتقدم إلى محمد بن عبد الله ليخطب زينب أجمل عروس هاشمية في مكة وأعرقهن حسباً ونسباً وشرفاً ..
تقدم أبو العاص بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخطب زينب فاستقبله رسول الله استقبالاً حسنا وأحسن لقاءه ووفادته وأصغى بملء سمعه إلى طلب أبي العاص في رغبته بالزواج من ابنته زينب فكان جواب الرسول بأنه الصهر الكفء صاحب الحسب والنسب والأصل الشريف لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أمهله حتى يستجلي رأي زوجته خديجة ورأي ابنته زينب في هذا الأمر فهي صاحبة الكلمة الأخيرة في موضوع زواجها ، وذلك على الرغم من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرف رأي ابنته زينب في ابن خالتها أبي العاص بن الربيع ويعرف الألفة والود والاحترام الذي توليه زينب لأبي العاص ولكن رغم كل ذلك كان لابد من أن يأخذ رأيها وبشكل مباشر وصريح في موضوع يخصها هي أولاً كما يخص أبويها ، وخرج محمد بن عبد الله إلى زوجه خديجة يطلب منها أن تستأذن من ابنتها زينب وتأخذ رأيها في الزواج من ابن خالتها أبي العاص بن الربيع ذلك لأن الرسول الكريم صاحب الخلق العظيم لم يشأ أن يحرج ابنته أو يكرهها على أمر لا ترضاه هي خاصة وأن ابنته زينب صاحبة الخفر والحياء وأمها أقرب إليها في مثل هذا الأمر ، فدفع إليها أمها فهي أقرب إلى قلبها واقدر على معرفة سرها ففاتحتها بموضوع زواجها من ابن خالتها وبعد فترة تقدم رسول الله إلى ابنته الحبيبة وسألها بلطفه المعهود وبصوت ملؤه الحب والعطف والحنان فقال لها بنيتي زينب إن ابن خالتك أبا العاص بن الربيع ذكر اسمك ، يعني جاء لخطبتك وهذه كناية لطيفة آية في اللطف من النبي الكريم صاحب الخلق العظيم في مثل هذا الموضوع الهام ، ولكنه لم ينتظر جوابها فقد كان يعلم أن حياء ابنته سوف يمسك لسانها على الكلام وهذا مدلول قوله صلى الله عليه وسلم بعد البعثة والنبوة حيث يقول صلى الله عليه وسلم : " الثيب تستأمر والبكر تستأذن وإذنها صمتها " .
ولما علم من سكوتها وبسمتها علامة القبول والرضى عاد إلى أبي العاص في الفضاء الشمالي من بيت النبوة والذي كان يتألف من غرفة كبيرة للزوجين ومحراب للعبادة والتحنث وغرفة كبيرة للبنات ومصطبة كانت تستخدم كغرفة الجلوس وفضاء كبير لاستقبال الضيوف .. عاد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو العاص ينتظر الجواب بالموافقة على أحر من الجمر فصافحه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنأه بالقبول ودعا له مباركا هذا الزواج الميمون ، ولم يمض يوم واحد على موافقة الرسول صلى الله عليه وسلم على خطبة أبي العاص بن الربيع لابنته زينب أجمل بنات مكة وأشرفهن حسباً ونسباً حتى ذاع الخبر وانتشر في جميع أرجاء مكة ، فوجمت له قلوب الكثيرين من شباب مكة المكرمة القرشيين الهاشميين الذين كانوا يطمعون بالاقتران من العروس الهاشمية زينب بنت محمد عليه الصلاة والسلام ويتمنون أن يحظوا بهذا الشرف العظيم فقال بعضهم إن الهاشميين أحق بالعروس الهاشمية وقال آخرون إن بني العم أولى بالعروس الهاشمية من بني الخالة ، ولكن الشرف والحسب والنسب والغنى والتجارة وغيرها من الصفات الحميدة التي كان يتمتع بها أبو العاص بن الربيع أسكتت الجميع خاصة لما يعلمونه عن خالته خديجة بنت خويلد الأسدية زوج الرسول وأم العروس من الشرف والحسب والنسب والغنى والمال ، سكت جميع الهاشميين على هذا الحدث الذي لم يكونوا يتوقعونه نظراً للأعراف العربية في الجاهلية قبل الإسلام .. أجل سكتوا فلم يذكروا أبا العاص إلا بالخير لأنهم لا يستطيعون أن يتكلموا عليه إلا بكل خير ..
لقد كان نسب أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى ابن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي حيث يلتقي نسبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه عند ( عبد مناف بن قصي ) كما يلتقي نسبه من جهة أمه هالة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي عند الجد الرابع قصي فهو شريف الأصل والحسب والنسب أباً عن جد من طرف أبيه ومن طرف أمه ، كان أبو العاص فوق ذلك يتمتع بشخصية رجولية جذابة ويتمتع بالخصال الطيبة الحميدة فهو نبيل الطباع قوي الشخصية معروف بالصدق والأمانة عند قومه وكان من تجار مكة وأثريائها المعروفين ..
وهنا تثور بعض الأقاويل والشبهات عن دور خديجة بنت خويلد وأثرها على النبي صلى الله عليه وسلم في اختيار ابن آختها أبي العاص بن الربيع ولكن على الرغم من أن السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها مهدت السبيل لهذه الزيجة الطاهرة العفيفة إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ليوافقها على مثل هذا الأمر لولا علمه بالحسب والنسب والشرف والطباع الحميدة والصفات الطيبة التي يتمتع بها أبو العاص بن الربيع .. وهكذا جاءت الموافقة من رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ليبارك هذا الزواج الطيب المبارك فكانت زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم أجمل وأسعد عروس هاشمية ليس في بني هاشم فحسب وإنما في قريش كلها .
********
الــزفـــــــــــاف
انتشر خبر خطوبة أبي العاص بن الربيع لزينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم في جميع أرجاء مكة وتلقت القبائل هذا الخبر بالرضا تارة وبالسخط تارة وبالحسد والغيرة تارة أخرى ، فكيف تضيع العروس الهاشمية من أيدي الهاشميين ، وكيف تفلت سليلة بني هاشم بن عبد مناف إلى قبيلة أخرى ، لقد تفاجأ الجميع لهذا الحدث الهام ، وحسما للموقف وإسكاتا للأقاويل والشائعات فقد أراد أبو العاص بن الربيع يوافقه في ذلك أهل العروس الهاشمية أن يعجل في أمر الزواج ، لذلك فقد تهيأ البيت المحمدي لهذه المناسبة السعيدة خاصة وأنها أول فرحة يفرح بها النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وزوجه خديجة الطيبة الطاهرة ، فامتلأ البيت غبطة وسروراً وحركة وضجيجاً حيث كان من عادة العرب إحداث مثل هذا الصخب والأهازيج عند إعداد بيت العروس الجديد ، بعث محمد صلى الله عليه وسلم ليجهز ابنته بأزكى العطور والأطياب وبعثت خديجة إلى التجار ليأتوها بأفخر ما لديهم من بضائع فارس وبلاد الشام واليمن من ألبسة ومتاع وحلي تليق بالعروس الهاشمية ، أما أبو العاص فقد فتح بيته في مكة للزوار والوافدين والمهنئين فكان يصرف ويسخوا في هذا السبيل بما يمليه عليه الواجب والكرم خاصة وأنه من التجار الأثرياء المعروفين في مكة المكرمة ..
وجاء موعد الزفاف وحان موعد الفرحة الكبرى ليس للعروسين فحسب وإنما لجميع الأهل والأقارب والأحباب في مكة ، وأخذت أجواء مكة تردد أصداء هذا الحفل المبارك وقام الرسول بذبح الذبائح وإكرام الضيوف وقام أبو العاص بن الربيع بنحر الذبائح وإكرام الضيوف أيضا وكذلك قامت خديجة بذبح الذبائح وإكرام الضيوف ودعي كل أهل مكة إلى هذا الحفل الطيب المبارك المشهود ، وتمت زفة العروس في بيت النبوة وعمَّ الفرح والسرور أرجاء مكة وعندما حل المساء صحبت الأسرة المحمدية العروس الهاشمية إلى بيتها الجديد لتزفها إلى عريسها الحبيب ولبثوا هناك غير بعيد يباركون للزوجين السعيدين هذا اللقاء المبارك ويغبطونهم بالفرحة والبشر ويهونون على العروس الهاشمية آلام الفراق ومشقة البعد عن الأهل والأخوات ، ثم عاد الجميع ليتركوا العروسان ينعمان بالألفة والمودة والمحبة والسعادة خاصة وأن أبا العاص ابن خالتها لم يكن غريباً عنها ولا بعيداً عن قلبها ..
عاشت زينب بنت محمد مع زوجها أبي العاص بن الربيع في سعادة غامرة وحب متبادل تظللهما المودة والرحمة وتجمع بينهما الألفة والسكينة وينعم الزوجان بالحياة السعيدة الكريمة .. وكان أبو العاص حين يسافر للتجارة فيمضي ويترك زوجته الحبيبة في كنف أهلها ليعود بعد أسابيع إلى زوجته وهو أكثر شوقا وأعمق محبة لعروسه الهاشمية زينب ، لقد تعودت زينب أن تفارق زوجها بين فترة وأخرى ولكن رغم بعد المسافة ورغم السفر الطويل فإن القلبين الحبيبين لم يفترقا لحظة واحدة من اللحظات ، وعندما يغيب الحبيب الغالي تنتهز زينب الفرصة لتنضم إلى بيت النبوة إلى أبيها وأمها وأخواتها فراراً من الوحدة وقضاءً على ألم الفراق والتماساً لذكريات الطفولة السعيدة مع أمها وأخواتها خاصة وأن أباها قد نذر نفسه للتعبد والتحنث إما في غرفته الصغيرة في بيت النبوة وإما في غار حراء ، أما خديجة التي تعلم عن زوجها الشيء الكثير والتي كانت تأمل كما أخبرها ابن عمها ورقة بن نوفل أن يكون زوجها هو النبي المنتظر لهذه الأمة وهو رسول الله إلى البشرية جمعاء فكانت لا هم لها في هذه الحياة إلا أن تراقب زوجها وتؤمن له كل ما في وسعها من أسباب الراحة والهدوء انتظاراً لخبر السماء ولبعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم ..
أما زينب فكانت تقضي وقتها في كنف العائلة الكريمة تشاركهم أفراحهم وذكرياتهم وتشاركهم في تدبير شؤون المنزل خاصة وأن والدتها قد تداركها الكبر وأتعبتها مواسم الحمل والولادة وأهمها حال الحبيب المصطفى الذي بدأت تظهر عليه إرهاصات النبوة وآثار الرسالة فكان من الواجب على خديجة أن تؤمن له الجو المناسب من الهدوء والرتابة والطمأنينة والسكينة انتظاراً لوحي السماء الذي لا تستطيع هي أن تدرك كنهه رغم اليقين الذي كان ينتابها بأنه قادم لا محالة ..
********
فــرحـــــة الأولاد
عاد أبو العاص بن الربيع من سفره بعد غياب طال عن زوجته الحبيبة في إحدى رحلات العمل والتجارة فهرع إلى بيت خالته يسأل عن الخالة الحبيبة خديجة بنت خويلد ويقدم لها بعض الهدايا القيمة التي جلبها معه من بلاد الشام حفظاًً للمودة والقربى بينه وبين خالته ، ولم يلبث طويلا في بيت خالته حتى اصطحب زوجته الحبيبة زينب إلى داره ليفاجئها بأجمل التحف والهدايا والمجوهرات والعطور والطيب وليغمرها بعطفه وحبه وحنانه .. وقفت زينب مشدوهة من كرم زوجها وفرط محبته ومن ذوقه الرفيع في انتقاء أجمل الهدايا لأحب شخص في حياته زوجته الحبيبة ، ابتسمت زينب بشيء من الدلال وكأنها تريد أن تقول لزوجها شيئاً وفاجأها أبو العاص قائلا ..
أبو العاص : هات .. ماذا وراءك من أخبار ..
زينـــــــب : بدلال .. لا.. لاشيء..
أبو العاص : هل من خبر جديد عن خالتي وزوج خالتي الحبيبين
زينـــــــب : لاشيء جديد.. ولكن ..
أبو العاص : ولكن ماذا؟.. هيا أخبريني لقد أثرت فضولي ..
زينـــــــب : بابتسامة لطيفة .. إني حامل..
أبو العاص : وقد أذهلته المفاجأة .. ماذا .. ؟ أحقا ما تقولين يا
حبيبة ؟!
زينـــــــب : آمل ذلك .. يا بن الخالة ..
أبو العاص : إنها أكبر فرحة ستكون في حياتي ..
زينـــــــب : أكبر من فرحة زواجنا..؟!
أبو العاص : لا أدري ولكنهـا ستكـون فرحـة عظيمـة يسمـع
عنهــــــــا كل العرب ..
زينــــــب : إلى هذا الحد أيها الزوج الحبيب ..!!
أبو العاص : بل أكثر من ذلك يا زوجتي الحبيبة .. إنني أنتظر
هذا الخبر منذ أول يوم لزواجنا..
زينـــــب : هكذا إذن..
أبو العاص : أجل يا زوجتي الحبيبة وهل هناك أجمل وأحب من
الخلفة ..
زينـــــب : وهي تبتسم ..لا أدري ..
أبو العاص : سأعد الأيام يوماً يوماً حتى يحضر الضيف الحبيب
زينـــــب : وعملك وتجارتك؟!
أبو العاص : لا عليك سأتدبر أمر كل شيء وأعد الأيام والشهور
حتى يحين اليوم الموعود.
وتمر الأيام وتمضي الشهور وأبو العاص يسأل عن الأم الحامل وعن المولود الجديد كل يوم بل كل ساعة بل كل ما نظر إلى الزوجة الغالية وكأن الفرحة لا تسعه حتى اكتملت أيام الحمل وأطل الشهر التاسع على الزوجين السعيدين وهما ينتظران المولود الجديد على أحر من الجمر ، وفي اليوم الموعود جاء المخاض إلى زينب وهي في بيت زوجها وجاء المولود الجديد الأول لأبي العاص بن الربيع وكان ذكراً وبيت النبوة في شغل شاغل بانقطاع الرسول صلى الله عليه وسلم للتحنث والعبادة بانتظار الحدث الجلل الذي ينتظر البشرية جمعاء ، وسماه أبوه علي بن أبي العاص فكان مقدمه مقدما ميمونا فقد كان معاصرا لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم وكانت الفرحة الغامرة بالمولود الجديد تعم أرجاء مكة كلها فذبحت الأنعام وأقيمت الولائم وعمت الأفراح بطاح مكة وشعابها ، وعاش المولود الجديد في كنف الأبوين السعيدين حياة ترف وثراء فقد كان أبوه من أثرياء مكة ..
ولم يطل المقـام بالمولـود الجديـد علي بن أبي العاص حتى أكمل حولين كاملين من الرضاع وبعدها أحست زينب بعلامات الحمل من جديد وظهرت آثار الحمل مرةً أخرى ففرح الوالدان وشكرا الله على ما أنعم به وتفضل ، وأتمت زينب حملها الثاني تسعة أشهر وجاءها المخاض لتضع المولود الثاني وكان المولود الجديد أنثى سماها أبوها أمامة بنت أبي العاص التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الحلية : " لأهبنها أحب أهلي إلي" وكانت أمامة بنت ابنته زينب هي أحب أهله إليه في ذلك الزمان ..
وأمامة بنت أبي العاص بن الربيع هذه كان لها في أحداث التاريخ القادمة شأن عظيم سنستعرضه وبشكل كامل في قصة خاصة ضمن هذه السلسلة التي تتحدث عن آل بيت النبوة ، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب حفيدته أمامة بنت أبي العاص ويحملها على كتفه الشريف صلى الله عليه وسلم خاصة وأنها أول حفيدة له ..
*********
الحدث الجلل
سارت الحياة في بيت زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم رتيبة هنيئة هادئة ترفرف عليها أجنحة السعادة والمحبة والهناء في حين كان بيت النبوة يشهد تحولاً جذرياً وإرهاصات تنذر بميلاد شيء جديد أو بحصول حدث جلل لا يستطيع أحد أن يعلم مداه إلا خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم التي عرفت من ابن عمها ورقة بن نوفل والذي كان من أحبار النصرانية وعلمائها أن بعثة نبي قد حل وقتها وأن النبي المرتقب سيخرج من منطقة جبال فاران المحيطة بمكة المكرمة كما ورد في الكتب المقدسة والأخبار المتواترة وأنه يأمل أن يكون محمد بن عبد الله هو النبي المرتقب ، لقد كان ورقة بن نوفل ينتظر بفارغ الصبر بعثة النبي المرتقب ليؤمن به ويؤازره ويقف معه في دعوته إلى الله ، لقد كانت خديجة تعلم هذا الأمر وتترقب هذا الحدث الجلل الذي سيغير حياتها وحياة عائلتها وحياة المجتمع المكي بل حياة العالم بأسره .. وفي مثل هذه الظروف كانت زينب في زيارة أهلها صباحاً بعد أن ودعت زوجها المسافر فالتقت عند الباب بأمها فدخلت على عجل بتلهف فسألتها؟!
زينـــــب : ما بالك يا أماه ..؟
ولم ترد خديجة وإنما أسرعت باهتمام كبير ولهفة عظمى إلى غرفة زوجها تطمئن عليه ولما رأته واطمأنت عليه عادت إلى بناتها وقد عاودها البشر والهدوء وملأت وجهها البشاشة وأخذت خديجة تحدث ابنتها حديثاً عجباً لم تعهده من قبل .. لقد كانت خديجة عائدة لتوها من عند بن عمها ورقة بن نوفل الذي حدثته عن الحادث الذي حدث لزوجها محمد بن عبد الله في الأمس في غار حراء فأخبرها ورقة بن نوفل الذي كان على دين النصرانية : إنه والله الناموس الذي نزل على عيسى وموسى من قبل ، وأقسم لها أن زوجها محمد بن عبد الله هو نبي هذه الأمة ، وأن قومه سيكذبونه ويؤذونه ويخرجونه ويقاتلونه وأن ورقة بن نوفل سيكون عوناً للنبي المصطفى إذا ما أدرك محنة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم في مستقبل الأيام ، وفي ذلك يقول ورقة بن نوفل :
لججت وكنت في الدنيا لجوجا لهم طال لما بعثت النشيجا ووصف من خديجة بعد وصف لقد طال انتظاري يا خديجا ببطن المكتين علا رجائي حديثك إن أرى منه خروجا بما خبرتنا من قول قس من الرهبان أكره أن يعوجا بأن محمداً سيسود قوماً ويخصم من يكون له حجيجا ويظهر في البلاد ضياء نور تقوم به البرية أن تعوجا فيلقى من يحاربه خساراً ويلقى من يسالمه فلوجا فياليتي إذا ما كان ذاكم شهدت وكنت أولهم ولوجا *******
لقد أنصتت زينب وهي أكبر البنات سناً وأنصتت أخواتها معها رغم حداثة سنهن إلى هذا الخبر العظيم خبر نزول الوحي من السماء على والدهن ولم يدركن معنى الوحي أو معنى النبوة في عصر كله جاهلية مطبقة وأوثان وأصنام تعبد من دون الله ، أما موضوع النبوة أو موضوع البعثة أو موضوع الرسالة أو موضوع الوحي من السماء فهذه الأمور كلها لا علم لهم بها من قريب أو بعيد خاصة وأن يكون الوالد الحبيب هو النبي وهو الرسول وهو المبعوث رحمة للعالمين ، فهذا أمر جديد وهذا حدث جلل لم تستطع عقولهن وأفكارهن الفتية كشف كنهه أو معرفة أبعاده الحقيقية ، لبثت زينب في مكانها ساكنة هامدة شاردة الفكر لا تدري ما تقول ولا تعرف من أين تبدأ ولا إلى أين ستنتهي ولا تعرف بماذا تجيب والدتها عن هذا الخبر العظيم ووالدتها في غبطة وفرح وشجون تنتظر منها كلمة أو خبراً أو تعليقاً فأعادت الأم خديجة على مسامع بناتها الحديث العجيب عن نزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم وهو يتعبد في غار حراء ، وبعد صمت طويل وتفكير عميق أجابتها :
زينــب : حدث جلل ولكننا لا ندري إلى أين سيقودنا ..
خديجــة : إلى الخير طبعا .. إلى خير الدنيا والآخرة يا بنيتي ..
ز ينــب : ولكني سمعت ابن العم ورقة بن نوفل يذكر الأمر
بشيء من الخوف والهلع على والدي ..
نظرت الأم خديجة إليها ولم تعقب على كلامها وكأنها لم ترد أن تقطع عليها ابنتها فرحتها ونشوتها بذلك الحلم السعيد بنبوة زوجها وبعثته ورسالته السماوية ..
زينــب : لقد قال ذات مرة أن قريشاً ستعاديه وتحاربه وتقاتله
وتضيق عليه وتخرجه وتطرده من مكة إن استطاعت إلى ذلك سبيلا ..
خديجـة : ربما ولا ضير في ذلك فمحمد وراءه بنو هاشم وبنو أسد وبنو زهرة وهو الصادق الأمين الذي لم يطعن بصدقه وأمانته وشرفه وحسبه ورجاحة عقله أحد من العرب قاطبة ..
زينــب : ولكن خالي ورقة بن نوفل قال إن هذا الأمر محدث عنه في التوراة والإنجيل .. وإن هذا الأمر هو سنة لجميع الأنبياء والمرسلين .
خديجة : ( بحزم ) وليكن ذلك يا بنيتي .. فو الله لأقفن معه أنا وبنو أسد حتى آخر قطرة من دمائنا ..
زينـب : أرجو ذلك يا أماه وإن كنت أشفق على والدي من ظروف الأيام القادمة والمصائب والمحن التي تنتظر والدي الحبيب.
كان هذا الحديث يدور بين الأم خديجة وابنتها الكبرى زينب بينما بقية البنات يمرحون ويلعبون ويفرحون بهذا الخبر خبر الوحي والرسالة والنبوة وقد عجزت أفكارهن عن الإحاطة بهذا الحدث الجلل الذي ستهتز له الدنيا بما فيها ومن فيها حتى تقوم الساعة ، الوحيدة من البنات التي أحست بالخطر القادم والتي كانت تدرك صعوبة الموقف وفداحة الحدث الجلل هي زينب الكبرى التي عركتها الأيام وصقلتها المسؤولية فبدا على وجهها شيء من الفتور والكآبة والترقب للمستقبل المجهول الذي لا تعرف عنه أي شيء ..
رقية : مالك يا زينب ..؟! تعالي حدثينا أحاديثك العذبة ..
زينب : لا شيء أحسب أن الحدث جلل وأن الأيام القادمة ستكون صعبة ومريرة يا أختاه ..
رقية : أما تحبين أن تكوني بنت نبي هذه الأمة..!؟
زينب : بلى يا رقيـة .. وأي فتـاة لا يفرحهـا ذلك الشـرف العظيـم .. ولكن ..
رقية : ولكن ماذا ..؟
زينب : ولكن العرب كلها ستحارب أبي عن قوس واحدة كما ذكر الخال ورقة بن نوفل وهذا ما يخفيني ..
رقية : لا تخافي يا أختي مادام أبي نبي الله فالله يتكفل بحمايته وحفظه من كل مكروه ..
زينب : أرجو ذلك.. أرجو ذلك ..
رقية : أجـل يا أختي فلقـد سمعت أمي تقول لأبي بعد نزول الوحي في غار حراء .. ( الله يـرعاك ويـرعانا يا أبا القاســم أبشر يا بن العــم واثبـت والله ما يخــزيك الله أبـدا .. إنـك لتصــل الرحــم وتصدق الحديث وتؤدي الأمانة وتحمل الكل وتقري الضيــف وتعين على نوائب الحق ) ..
زينب : وقد ابتسمت وابتسمت معها شقيقاتها الثلاث رقية وأم كلثوم وفاطمة الزهراء وهم يبتهلون إلى الله أن يحفظ لهن والدهنَّ .
*********
حديث ذو شجون
كانت زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم تشعر بالغبطة والسعادة في بيت الزوجية حتى لكأنها تظن أنه لا يوجد أسعد منها ضمن لداتها في كل أنحاء مكة المكرمة فقد كان ابن خالتها أبو العاص بن الربيع خير زوج وحبيب فكان دمث الأخلاق حسن المعشر يحبها ويحترمها ويجلها ولا يتصرف أي تصرف يسيء إليها أو يجرحها لقد كان أبو العاص فعلاً خير زوج لخير عروس آنذاك في مكة المكرمة ، فما إن يعود من سفره حتى يستقبل زوجته الحبيبة وتستقبله زوجته الحبيبة بمزيد من الشوق ومزيد من الحب وكان كثيراً ما ينشدها أشعار الحب والغزل فقد كان مع عمله وتجارته يقرض الشعر وإن كان مقلاً على عادة الكثيرين من أشراف العرب فكان يناجيها ويقول :
ذكـــرت زينب لمـــا وركــت إرمــاً فقلت سقيا لشخص يسكن الحرما بنـت الأميــن جــزاها الله صالحــة وكـــــل بعـــل سـيثنى بـالــذي علمــا
ولكن هذه الحالة لم تدم طويلاً حيث أصبح يساورها الخوف والجزع عند سفر زوجها وأصبحت تفضل إن يكون بجانبها أو قريباً منها لما تراه من حالة والدها ولما تسمعه من أخبار من أمها ، لقد كانت زينب تحس أن أمراً جللاً سيحدث في بيت النبوة ، لقد كان أبوها في تلك الفترة يحب الاعتزال عن الناس حتى عن أهله يجلس في غرفته طويلاً يتعبد ويتحنث ويتفكر في ملكوت السماوات والأرض وكثيراً ما يذهب إلى غار حراء ويبيت الأيام والليالي هناك مكتفياً من زاد الدنيا ببعض الماء والرطب ، وقد أصبح بعيداً حتى عن أحب الناس إليه زوجته خديجة وبناته زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة ، وكانت زينب ترجع إلى بيت زوجها إذا ما عاد من سفره وتجارته فتفضي إلى زوجها وحبيبها أبي العاص بن الربيع بما يساورها من خوف وقلق وترقب وتصف له حالة أبيها من العزلة والابتعاد عن الناس كما تذكر له حديث والدتها خديجة وترقبها وحديث خالها ورقة بن نوفل عن النبي المنتظر الذي يأملان أن يكون هو محمد بن عبد الله ونظراً لهذا التغير المفاجئ في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وحبه للعزلة والتعبد والتفكر الطويل في ملكوت الله فقد زادت الإرهاصات وزادت الدلائل على أنه هو النبي المنتظر المبعوث رحمة للعالمين ، ولكن الإنسان دائما يخاف ما يجهل وهذا ما كان من حالة زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم أما أبو العاص بن الربيع فكان دوره تطييب خاطرها وبث الثقة والطمأنينة في نفسها وإعادة البسمة إلى ثغرها والاشراقة إلى وجهها خاصة وقد أصبح لديها ولدين علي وأمامة يملآن عليها حياتها غبطة وفرحاً وسروراً ..
سافر أبو العاص بن الربيع في تجارة إلى بلاد الشام فهرعت زينب بولديها إلى بيت النبوة في صباح ذلك اليوم ولكنها تتفاجأ لدى الباب بأمها عائدة وهي في حالة من الرهبة والاضطراب فسألتها زينب:
زينب : ما بالك يا أماه ؟
الأم : تابعت سيرها إلى مخدع الزوج الأمين محمد صلى الله عليه وسلم لتطمئن عليه دون أن تنبس ببنت شفة ..
زينب : ما بالك يا أماه ..؟ وأين كنت..؟
الأم : ( بعد أن أطمأنت على حال زوجها محمد بن عبد الله) .. لا شيء يا بنيتي لقد كنت عند خالك ورقة بن نوفل ..
زينب : خالي ورقة بن نوفل .. !!
خديجة : أجل خالك ورقة بن نوفل ..
زينب : وما الأمر ..؟ ولماذا هذا الهلع والاضطراب ..؟
خديجة : لقد عاد أبوك اليوم من غار حراء وهو في حالة من
الذعر والخوف والهلع لم أعهدها من قبل ..
زينب : وماذا بعد ..؟
خديجة : فدخل غرفته وهو يصيح دثروني .. زملوني فاستلقى
على فراشه فدثرته بغطاء كما أمر وتركته لينام ..
زينب : أكملي يا أماه لقد أثرت في أشجاني ومخاوفي..
خديجة : وعندما ذهب عنه الخوف والهلع قص علي قصة الوحي جبريل الـذي أتاه فـي غـار حراء على شكل طائر غطت أجنحته عنان السماء ، وضمـه بقوة وقال له اقرأ فأجابه بخـوف وهلـع مـا أنا بقارئ فضمه ثانية بقوة فقال له اقرأ فقال بخوف وهلـع ما أنا بقارئ ، فضمـــه ثالثة وبقوة أشد وقال له اقرأ يا محمد ، فقــال بخوف وهلع ما أنا بقارئ ، فقال له أخيراً " اقرأ باسم ربك الذي خلــــق .. خلق الإنسان من علق .. اقرأ وربك الأكرم .. الذي علـــــــــم بالقلم .. علم الإنسان ما لم يعلم " فعاد والدك بحالة من الخوف والهلع وهو يصيح دثروني وزملوني ..
زينب : وماذا يعني هذا يا أماه ..؟
خديجة : لقد تحققت نبوءة خالك ورقة بن نوفل ..
زينب : نبوءة خالي..؟!!!
خديجة : أجل يا بنيتي..
زينب : وما نبوءة خالي تلك يا أماه ..؟!!
خديجة : لقد نزل الوحي على أبيك يا بنيتي وهو من اليوم نبي هذه الأمة أرسله الله برسالة الإسلام إلى الناس كافة ..
زينب : وكيف عرفت ذلك يا أماه .. ؟
خديجة : لقد كنت عند ابن عمك ورقة بن نوفل فقصصت عليه ما جرى لوالدك فابتسم وبشرني وقال : (والله إنه الناموس الذي نزل على عيسى وموسى وجميع الأنبياء من قبل ) ..
زينب : تستمع إلى أمها في خوف وذهول وماذا بعد يا أماه ..؟
خديجة : لا شيء لقد نزل الوحي وأصبح والدك نبي هذه الأمة ونحن ننتظر وحي السماء وتعاليم السماء في الأيام القادمة ..
زينب : نظرت إلى أمها وقد أخذ الهلع منها كل مأخذ ولم تعد تدري ماذا تقول ..
وبدأ وحي السماء ينزل على رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله تعالى : " يا أيها المزمل .. قم الليل إلا قليلاً .. نصفه أو انقص منه قليلاً .. أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً .. إنا سنلقي عليك قولا ثقيلاً .. إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلاً " .. فكانت هذه الآيات الكريمة تكليف من الله جل وعلا لمحمد بن عبد الله بالنبوة وتكليف له وحده بالعبادة وقيام الليل ..
ثم توالت الأيام حتى نزلت الآيات بتكليف الرسول صلى الله عليه وسلم بنشر الرسالة المحمدية والدين الإسلامي الجديد بين عشيرته الأقربين .. " وأنذر عشيرتك الأقربين " ..
ثم توالت الأيام ليأتي التكليف بإنذار الناس من حوله " يا أيها المدثر.. قم فأنذر.. وربك فكبر.. وثيابك فطهر.. والرجز فاهجر.. ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر "
ثم توالت الأيام ليأتي الأمر الإلهي إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعلان الدعوة إلى الدين الجديد إلى دين الإسلام جهرة علانية على رؤوس الأشهاد ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ) ..
وفي مثل هذه الأجواء كانت الأحاديث تدور في بيت النبوة .. وكانت الشقيقات الأربع يتجاذبن أطراف الحديث بشيء من الاضطراب والخوف من المستقبل المجهول .. وكانت زينب أكبر الأخوات أكثرهن خوفاً واضطراباً لما كانت تسمعه من زوجها أبي العاص بن الربيع ومن خالها ورقة بن نوفل عن الصعاب والمشاكل والتكذيب والأذى التي ستواجه النبي المنتظر فكان الأمر في الأيام السوالف لا يعنيها أما اليوم وقد أصبح النبي المنتظر والدها فقد أصبح هذا الأمر أشد ما يعنيها الآن .. لقد كانت تحس بالخطر القادم المحدق وتحس بالمسؤولية الواجبة عليها وعلى أمها وأخواتها وكانت ترتعش لمجرد تصور تلك الأحداث والصعاب القادمة من بعيد ولو كان ذلك بعد حين .. وكانت تدور بين بنات النبي محمد صلى الله عليه وسلم أحاديث حول هذا الحدث الجلل ..
رقيـة : ما بالك يا زينب..؟
زينب : لاشيء .. أفكر في والدي بعد أن أصبح نبي هذه الأمة .
رقيـة : وماذا في الأمر..؟ ألا يسرك أن تكوني بنت نبي هذه الأمة ..
زينب : لا.. ليس الأمر كذلك وإنما أحس بالمخاطر التي ستحدق
بوالدي بعد إعلان الدعوة والرسالة على قومه ..
رقيـة : لا عليك فإن الله لن يضيعنا ..
زينب : ونعم بالله يا أختي الحبيبة ..
ابتسمت زينب وابتسمت معها أخواتها فهم الآن واثقون كل الثقة أن الله سيحفظهم ويرعاهم ولن يضيعهم أبداً ..
وفي مثل هذه الأجواء الساخنة المتوالية كانت خديجة وبناتها في حيرة من أمرهم ولكن محمداً عليه الصلاة والسلام لما نزل قوله تعالى : " وأنذر عشيرتك الأقربين " .. قام بدعوة أهله أولاً خديجة وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة فآمنوا به جميعاً .. ثم قام بدعوة عشيرته الأقربين أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبنائهم ثم ما لبث أن آمن به ابن عمه علي بن أبي طالب وعمه حمزه وعمه العباس وأبو بكر وعثمان والزبير بن العوام وغيرهم من الصحابة السابقين إلى الإسلام ..
عاد أبو العاص بن الربيع من سفره ليجد أن مكة قد تغيرت وبدا له أن أمراً جللاً قد حدث في مكة كان يلمحه في كلام الناس وفي همساتهم وفي نجواهم وكل ما استطاع فهمه أن نبياً جديداً قد ظهر في مكة المكرمة ، لم يدر بالاً لهذا الأمر بادئ ذي بدء ولكن حديث الناس عن أن محمد بن عبد الله هو النبي المنتظر قد جعله في حيرة شديدة من أمره وذهب إلى بيت خالته حيث كانت زوجته زينب هناك ليرى زوجته وقد علا وجهها الذهول والوجوم ، لبثت زينب في مكانها ساكنة شاردة على غير عادتها لا تدري ماذا تقول ولا من أين تبدأ ، اصطحبها مع ولديه أمامة وعلي إلى داره والوجوم مخيم على زوجته زينب فقد كانت عادة زينب أن تستقبل زوجها الحبيب بالبسمة والبشر والفرح والسرور ولكن ماذا حدث في هذا اليوم ..؟ وما الذي قلب حال زوجته الحبيبة زينب ..؟!
أبو العاص : ما بك يا زينب ..؟
زيـنـب : لا شيء .. وسكتت وهي تسرح بأفكارها وكأنها
تسبح في بحر لجي من الأحلام يغشاه موج من
فوقه موج من فوقه سحاب لا تدري بماذا تجيب
زوجها الحبيب ..
أبو العاص : بل هناك شيء كبير قد حصل يا زينب .. أجيبيني
أيتها الحبيبة ما الذي حصل ..؟
زيـنـب : لقد نزل الوحي من السماء على والدي ..
أبو العاص : الوحي ..!؟ وماذا تعنين بالوحي أيتها الحبيبة ..؟
زيـنـب : الناموس الذي ينزل على أنبياء الله ..
أبو العاص : الناموس.. !! لقد عقدت المسألة أكثر أوضحي يا
زينب .. ماذا تقصدين ؟! .
زيـنـب : لقد أصبح والدي نبي هذه الأمة ..
أبو العاص : ( في ذهول ) .. نبي هذه الأمة ..!! محمد بن عبد
الله نبي هذه الأمة ..!!
زينب : في فرحة غامرة واعتزاز وفخر عندما سمعت زوجها يردد محمد بن عبد الله نبي هذه الأمة دون إن تتكلم بكلمة واحدة ..
أبو العاص : ( في ذهول شديد ) : محمد بن عبد الله نبي هذه
الأمة.!
زيـنـب : أجل يا زوجي الحبيب محمد بن عبد الله نبي هذه
الأمة ..
أبو العاص : صامت بذهول دون أن يعقب على قولها..
زيـنـب : ما بالك يا بن الخالة ..؟
أبو العاص : إني خائف يا ابنة الخالة ..
زيـنـب : وهل مثلك يخاف يا ابن الربيع ..؟
أبو العاص : بصوت خفيض .. لو اتبعت والدك لقال القوم فارق
دينه ودين آبائه إرضاء لزوجه وحميه .. ولو
خالفته ..
زينب : ( مقاطعة له في لهفة وضراعة ) .. أرجوك لا تكمل
إنك لن تدع كلام الناس يثنيك عن الحق وأنت تعلم
أن محمداً بن عبد الله الصادق الأمين هو نبي هذه
الأمة ..
أبو العاص : ولكن كلام الناس قوي وجارح يا حبيبة ..
زينب : لا يهمنا كلام الناس وأرجو أن تسلم كما أسلمت ..
أبو العاص : أو قد فعلتها يا زينب ..؟
زينب : نعم لقد أسلمت وأسلم كل من في بيتنا والدتي وأخواتي ..
أبو العاص : ساكت في ذهول من هول الصدمة ..
زينب : وأسلم علي بن أبي طالب وابن أبي قحافة وابن عمك عثمان بن عفان.
أبو العاص : ومن أيضا يا زينب ..
زينب : وابن خالك الزبير بن العوام ..
يصمت أبو العاص ويلقي ببصره إلى الأفق البعيد ويتفكر في حل هذه المعضلة الصعبة قومه من جهة وهو أحد أشراف قومه وحميه وزوجه وخالته والحق الذي معهم والنبوة التي يحملها محمد بن عبد الله لقد كان يعلم أن محمد بن عبد الله صادق في دعوته ولكنه لو تبعه لكان ذلك سبة عار عند أشراف مكة من المشركين ..
أبو العاص : وهل فكرت يا زينب بمصير زواجنا ..
زينب : وما علاقة زواجنا بما أدعوك إليه من الحق ..؟
أبو العاص : هل فكرت يا زينب حين تبعت دين أبيك ماذا سيحدث لو أني بقيت على دين آبائي وأجدادي ..
زينب : نعم لقد فكرت ورجوت أن تكون من السابقين إلى الإسلام يا ابن الخالة .
فما كان من أبي العاص بعد أن سمع هذا الكلام إلا أن هب مسرعاً وخرج من بيته متوجها إلى دار الندوة بينما بقيت زينب وحيدة تنتظر ما يؤول إليه حال زوجها على أحر من الجمر ..
عاد أبو العاص بن الربيع إلى بيته بعد منتصف الليل واجماً مطرقاً يعلو سيماه الهم والحزن والأسى فاستقبلته زوجته بنفس همه وحزنه وأساه ولم تزد في كلامها على كلمة الترحيب المعتادة ..
زينب : أهلا بك يا أبا علي .. يابن الخالة.
أبو العاص : يصمت طويلا ثم يقول .. لقيت أباك ..
زينب : في فزع .. وماذا جرى بينكما ..
أبو العاص : لا شيء لقيته في الكعبة ودعاني ..
زينب : أكمل يا أبا علي إلى ماذا دعاك أبي ..؟
أبو العاص : دعاني للدخول في الإسلام ..
زينب : وبماذا أجبته ..؟ .
أبو العاص : صمت في وجوم وذهول وأشاح بوجهه عن زوجته الحبيبة ولم يجب ، وسكتت زينب وعرفت من وجومه وصمته وذهوله الجواب الأكيد فكثيراً ما يكون الصمت أبلغ من الجواب .
ابتعدت زينب عنه لتجلس في ركن آخر بعيداً عن زوجها فلقد كانت تحلم أن يستجيب أبو العاص فور سماعه لدعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ويكون له عوناً وسنداً في محنته القادمة يوم يكذبه قومه ويؤذونه ويحاربونه ويحاصرونه ولكن ويا للأسف لقد آثر أن يبقى على دين قومه دين الشرك ويترك الانصياع للحق المبين الذي جاء به خير المرسلين رغم حبه الشديد لزوجته زينب ورغم حبه الشديد لخالته خديجة ورغم حبه الشديد لمحمد بن عبد الله الذي يعرف عنه أنه الصادق الأمين ..
تقـول الدكتــورة بنـت الشاطئ رحمهـا الله عـن هـذه اللحظات العصيبة : ( ووقفا في أعماق الليل يطويهما الحزن والخوف والأسى فلما أرهقتهما وطأة الموقف تدانيا حتى هما بعناق ثم ما لبثا أن تراجعا فجأة وكأن حاجزاً غير مرئي يقف بينهما فيحول دون ما يبغيان من شعور بالتداني والتمس كل منهما من صاحبه ملاذاً وسكناً .. ولم يناما ليلتهما ولاما بعدها من ليالٍ اللهم إلا أن يغلبهما الكلال فيغفوا مجهدين غفوات قلقة ممزقة ) ..
أجل لقد كان الموقف بين الزوجين الحبيبين عصيباً صعباً فلقد كان أمل زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون زوجها الحبيب من السابقين الأولين إلى الإسلام ، لقد توقعت منه أن يلبي داعي الله ولا يقف في صف المشركين عباد الأصنام والأوثان خاصة وأنها تعرف عنه شرفه وعراقة أصله ورجاحة عقله وانصياعه إلى الحق متى استبان له الحق ، لكنها في هذه المرة أخطأ ظنها فيه فلقد آثر الحفاظ على مركزه وشرفه وعلو نسبه في مكة وترك الحق والصدق والنبوة .. وفي كل يوم كان يجري بين الحبيبين حديث ذو شجون ما يلبث أن يتبعه صمت طويل ربما طال يوماً أو يومين أو أكثر ..
زينب : يا بن الخالة..
أبو العاص : لبيك يا حبيبة ..
زينب : هل تشك بصدق أبي؟
أبو العاص : والله ما أبوك عندي بمتهم ..
زينب : وهل تصدق بأن أبي رسول الله ..؟
أبو العاص : لقد قلت لك يا حبيبة إن أباك ليس عندي بمتهم وإنه الصادق الأمين ..
زينب : ولماذا إذن لم تصدقه ولم تستجـب لدعوته إلى الإسلام ؟ .
أبو العاص : إنني أكره أن يقال في العرب أن ابن الربيع خذل قومه وكفر بدين آبائه وأجداده لأجل زوجته وأبيها ..
زينب : وهل يهمك كلام الناس إلى هذا الحد ..؟ .
أبو العاص : أجل يا بنت الخالة يهمني كلام الأشراف في مكة وأنا واحد منهم .
زينب : حتى لو كان كلامهم كذبا وزوراً ..؟ .
أبو العاص : إذا أجمعوا أمرهم على أمر ما فكلامهم نافذ على الجميع يا حبيبتي ..
زينب : ولكنكم في دار الندوة تدعون إلــــى مناصرة الحق على الباطل .
أبو العاص : أجل ولكن أرجو أن تقدري موقفي بين أشراف مكة وتجدي لي العذر .. أي عذر يا ابنة الخالة ..
زينب : والله لا أجد لك أي عذر في نصرتك للباطل على الحق ..
أبو العاص : ولكني أسير على خطى العم أبي طالب شيخ قريش وعم محمد وحبيبه ..
زينب : حتى لو كان العم أبو طالب على خطأ ..
أبو العاص : حتى لو كان على خطأ فإنني أسير بركابه فلقد رفض الدخول في الإسلام رغم حبه الشديد لمحمد بن عبد الله.
وعند هذا الحد اغرورقت عينا زينب بنت محمد رضي الله عنها بالدموع ولم تجب ولكنها كانت تأمل أن تنجلي الغمة ويعود أبو العاص إلى رشده وينضوي تحت راية الحق عن قريب كما كانت تمنيها أمها خديجة .
***********
بداية الآلام والأحزان
أصر أبو العاص بن الربيع على عناده وبقي على دين آبائه وأجداده واستمرت الغمة على بيت زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم واستمرت الجفوة بينها وبين زوجها فكيف يعيش الحب والود بين قلب مسلم مؤمن بالله جل وعلا مؤمن بالدين الحق وبين قلب كافر مشرك يؤمن بعبادة الأصنام والأوثان التي يصنعها النحاتون بأيديهم ، وكيف تكون المودة والرحمة بين قلب اهتدى بنور الله وبين قلب ران عليه ظلام الجاهلية والشرك ، لاشك أن الفارق كبير والبون واسع خاصة وأن قريش وزعماء قريش والقبائل الأخرى قد ناصبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العداء وأخذوا يحاربون المسلمين في دينهم وأموالهم وأرزاقهم وحتى طردهم وإخراجهم من ديارهم ، كيف تستقيم المودة والحب بين زينب وزوجها وهو يتآلف مع هؤلاء الناس الظالمين ، لقد طالبت قريش بني هاشم أن يسلموهم محمداً ليقتلوه لأنه سب آلهتهم وسفه أحلامهم وخرج على دين الآباء والأجداد وجاء بدين جديد إلا أن عشيرة الرسول الأقربين من بني هاشم رفضوا وبشدة تسليمه بل على العكس من ذلك وقفوا معه ونصروه ودافعوا عنه ضد جميع القبائل التي لا تزال على الشرك ، وزاد الأمر سوءً عندما اتفق جميع المشركين على حصار بني هاشم ومقاطعتهم فكانت هذه المقاطعة الرهيبة سبة عار في جبين مشركي قريش حيث خرج بنو هاشم المسلمون منهم والمشركون إلى شعب أبي طالب بظاهر مكة المكرمة حيث أقاموا هنالك في حصار طويل لا يأكلوا ولا يشربوا ولا يزوجوا ولا يتزوج منهم ولا يباعوا ولا يبتاع منهم فكان حصارا شديداً ظالما اتفقت عليه جميع القبائل حيث كانوا يأملون بأن هذا الحصار والأذى سيثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دعوته الربانية ، وعلى الرغم من أن زينب بنت محمد بن عبد الله فتاة هاشمية وعلى الرغم من أنها ابنة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا أن المقاطعة والحصار لم يلحقاها نظراً لأنها في حماية زوجها أبي العاص بن الربيع الذي كانت له منزلته وشرفه في كل القبائل العربية آنذاك إضافة إلى أنه لم يتبع دعوة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم آنذاك ، لم تكن زينب بنت رسول الله فيمن خرج إلى الشعب وإلى الحصار وإنما عاشت معززة مكرمة في بيت زوجها رغم وجود ذلك الحاجز الكبير بينها وبين زوجها فقد أسلمت وبقي هو على الشرك وعبدت الله الحق وبقي هو على عبادة وتقديس الأصنام والأوثان إلا أن أبا العاص رغم كل شيء كان كريم الأصل طيب النفس صاحب خلق وتواضع ويمتلك الصفات الحميدة السامية فقد حافظ على ابنة خالته وحافظ على تلك الصلة السامية رغم وجود ذلك الحاجز ورغم وجود بعض الجفاء بين الزوجين الحبيبين ، كانت الأخبار ترد إلى زينب وزوجها تثرى عن حالة بني هاشم ووضعهم السيئ في الحصار المفروض عليهم في شعب أبي طالب ، وضاقت عليهم الدنيا بما وسعت حتى لم يعد لديهم من المال والطعام والملبس والشراب ما يسد رمقهم وجوعتهم فأكلوا أوراق الشجر وباتوا على الجوع والعطش أيامـاً طـويلـة ، لقـد كانـت زينب وزوجهـا يسمعـان هذه الأخبار الحزينـة وليس فـي وسعهمــا مســاعـــدة محمد بن عبد الله والهاشميين المحاصـرين فـي الشعـب إلا بعــض الــزاد القليـــل الـذي كان يرسله خفية عن أعين قريش الساهرة على تطبيق هذا الحصار الظالم ، وفي هذا الإثناء وبعد فك هذا الحصار الظالم بأيام مات العم أبو طالب الذي كان الدعم والسند الأول للنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وكان مـوتـه حدثـاً فاجعــاً مؤلماً للرسول صلى الله عليه وسلم ولكل بني هاشم حيث كان لأبي طالب مركزاً مرموقاً وعزاً وشرفاً ليس في بني هاشم فحسب بل في كل القبائل العربية ، فزال بموته السند الأول والقوي الذي كان يحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم طبعاً بعد حماية الله جل وعلا وعونه ، ولقد حزن رسول الله على عمه أشد الحزن وحزن أكثر أن دعاه إلى الإسلام فأبى أن يستجيب لدعوة الإسلام رغم حبه الشديد وتضحيته بكل ما يستطيع تجاه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن لم يمض على وفاة عمه أبي طالب أيام معدودات بعد فك الحصار عن بني هاشم حتى جاءت الفجيعة الثانية وفاة خديجة بنت خويلد الأسدية زوجته وحبيبته وأم أولاده وبناته فكان الحزن الشديد يخيم على بني هاشم مسلمين وغير مسلمين ذلك لأن خديجة فضلاً عن كونها الزوجة والحبيبة وأم الأولاد فقد كانت الدعم والسند القوي بعد الله جل وعلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد منعته بحسبها وشرفها ومركزها في بني أسد من عدوان قريش وإيذائها طيلة حياتها .. ولم يتجرأ أحد من المشركين بالاعتداء على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياة عمه أبي طالب الهاشمي وفي حياة زوجه خديجة بنت خويلد الأسدية ..
حزنت زينب أشد الحزن على الجد أبي طالب وحزنت أكثر على والدتها خديجة بنت خويلد وشاركها زوجها أبو العاص بن الربيع هذا الحزن على وفاة خالته الحبيبة التي يكنُّ لها كل حب واحترام ، لقد كانت هذه الأخبار المحزنة تصل كل يوم إلى زينب وزوجها فتزيدهم حزناً على حزنهم بعد فقد خديجة وفقد الكثيرين من بني هاشم ، وما إن مات أبو طالب وماتت خديجة حتى تغير الحال في قريش فتحولت إلى العداء السافر والإيذاء المر للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصحبه المؤمنين وكل من آزرهم وساندهم من الهاشميين وغير الهاشميين لقد بدأت معركة الاضطهاد التي فترت مدة من الزمن بوقوف بني هاشم وبني أسد وبعض أشراف مكة في وجه الظلم أما الآن وبعد موت أبي طالب وموت خديجة فقد بدأت المعركة الشرسة الظالمة على محمد وصحبه وكانت زينب بنت محمد تتعذب وتتألم وزوجها يواسيها في المصائب والأحزان التي حلت بها وبعشيرتها الأقربين .
أبو العاص : كفاك حزناً وبكاءً يا زينب ..
زينب : ولكن إذا لم أحزن على أمي التي ماتت وجدي أبي طالب الذي مات بعد هذا الحصار الظالم وأبي الذي تطارده قريش فعلى من أحزن يا بن الخالة .
أبو العاص : ولكن الحزن قد غير حالك يا بنت الخالة .
زينب : وهـل كان باستطاعتي أن أدفع هذا الحزن وهذه المصائب يا ابن الخالة ..
أبو العاص : لقد كنت أتوقع كل هذا يا زينب.
زينب : وهل هذا التوقع يعفيك من واجبك في نصرة خالتك وزوج خالتك في محنتهم العصيبة هذه ..
أبو العاص : ولكن الهجمة قوية .. بل شرسة..
زينب : مقاطعة .. ولكنك سيد من سادات قريش وشريف من أشرافها ..
أبوالعاص : قلت لك الهجمة شرسة والجد أبو طالب وهو أشرف مني لم يستطع أن يصنع شيئا ودخل في الحصار مع محمد.
زينب : وهل تقارن نفسك بالشيخ الهرم أبي طالب ..
أبو العاص : وهل أستطيع أن أفعل شيئاً وأنا وحدي هنا.
زينب : لست وحدك .. وراءك فرسان بني أسد لا يقطعون رأيا ارتأيته أو قراراً قررته..
أبو العاص : وهل تريدين لبني أسد أن يدخلوا الحصار مع بني هاشم..
زينب : لا أظن أن قريشاً بمقدورها أن تحاصر كل القبائل لو اجتمعت على محاربة الظلم ..
أبو العاص : ( بلهجة حزينة ) .. أرجوك يا زينب لا تثيري فـيَّ الأحزان والمواجع ..
زينب : ( وبشيء من الحدة والعصبية) .. ولكن ..
أبوالعاص : (مقاطعاً) .. إن ضميري يعذبني يا زينب.. خالتــــــــي والجد أبو طالب عذبوا حتى ماتوا وزوج خالتي محمد وأصحابه الهاشميين يعذبون وأنا قاعد هنا لا أحرك ساكناً ..
سكتت زينب عندما رأت زوجها بهذا الشكل وأجهشت بالبكاء ، فما كان من زوجها أبي العاص إلا أن دمعت عيناه فغادر بيته لأنه كره أن تراه زوجته زينب بمثل هذا الموقف الضعيف وهو من أشراف قريش وأعيان بني أسد ، لقد كان لموت أبي طالب وموت خديجة بنت خويلد من بعده أثراً بالغاً خلف حزناً عميقاً في نفس محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وأولاده خاصة زينب التي لم تشاركهم محنتهم وحصارهم وظل ضميرها يؤنبها ويعذبها هي وزوجها فترة طويلة من الزمان ، أما قريش فقد رأت في موت أبي طالب وموت خديجة فرصة سانحة لظلمها وتعسفها واضطهادها للمسلمين خاصة بعد أن أجبرت على فك الحصار وتمزيق الصحيفة التي تعاهدت من خلالها القبائل على حصار بني هاشم ..
والجدير بالذكر أن هذا الحصار الظالم لم يرق للكثيرين من زعماء قريش وأشرافها خاصة بعد وفاة الشيخ أبي طالب زعيم الهاشميين وخديجة بنت خويلد الأسدية وغيرهم من أبناء القبائل الأخرى فتداعوا إلى الاجتماع من جديد في دار الندوة وقرروا نقض هذه المعاهدة وهبوا إلى الكعبة المشرفة مكان تعليق الصحيفة ليمزقوها فوجدوا أن حشرة قد أكلت كل الصحيفة الظالمة ولم يبقى منها إلا كلمة ( بسمك اللهم ) فزاد عجبهم وأيقنوا أن محمداً على حق في دينه ودعوته ولكنهم أصروا واستكبروا استكبارا .
ونتيجـة للظلـم والاضطهـاد أمـر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابـــــه بالهجــرة إلى مــدينـة يثــرب فـراراً بدينهـم مـن الفتنـة والظلم والاضطهاد حتى لم يبق مع الرسول الكريم في مكة المكرمة إلا من حبس أو فتن غير علي بن أبي طالب وأبي بكر الصديق رضي الله عنهم ، أما زينب فقد بقيت في مكة المكرمة بحماية زوجها أبي العاص بن الربيع رغم الجفوة التي بينهما فلقد كان ابن الربيع حافظاً للود راعياً للقرابة وصلة الرحم .
***********
هنا الهجــــــــرة
اشتد اضطهاد قريش للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأمر أصحابه بالهجرة إلى المدينة المنورة حيث تحالف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قبيلتي الأوس والخزرج للنصرة والحماية والدخول في دين الله ، فكانت هذه الهجرة المباركة هي بداية الدولة الإسلامية التي انتشرت فيما بعد في جميع أنحاء العالم ، وبقي الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم مع نفر قليل من أصحابه في مكة المكرمة .. أما زينب بنت محمد بن عبد الله فقد بقيت في حماية زوجها ريثما يأذن الله لها ولأبيها بالهجرة إلى مدينة يثرب ، واشتد الحصار والأذى على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وصل الذروة حيث تآمرت القبائل فيما بينها على قتل محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم واختارت من كل قبيلة من القبائل فتىً جلداً يمثلها في قتل الرسول صلى الله عليه وسلم حتى إذا ضربوه ضربة رجل واحد تفرق دمه في القبائل كلها واضطر بنو هاشم لقبول الدية حين لا تستطيع أن تواجه جميع القبائل بالحرب وأخذ الثأر ، وفي ذلك يقول ربنا جل شأنه : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) كانت هذه الأخبار تصل زينب بنت محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً بأول عن طريق زوجها ومعارفها من نساء مكة المكرمة فكانت تصاب بالحزن والخوف والجزع على والدها محمد صلى الله عليه وسلم خاصة وأنها لا تملك حولاً ولا قوة تدفع به الأذى عن والدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي اليوم الموعود جاء الأمر من السماء للنبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة المنورة ، تجهز الرسول صلى الله عليه وسلم مع صاحبه الصديق عبد الله بن أبي قحافة رضي الله عنه للسفر والهجرة إلى المدينة المنورة ، حيث انطلق الركب الميمون من بين شباب مكة المتربصين ببيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أجل خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بحماية رب العالمين من بين أظهرهم وهم نائمون فأخذ يحسو التراب على رؤوسهم جميعا ويقول لهم شاهت الوجوه وسار مع الصديق مودعين أحب بلاد الله إليهم وأقدس بقعة على وجه الأرض ..
خرج محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق من مكة المكرمة وهو يقول : ( والله لإنك أحب بلاد الله إلى قلبي ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت منك ) .. أفاق فتية مكة المتربصين بالنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم من غفوتهم على نبأ خروج محمد من بين أظهرهم دون أن يعلموا واستشاطت قريش غضبا وأخذت بمطاردة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في كل مكان ، وسرى الهمس بين مشركي مكة عن خروج محمد بن عبد الله فأخذوا يبحثون عنه في كل مكان ويطـاردونـه فـي كل اتجـاه وأعلنـوا عـن جـائـزة كبيــرة لا يـحلم بهـا أي فتىً فـي مكة لمن يأتي بمحمد بن عبد الله وصاحبه أحياء أم أمواتاً ، وانطلق الشباب الغر في كل اتجاه كل واحد منهم يحلم بالجائزة السخية ومحمد قابع مع صاحبه في الغار ويمر المشركون أمام الغار دون أن يـروا محمـداً صلى الله عليه وسلم وصاحبه حتى يقول الصديق خوفاً على النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا رسول الله لو نظروا إلى أقدامهم لرأونا ) .. فيجيب الرسول بثقة مطلقة بحماية الله وحفظه : ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) .. ما أجمل هذه الكلمة وما أعظم هذه الثقة وما أروع هذا التسليم والشعور بمعية الله وفي ذلك يقول الله جل وعلا : (إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) .. أجل إنها معية الله وحماية الله للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصاحبه .. أما زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم فقد أصبحت ذات يوم وهي تسمع بمطاردة قريش لوالدها محمد رسول الله الذي خرج من مكة وليس معه إلا الله ثم صاحبه أبو بكر الصديق ، كانت زينب تعيش أشد حالات الخوف والهلع على والدها محمد بن عبد الله وهي تسمع عن خروج شباب مكة وصناديدها في مطاردة والدها خاصة وأن الشائعات في مثل هذه الأجواء المضطربة تكثر ويشتد أثرها ، فكثيراً ما تسمع عن قتل والدها محمد رسول الله وصاحبه أو أسره أو إحضاره موثقاً إلى أشراف قريش أو غير ذلك من الشائعات الكاذبة المضللة ولكنها رغم كل شيء كانت واثقة بنصر الله وحمايته ورعايته لوالدها الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ولكن ورغم ذلك فقد أوجست في نفسها خيفة وهي تصغي إلى أنباء المطاردة الشرسة العنيدة حتى إذا بلغها نبأ وصول والدها الحبيب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم إلى مأمنه في دار الهجرة في مدينة يثرب التي بارك الله فيها للمؤمنين وجعلها مركز انطلاق لهذا الدين القويم وبداية لأول دولة إسلامية في التاريخ حيث انتشر بعد ذلك الإسلام في كل أصقاع المعمورة ، هذه معية الله وحماية الله للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه وهذه منة من الله على الرسول الكريم وعلى صحبه المؤمنين الطيبين الطاهرين ، فقد حفظ الله نبيه حتى أكمل الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وأتم بناء الدولة المسلمة التي أراد الله فيها الخير العميم ليس لأبناء يثرب وحدهم وليس للمؤمنين وحدهم وإنما للبشرية جمعاء ، وعنـد ذلك اطمـأن بـال زينب بنت محمد بوصول والدها إلى يثرب إلى دار الهجرة سالما آمنا معافى مشمولا برعاية الله وحفظه ، بعد ذلك هاجرت أختها رقية ثم أختيها أم كلثوم وفاطمة وبقيت زينب في دار زوجها أبي العاص بن الربيع إذ لم يكن الإسلام فد فرق بينهما بعد ، وتلفتت زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم فيما حولها لترى مكـة المكرمة خاوية من الأحباب والأصحاب خالية من المؤمنين الطاهـريـن خاليـة مـن الهـداة المهدييـن يخيـم علـى هـذه المدينة الحبيبة أشباح الكفر والشرك والحقد والغيظ بعد أن هجرها أهلها من المؤمنين الطاهرين ، نظرت زينب إلى بيت أبيها إلى مدارج طفولتها وصباها لتراه مغلقاً حزيناً كئيباً يلفه الجمود والكآبة والظلام بعد أن كان منبع النبوة والإشعاع والنور والخير.. لقد فرغ هذا البيت الكريم من كل شيء إلا من الخيالات والأطياف والذكريات والأحلام الحلوة الطيبة مع أب رحيم كريم وأم حانية رؤوم وأخوات هن كل شيء في حياتها ، فوقفت زينب أمام هذا البيت الذي بدأت فيه الرسالة ونزل فيه الوحي من السماء تستعرض في فكرها الذكريات الحلوة السعيدة والذكريات المرة الكئيبة التي عصفت بهذا البيت الطاهر الكريم فخنقتها الغصة واغرورقت عيناها بالدموع وحنـت إلى اللحـاق بأبيهـا وأخواتهـا فـي الأيـام التـاليـة خاصـة وأن حاجـز الجفاء والبعد بينها وبين زوجها قد ازداد عمقاً وثقلاً وكثافة بعد أن تقاعس زوجها عن حماية والدها ونصرته في محنته في الأيام الشديدة الخالية ووقف في صف المشركين ضد الرسالة الإلهية والدين الحق .. لقد أصبحت زينب في أمس الحاجة للهجرة والانضمام إلى أبيها وأخواتها وبقية المؤمنين الطاهرين في مدينة يثرب حيث أقام والدها دولة الإسلام الفتية القوية التي أصبحت بعد حين مركز الإشعاع والنور الذي عم العالم أجمع ، وقفت زينب تحدث نفسها حديث الذكريات والشجون .. أين أنت يا أمــاه ؟.. وأيـن أنت يا أختي رقيـة ؟.. وأين أنت يا أختي أم كلثوم ؟.. وأين أنت يا أختي الصغيرة فاطمة الزهراء ؟.. بل أين أنت يا أبي الحبيب يا أكرم من في الأرض ؟.. لقد انفرط عقد الأسرة الكريمة فمنهم من انتقل إلى ربه ومنهم من ينتظر في دار الغربة والهجرة وبقيت زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم وحدها في مكة في مهب العواصف والأعاصير تنتظر في كل لحظة من لحظات حياتها الفرج من السماء .
غزوة بدر الكبرى
قعدت زينب بنت الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وحيدة في مكة المكرمة في بيت زوجها أبي العاص بن الربيع تندب حظها وتأخذها ذكريات الأيام السالفة بحلوها ومرها بعيداً عن واقعها المؤلم حيث أخذت الجفوة بينها وبين زوجها أبعادا عميقة سحيقة لم يعد بالإمكان أن تعود بهما إلى سالف عهدهما من الحب والود والوئام ، لقد كانت تجتر الذكريات علها تسليها عن هذا الواقع الذي جعلها كالمعلقة لا تأوي إلى زوج حبيب ولا تركن إلى أب رحيم ، أما أمها التي ماتت فكان عزاؤها أن تذهب مراراً إلى قبرها تذرف الدموع الغزيرة لعل ذلك يطفئ ما بقلبها من اللوعة والأسى والحزن والوحدة والغربة بعد أن اجتمعت عليها كل المصائب والأحزان ، لقد كان أشد ما يؤلمها في حياتها في مكة أن زوجها وابن خالتها وحبيبها أبا العاص بن الربيع لا يزال على دين الشرك ، خاصة وأنه كان من أكثر الناس معرفة بحقيقة محمد بن عبد الله وبحقيقة هذا الدين الجديد وذلك لقرابته من الحبر النصراني ورقة بن نوفل الذي طالما ذكرهم بالنبي الجديد المرتقب الذي هل زمانه في تلك الفترة من الزمان وعن الدين الجديد الخاتم الذي سيظهر في ذلك الزمان وأنه كان يتوقع أن يكون على يدي محمد بن عبد الله ، ولكن رغم كل هذا فقد ظل أبو العاص بن الربيع على دين الشرك وترك دعوة الحق التي جاء بها محمد بن عبد الله من عند رب الأرباب وخالق الأرض والسماوات ، أما زينب بنت محمد فقد كان يفرحها ما تسمع من أخبار الركبان عن أبيهـا وأخـواتها وأنهـم يعيشون الآن فـي أمـن وسـلام ومتعـة فـــي مدينة يثرب ..
أخذت شوكة الإسلام تشتد في مدينة يثرب بعد أن دخلت قبيلتا الأوس والخـزرج فـي الإسلام واجتمعــتا علـى نصـرة الـدين الجديد وعلى نصرة النبي المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الطيبين الطاهرين ، كانت مدينة يثرب تقع على طريق قوافل قريش التجارية بين مكة المكرمة وبلاد الشام وكانت أكبر قوافل قريش التجارية بزعامة أبي سفيان بن حرب في طريقها إلى مكة مروراً بمدينة يثرب ، ورأى المسلمـون أن الفـرصـة سانحة لاسترداد بعض حقوق المسلمين المهاجرين التي اغتصبها المشركون في مكة وذلك في اعتراض قوافل قريش التجارية وضرب عصب التجارة لقريش وتحطيم قوتها المالية والاقتصادية خاصة وأن قريشاً قد وضعت في هذه القافلة جل مالها في تجارتها إلى بلاد الشام ، وجاءت الأخبار إلى قريش كالصاعقة المدمرة تهز أركان قريش وتزعزع مكانتها وسيادتها واقتصادها ومالها وهيبتها وكبرياءها ، هل يتجرأ محمد بن عبد الله الذي خرج من مكة مطاردا ضعيفا بمن معه من القلة القليلة من المسلمين أن يواجه قريشاً بقوتها وعظمتها وكبريائها وجبروتها ، بل أن يتحدى قريشاً بقوتها وعظمتها ، كانـت زينـب بنـت الـرســول محمــد صلى الله عليه وسلم واقعة بين نارين والدها الذي عذب وأوذي وترك بيته وهاجر.. وبين زوجها الذي أصر أن يبقى على دين آبائه وأجداده خاصة وأن لــه في قافلـة أبي سفيـان بن حرب النصيب الأوفى حيث وضع جل ما يملك في هذه القافلة منتظـراً البيـع والتجارة والربح الوفير ، ولكن أخبار اعتراض هـذه القـافلــة سيكون له أبلغ الأثر في علاقتها بزوجها بل بقريش كلها ..
وتتابعت الأخبار التي تتناقلها الركبان عن اقتراب عاصفة مدمرة عاتية بين قريش بكبريائها وعزتها وسيادتها على كل القبائل وبين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه القلة القلية المؤمنة وذلك عندما وجد في مدينة يثرب الدعم القوي والسند الشديد ، وجد في مدينة يثرب أنصاراً ومقاماً وأصحاباً أصبح في مقدورهم أن يهددوا قوافل قريش ويقطعوا عليهم أهم طرق التجارة خاصة وأن جماعة منهم استطاعوا فيما سبق أن يستولوا على قافلة صغيرة سابقة بقيادة عمرو بن الحضرمي .. ولكن قافلة أبي سفيان غير قافلة ابن الحضرمي ذلك لأن قافلة أبي سفيان تضم الثقل المالي والاقتصادي لقريش تضم جل أموال قريش ، لقد عاشت قريش أحلك أيامها وهي تسمع تلك الأخبار المتواترة المؤلمة عن اعتراض محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلة أبي سفيان حتى تأكد الخبر عند وصول ضمضم بن عمرو الغفاري الذي كان عائداً من الشام مع أبي سفيان والذي وقف قرب الكعبة المشرفة على بعيره وهو يصيح بعد أن شق ثوبه : ( يا معشر قريش .. اللطيمة اللطيمة .. الغوث الغوث .. أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ما أرى أن الوقت يسمح لكم أن تدركوها !! ) .. تعالت أصوات الغضب تستنكر هذا التصرف من محمد وأصحابه من المهاجرين والأنصار فقال أبو جهل عمرو بن هشام : ( والله ليعلمن محمد وأصحابه غير ذلك ) ..
وسمعت زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم وهي تعيش وسط مكة ما يقال هنا وهناك وما يثار هنا وهناك فعلمت أنها الحرب ولاشيء غير الحرب بين قريش في مكة بزعامة أبي جهل عمرو بن هشام وبين المسلمين في يثرب بزعامة والدها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، بين المشركين وفيهم زوجها وابن خالتها ووالد طفليها أبي العاص بن الربيع وبين المسلمين وعلى رأسهم أبيها محمد صلى الله عليه وسلم وكانت الصدمة قاسية على زينب فباتت ليلتها تلك في شقاء وتعاسة وترقب للمصير المجهول الذي سيتمخض عنه الصراع بين قريش بصلفها وقوتها وكبريائها وتعنتها وبين المسلمين الضعفاء الذين ليس لهم حول ولا قوة .. ولما أصبح الصباح استقر رأي زعماء قريش على الحرب فتجمع من المشركين ألف مقاتل من خيرة مقاتلي قريش بكامل عدتهم وعتادهم ورواحلهم وتموينهم بزعامة أبي جهل عمرو بن هشام متوجهين إلى يثرب وكان بين المقاتلين القرشيين المشركين زوجها أبو العاص بن الربيع .. نظرت زينب في حيرة وحزن وأسى وتصورت والدها الذي لا يملك من القوة والعدة والعتاد والرجال إلا النذر اليسير فكيف سيصمد أبوها أمام هذه القوة الكبيرة الغاشمة من قريش .. واستعطفت زوجها تثنيه عن الاشتراك في هذه الحرب الظالمة ولكن محاولاتها باءت بالفشل أمام تحريض رأس الكفر أبو جهل عمرو بن هشام وأمام ضياع أمواله الكبيرة في قافلة أبي سفيان بن حرب ، ثم إنها في هذه الحرب الظالمة إما أن تفقد زوجها الذي يقاتل مع قريش وإما أن تفقد أباها أو أخواتها الذين هم في جيش المؤمنين ، ولكن ما لبثت أن شكت أمرها إلى الله وتوكلت على الله واقتربت من مهد ولديها علي وأمامة تحنو عليهما فلعل الأيام القادمة لا تكون سعيدة أو هنية كتلك الأيام السالفة ..
ونظراً لهذه الحالة البائسة اليائسة التي لم تكن تنتظر منها الخير ومع كثرة الأخبار والشائعات فقد صمت زينب سمعها عن سماع أي خبر لأنها لا تريد سماع فجيعتها بزوجها ولا بأبيها ولا بإحدى أخواتها وعاشت تلك الأيام حزينة بائسة مضطربة تتوجس الخطر والمصيبة ولكنها في نهاية المطاف أوكلت أمرها إلى الله فهو الذي يتولى أمور الخلائق كلها..
ولم تمض أيام قليلة حتى جاءت إليها عاتكة بنت عبد المطلب عمة الرسول صلى الله عليه وسلم فبدأتها بالسؤال ..
عاتكة : كيف حالك يا زينب ؟
زينب : في حال سيئة يا عمتاه ..
عاتكة : في حالة سيئة ..؟!! .. ولماذا يا بنيتي ..؟
زينب : وهـل مـا نحــن فيـه يبعـث على الفـرح والاطمئنــان يا عمتــــي الحبيبة..؟
عاتكة : ولكن أما سمعت آخر الأخبار يا بنيتي ..؟!!!
زينب : لا أريد أن أسمع أي خبر يا عمتاه ..
عاتكة : ولكن .. !!
زينب : ( مقاطعة ) .. ولكن ماذا يا عمتاه فأنا أنتظر أحد خبرين ولا أريد سماع أي واحد منهما ..
عاتكة : أي خبرين ولماذا لا تريدين سماعهما ..؟!!
زينب : خبر اليتم أو خبر الترمل وهل هناك غير ذلك يا عمتاه ..؟
عاتكة : (تبتسم) : ولكن أو ما بلغك النبأ العجيب ..؟!!!
زينب : ( وهي تنظر بتلهف وشوق ) .. خبر عجيب يا عمتاه ؟!! .. لا والله يا عمتي لم يصلني شيء .. أي خبر عجيب ذاك .
عاتكة : لقد انتصر محمد .. !!
زينب : ( فـي لهفـة مقـاطعـة كـلام عـاتكـة ) .. انتصــر أبـي على قريش ..؟!! أحقا ما تقولين يا عمتاه ..؟!!
عاتكة : أجل والله يا بنيتـي .. انتصـر محمـد فـي قلـة مـن أصحابه على قريش في كثرتها وعدتها وعتادها ..
زينب : بلهفة وتعجب .. ولكن كيف ..؟!!!
عاتكة : لا أدري .. ولكن الأخبار قد وصلت هكذا إلينا الآن .
زينب : ( تصيح من الفرحة ) .. انتصر أبي على قريش وا فرحتاه..!!
عاتكة : أمــر عجيـب سيكــون لـه أســوأ النتائج على قريش وكبريائها وزعامتها وسيادتها على كل القبائل العربية.
زينب : ( وقد بدا عليها الخوف والذهول .. وأخذت طفليها تضمهما إلى صدرها وهي تبكي.. وقد تذكرت زوجها ) .. ولكن ماذا عن أبي العاص والد هذين الطفلين ..؟!!
عاتكة : اطمئني لم يقتل أبو العاص بل وقع في الأسر ..
زينب : ( تتقـدم إلــــــى عمتهـا تعـانقهـا بحـرارة ولهفـــة وتقبلهــــا ودموع الفـرح تنهمـر من عينيها وهـي تصيـح بأعلـى صـوتهـــا ) شكراً لك يا رب .. شكـــرا لك يا رب ، فهـذه إرادتـك فلـم أفجـع بزوجي ولا بأبي في تلك الحرب الظالمـة ، شكرا لك يا رب ، ثم أخـذت زينب تبكـي ولا تدري لماذا تبكي والدموع تنهمر من عينيها ولا تدري هل هي دمـوع الحزن أم دموع الفرح ..
عاتكة : كفـى يـا بنيتي .. بعـد أيـام سيعـود إليــك زوجــك فــإن أهلــــه سيدفعون أي شيء في سبيل فدائه ..
زينب : لا يا عمتي أنـا التي سأفديـه وأعــرف ثمن الفداء الذي يقبله أبي ولا يرفضه أبدا ..
عاتكة : ( متعجبة ) الفـداء يحتـاج إلى المـال الوفيـر فمـن أين لك ثمن الفداء يا زينب ..؟!!!
زينب : إن فــــداء أبي العاص معي ولا أحد يملكه إلا أنا يا عمتاه.
*********
فداء الأسرى
عادت فلول جيش قريش المهزومة إلى مكة المكرمة تحمل معها أنبـاء الخـزي والعـار والهـزيمـة التي لحقـت بقـريش فأصـابتهـا بمقتل فـي عزتهـا وكبريائهـا وكرامتها وسيادتها على جميع القبائل العربية آنذاك ، عادت الفلول المنهزمة لتحمل معها أنباء القتلى والأسرى من زعماء قريش وأشرافها وسادتها في معركة بدر الكبرى التي حولت مسار التاريخ الإسلامي بل مسار التاريخ العالمي وكانت بداية الانطلاق للدولة الإسلامية الناشئة وللأمة الإسلامية اللاحقة وللحضارة الإسلامية العالمية الإنسانية التي انتشرت فيما بعد في جميع أنحاء المعمورة ، عادت فلول الجيش المهزوم لتحكي للأجيال القادمة قصصا هي أشبه بالخيال لم يعهدها القرشيون من قبل ، عادت فلول الجيش المهزوم لتعلق على باب الكعبة المشرفة أسماء قتلى المشركين في بدر من أشراف قريش وعظمائها وسادتها وعلى رأسهم أبو جهل عمرو بن هشام الذي كان رأس الكفر في قريش وكان فرعون هذه الأمة المحمدية إضافة إلى العديد من سادات قريش وأشرافها الذين قتلوا في معركة بدر الكبرى ، عادت الفلول المهزومة لتعلن على الملأ أسماء الأسرى الذين أسرهم المسلمون من سادة قريش وأشرافها وأخذ القرشيون في إرسال ذويهم إلى يثرب لفـداء أسـراهـم ، وكان أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليـه وسلم أحـد الأسرى في معركة بدر حيث خرج مع جيش المشركين بتحريض من أبي جهل عمرو بن هشام ، وكان رجلا ثريا ذا مال وفير وتجارة واسعة فأراد أهلوه أن يدفعوا في فدائه أعلى ما فدي به قرشي ، ولكن زينب زوجة أبي العاص بن الربيع وبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبت عليهم ذلك وقالت إن فداء أبي العاص عندي ولا أحد يملك فداءه غيري ، استغرب أهل أبي العاص من هذا الكلام واندهشوا من عرض زينب بنت رسول الله وهم يعلمون أنها لا يمكنها أن تدفع من المال ما يستطيعون دفعه هم ، وما هو هذا الفداء الذي تملكه زينب ولا يملكه أحد غيرها ؟!.. وسألوها إذا كان الفداء مالا دفعنا أكثر ما يدفع في الفداء من المال فقالت زينب بل إنها ستفدي زوجها ووالد أولادها بما هو أغلى من أموال الدنيا كلها .
جمع أسرى قريش في أعقاب الانتصار الساحق للمسلمين في بدر وسيقوا إلى المدينة المنورة مدينة يثرب فاستعرضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشفق عليهم وتمنى عليهم لو يؤمنوا برسالة السماء ثم ما لبث أن نحى عنه صهره أبا العاص بن الربيع ثم فرق الباقين بين أصحابه وقال لهم بأسلوبه الرحيم وبخلقه العظيم : " استوصوا بالأسرى خيراً.."
بقـي أبـو العاص بن الربيع في كنف النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى جاء رسل قريش في فداء أسراها فدفعوا في فدائهم الأموال الطائلة ، حيث كان من عادة العرب أن يتباهوا بارتفاع مبلغ الفــداء حتى أن الرجـل منهــم يسأل عـن أغلى ما فدي به قرشي فيقال كذا وكذا فيبعث بنفس القيمة أو يزيد عليها إمعاناً في الكرم والشرف ، وجاء الناس بأموالهم وجاء عمرو بن الربيع أخو أبي العاص بن الربيع في صرة أرسلتها معه زينب بنت محمد في فداء زوجها فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : ( بعثتني زينب بهذا في فداء زوجها أخي أبي العاص بن الربيع ) .. وأخرج من ثيابه صرة صغيرة قدمها إلى النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ففتحها الرسول فإذا بها قلادة من جزع ظفار كانت قد أهدتها زوجه خديجة إلى ابنتها زينب ليلة زفافها ، فما أن رآها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى حن إلى زوجته الحبيبة خديجة بنت خويلد وخفق قلبه للذكريات الطيبة الحلوة التي جمعته مع زوجته خديجة في سالف الأيام .. لقد كانت هذه القلادة لدى رسول الله أغلى من أموال الدنيا تماماً كما قالت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. لقد كانت قلادة زوجته الحبيبة خديجة وهل هناك أغلى من خديجة وأحب إلى قلب رسول الله منها ، وعلم الصحابة رضوان الله عليهم أن هذه القلادة هي قلادة خديجة بنت خويلد الأسدية زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم بناته وأم المؤمنين رضي الله عنها ، وعلموا مدى تأثر الرسول صلى الله عليه وسلم لذكرى زوجته خديجة ، التي وقفت بجانبه وقفة رائعة حتى آخر لحظة من حياتها ، فأطرق الصحابة خشعاً وقد أخذوا بمهابة الموقف وجلاله ، قلادة الحبيبة خديجة أم المؤمنين تبعث بها الحبيبة زينب بنت الحبيب محمد لفداء زوجها أبي العاص بن الربيع ، وسادت فترة صمت لجلال الموقف قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها فافعلوا " .. قالوا نعم يا رسول الله وتم الفداء وأطلق أبو العاص بن الربيع من الأسر وردت إلى زينب قلادة أمها لتبقى ذكرى للأم الحنون أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ..
أما أبو العاص بن الربيع وأخوه عمرو بن الربيع فقد ألجمهما الذهول والعجب والتأثر خاصة وأن الفداء كان من خالتهما خديجة إلى زينب في ليلة زفافها .. وفي غمرة الدهشة والذهول والعجب انفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم بصهره أبي العاص بن الربيع فأسر إليه بكلمات أقرها أبو العاص بإيماءة الموافقة من رأسه دون أن يتكلم ثم حيا رسول الله وودعه ومضى مع أخيه آفلين إلى مكة المكرمة .. فلما ابتعدا التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه من حوله فأثنى على أبي العاص بن الربيع وقال : " والله ما ذممناه صهراً " .
عودة الغائب
كانت زينب بنت محمد تعيش فرحة غامرة فلقد أكرمها الله بانتصار والدها وبانتصار المسلمين في معركة بدر وأكرمها أيضاً ببقاء زوجها على قيد الحياة ثم عودته المرتقبة إلى مكة بعد أن وصلتها أخبار الفداء وإكرام الرسول له ، ولم تمض أيام قليلة حتى دخل أبو العاص بن الربيع إلى بيته فما أن رأته زينب حتى غمرتها الفرحة وأظلتها السعادة والبشر بعودة زوجها ووالد أولادها فوثب إليه قلبها بعد عناء وخوف وترقب وفراق طال أمده فما كان منها إلا أن رفعت وجهها إلى السماء تحمد الله وتشكره أن أنعم عليها بعودة زوجها الحبيب سالماً معافى بعد حرب راح ضحيتها العديد من أشراف قريش وسادتها وتضرعت إلى الله أن يشرح صدر زوجها الحبيب للإسلام ، أما أبو العاص فقد كان واجماً مهموما كئيباً على غير عادته ، ولم ينتشله من وجومه إلا صوت علي وأمامة من داخل البيت ينادون أباهم الذي غاب عنهم طويلاً ولا يعرفوا سبباً لغيابه .. هرع أبو العاص بن الربيع إلى أطفاله يعانقهم بشوق ولهفة وقعد بجانبهم يلاعبهم ويحنو عليهم ثم ما لبث أن امتلأت عيناه بالدموع فأشاح بوجهه عن زوجته وأولاده كي لا يروا ضعفه ودموع عينيه ، تقدمت زينب من زوجها وقد أشفقت عليه من هذه الدموع فلقد كان الموقف يقتضي الفرح والسرور بعودته سالماً معافى من كل مكروه فأقبلت عليه زينب متسائلة :
زينب : ما هذه الدموع يا أبا علي ؟! .
أبو العاص : لا أدري .. ربما دموع الفرح يا حبيبه .
زينب : ولكنك تبكي بحرارة وحزن ما عهدتك من قبل هكذا
أبو العاص : قلت لا شيء ..
زينب : أصدقني يا أبا علي ما بك يا بن الخالة..؟!
أبو العاص : لاشيء يا بنت خالتي ..
زينب : بل هناك شيء كبير يا بن الخالة ..
أبو العاص : ( بـاضطـراب ) .. ربمـا .. لا شيء .. وأشاح بوجهه عنها كأنه لا يريد أن تقرأ قسمات وجهه فتعرف ما يضمر قلبه ..
زينب : لقد أشغلتني يا أبا علي .. فما هكذا يكون لقاء الأحباب بعد الغياب ..
أبو العاص : ( وهو مغمض العينين كسير النفس بلهجة حانية هامسة ) .. لقد جئتك مودعاً يا زينب ..
زينب : ماذا تقول يا أبا علي ..؟!!! .
أبو العاص : ( ينظـر إليهــا نظـرة ملـؤهـا الشفقـة والألم والحنان وعيونه تمتلئ بالدمـوع ) .. أجـل كمـا سمعـت يا زينــب .. جئتــــك مودعاً ..
زينب : وهل أغرتك قريش بالتخلي عن بنت محمد يا أبا علي؟! ..
أبو العاص : معاذ الله يا بنت الخالة أن أتخلى عنك لهذا ..
زينب : ولكن ماذا إذن ..؟!! وما هذا القول الذي تقول ..؟!!
أبو العاص : لقد حان وقت الفراق يا حبيبة ..
زينب : وهل عرضوا عليك أخرى بدلاً عن بنت محمد ..؟!!
أبو العاص : وهل أرضى ببنات الدنيا عنك بديلا يا أم علي ..؟!!
زينب : ماذا إذن يا أبا علي ..؟!!
أبو العاص : لا يا زينب ، أرجوك لا تجرحيني ، فوالله ليس في الدنيا امرأة أخرى أرضى بها بدلاً عنك يا بنت الخالة
زينب : ( والدموع تترقرق من عينيها ) .. ماذا إذن أخبرني ..
أبو العاص : ( وقـد أدار لهــا ظهـره حتـى لا تــرى قسمــات وجهه الحزينة ) لست راحلاً يا زينب .. ولكنك أنت الراحلة هذه المرة .. فجئتك مودعاً أيتها الحبيبة ..
زينب : ( وقد ألم بها الحزن والأسى ) أو هكذا يحين وقت الوداع ولما نلتق بعد يا أبا علي ..
أبو العاص : أجل يا زينب .. وهذا فوق إرادتي واحتمالي يا بنت الخالة ..
لم تستطع زينب أن تجد تفسيراً لهذا الفراق المفاجئ الذي ما كان لها أن تتوقعه فلقد حاولت قريش وهي في أشد عنفها وقوتها وعنفوانها أن تضغط على أبي العاص ليرد زينب إلى أبيها وعرضوا عليه أن يختار أية فتاة من قريش ليزوجوه بها بدلاً عن زينب بنت محمد ولكنه رفض وبشدة ورفض كل فتيات قريش مقابل فراق زينب وإعادتها إلى بيت أبيها .. فما باله اليوم يقدم على الفراق بكل هذه البساطة فالتفتت إليه معاتبة بلهجة حزينة هادئة..
زينب : لن أتركك هكذا يا ابـــــن الخالة لابد أن اعـــــرف السبب .
أبو العاص : لاشيء .. لا شيء غير الفراق يا ابنة الخالة ..
زينب : والأولاد ما ذنبهم ..؟
أبو العاص : سيكونون أمانة عندك يا زينب .. وأنت أهل للأمانة.
زينب : والوليد الجديد الذي في أحشائي ..؟!!
أبو العاص : سيكون أيضاً أمانة عندك مع إخوته ..
ذهبت زينب إلى مخدعها بعد أن تأكدت أن قرار زوجها لا رجعة فيه وأن الفراق لابد آت ولو بعد حين .. فاستسلمت لهذا المصير الذي لم تعرف له سببا يرد على أحزانها وأشجانها فأجهشت بالبكاء ..
أبو العاص : ( وقد أدرك ما يهجس في نفسها فما كان منه إلا بادرها بحنان منقطع النظير ) .. رحماك يا بنت الخالة .. رحماك أيتها الحبيبة الغالية .. إن أباك هو الذي طلب مني ذلك .. لقد طلب أن أردك إليه لأن الإسلام فرق بيني وبينك ..
زينب : وهل رضيت بهذه النهاية المأساوية بهذه البساطة..؟!!
أبو العاص : لقد وعدت والدك أن أدعك تسيرين إليه وما كنت
لاأنكث عهدي مع والدك بعد أن أكرمني وأحسن إلي ..
زينب : ألم يئن لقلبك أن ينصاع للحق يا بن الخالة بعد هذا الدرس الأليم ..
أبو العاص : إني لا أحب أن يقال أن محمد قد أغراني بإطلاق سراحي حتى أتبع دينه وأترك دين آبائي وأجدادي .
زينب : ألم يحصل هذا يا أبا علي ..
أبي العاص : أجل ولكننـــي أكره أن يقال أسلم أبو العاص مــــــن أجل امرأته وحميه .. وأخذت عيناه تعبر عن الحزن العميق على فراق زوجه وبنيه فما كان منه إلا أن أجهش بالبكاء ..
زينب : ( وقد تأثرت لمنظر زوجها وحزنه ) : كفى يا أبــــــا علي فما أحب لرجل مثلك أن يبكي ..
أبو العاص : يبكي دون أن يجيبها ..
زينب : وكم بقي لنا من الوقت نقضيه معاً ..
أبو العاص : ( بصوت واهن حزين ) .. ليس بالكثير.. إن هي إلا أيام معدودات تتجهزين فيها للسفر ثم يكون الفراق المحتوم ..
زينب : ( بلهجـة حزينة ) .. وهل سترافقني إلى دار الهجرة إلى يثرب ..
أبو العاص : ( وقـد حبس دمـوعـه فـي عينيـه وقال بصوت حزين خفيض ) .. لا يا بنت الخالة ..
زينب : ومن سيرافقني إذن .. هل أذهب وحيدة إلى يثرب ..؟
أبو العاص : سيأتي أخوك زيد بن حارثة ومعه نفر من الأنصار إلــى منطقة قريبة من مكة فيصحبـوك إلى أبيك فـي يثرب .
كانت زينب تنظر إلى الأفق البعيد تنظر إلى يثرب تتمثل أباها وأخواتها تتمثل المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار.. تتخيل أباها يعانقها.. تتخيل جو الألفة والمحبة بينها وبين أخواتها فتعيش في حلم لذيذ رائع ولكن لا يلبث هذا الحلم أن ينقشع ويزول عندما تتذكر فراقها لزوجها الذي لم تجد منه إلا كل خير ومحبة وألفة ومودة فتسرع الدموع إلى عينيها ويسيطر الحزن على كل أحاسيسها فما يكون منها إلا أن تهرع إلى ولديها علي وأمامة وتضمهما إلى صدرها في حب عارم شديد وهي تدعو ربها أن يلهم زوجها أبا العاص الهداية إلى الحق ليجتمع شمل الحبيبين من جديد ..
**********
الفــراق المــــر
وقعت زينب بنت محمد في حيرة من أمرها بعد الصدمة الأليمة التي أصيبت بها من قرار الفراق المفاجئ الذي كان كالصاعقة على قلبها فلقد كان أبو العاص بن الربيع من خيرة شباب مكة كرماً وأخلاقاً وطيبةً ومحبةً وحسن معشر .. إضافة إلى أنه ابن الخالة هالة بنت خويلد ووالد علي وأمامة الطفلين الصغيرين الذين مازالا بحاجة إلى حنان الأبوين ورعايتهما ولكنها عندما سمعت أن هذا الأمر هو أمر الله وأن هذا الطلب جاء من والدها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم سكن قلبها واطمأن وتيقنت أن إرادة الله وإرادة محمد رسول الله هي الخير لها ولأولادها ولزوجها.. ولكنها مع كل هذا لم تقطع الأمل بالزوج الحبيب فكانت تدعو ربها صباح مساء أن يهديه إلى طريق الصواب بعيدا عن الشرك والهوى والضلال وعندها سيعود الحبيب إليها مسلماً مؤمناً طيباً طاهراً ولو بعد حين ..
أخذت زينب تتجهز للسفر منذ أن سمعت قرار الفراق الأخير من زوجها أبي العاص فلمحتها هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان بن حرب التي فجعت بأحبابها يوم بدر فقد قتل والدها عتبة بن أبي ربيعة وقتل عمهـا شيبـة بـن ربيعـة وقتـل أخوها الوليد بن عتبة وقتل أبناء عمومتها عبيدة بن سعيد بن العاص والعاص بن سعيد بن العاص وقتل ابنها من زوجها حنظله بن أبي سفيان .. فعندما رأت هند بنت عتبة زينب تروح وتجيء وتشتري وتتجه هنا وهناك لم يخيبها ذكاؤها وهي من دهاة نساء العرب في أن زينب بنت محمد تستعد لتلحق بأبيها في يثرب ولكنها أحبت أن تتأكد من ذلك بنفسها فتقدمت إلى زينب تسألها :
هند : أراك في شغل دائب هذه الأيام يا بنت محمد ..
زينب : أجل يا خالة .. بعد عودة أبي العاص من يثرب ..
هند : ولكن ألاحظ خلف الأكمة شيئا غير عادي ..
زينب : أنا دائما كذلك يا بنت عتبة ..
هنــد : ولكنك تذهبين وتجيئين وتشترين وتتبضعين على غير عادتك يا زينب .
زينب : بل على عادتي يا خالة فالبيت والزوج والأولاد ..
هـنــد : ولكني سمعت بعزمك على ..
زينب : (بلهجة حادة ) .. سمعت ماذا ..؟!!
هـنــد : سمعت بعزمك على السفر إلى أبيك في يثرب ..
زينب : ومن قال لك هذا يا بنت عتبة ..؟ لا شك أن الناس في هذه الأيام لا هم لهم إلا إطلاق الشائعات والأكاذيب ..
هـنــد : ( تقترب من زينب متلطفة ) .. يا بنت محمد بلغني أنك تريدين اللحاق بأبيك في يثرب ..
زينب : ( في ضيق وحيرة لم تجب ) ..
هـنــد : يا بنت العم إذا كانت لك حاجة في شيء فعندي حاجتك.
زينب : لا حاجة لنا إلا إلى الله يا بنت عتبة ..
هـنــد : اعلمـي يا زينـب بنت محمـد أننـي لا أحمل لك في قلبي أي حقد أو كـراهيـة فإنـه لا يدخـل بين النساء ما دخل بين الرجال من حقد وكراهية وحرب ..
زينب : شكراً لك يا خالة ..
خرجت هند من عند زينب وذهبت إلى محافل مكة وأنديتها تحرض الناس وتدعوهم للثأر من المسلمين الذين قتلوا سادات قريش وكبراءها وأشرافها .. أما زينب فقد لمست من كلمات هند بنت عتبة الرقيقة المنمقة الناعمة نبرات الصدق وهمت أن تفضي إليها بعزمها على الرحيـل إلى يثرب لولا خوفها من أن ينتشر الخبر في مكة فيمنعها أشراف مكة من السير إلى أبيها في يثرب .. ولكنها قالت عن هند فيما بعد : ( والله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل ولكني خفتها فأنكرت أن أكون أريد اللحوق بيثرب ) ..
وتمر الأيام وزينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم تستعد وتتجهز للسفر وزوجها يغمرها بعطفه وحنانه ويبذل لها ما تحتاج من مال ومتاع ولكن سرعان ما حل موعد الفراق وموعد الرحيل الذي يقابله موعد قدوم زيد بن حارثة مع بعض الأنصار ، عندها ودعت زينب ابن خالتها أبا العاص بن الربيع وداع محبة غير قالية ولا هاجرة ولا مبغضة ولكنها منفذة لأوامر الله ورسوله ، وخرجت وفي أحشائها بضعة من جنين لم يستكمل شهره الرابع ، صعدت على راحلتها مع الأولاد وهي حزينـة كئيبـة فمـا أصعـب الفـراق بيـن الأحبـاب خاصـة إذا كان الأمـل في اللقاء بعيداً بل ربما كان مستحيلاً وأخذت الدموع من زينب ومن زوجها أبي العاص تسيل معبرة عن مدى الحب والاحترام والتقدير كل منهما للآخر ولكنها إرادة الله وإرادة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
زينب : ( تطل من فوق راحلتها ) : وداعاً يا أبا علي ..
أبو العاص : وداعاً يا بنت الخالة ..
زينب : لن أقطع الأمل في قدومك إلى يثرب مؤمنا مهاجراً يا بن الخالة ..
أبو العاص : مهما كان من أمر فسأبقى على حبك ما حييت يا زينب ..
زينب : وأنا كذلك يا بن الخالة .. سأنتظر قدومك مهاجراً مؤمناً إلى يثرب ..
أبو العاص : سيبقى طيفك مـــدى الحياة ملء هـــــذه الدار التــــــي شهدت أسعد أيام حياتنا ولياليها .. يا زينب .. ثم ما لبث أن خانه تجلده وصبره فانهمرت الدموع من عينيه وكتمت أنفاسه غصة شديدة لم يستطع بعدها الكلام فأومأ إلى أخيه كنانة بن الربيع بيده ليمضي بزينب إلى حيث ينتظرها زيد وأصحابه من الأنصار ..
انطلق كنانة بن الربيع يقود راحلة ابنة خالته زينب بنت محمد جهاراً نهاراً صوب مدينة يثرب وقد أخذ سيفه وقوسه متأهباً للدفاع عن ابنة خالته وزوجة أخيه زينب بنت محمد على مرأى ومسمع من رجال قريش .. فجن جنون القوم أيدعون زينب بنت محمد ترحل من مكة إلى يثرب وأبوها قد نال من سادة قريش وأشرافها .. فخرج رجال من قريش في أثر المهاجرة المؤمنة زينب بنت محمد حتى أدركوها في منطقة على طريق يثرب تدعى ( ذي طوى ) فكان أسبقهم إليها هبار بن الأسود الأسدي وكان رجلاً شديداً جلفاً فظاً غليظ القلب كان قد فجع بإخوته الثلاثة الذين قتلوا في غزوة بدر على أيدي المسلمين فما كان منه إلا أن نخس البعير الذي يحمل زينب وولديها فألقى بالمؤمنة المهاجرة الطاهرة على صخرة كانت على الطريق .. أما كنانة فقد تأهب للدفاع عن زينب وكان من أمهر فتيان العرب إصابة للهدف فقال وكأنه أسد يزأر ..
كنانة : والله لا يدنو منها رجل إلا مزقت أحشاءه بسهمي هذا .
فوقف أبو سفيان بن حرب داهية العرب بعيداً يلاطف كنانة ويقول :
أبو سفيان : كف عنا نبلك يا كنانة ..
كنانة : لا والله يا عماه .. لا يصل إليها أحـد وفـي جســدي عرق ينبـض .. لأقتلـن كل مـن يقتـرب إلى زينـب فالسهــام مسمومة ..
أبو سفيان : بحنكه ودهاء .. كف عنا سهامك واستمع إلي أكلمك ..
كنانة : ( وقد عادت إليه سكينته وهدوؤه ) .. هات ما عندك يا أبا سفيان ..
أبو سفيان : إنك لم تصب يا بن الربيع ..
كنانة : ماذا يا أبا سفيان ..؟
كنانة : وإنها ابنة خالتي وزوجة أخي وأم أولاده يا أبا سفيان
أبو سفيان : ولكن خروجك بها هكذا أمام الناس سيجعلنا في ذل ومهانة أمام جميع الناس ..
كنانة : الذل والمهانة ما حصل لكم في معركة بدر يا أبا سفيان .
أبو سفيان : ( بلهجة هادئة لينة ) .. أنت تعلم يا كنانة أنه مالنا بحبسها عن أبيها من حاجة .. فارجع بها حتى إذا هدأت الأصوات وتحدث الناس أن قد رددناها فسلها سراً فألحقها بأبيها ..
كنانة : لا والله يا أبا سفيان ما هكذا تكون مروءة العرب .. والله لن أرجع بها وأشهدكم أنني سأدافع عنها حتى آخر قطرة من دمي ..
أبو سفيان : خرجــت بالمرأة علــــى رؤوس الأشهاد جهاراً نهــــاراً علانية .
كنانة : وماذا في الأمر يا عماه .. امرأة تريد اللحوق بأبيها
أبو سفيان : إنك تعرف مصيبتنا ونكبتنا مع أبيها يا كنانة ..
كنانة : ومتى كانت العرب تنتقم من امرأة إذا هزمت في المواجهة أمام الرجال ..؟
أبو سفيان : معك حق في هذا يا بن الربيع ولكن المصاب مع أبيها جلل وأنت تعرف ذلك ..
كنانة : أعرف ذلك وما دخل امرأة أخي في مصابكم هذا ؟.
أبو سفيان : إنها بنت محمد.. يا كنانة ..
وفي هذه الأثناء سمع كنانة أنين زينب وهي ملقاة على الأرض فالتفت إليها ليراها تنزف وقد أسقطت جنينها على أديم الأرض فالتفت كنانة إلى الرجال من قريش ليقول ..
كنانة : سيعلـم هبـار وصاحبـه أن بنـي أسد لن تسكت عن صنيعهما هذا أبدا..
أبو سفيان : ( وقد وجدها فرصة سانحة ) .. عد إلى مكة يا كنانة لتسعف زينب بنت محمد فقــد ازداد ألمهــا ونزيفها ..
أمسك كنانة بخطام البعير بعد أن ساعد زينب على ركوبها وعاد بها إلى مكة حيث بقي أبو العاص إلى جانبها أياماً يرعاها ولا يفارقها لحظة واحدة من ليل أو نهار وهو يبكي ما حل بزينب وبالجنين الذي سقط حتى تماثلت زينب للشفاء .. ولكن الجنين الذي سقط جعل أبا العاص بن الربيع يهدد ويتوعد هباراً وصاحبه بالانتقام القريب ..
ولما تماثلت زينب للشفاء واستعادت قوتها ونشاطها وحيويتها خرجت إلى راحلتها في وضح النهار يقودها كنانة بن الربيع وتأهب وهدد وتوعد كل من تسول له نفسه الاقتراب من زوجة أخيه زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم بالموت المحقق .
لم يتجرأ أحد من رجال مكة كلها للتعرض لزينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم .. بل أغمضوا أعينهم في ذلِّ ومهانة عن رحيلها وقد ركبهم الخزي والعار خاصة وأن زوجة أبي سفيان هند بنت عتبة قد أخذت تعيرهم وتسفه أحلامهم وتسخر من الرجال الذين هربوا في الحرب ويريدون الآن أن يظهروا رجولتهم وبطولتهم بالتعرض لامرأة مسالمة مسافرة مع أطفالها أو هكذا تكون البطولة يا معشر قريش .. لقد صرخت هند بنت عتبة في وجوه القوم وهي تقول :
هـنـد : أمعـركـة مـع أنثـى عـزلاء يا رجــال قــريش ..؟!!! هـلا كانت هذه الشجاعة يوم بدر أيها الرجال .. وأنشدتهـم شعـراً يزيـدهـم خزياً وذلاً ومهانة فقالت :
أفي السلم أعيارٌ جفاءً وغلظةًً وفي الحرب أشباه النساء العوارك
وعاد كنانة بن الربيع إلى أخيه أبي العاص بن الربيع بعد أن اطمأن على زينب وسلمها إلى أيدي أمينة مؤمنة طاهرة زيد بن حارثة وأصحابه من الأنصار ليكملوا بها الرحلة إلى مدينة يثرب ، إلى المدينة المنورة ، إلى أبيها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى أخواتها رقية وأم كلثوم وفاطمة ، لقد تحققت أحلامها باللقاء المشهود وأصبحت قاب قوسين أو أدنى من لقاء الأحبة بعد طول الفراق ، عاد كنانة إلى أخيه يطمئنه بتسليم الأمانة إلى زيد بن حارثة رغم أنف قريش وهو ينشد أشعاره ويتغنى على راحلته أمام رجال قريش ويقول :
عجبـت لهبـار وأوبـاش قومه يريـدون إقفــاري ببنت محمــــد
ولست أبالي ماحييت عديدهم ومااستجمعت قبضا يدي بالمهند
*********
الـوصــول إلى يـثـرب
سـارت زينب بنت رسـول الله صلى الله عليـه وسلـم بحماية الصحـابـي الجليـل زيـد بن حارثـة وصحبـه مـن الأنصـار فـي طـريق يثـرب مسيـرة يومين أو تزيد حتى أطلت من بعيد مدينة يثرب فأخذت دقات قلبهـا تـزداد سـرعـة وقلبهـا يـزداد خفـوقـاً وشـوقاً إلى ساكني مدينـة الرسـول صلى الله عليـه وسلم ، واستقبلت مدينة يثرب زينب بنت محمـد بالفرحـة والسـرور باحتفـال مهيـب ولكـن أهـل المدينة تذكـروا عـدوان قـريش على بنت الـرسول صلـى الله عليـه وسلـم فثار غضبهـم لمـا حصـل لزينب مـن الآلام المبـرحـة والنـزيف وإسقــاط الجنين وتوعدوا المجرمين بالثأر لهذه الجريمة النكراء ، وحملت الـركبـان غضبـة المسلميـن في المدينـة المنورة وتهديـدهـم لأهل مكة من المشـركين بالثأر والانتقام لما قاموا به من إيذاء بنت الرسول زينب رضي الله عنها ، كما نقلت الركبان غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعلة هبار وزميله وأمره المسلمين بإحراق الرجلين الآثمين بالنار إذا هم ظفروا بهما ، ولكن في صباح اليوم التالي أمرهم الرسول فقـط بقتلهمـا لأنــه لا يعـذب بالنـار إلا الله جـل وعلا ، فعـن أبـي هـريـرة رضي الله عنه قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت أنا فيها فقال لنا : " إن ظفـرتـم بهبـار بن الأسود و الرجل الآخر الذي سبق إلى زينب فحرقوهما بالنار " والرجل الآخر هو نافع بن عبد قيس ، فلمـا كان الغـد بعـث رسـول اللـه صلى الله عليـه وسـلم إلينـا فقال : " إني كنت أمرتكم بتحريق هذين الرجلين إن أخذتموهما ثم رأيت أنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بالنار إلا الله فإن ظفرتم بهما فاقتلوهما "
عاشت زينب في كنف الوالد الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وبقرب الشقيقات الحبيبات رقية وأم كلثوم وفاطمة حياة هانئة سعيدة وإن كانت مليئة بالخوف والترقب والحذر فالمسلمون يخوضون أعطم التحـديـات ضـد قريش وضـد القبـائل العربية كلها وهم لا يزالون في ضعف وقلة عدد وقلة عتاد مقارنة بقريش ومن وراءها من القبائل العربية ، كانت زينب في أشد ساعات السعادة والهناء ولا ينغص عيشتها في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ألم الفراق عن زوجها الذي لم يفارق خيالها لحظة من اللحظات ، لقد كانت تأمل أن يعود أبو العاص إليها مؤمناً مهاجراً إلى الله ورسوله فيلتم شملها بجميع أحبابها في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وتمر الأيام تتبعها الشهور والأعوام والأحداث الكبرى تتوالى على العصبة المؤمنة حروبا وغزوات ، معاهدات ومؤامرات ، نقض للعهـود والمـواثيـق ، خيانة لعهد الله ورسوله .. مؤمنون من المهاجرين مع إخوانهم من الأنصار ، اليهود بغشهم وخداعهم ومـؤامراتهـم ، المنافقون بزعامة عبد الله بن أبي بن سلول ، والأحداث تمر على زينب تارة عصيبة مؤلمة وتارة رخية مفرحة ، مضت ست سنوات وزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تعيش في كنف أبيها في المدينة المنورة كأسعد فتاة في ذلك التاريخ ، كيف لا وأنها الآن زينب بنت رسول الله المبعوث من رب العالمين رحمة للعالمين وهل بعد هذه المرتبة مرتبة وهل بعد هذا التكريم تكريم ، وهل بعد هذا الشرف من شرف ، ولكنها رغم سعادتها ورضاها التام بما قسم الله لها .. إلا أنها كانت تحلم بعودة زوجها ووالد أبنائها علي وأمامة مؤمناً مهاجراً بعد أن اشتدت شوكة المسلمين وصلب عودهم وكثر عددهم وأصبحوا قوة لا يستهان بها بل يحسب لها ألف حساب ، لقد كانت الهجرة إلى المدينة المنورة نقطة الانطلاق للدولة الإسلامية الفتية ونقطة التحول للعالم أجمع فمنها انطلق نور الإسلام ومنها بزغ فجر الإسلام ومنها سطعت شمس الإسلام لتــنـير الطريق للبشريـة جمعاء .
أما أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله فقد كان حاله يختلف كل الاختلاف عن وضع زينب ، فمنذ اشتراكه في معركة بدر تحت تحريض من رأس الكفر أبي جهل ووقوعه بالأسر فقد تغير موقفه من قريش فلم يعد يشاركها في غزواتها وحروبها ضد النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه قد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً بأن لا يقف موقفاً ضد حميه ووالد زوجته زينب ، بل ضد جميع المسلمين فلم يعرف عنه بعد غزوة بدر الكبرى وبعد أن منَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفداء من الأسر أنه اشترك في معركة من معارك قريش ضد المسلميـن كيـف لا وزوجتـه الحبيبـة وولديـه علي وأمامة في كنف رسول الله وفي حماية المسلمين في المدينة المنورة ، وإنما كان يمضي جل وقته في التجارة والعمل والأسفار يعلل نفسه ويلهيها عن ذكريات الأيام الخوالي السعيدة الهانئة ..
وفي أحد الأيام وبينما كان أبو العاص بن الربيع عائداً من بلاد الشام إلى مكة المكرمة في تجارة له ولبعض وجهاء قريش فلما مر قرب مدينة يثرب اعترضته سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم عددها مئة وسبعون رجلاً وعلى رأسهم الصحابي الجليل زيد بن حارثة فأصابـوا كل ما في التجارة بينما استطاع أبو العاص وهو من أشهر فرسـان قـريش أن يفلت منهم فعاد المسلمون بالتجارة إلى المدينة المنورة ، وظل أبو العاص في تلك القفار يسير على غير هدى بعد أن فقـد كل شيء تجـارتـه وتجـارة غيـره مـن أشـراف مكــة ، وأخــذ يساءل نفسـه كيـف سيعـود إلى مكـة ..؟ وبأي وجـه سيواجه أشراف مكة المكرمة ..؟ وماذا سيقول لهم عن تجارتهم .. ؟ وهل سيصدق أم أنهـم سيشكـون به بأنـه يتآمـر مـع حميـه محمد على الاستيلاء على أموال قريش ..؟ لقد كانت الهواجس والأفكار السيئة تعصف بفكره دون أن يجد لها مخرجاً ولما مالت الشمس للغروب وأنهكه الجوع والعطش والتعب تذكر حبيبته زينب وتذكر ولديه علي وأمامة وأخذ يجهش بالبكاء بصوت مرتفع لكنه ما لبث أن أخفى صوته حتى لا ينكشف أمره فيقوده بعض المسلمين أسيراً إلى مدينة يثرب مرة ثانية ، ولما انتصف الليل وغاب أكثـره خطـرت ببالـه زينب وخطـر له أن يلجأ إليها أو إلى أبيها فهي مهمــا يكـن مـن أقـرب النـاس إليـه فـي مثــل هــذه الظـروف الصعبة القاسية الأليمة .. ولكن كيف يلتجئ إلى محمد بن عبد الله وهو الذي رفض دعوته للإسلام وكذب بدينه بل وظاهر عليه وحاربه مع قريش في غزوة بدر.. بأي وجه يواجه زينب وإياها وهل تسمح له كرامته القرشية وشرفه وحسبه أن يتصرف هذا التصرف المشين بعد أن عادى محمداً وحاربه ، وهل يؤمن في مثل هذه اللحظات العصيبة حتى يفتح على نفسه باب العار والانتقاد سواء من المسلمين أو من المشركين . لقد كان أبو العاص في وضع لا يحسد عليه ، اخذ يمشي على غير هدى حتى ساقته قدماه إلى بيت زوجته الحبيبة زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم فأراد أن يطرق عليها الباب ولكنه خشي أن يروعها ويروع أبناءه وهو في النصف الثاني من الليل ، ولكن جوعه وعطشه وحاجته وتعبه دفعاه وبقوة لأن يطرق الباب على زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم فليس في الدنيا من يقف إلى جانبه في مثل هذه اللحظات العصيبة سوى ابنة خالته زينب بنت محمد بن عبد الله ، فطرق الباب بهدوء حتى لا يروع النائمين في هذا البيت ..
زينب : ( تستيقظ فزعة ) .. من الطارق ..؟
أبو العاص : ( وهو يجهش بالبكاء ) .. أنا يا بنت الخالة ..
زينب : ( وكأنها في حلم ) .. من الطارق ..؟!!
أبو العاص : ( بصوت يكتمه النشيج والبكاء ) .. أبو العاص يا حبيبة ..
زينب : ( تفتح طرف الباب بحذر ) .. أحقاً أبو العاص .. لا شك أني في حلم سعيد ..
أبو العاص : بل الحقيقة يا ابنة الخالة ..
زينب : ادخل يا أبا العاص ..
أبو العاص : كريمة ابنة كريمة وكريم يا زينب ..
زينب : ( تغسل وجهها وعينيها بالماء حتى تذهب آثار الغفلة والنوم ) .. ما لذي جاء بك يا بن الخالة .. في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل ..
أبو العاص : ( وهو يبكي ) .. انقطعت بي السبل ولم أجد من يعينني على ظروف الحياة وصروف الأيام إلا أنت يا زينب ..
زينب : اطلب تنل يا أبا علــــــي .. فما أنا بالمرأة التي تنكر العشرة .
أبو العاص : ( وقـد شحـب وجهـه وظهـــر عليـه القلـق والتعـب والجهد ) قد جئت مستجيراً بك يا زينب ..
زينب : ولكن ألم ..؟ .
أبو العاص : ( مقــاطعـا وقـد فهـم سـؤالهـا وهـز رأسـه بالنفـي ) .. لا يا زينـب .. لـم آت يثـرب مـؤمنـا .. وإنمـا خرجـت تاجـراً إلى الشـام بأمـوالي وأمـوال نفـر مـن أشـراف قـــريش .. وانتابته موجة من البكاء فسكت عن الكلام ..
زينب : أكمل يا بن الخالة .. ماذا بعد ..؟
أبو العاص : لاشيء إنما اعترضتني سرية من سرايا أبيك ..
زينب : سرية ..!! من سرايا أبي ..!!
أبو العاص : أجل يا ابنة الخالــــة .. عددهم مئة وسبعـــون أو مئــــــة وثمانون لا أدري وعلى رأسهم أخوك زيد بن حارثة ..
زينب : وهل عرفك زيد يا أبا العاص ..
أبو العاص : لا.. لا أدري .. فقد كنت ملثماً ..
زينب : وماذا بعد يا أبا علي ..
أبو العاص : لا شيء سـوى أنهـم أصابوا كل ما معي ولذت بالفرار هارباً متخفيا حتى إذا جاء الظلام أتيتك متخفياً مستجيراًً بك ..
زينب : مــرحبــاً بـك يا بن الخـــــالـة .. لقــد قبلــت جـوارك يـا أبـا علي ..
ولفهمـا صمـت مشحـون بالألم والشجن والذكريات والأحـلام وغـرق الكـون فـي سكـون وخشــوع وبــدت لهمـــــا ذكـريـات الأيـام المـاضيـة بعـذوبتهــا بسعـادتهـا بأحـلامهـا ولكـنهــا مـا لبثـت أن سـمعـت صـوت بــلال رضـي الله عنــه يــؤذن لصـــلاة الفجـر ثم تبع ذلك صوت خفق نعال المسلمين القادمين إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقدمهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .. ثم ما لبثت برهة من الزمن حتى سمعت صوت والدها رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر ليؤم الناس لصلاة الفجر.. وما أن انتهت الصــلاة حتـى جمعـت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسهـا وقامـت إلى الباب وصاحت بأعلى صوتها ..
زينب : أيهـــا النــاس .. أيها المسلمون .. أيها الناس .. إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع ..
وحمل نسيم الصباح صوتها إلى كل من في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من حوله من المسلمين فقال : " أيها الناس .. هل سمعتم ما سمعت.. ؟ " .
قالوا : نعـم يا رسـول الله .. زينب بنـت رسـول الله تجيــر أبـا العـاص بن الربيع ..
قال : " أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتـم " وسكـت بـرهـة ثـم قال : " إنه يجير على المسلمين أدنــاهم .. ولقــد أجرنا من أجارت " ..
وبهذه الإجارة أصبح أبو العاص آمناً مطمئناً في جوار ابنة خالته زينب وجوار حميه محمد بن عبـد الله صلـى الله عليـه وسلـم وفي ضيافـة المؤمنين الطيبين في مدينة يثرب ..
انصرف الناس بعد أن انقضت صلاة الفجر ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنته وعندها ابن خالتها فهرعت زينب تتلقى أبـاهـــــــــا ..
زينب : يا رسـول الله .. إن أبـا العـاص إن قـرب فابن خالـة وإن بعد فأبوا ولد وإني قد أجرته ..
فرنا إليهما الأب الكريم صاحب الخلق العظيم في عطف وحنان وتأثر وقال لابنته : " أي بنية أكرمي مثواه ولا يخلصنَّ إليك فإنك لا تحلين له ".. وتركهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما لا يدريان علام استقر رأيه في مشكلة أبي العاص بن الربيع .. وعبر هذا اللقاء المفاجئ بين أبي العاص وزينب تجدد الحنين والشوق وظهرت لواعج الأسى على فراق طال أمده بين الحبيبين فقالت زينب بلهجة عتاب ..
زينب : هل هان عليك فراقنا يا أبا علي ..
أبو العاص : معاذ الله يا زينب ..
زينب : وهل هان عليك أولادك يا ابن الخالة ..
أبو العاص : ( وهو يخفي دمعه تدحرجت من عينيه ) : والله ما طاب لي من بعدكم عيش يا زينب ..
زينب : وإلى متى تصر على الجفوة والعناد ..
أبو العاص : لا أدري يا حبيبة ..
زينب : هل عندك شك في دعوة الإسلام الآن ..
أبو العاص : لا أدري ..
زينب : هل عندك شك في صدق أبي يا أبا علي ..
أبو العاص : لا والله ما علمت عليه من كذب قط ..
زينب : حتام هذا العذاب والانتظار ..
أبو العاص : ( وقد أخفى وجهه بكلتا يديه حتى لا تلمح زينب دموعه وضعفه وهو بين يديها ) .. حتى يقضي الله فينا أمراً ..
زينب : ( في همس وقد ملأت الدموع عيناها ) .. يرحمني الله وإياك يا ابن الخالة ..
أبو العاص: ( رفع وجهه إلى زينب بعد فترة صمت ) .. لقد عرضوا علي بـالأمس أن أسلـم وأن آخــذ معـي كل أمــوالي وأمـوال أهل مكة ..
زينب : وماذا كان جوابك ..
أبو العاص: طبعاً رفضت فما أنا ممن يغير دينه ويبدأ إسلامه من أجل حفنة من المال ..
زينب : يرحمك الله يا أبا علي ..
أبو العاص : لست أدري كيف سأواجه قومي بعد هذا اليوم ..
زينب : ( وقــد حـدقـت بأبــي العـاص تستبين ما وراء كلامـه فلعلهـا استشفـت بدايــة النــور تظـهــر علـى لسانـــه وعلى تعابير وجهه ) .. سيجعل الله لك بعد عسرٍ يسراً يا أبا علي ..
وفـي صبـاح اليـوم التـالي بعـث رسـول الله صلى الله عليه وسلم مـن يصحــب أبـا العـاص إلى المسجد حيث كان رسول الله يجلس في جمـع مـن صحابتـه بينهم زيد بن حارثة ورجال السرية الذين سيطروا على قافلــة أبـي العــاص بن الربيــع فقــال الـرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : " إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم وقد أصبتم له مالاً فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء فأنتم أحق به " ..
أجابوا بصوت واحد : يا رسول الله بل نرده عليه ..
فـأسـرع الجميـع ليجمعــوا كل قطعــة سلبت من أبي العاص حتـى ردوا عليـه مالــه كلـه لـم يفقـد منه شيئاً .. فما كان من أبي العـاص إلا أن جمــع أمـوالـه وأعـد العـدة وجهـز رواحلـه للسفـر فقام إليـه رسـول الله صلى الله عليـه وسلـم ليـودعـه وهـو يقـول : " حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي " ..
وتحركـت قافلـة أبي العـاص بن الربيع صوب مكة المكرمة ثم مـا لبـث أن التفـت إلى بيت يضــم زوجتــــه الحبيبـة زينـب بنـت محمــــد وفلــذات كبـده علـي وأمـامـــة وهـو ينــوي أن يعــود إليهـم مؤمناً في أقـرب فـرصــة ممكنــة فقــد آن أوان اللقــــاء بعـــد الغـربــــــة والفــراق الطـــويــــل ..
********
رجــــل شهــــم
سار أبو العـاص بن الربيـع في قـافلتـه إلى مكـة المكـرمة وما إن وصـل أرض مكـة الحبيبـة حتى دعا إليه أشراف مكة الذين أتجروا معـه في رحلتـه الأخيـرة هـذه .. وخرجـت قريش إلى لقاء أبي العاص بعـد أن رأتـه قد عـاد بتجـارة رابحـة وفيـرة وبأموال طائلة لم يعهدوها مـن قبـل خاصـة وأن تجـار مكــة أصبحـوا فـي خـوف شـديد مـن اعتـراض أصحـاب محمد لقوافلهم التجارية إلى الشام .. وكانوا يظنون أن محمـداً وأصحـابـه لن يعترضوا قوافل أبي العاص بن الربيع نظراً لصلـة القربى بين محمـد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي العـاص بن الربيـع .. فوقف فيهم يوزع عليهم أموالهم وتجارتهم حتى وفا لهم على أكمل وجه ثم صعد مكاناً مرتفعاً وصاح بهم ..
أبو العاص : يا معشــر قـريش هـا أنـذا قـد وفيـت لكـم حقكـم كامـلاً غيــر منقوص ..
أحدهم : نعم الرجل الأمين الصادق أنت يا أبا علي ..
أبو العاص : يا معشر قريش .. هل بقي لأحدكم عندي مال أو حق .. ؟ .
آخر : لا شيء يا ابن الربيع لقد وفيت وكفيت ..
آخر : جزآك الله خيراً يا أبا علي لقد وجدناك شهماً وفياً كريماً ..
أبو العاص : ( وقد أدار فيهم بصره ليعلم مدى تأثير كلامه عليهم ) .. اعلموا يا معشر قريش أني قد وفيت لكل واحد منكم حقه كاملاً غير منقوص ..
آخر : بـارك الله بـك يـا أبـا العـاص فمـا علمنــا عليــك مـن كذب أو خيانة ..
أبو العاص : واعلمــوا أننـي أشهـد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ..
آخر : لقد فتنه صهره عن دين آبائه وأجداده ..
آخر : بل اجتذبته زوجه وولديه ..
آخر : لقد صبأ الرجل ..
آخر : بل سحره محمد ..
آخر : بل سحره أهل يثرب ..
أبو العاص : ( وكأنه لم يعـر كلامهم أي انتباه ) .. اعلموا أنني أشهد أن لا إلـه إلا الله وأن محمـداً رسـول الله .. فـوالله ما منعني من الإســلام إلا تخــوف أن تظنـــــــوا إنــي إنمــــا أردت أن آكل أموالكم ..
آخر : ولكن ما هذا الخبر المشئوم يا أبا علي ..
آخر : لقد صبأ بن الربيع ..
آخر : لقد فتنه صهره عن دين الآباء والأجداد ..
أبو العاص: لا شيء ولكنــي أدعــوكم أن تــؤمنــوا بالله ورسوله فو الله ما عهدنا على محمد بن عبد الله إلا كل خير وصدق وأمانة ..
صعق القوم لهذا الخبر ووقفوا واجمين لا يعلمون كيف يردون على أبي العاص هذه الصفعة الأليمة فلقد كان أبو العاص من زعماء قريش وأشرافها وسادتها وإيمانه بتلك الطريقة المعلنة لا بد وأن يفسد عليهـم كثيـراً مـن أبناء مكة وأشرافها وسادتها وهنا تكمن الطامة الكبرى .. ولم يمض وقت طويل حتى انسل كل فرد منهم ببضاعته وتجارته وكأن صاعقة وقعت على رأسه.
*************
لقاء الحبيبين
جهز أبو العاص بن الربيع راحلته وحمل معه من تجارته وأمواله ما يستطيع حمله وأغلق داره في مكة المكرمة وتوجه على بركة الله إلى مدينة يثرب مؤمناً تائباً مهاجراً إلى الله ورسوله تاركاً في مكة كل ما يملك من متاع الدنيا بعد أن شرح الله صدره للإسلام ن أما قريش فقد أحست بالصاعقة الأليمة والصدمة القاسية ذلك لأن إسلام أبي العاص بن الربيع ربما جر خلفه إسلام بني أسد كلهم وذلك لما يعرفون عن أبي العاص من الشرف والكرم والحسب والوجاهة في قومه بني أسد ، سار أبو العاص إلى مدينة يثرب دون أن يتجرأ شخص على منعه أو الوقوف في طريقه وكأنما خيم على قريش سحابة من الذل والكآبة من هزائمها المتكررة وخسائرها المتعددة ، سار أبو العاص بن الربيع وقد أخذت علائم البشر والسعادة تلوح في وجهه وأخذت ذكريات الصبا والشباب تعود إلى مخيلته ، وأخذ طيف الحبيبة يعود إلى فكره ولبه وشغله الحنين إلى ولديه علي وأمامة عن مشاق الطريق ووعثاء السفر فكان يحث الخطى إلى يثرب آملاً بحياة جديدة تلفها السعادة والحب والهناء في كنف زينب وعلي وأمامة وإلى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذ يصيح بأعلى صوته وهو في طريقه إلى يثرب : ها قد آمنت يا زينب ، هـا قـد شرح الله صدري للإيمان يــا حبيبة ، ها قـد عـدت إليكــم فـو الله لم أجد لحظة سعادة بعيداً عنكم ، أحمدك يا رب أن هديتني إلى الإسلام وشرحت صدري بالإيمان ، أعاهدك يا رب أن أكون خير سند ومعين لرسول الله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم .
ومضى أبو العاص في طريقه دون توقف إلا من أجل راحة بسيطة إذا ما صادف في طريقه واحة ظليلة أو بئر ماء يسقى رواحله حتى وصل إلى مشارف يثرب فأخذت بشائر السعادة والرضى تملأ وجهه وأخذ قلبه يدق بسرعة غبطة وفرحاً وسروراً فلقد وصل يثرب مدينة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ومدينة الحبيبة زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم ومدينة الأحباب علي وأمامة أولاده ومدينة المؤمنين الطاهرين الطيبين من أصحاب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لقد كاد قلبه يطير من قفصه من شدة الفرح والسعادة وتوجه أبو العاص فور مقدمه إلى يثرب إلى مسجـد رسـول الله صلـى الله عليـه وسلـم ماراً فـي طريقه ببيت زينب بنت رسول الله ولكنه أحب أن يلتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم أولا ، دخل المسجد ومد يده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً مبايعاً لله ورسوله ، فما كان من المؤمنين إلا أن هللوا وكبروا وحفوا به مهنئين معانقين وكان يسائل نفسه في مثل هذه اللحظة الحرجة أترى رسول الله يرد عليه زوجته وحبيبته زينب بعد الذي كان منه ..؟ لقد ساوره القلق وسيطرت عليه الرهبة والاضطراب ولكن بسمـة رسـول الله وحسن لقائه لأبـــي العاص أعطتـــه الكثير مـــن الثقـــة والطمأنينـــة والأمل ، لقد تذكر قول رسول الله لأصحابه فيمـــا مضى ( الإسلام يجب ما قبله ) فاستجمع شجاعته وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد إليه زينب بعد أن أسلم وآمن برسالة الإيمان فما كان من رسول الله إلا أن أثنى على أبي العاص خيراً ووافقه على رد زينب إليه زوجه وأم أولاده بعد فراق طال أمده سنوات لم يعرف الحبيين فيها طعم السعادة والهناء ..
ســار رســول الله صلى الله عليه وسلـم يصحبـه أبي العاص بن الربيع إلى بيت زينب بعد انتهاء الصلاة في المسجد ، كانت زينب بنت رسول الله في حالة سهد وأرق وهم تسامر الذكريات السعيدة والذكريات الأليمة التي مرت بحياتها ، تتذكر تلك الأيام منذ طفولتها مع أمها ونشـأتهـا في بيت النبــوة في مكــة المكرمــة ونشأتهــا فـي بيـت الزوجية والصعوبات التي مرت بها ، تتذكر كل لحظة من لحظات حياتها السابقة ، ومن خلال تلك الذكريات كانت تتطلع إلى أن يعود زوجها إليها مؤمناً بالله ورسوله مهاجراً إلى يثرب تاركاً الكفر والكفار والمشركين مؤمناً برب العالمين ، لقد كانت زينب تتوق إلى تلك اللحظة المباركة التي يعود فيها أبو العاص إلى زوجه وأولاده وقد آمن بالدين الجديد الذي أنزله الله جل وعلا على محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ، لقد طاب لها أن تحلم بالغد المنشود خاصة وأنها لم تقطع الأمل لحظة واحدة من إيمان أبي العاص وبالتالي لم ينفتح قلبها إلى أي شخص آخر غير أبي العاص خاصة وأن نور الإسلام قد بدأ يظهر في الوجود وأن عدد المسلمين أخذ يزداد ويزداد بشكل لم يتوقعه أحد من المشركين فلقد دخل في الإسلام كثير من أشراف العرب وساداتها ودخلت قبيلة الأوس بأكملها وقبيلة الخزرج بأكملها في الإسلام ، خاصة وأن النصر المؤزر قد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم ضد قريش في معركة بدر ، لقد كانت زينب على ثقة كاملة بأن أبا العاص لابد وأن يأتي مؤمناً موحداً لله ولو بعد حين ، وبينما كانت زينب سارحة في ذكرياتها وأحلامها وآمالها إذ طرق الباب ..
زينب : من بالباب..؟
أبو العاص : افتحي يا زينب ..
زينب : من بالباب .. أبو العاص ..؟!!
أبو العاص : أجل أيتها الحبيبة ومعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
زينب : ( تفتح الباب في ذهول وتقول ) .. رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أهلاً بك يا أبي .
أبو العاص : أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
زينب : ( تصيح في غبطة وذهول ) : أحمدك يا رب .. أشكرك يا ألله لقد آمن أبو العاص ..
أبو العاص : أجل يا أعز من عرفت في حياتي .. لقد آمنت وشرح الله صدري بالإيمان يا بنت الخالة ..
زينب : ( وقد وقفت واجمة وكأنها لم تصدق ما رأته بأم عينيها وظلت واجمة وكأنها تعيش في حلم لذيذ لا تريد أن يذهب عنها ) .. أحقاً أبا العاص عاد إلينا .. وافرحتاه ..
أبو العاص : نعم بشحمه ولحمه عاد الآن مؤمناً مهاجراً بعد أن شرح الله صدره للإسلام ..
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ابنته زينب ودخل معه أبو العاص بن الربيع ودعا ابنته زينب فردها إلى زوجها أبي العاص فكانت هذه اللحظة أسعد لحظات الحبيبين زينب وأبي العاص .. سعادة اللقاء بعــد الفـراق وسعـادة الإيمــان بعـد الكفــر والفســـوق والعصيان .. وسعادة التمام شمل الأسرة التي أثقلها البعد والفراق والتشتت والضياع ..
*********** فـراق لا لـقـاء بـعـده
هل شهر المحرم من السنة السابعة للهجرة ودولة الإسلام في مدينة يثرب تقوى ويشتد عودها وأصبحت تقارع الكفر والشرك في أرض الجزيرة العربية ، وأصبحت القبائل العربية كلها تحسب ألف حساب لدولة الإسلام الناشئة في مدينة يثرب خاصة بعد ان انتصر المسلمون على قريش في معركة بدر وأذلوا رؤوس الكفر والشرك وقتلوا زعماء قريش وساداتهم وعلى رأسهم أبو جهل عمرو بن هشام وأمام هذه الانتصارات الهائلة للمسلمين وأمام ازدياد عددهم واشتداد شوكتهم وتنامي قوتهم لم تجد قريش من بد في عقد معاهدة صلح مع المسلمين تعطي فترة هدنة وراحة من الحرب والقتال بين المسلمين والمشركين فكان صلح الحديبية التاريخي الذي أقرت فيه قريش بأن المسلمين أصبحوا قوة تماثل قريش بل تزيد عليها قوة مما أرغمها على عقد معاهدة صلح بينها وبين المسلمين ، لقد كان صلح الحديبية نصراً مؤزراً للمسلمين ونقطة تحول في تاريخ الدعوة الإسلامية كلها ، فتح الباب للمسلمين على مصراعيه لمحاورة القبائل والعشائر والدول المحيطة بل مراسلة دول العالم القديم بأسره ..
كانت العائلة الكريمة عائلة زينب بنت رسول الله بعد عودة الزوج والأب إليها تعيش في سعادة وهناء وكان علي بن أبي العاص وأخته أمامة يتدرجون في مرابع الطفولة في كنف الأبوين الكريمين وتحت رعاية جدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب سبطيه علياً وأمامة حباً شديداً فقد روي أن رسول الله قد أردف علي بن أبي العاص خلفه على بعيره يوم فتح مكة ، كما روي عـن السيـدة عائشــة رضـي الله عنهــا أن رسـول الله صلى الله عليه وسلم قد أهديت إليه قلادة من جزع ظفار فقال : " لأدفعنها إلى أحب أهلي إلي " فقالت النساء : ذهبت بها ابنة أبي قحافة – يعني عائشة – لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا حفيدته أمامة بنت زينب فعلقها في عنقها " .. كما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب أمامـة بنت زينـب ويأنـس بهـا ويهش لها وفي الصحيحين أنه كان يحملها على عاتقه ويصلي بها فإذا سجد وضعها حتى يقضي صلاته فيحملها ، وبهذا فقد عاشت زينب مع زوجها وأبنائها أسعد حياة وأهنئها ولكن سرعان ما دب المرض في زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يمض عام واحد على قدوم زوجها وعودته إليها مؤمنا مهاجرا إلى الله ورسوله حتى اشتد بها المرض وخيم الحزن والأسى على العائلة السعيدة ، ثم توفيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حياة حافلة بالأحداث الأليمة والأحداث السعيدة ، حافلة بالصعاب والمسرات ، حافلة بالحب والفراق ، فتركت بصمات الحزن والأسى على الـزوج الكليم وعلى الأب الرحيم فترة طويلة من الزمان ، لقد فجع أبو العاص بن الربيع للمصاب الأليم الذي حل به فأكب على الحبيبة الغالية يناجيها ويتشبث بها بلوعة وأسى حتى أبكى من حوله ولم يجرؤ أحد منهم أن يبعده عن فراش الحبيبة الراحلة حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم متأثراً حزيناً فاستودعها الله وطلب من النساء اللواتي حولها قائلاً : " اغسلنها وتراً .. ثلاثاً أو خمساً .. واجعلن في الآخرة كافوراً " وما إن غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم مخدع ابنته المتوفاة حتى تبعه أبو العاص مغادراً مخدع الحبيبة الغالية بخطوات مترنحة ونظرات شاردة وقلب حزين فوقف منتظراً خارج البيت حتى انتهت النساء من غسلها وتجهيزها كما أمرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم حملها الرجال المسلمون إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلوا عليها هناك ثم حملوها إلى مرقدها الأخير الذي لا يؤوب منه راحل وذلك في ثرى طيبة الطيبة رضي الله عنها ورحمها ، لقد كانت زينب بنت رسول الله المؤمنة الطيبة الطاهرة حبيبة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ، وكانت الأختان الطيبتان الطاهرتان أم كلثوم وفاطمة الزهراء رضي الله عنهم وأرضاهم من أشد الناس حزناً على وفاة زينب التي كانت لهم الأخت الكبرى والأم الحنون بعـد وفـاة أمهـم خديجـة ووفـاة أختهم رقية وكانت الشقيقة والصديقة فقد كان لها مع الجميع ذكريات حلوة سعيدة والآن أصبح لهن معها ذكريات أليمة حزينة وكانت فاطمة الزهراء أصغر بنات الرسول صلى الله عليه وسلم وأشد أخواتها حزناً على زينب ولم يغب عن ذاكرتها ذكراها الأليمة حتـى رزقـت بمولـودة أنثـى مـن زوجهـا علـي بـن أبـي طالـب رضي الله عنه فسمتها زينب تواصلاً بذكرى خالتها زينب الكبرى بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
عاد أبو العاص إلى داره التي كانت بالأمس جنة وارفة الظلال يظللها الحب والسعادة فأصبحت بعد رحيل الحبيبة الغالية زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم منزل الأحزان والأشجان والذكريات والأحلام ، فكاد الحزن والأسى يهلكه لولا أن وجد في ولديه علي وأمامة سلوان نفسه وروحه فهما آخر ما بقي من أثر الحبيبة الغالية زينب ..
وتمر الأيام تتلوها الأيام وأبو العاص بن الربيع يواصل أحزانه وأشجانه ويواصل رعايته للولدين الحبيين أبناء الحبيبة الغالية زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبذل كل ما بوسعه لإسعادهما ولكن لم يمض عليه سنة أو سنتين من الزمان بعد فقد الحبيبة الغالية حتى اشتد المرض بابنه علي بن أبي العاص وهو ينتقل من مدارج الطفولة إلى مدارج الصبا فلم يمهله المرض كثيراً فمات ليترك آثار اللوعة والأسى في قلب الوالد الكليم ، والحزن والأسى في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يبق من أثر زينب الكبرى بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمامة بنت أبي العاص بن الربيع التي كانت قرة عين للوالد الحزين وكانت أحب أهل رسول الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقد كان اسم ( زينب ) من أحب أسماء البنات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد حدثت زينب بنت أبي سلمه ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : كان اسمي ( برة ) فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم ( زينب ) ، ودخلت عليه بنت جحش وكان اسمها ( برة ) فسماها زينب ..
أمـا أبـو العـاص بن الربيع فقد وافته المنية بعد خمسة أعوام من الحزن والأسى على زوجته الحبيبة زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم ، وعاش على ذكراها دون أن يتزوج بعدها بامرأة أخرى . وقد أوصى بكفالة ابنته ( أمامة ) إلى الزبير بن العوام ابن خاله وهو على فراش الموت ..
أما أمامة بنت أبي العاص فقد عاشت بعد وفاة أبويها سنين طويلة حتى تزوجت بعلي بن أبي طالب بعد وفاة خالتها الزهراء فاطمة وبقيـت زوجة وفية مع علي رضي الله عنه حتى قتل رحمه الله ولم تخلف منه بولد ، حيث لم تذكر كتب التاريخ والسير أنها خلفت من علي بن أبي طالب أولاداً ، فحزنت أمامة على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أشد الحزن فكان مشهدها وهي تطوف بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو مسجى على فراشه يمزق القلوب ويفتت الأكباد ..
رحم الله زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورحـم الله زوجها المؤمن المهاجر الصابر أبي العاص بن الربيع ، ورحم الله أبناءها علي بن أبي العاص وأمامة بنت أبي العاص رحمة واسعة وأسكنهم فسيح جناته ..
**********
ثبت المراجع
تم أخذ المادة التاريخية مع شيء من التصرف فيما عدا ما يخص رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث تم نقله كما ورد في الروايات وذلك عن الكتب التالية :
1. الطبقات الكبرى لابن سعد
2. الإصابة في معرفة الصحابة لابن حجر
3. جمهرة أنساب العرب
4. مجمع الزوائد
5. تاريخ الطبري الطبري
6. سيرة ابن هشام لابن هشام
7. الاستيعاب لابن عبد البر
8. عيون الأثر
9. صحيح البخاري البخاري
10. صحيح مسلم مسلم
11. مسند الإمام أحمد أحمد بن حنبل
12. الذخائر لابن حزم
13. تفسير الكشاف للزمخشري
14. الشفا للقاضي عياض
15. تراجم سيدات بيت النبوة الدكتورة بنت الشاطيء
الفهرس
مقدمة العروسان بناء الكعبة الشقيقات الأربع زينب العروس الهاشمية الزفاف فرحة الأولاد الحدث الجلل حديث ذو شجون بداية الآلام والأحزان الهجرة غزوة بدر الكبرى فداء الأسرى عودة الغائب الفراق المر الوصول إلى يثرب لقاء الحبيين . فراق لا لقاء بعده ثبت المراجع
* إن فكرة التشيع هي فكرة دخيلة على الإسلام وليست من الإسلام كما يفهم من قول المستشرق وهي فكرة ضالة مبتدعة لا أصل لها في الإسلام ولا صلة لها بالإسلام من قريب أو بعيد لأن الله قد أكمل هذا الدين في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكل زيادة أو فكرة على هذا الدين فهي باطلة .. وفي ذلك يقول الله جلا وعلا : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم ( ألا أن كل محدثة بدعة .. وكل بدعة ضلالة .. وكل ضلالة في النار) .. ألا فلينتظر المبتدعون في الإسلام جزاءهم العادل في الدنيا ويوم القيامة سيردون إلى أشد العذاب .
* اختلف المؤرخون في تاريخ بناء الكعبة وتحكيم النبي محمد بن عبد الله في موضوع الحجر الأسود ولكن العبرة بالحادثة نفسها لا بتاريخها .
وسوم: العدد 733