لا مندوحة للإنسان الفقير الخطّاء عن الدعاء
بالرغم من أن الله عز وجل قد ذكر في القرآن الكريم تكريمه للإنسان، وذكر صفاته الإيجابية ، فإنه في المقابل قد وصفه بصفات سلبية حين يحيد عن الفطرة التي فطره عليها والتي بها يحوز التكريم . والملاحظ أن تلك الصفات السلبية جاءت في صيغ المبالغة وهي " جهول ، ظلوم ، قتور، يئوس ، قنوط ، جزوع ، هلوع، عجول ، فخور ،فرح. وهذه الصفات بصيغ المبالغة تدل على بلوغ الإنسان أقصى حد في جهله وظلمه، وبخله، ويأسه، وقنوطه، وهلعه، وعجلته ،وافتخاره ،وفرحه... ، وهو بذلك مخلوق ضعيف معرض للخطيئة بحكم ضعفه ، وفقير محتاج بحكم افتقاره . ولما كان هذا حاله فلا مندوحة له عن دعاء ربه طالبا منه الصفح والعفو والمغفرة عما يصدر عنه من أخطاء وقد تكون مثل زبد البحر ، وطالبا منه ما يدفع عنه افتقاره إلى كل ما عنده ، ولهذا أمره خالقة سبحانه وتعالى بالدعاء ووعده بالاستجابة فقال : (( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين )) .
ومعلوم أن الدعاء هو العبادة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدعاء هو العبادة " ثم تلا قول الله عز وجل : (( وقال ربكم ادعوني )) . ولما كانت عبادة الصلاة يلابسها الدعاء فقد سميت دعاء، ولا توجد عبادة تخلو من دعاء . ولقد ضمن الله عز وجل كتابه الكريم أدعية ليدعو بها الإنسان وهو سبحانه أعلم بأسرار تلك الأدعية ، وما يفيد منها الإنسان حين يدعو بها . وإن فاتحة الكتاب التي لا تصح الصلاة إلا بها تتضمن دعاء الاستعانة بالله عز وجل مطلق الاستعانة ،كما تتضمن دعاء الهداية مطلق الهداية ، فإذا أعان الله عز وجل عباده وهداهم فكأنما حيزت لهم الدنيا بحذافيرها وظفروا بعد ذلك بجنة الخلد .
والإنسان في كل أحواله محتاج إلى خالقه يدعوه راجيا استجابته . ومن رحمته سبحانه بالخلق أن صلته بهم لا تنقطع طرفة عين أو أقل من ذلك مصداقا لقوله عز من قائل : (( قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمان بل هم عن ذكر ربهم معرضون)).
ولقد فتح الله عز وجل خط اتصال بينه وبين الإنسان قوامه أدعية يدعو بها في السراء والضراء مقيما أو ظاعنا، راكبا أو راجلا، مريضا أو معافى، قائما أو قاعدا أو مضطجعا، آكلا أوشاربا ...إلى غير ذلك من أحواله التي يمر بها ، ولا يوجد حال يستغني فيه عن الدعاء وعين الله تكلؤه .
وتحفيزا للإنسان على قرب خالقه منه يخبره بقربه منه ،ولا يوجد أقرب إليه منه سبحانه فيقول : (( وإذا سالك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون )) فضلا عن قوله : (( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ))
ولا يبلغ الإنسان الرشاد في كل أحواله إلا إذا استجاب لربه داعيا ، والخاسر خسرانا مبينا من يسمع هذا القول ولا يستجيب لربه الأقرب إليه من كل شيء ، وهو بذلك مستكبر مصيره الخسران وهودخوله النار داخرا .
ولا تخلو استجابة الإنسان لربه بدعائه أن تكون أحد أمرين: دعاء لتغفر ذنوبه وهي كثيرة متناسلة تناسل الجراثيم أو يكون دعاء لطلب حاجاته وما أكثرها، والإنسان لا يسأم من الإلحاح في طلبها ،وهو يلح في ذلك أكثر مما يلح في طلب المغفرة لسوء تقديره ما يصدر منه من خطايا وذنوب فيما يقول وما يفعل.
والتوجه بالدعاء إلى الله عز وجل هو أمر إلهي واجب جاء بصيغة الأمر، ومن لم يستجب له أثم إثم المستكبر عن طاعة خالقه ، والمدعي الاستغناء عنه وهو ينعم بنعمه .
ومعلوم أن الإنسان حين يتفوه بعبارة :" يا رب " يكون بذلك مقرا له بالنعم ، لهذا قال الله تعالى : (( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم )) ، فالربوبية هي صفة الله عز وجل الدالة ملكه ـ بكسر الميم ـ لأن رب الشيء في اللسان العربي هو مالكه ، ومن حق الرب على المربوب أن يمتثل لأمره ، لهذا عليه أن يستجيب له بدعائه كما أمره . ومقابل أمره سبحانه الإنسان بالدعاء وعده بالاستجابة ، ووعده ناجز لا محالة لأنه لا يخلف الميعاد ، وهو يستجيب وفق إرادته ، وإذا ما توفرت شروط القبول ، فيعجل بالاستجابة ، ويعطي تكرما منه أكثر وخيرا مما سئل أو يدخر لمن يسأله في الآجلة خيرا مما طلب منه في العاجلة.
ومن التأدب في التوجه إلى الله عز وجل بالدعاء الثناء عليه بما ينبغي له من ثناء على ربوبيته وألوهيته ، والإقرار له بالذنب مع التوبة منه ، وإظهار الافتقار التام إليه ، مع رفع أكف الضراعة إليه . وإذا كان الإنسان عادة يمد يديه إلى عبد فقير مثله يسأله حاجته ، فأولى له أن يمد يديه إلى ربه الغني الحميد . ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء غالبا وهو الأصل ، كما كان يدعو أيضا دون رفع يديه، وهو الاستثناء إلا أن بعض الغلاة المتشددين في اتهام غيرهم بالابتداع، يجعلون الاستثناء أصلا ، فلا يرفعون أيديهم بالدعاء في كل الأحوال زاعمين أن ذلك بدعة ، وهم يحكمون على كل ما أحدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ابتداع وضلال ضاربين عرض الحائط آراء أهل العلم الذين عرفوا البدع بأنها طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية ويقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى . ولقد ميزوا بين ما لا يخالف نصا أو إجماعا . وعليه لا يمكن أن يعتبر رفع اليدين ابتداعا لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه بالدعاء وهو ما لا يعتبر مخلفا لسنته ولا لنص أو إجماع.
ومع أن الإنسان في حاجة دائمة للدعاء ، فإنه في بعض أحواله تشتد حاجته إليه كما هو الشأن بالنسبة لحالة انحباس المطر على سبيل المثال لا الحصر، والتي سن لنا الله عز وجل صلاة ندعوه ونستسقيه فيها. وإذا كان عموم المسلمين يصلون صلاة الاستسقاء ، فإنه ظهر اليوم فيهم من يستنكف عن أداء هذه الصلاة ويستكبر عن الاستسقاء،ويتكبر عن رفع يديه إلى السماء ليسأل ربه الغيث النافع ويسقيه هو والبهائم ، ويدفع عنه القنوط . ومنهم من يسخر من هذه الصلاة ، ويهزأ بمن يؤديها ، وقد بلغ الأمر ببعضهم أن سموها تخلفا لأن المطر بالنسبة إليهم مرتبط بالمواقع الجغرافية للبلدان حسب خطوط الطول والعرض ، وعندهم أن المطر ينزل في بعضها على الدوام في حين أنه ينحبس في بعضها الآخر باعتبار المواقع ، لهذا لا حاجة ولا طائل من الاستسقاء ، وفي هذا إنكار وجحود صريح بأن منزل الغيث هو الخالق الرازق سبحانه وتعالى ، مصداقا لقوله تعالى: (( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيب ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير )) وقوله أيضا : (( وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد)) . فالقضية ليست قضية مواقع جغرافية وخطوط طول وعرض بل قضية إرادة إلهية. وإن الله عز وجل سمى المطر النافع غيثا ، وقد ينزل المطر وليس بغيث بل يكون عذابا . وقد يحبس الله عز وجل الغيث عن الخلق لعلهم يتوبون من معاص تكون سببا في انحباسه ، فإذا تابوا ودعوا ربهم ضارعين سقاهم وبارك لهم في ما ينزل من غيث ينبت لهم به الزرع ويحيي لهم به الضرع .
ولو كان دأب الناس دعاء ربهم في كل أحوالهم لما استنكفوا عن استسقائه حين يتأخر عندهم نزول المطر كما صار حالهم في هذا الزمان .
ولا بد في الأخير من الإشارة إلى أن الدعاء يجب أن يلازمه اليقين التام بأن الله عز وجل يستجيب لا محالة ، وأن الخير كل الخير في أوان استجابته ، وألا يستعجل من يدعوه لأنه سبحانه أعلم بما ينفعه ، وبالوقت المناسب لذلك .
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا ولا تجعلنا من القانطين . اللهم إنا نبوء لك بذنوبنا ،ونبوء لك بنعمك علينا ، اللهم لا تؤاخذنا بذنوبنا ولا بما فعل السفهاء منا ، اللهم لا ترد لنا دعاء في كل وقت وحين ونحن الضعفاء الفقراء المذنبون المسرفون ، وأنت يا ربنا أرحم الراحمين .
وسوم: العدد 808