حديث الروح: ذكريات(2) جفوة
كان لي في سالف الأيام صديق، قد صدقته المخبر والمظهر، حتى إذا جاءت ريح غربية فيها عذاب أليم، ورمت بأدرانها بين قلبينا، رأيت تقلب قلبه قد تحدى كل عاطفة وأُشرِب غشاوة لا تكاد تبين، فعجبت إلى النفوس كيف تتبدل وتصيبها الغير، وليس يخفى على كل ذي لب رشيد أن القلوب تتلون وتتشرب النكت، فإما قلب صاف كالحليب وإما أسود مربد كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا.
وما كان يخطر بالبال، ولا يقع في خلدي بحال، أن أفارقه على غصة، وفي النفس منه محبة باقية، ودمعات تَرَقْرَقُ وتحرق الخدود الوردية، وليس يضير المرء مقالة الوشاة المنتحلين ولا العذال الأفاكين، وليت المتغافل صفت سريرته وتكللت أساريره ظاهرا وباطنا، فما الزمان بمبقٍ أحدا، ولا المنون مغادرة تراقي نفوس حريصة على حياة، هكذا بصيغة التنكير، أي حياة، فالحرص على الحياة صفة راسخة في الكائنات، لكنها تبع للعزة والكرامة التي أرادها الله لخلقه، ومتى ما عض عليها الإنسان بنواجذه، كانت عليه وبالا، وسوء تقدير، لأن الباري عز وجل ارتضى لعباده حياة باقية كاملة طيبة، أما الدنيا فهي حياة منكرة مفخخة بالامتحانات والمهالك التي قل أن يسلم منها بشري إلا أن تتداركه العناية الالاهية، بحبل متين ورحمة تكون له وجاء يقيه مصارع القوم.
جعلت روحي على كفي ومضيت مخلفا رفيقي، وأوكلت للأقدار اللقاء المشهود، وقلت عسى أن يأتيني ربي به، وعلى الجبين محبة أوفر، فإن القرب حجاب، ولعل المحبة شهد مصفى يلي المغبة.
فكم لقاء حسن بعد غياب؟ وكم غياب أصلح ذات البين؟ غير أن النفوس جبلت على الاجتماع، لأننا معاشر الآدميين عرفنا بالمودة التي إذا مزجت بماء البحر وسعته، وإذا خالطت هشيما من الزرع أحييته، فغدا أخضر نضرا محلى بدرر زاهية.
واشوقا إليك يا حبيب الثقلين، واحر فؤاد تلبس بمحبة أنت صاحبها فهو يتلظى من جفاك ما حنت قلوب المحبين وأسهرت، واصفرت جلودهم وأينعت، وغارت مآقيهم وازينت، فليس يهتدي لصدقهم إلا من جرب حقيقة الحب و جرت عليه أماراته، يا سيدي أنت النور الذي أشرقت به الظلمات فازدان الوجود وعم الجود كل موجود، اللهم صل على الصادق الأمين.
طوبى لعين سهرت تعد النجوم بذكرك، فقد تلبدت سماء القلوب بسحاب العنجهية، والأنانية القاتلة التي لا ترقب في مومن إلا ولا ذمة، فهي ذئاب بشرية حيث الروح رقم من الأرقام لا قيمة لها أمام الدرهم والدينار، فالران ران على القلوب.
وسوم: العدد 821