حديث رمضان الحلقة الأولى :
" أقصى غاية يبتغيها الإنسان المؤمن في دنياه بعد رحيله عنها جنة الخلد في أخراه"
الإنسان المؤمن اللبيب ينشد أقصى غاية في حياته قبل أن يرحل عنها وهي الظفر بجنة الخلد ، وهو يسعى لتحقيق هذه الغاية ببذل قصارى جهوده في طاعة خالقه عز وجل ، ويلتمس إلى ذلك كل سبيل يفضي به إليها .
والله عز وجل يدل في محكم التنزيل على وسيلة تحقيق هذه الغاية التي ليس قبلها ولا بعدها غاية ، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير في أحاديثه إلى هذه الوسيلة . ولقد جعل الله عز وجل في أيام الدهر فرصا تمكن الإنسان من تلك الوسيلة ، وأغرى الإنسان المؤمن باقتناصها واغتنامها .
ولمّا كان عمر الإنسان قصيرا في الحياة الدنيا ، فإن تلك الفرص تقتضي المسارعة والمسابقة في اغتنماها، لأن ما فاته منها لا يستدرك لأن عجلة الزمان تسير قدما بلا عودة .
ومعلوم أن ما يحول دون الإنسان المؤمن ودون الغاية التي ينشدها كثرة أخطائه وهو يخوض غمار الحياة ،لأنه خطّاء بطبعه ، وقد أوع الله عز وجل فيه غرائز وأهواء توقعه لا محالة في الخطايا ، ولهذا يتعين عليه أن يكون رهانه لبلوغ غايته على التخلص ما أمكن من أوزار خطاياه . ورحمة بالإنسان ونعمة من خالقه جل وعلا عليه دلّه على كيفية تخلصه من خطاياه حيث أمره بالإسراع والمسابقة إلى طلب مغفرته التي هي وسيلة بلوغ غايته وهي جنة الخلد ، قال في محكم التنزيل مخاطبا عباده المؤمنين : (( سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض )) ، ففي هذه الآية الكريمة ربط الله عز وجل بين المغفرة وبين الجنة ربط وسيلة بغاية . وقد أمر سبحانه وتعالى بالإسراع إلى المغفرة لأن عمر الإنسان في الحياة الدنيا قصير جدا ، وهو يسرف خلاله في ارتكاب الموبقات ، وهو في سباق مع الزمن حتى لا ترجح كفة خطاياه على كفة عمره ، فتضيع منه فرصة العمر ، ومن ثم تضيع منه الغاية . ومعلوم أن فعل سارع بهذه الصيغة الصرفية يفيد التعجيل والمبادرة في الإسراع . وفي آية أخرى يقول الله عز وجل : (( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض )).
وكفعل سارع فعل سابق بنفس الصيغة الصرفية يعني المنافسة أو المغالبة في السباق . وبين الفعلين علاقة لأن المسابق يكون مسارعا بالضرورة ليفوز بالسباق.
وإن الله عز وجل ليتحدث في محكم التنزيل عن سرعة سباق لكسب رهان شيئين متلازمين هما المغفرة المفضية إلى الجنة ، ذلك أن الإنسان لا يفوز بسرعة السباق إلى الجنة إلا بسرعة السباق إلى المغفرة ، ويتعلق الأمر بسباق في مضمار عليه حواجز من الخطايا ، وهي حواجز يختلف حجمها أوعلوها ،وليس من السهل أن يتخطاها الإنسان الذي خلق من ضعف ، وهو الكفور،الظلوم، الجهول اليئوس، القنوط ،الجزوع ، الهلوع ، المنوع... بهذه الصيغ الصرفية الدالة على المبالغة في صفاته السلبية ا. ومخلوق بهذه الصفات ليس من السهل أن يتخلص من خطاياه إلا إذا تغمده الله عز وجل برحمته ، وسهل له سبل الخلاص منها .
وحال الإنسان مع أوزار خطاياه كحال من يريد نقل أثقال تفوق قدرته وطاقته من حيز إلى آخر، فيسرع الخطو، ويهرول ليخلص كاهله أو يديه منها ، لهذا أمره الله عز وجل العليم بحجم وثقل خطاياه وجسامتها وخطورتها بالمسارعة والمسابقة إلى المغفرة ليتخلص من خطاياه ، وهي مغفرة تحصل بدفع السيئات بالحسنات ومحوها بها . وكل تباطؤ في التخلص من الخطايا يفوت على الإنسان فرصة الظفر بأغلى سلعة على الإطلاق عند الله عز وجل ألا وهي جنة الخلد التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ، ولا خطرعلى قلب بشر كما جاء في الحديث القدسي ، وهو ما يدل عليه وصفه تعالى لحيزها العريض عرض السماوات والأرض ، علما بأن العرض يكون أوسع من الطول وهو يدل على السعة . ولا يعني أن حيز الجنة سيحل محل السماوات والأرض بل حيزها موجود لقوله تعالى بصيغة المضي أعدت للمتقين ، ولم يقل ستعد لهم . وتشبيه حيزها بحيز السماوات والأرض، إنما هو تقريبها من أذهان البشر ومما لا علم لهم به وتشبيهه بما هم به أعلم ، لأن الحيز الذي يكون فيه ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، يكون فوق إدراك الإنسان .
ولقد بيّن الله عز وجل في سياق أمره بالمسارعة إلى المغفرة أعمالا تحصل بها فقال جلا وعلا : (( سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين )) .
إن هذا النص القرآني يسرد نماذج من الأعمال التي تحصل بها المسارعة إلى المغفرة المفضية إلى الجنة وهي الإنفاق في سبيل الله في الشدة والرخاء ، وكظم الغيظ ، ولا يكون الغيظ إلا إذا حصل ما يبلغ بالإنسان أقصى درجات الغضب والسخط ، والعفو عن الناس ، ولا يكون العفو إلا إذا عظمت الإساءة ، وقد سمى الله تعالى كل ذلك إحسانا محببا إليه ، فضلا عن ذكر الله عز وجل وطلب عفوه عند فعل الفواحش وظلم النفس مع عدم الإصرار على ذلك . وتقاس على هذه النماذج من الأعمال كل أعمال مثلها تندرج ضمن الإحسان المحبوب عند الله عز وجل والتي يحوز أصحابها المغفرة التي تفضي بهم إلى جنة الخلد ذات الأنهار الجارية من تحتها ، وهو نعم الأجر في تقدير الله سبحانه وتعالى الذي لا يتعلق بغباره تقدير بشر ، الشيء الذي يدل على القيمة العظيمة والكبرى لهذا الأجر الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعة الله الغالية في الحديث الذي يقول فيه : " من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية إلا إن سلعة الله الجنة " .
وهذا الحديث يؤكد أمر الله عز وجل بالمسارعة والمسابقة إلى المغفرة وما يترتب عنها من أجر وجزاء ، لأنه هو الآخر يفيد الإسراع ، ذلك أن المدلج وهو السائر أول الليل أو آخره ، يسرع في سيره ويسابق الليل أو النهار كي يصل إلى منزل يكون فيه مطمئنا من خوف يعتريه قبل بلوغه ، وما ذلك المنزل سوى سلعة الله الغالية التي هي الجنة، وإذا كان هذا حال المسافر المدلج الذي يتوقع في سفره مواجهة مخاطر محتملة ، فكذلك شأن من يسافر في هذه الحياة الدنيا في اتجاه الحياة الأخرى والذي يتوقع أيضا مخاطر ليست سوى خطايا تحول بينه وبين مبتغاه ، فالأول يسرع أول الليل أو آخره لبلوغ مأمنه ، والثاني يسرع أول العمر وآخره لبلوغ غايته ،وهي الجنة سلعة الله الغالية .
وإذا كان الإنسان إذا دعي إلى نعمة زائلة في الحياة الدنيا يبادر إليها ، فكيف يكون حاله إذا دعي إلى نعيم أبدي ؟ وإذا كان يبذل قصارى جهوده من أجل زواج فان في الحياة الدنيا مع زوجة زائل حسنها وبهاؤها ، ومعرضة للشيخوخة والهرم ومهددة بالمرض والموت ، فكيف يكون استعداده إذا كان زواجه أبديا في حياة خالدة لا تزول ، والزوجة من الحور العين التي يزداد حسنها وبهاؤها مع الخلد ولا يزول ، ولا تمل بل يزداد الشوق إليها مع الخلد أيضا ،وهو مما لا يخطر على قلب بشر ؟
إنه بحلول شهر الصيام قد حلت فرصة مغفرة ثمينة فيا خسارة من ضيعها ، وعوض المسارعة والمسابقة إليها في أيام معدودات ، تهافت على الملذات أكلا وشربا وشهوة ، ولهوا وعبثا ، وتأخر عن موعد انطلاق قطار المغفرة المتجه صوب محطة الجنة .
وسوم: العدد 823