حديث رمضان : الحلقة الرابعة " وقفة مع عبادة الإنفاق "
من المعلوم أن المسلمين في شهر الصيام يحرصون على التقرب إلى خالقهم جل وعلا بصالح الأعمال رجاء حصولهم على جائزة المغفرة والعتق من النار . وإذا كانوا جميعا يولون كبير أهمية للصيام والقيام ، فإن البعض منهم قد يغفل عن عبادة الإنفاق ، وهي عبادة تشق على النفس المجبولة على البخل إذا ما قورنت بغيرها من العبادات صلاة وصياما ، ذلك أن الإنسان يقبل على كل عبادة فيه جهد ، ولكنه لا يفعل ذلك عندما يتعلق الأمر بعبادة المال الذي يحبه حبا جما .
ولا تخلو حياة المسلمين في شهر الصيام من إنفاق المال حيث يرغبون في إفطار بعضهم البعض ولو بتمرة أو بشقها أو بجرعة ماء عند الإفطار رغبة في أجر من يفطرونه كما رغب في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد يدعو بعضهم بعضا إلى موائدهم في بيوتهم ، ومنهم من يقيم موائد الإفطار في خيام تنصب لذلك أو في مؤسسات لإيواء الأيتام أو العجزة المسنين أو السجناء أو أبناء السبيل أو غيرهم . وهذا النوع من الإنفاق مرتبط بشهر الصيام لا يرى مثله في غير هذا الشهر ، وما وصف شهر رمضان بالكريم إلا لشيوع الإكرام فيه بين المسلمين.
ولما كانت عبادة الإنفاق مما يشق على نفس الإنسان القتور بطبعه كما وصفه الله عز وجل في محكم التنزيل ، فإن الله تعالى رغبه فيها عن طريق حوافز وضمانات تطمئنه بأن الإنفاق وإن كانت دلالته اللغوية تعني إتلاف المال ، حتى أنه يقال أنفق الرجل إذا افتقر ، فإن الله تعالى تكفل بإخلاف ما يتلف ، كما تعهد بتوفيته ومضاعفة أجره أضعافا كثيرة .
ومما يجعل الإنسان يقبل على الإنفاق الشاق على النفس قول الله عز وجل : (( وما تنفقوا من خير فلأنفسكم )) فإذا علم الإنسان أن إنفاقه يعود عليه بالنفع لأنه في الحقيقة يسدي خيرا لنفسه بإنفاقه قبل أن ينفع غيره أقبل عليه حبا في نفع نفسه. ومما يجعله ينفق وهو مطمئن قوله تعالى : (( وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه )) فإذا علم ذلك ارتاح باله وهو يقين تام من الحصول على عوض ما أنفق تاما غير منقوص. ومما يزيده إقبالا على الإنفاق قوله تعالى : (( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم )) ،ولما كان الإنسان يغريه الربح ، فإن قول الله عز وجل هذا يحمله على الرغبة في هذه الصفقة المربحة التي يحصل بموجبها على سبعمائة ضعف بل على أضعاف مضاعفة .
ومع كل هذه الحوافز والضمانات الإلهية ينبه الله عز وجل الإنسان إلى أن المال الذي أمر أن ينفقه ليس ماله بل هو مال الله عز وجل الذي استخلفه فيه مصداقا لقوله تعالى : (( آمنوا بالله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه )) وقوله أيضا : (( وأنفقوا مما رزقناكم ))، وهذا يجعل الإنسان يقبل على الإنفاق من مال يعلم أنه ليس ماله بل هو مستخلف فيه ومجرد وسيط بين مالكه سبحانه وتعالى وبين من يستفيدون منه .
وحتى لا يقتصر الإنفاق على أوقات معلومة وكيفيات خاصة كما يظن البعض، فإن الله تعالى نبهنا إلى دوام الإنفاق حيث قال : (( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ))، وهذا يجعل المسلم دائم التفكير في الإنفاق .
وحتى لا يظن أن النفقة إنما تكون كبيرة ،فإن الله عز وجل يقول : (( ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون )) وهذا يجعل المسلم لا يحقر النفقة الصغيرة .
وحتى لا يتذرع الإنسان بالظروف ،فيمتنع بسببها عن الإنفاق يقول الله تعالى : (( الذين ينفقون في السراء والضراء )) والمألوف أن الإنسان يكون مؤهلا للجود طالما سرته المسرات ،ولكنه حين تصيبه المصائب لا يكون كذلك ، لهذا نبهه الله تعالى إلى الإنفاق حتى في أحلك الظروف التي يمر بها .
وحتى لا تضيع من المسلم فرص الإنفاق، فإن الله عز وجل ينبهه إلى ضرورة اغتنامها قبل حلول أجله فيندم ويأسف على ضياعها فيقول : (( قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقون مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال )) وهو يوم لا يملك الإنسان استدراك ما فاته ،ولا يجد من الأخلاء من يسعفه ، وهذا مما يحمله على اغتنام فرص الإنفاق الثمينة.
وحتى لا يضيع من المسلم جهد الإنفاق ،وضع له تعالى ضوابط تصون إنفاقه منها :
ـ قوله تعالى : (( ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ))، ذلك أن الله عز وجل طيب لا يقبل إلا طيبا ، وهذا يحمل المسلم على تحري الإنفاق من الكسب الحلال .
ـ وقوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس )) ، ذلك أن الإنفاق يبطل إذا صاحبه المن والأذى والرياء ، وهذا يحمل المسلم على الاحتياط من هذه المبطلات .
ـ ومما يفسد الإنفاق أن يكون المنفق كارها له وهو عليه ثقيل كما جاء في قول الله تعالى في سياق الحديث عن المنافقين : (( ولا ينفقون إلا وهم كارهون )) . وهذا يجعل المسلم أريحيا يرتاح حين ينفق .
ومما قد يغفل عنه البعض أنه يتحلل من الخطايا بالإنفاق لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار " والملاحظ في هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام شبه الخطيئة بالنار المحرقة كما شبه الإنفاق بالماء الذي يطفىء النار . والأكياس من الناس من يلجئون إلى الإنفاق كلما أذنبوا للتخلص من خطاياهم ، وهو ما يشير إليه قول الله تعالى : (( ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون ))، ولقد جاء ذكر الإنفاق في هذه الآية الكريمة في سياق درء السيئة بالحسنة تحفيزا لنا على الإنفاق وهو نعم الحسنة ، ويكون مفعوله على قدر ما ينتفع به المحروم والمحتاج والجائع والمكروب . ورب خطيئة عظيمه لا يطفئها إلا إنفاق يفرج كرب المكروبين .
وسوم: العدد 827