نفحاتُ الرُّوح 6، الكُنُوزُ الإيمانيةُ والشرعيةُ والأخلاقيةُ لسورة الحُجُرات
الكَنْـزُ السادس: أخلاقُ المؤمنين "أ"
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات: 11).
لنتدبّر في تفسير الآية الكريمة
1- لقد ذكرنا في الكنـز الرابع، أنّ الله عزّ وجلّ أمرنا بالتثبّت من صحة الأنباء والأخبار، وأنّ مخالفة هذا الأمر قد يجرّ إلينا الفتن والشرور والتخاصم.. وربما الاقتتال.. وهذا يستوجب الإصلاح بين المسلمين المتخاصمين، وهو حق من حقوق الأخوّة في الله عزّ وجلّ.
بعد ذلك تأتي الآيتان 11 و12 لتخاطبا المؤمنين، آمرةً إياهم بعدم ارتكاب أفعالٍ ذميمةٍ خطيرةٍ في علاقاتهم الاجتماعية، لما لذلك من عواقب وخيمةٍ على الفرد والمجتمع.. والهدف دائماً هو: المحافظة على الأخلاق الحميدة الراقية، التي تُعتَبَر دليلاً على قوّة إيمان المؤمن، كما تؤكّد حقوقَ الأخوّة الإيمانية، التي هي في الحقيقة مبدأ أصيل من مبادئ الإسلام، وتكليف رباني يضع المسلم أمام مسئوليةٍ عظيمةٍ تجاه الله عزّ وجلّ.
2- (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ..)..
النداء موجَّه إلى المسلمين المؤمنين، بالنهي عن السخرية التي يُقصَد منها احتقار الإخوة المؤمنين أو النيل منهم، أو الاستهزاء القبيح بهم للتقليل من مكانتهم.. سواء أكان ذلك بين الرجال أم بين النساء.. لأن التحقير أو السخرية السيئة عاقبتهما وخيمة على صعيد العلاقات الاجتماعية بين المؤمنين، إذ يصبح هذا السلوك سبباً لشرخٍ في هذه العلاقة الراقية بين المسلمين.. العلاقة التي يجب أن تكون على أفضل صورة، لأنهم إخوة، ولابد أن يحفظوا حقوق الأخوّة فيما بينهم على أرقى حال.. وربما (عسى) يكون الساخر عند الله عزّ وجلّ.. أقل شأناً من الذي يسخر منه، لأن ميزان الله سبحانه يختلف عن موازين البشر في التقويم: فليس من الضرورة مثلاً، أن يكون القوي أفضل عند الله من الضعيف.. وكذلك ليست المرأة الجميلة أعلى مرتبةً عند الله بالضرورة من غير الجميلة.. وهكذا.. عدا عن أنّ الأمور وسيرها في هذه الدنيا هي بيد الله عزّ وجلّ وحده، وقد تنقلب هذه الأمور مع الأيام، فيصبح العزيزُ حقيراً.. والحقيرُ عزيزاً (وتلكَ الأيامُ نُداولها بينَ الناس).
لنلاحظ هنا، أنّ كلمة (عسى) تكرّرت، لتقوية النهي وللتأكيد عليه.
كما لنلاحظ عبارة: (ولا نساءٌ من نساءٍ)، فهي دلالة على أن الله عزّ وجلّ خصّ النساء بالذكر إلى جانب الرجال (قومٌ من قومٍ) لأهمية الأمر، ولإمكانية شيوعه بينهنّ أيضاً.. فالخطاب الشرعيّ يشمل تكليف النساء والرجال معاً.
3- (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ..)..
لأنّ اللمز يتناقض مع حقوق الأخوّة الإيمانية أيضاً، التي ينبغي أن تسودَ بين المسلمين، وأن يهيمنَ عليها الودّ ووشائج الحُبّ.. فالتعيير أو الإعابة يؤديان أيضاً إلى شروخٍ في العلاقات الاجتماعية بين أبناء المجتمع المسلم.. وهو نوع من أنواع السخرية والتحقير، لكن لا يُراد به (أي باللمز) الإضحاك كما في السخرية، وإنما يُراد به ذكر العيوب ولفت الأنظار إليها فحسب.
لنلاحظ قوله عزّ وجلّ: (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ)!.. كيف نلمز أنفسنا؟!.. وهل يمكن للمرء أن يلمزَ نفسه؟!.. فالمقصود هنا في هذا التعبير القرآنيّ البليغ، الإشارة المؤثرة إلى أنّ لمزَ الشخص المؤمن الموجه لأخيه المؤمن.. هو لمز وتحقير لنفسه أيضاً.. لأنّ المجتمع المسلم الأخويّ كُلٌ واحد مترابط.. وكرامته واحدة مشتركة!..
4- (وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ..)..
وهو أيضاً خُلُقٌ يتناقض مع حقوق الأخوّة الإيمانية، وهو كذلك نوع من أنواع السخرية والاستهزاء الظالم.. فالتنادي بالمكروه من الألقاب، يؤدي أيضاً إلى شروخٍ اجتماعيةٍ ونفسيةٍ بين المؤمنين.. ومن حق المؤمن على أخيه ألا يناديه بما يكره من أسماء أو ألقاب، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُغَيّر الأسماء الجاهلية لأصحابها، تلك الأسماء التي كانت لا تليق بالمسلم المؤمن وكرامته وعزة نفسه ورفعة قَدره، وذلك بعد إيمانه وإسلامه.. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، يحثّ على أن يُنادى الإنسان المسلم بأحَبِّ الأسماء إلى قلبه، حرصاً على مشاعره، وزيادةً في الألفة والمودّة والمحبة بين المسلمين.
5- (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ ..)..
ثم يأتي تحذير الله عزّ وجلّ للمؤمنين، من ارتكابهم تلك الأعمال القبيحة، أو التحلّي بتلك الأخلاق الذميمة، ليُظهِر لنا سبحانه وتعالى، أنّ السخرية واللمز والتنابز بالألقاب.. من الخصال التي تُخرِجُ مرتكِبَها عن الإيمان.. تخرجه عن حدود الله عزّ وجلّ إلى الفسوق والمعصية!.. فبئست هذه الحالة، وبئس هذا الصيت وهذا السلوك الذي يمكن أن يحلَّ محلَّ الإيمان ومقتضياته!..
ثم يدعو الله عزّ وجلّ كل مَن اقترف أو يقترف تلك الأفعال القبيحة.. إلى أن يتوب توبةً نصوحاً إليه سبحانه وتعالى، لأن الاستمرار في التحلّي بتلك الخصال الذميمة التي تفتك بالعلاقات الاجتماعية بين المسلمين، وعدم التوبة عن ارتكابها.. سيوقع المؤمن في الظلم، لأنه بذلك يظلم نفسه، ويظلم إخوانه المؤمنين الذين يرتكب بحقهم تلك التصرّفات والأفعال الشنيعة غير المحمودة.
لنتدبّر في الدروس والعِظات المستوحاة من الآية الكريمة
1- تحريم .. نعم تحريم السخرية والاستهزاء بالمؤمنين، وتحريم احتقارهم ومناداتهم بالألقاب القبيحة، لما يسبّبه ذلك من العداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة بينهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: (لا تُعَيِّر أخاكَ بما فيه، فيعافيهِ الله ويبتليك) (رواه الترمذي والطبراني).
2- على كلٍ منا -نحن المسلمين- أن يحرصَ حرصاً شديداً على سمعته العطرة بين الناس، وعلى حُسْنِ ذكره وصِيته بين أبناء المجتمع.
3- على مَن يقترف تلك الأفعال القبيحة بحق إخوانه المؤمنين، من سخريةٍ وتحقيرٍ ولمزٍ وتنابزٍ بالألقاب.. أن يتوبَ توبةً نصوحاً إلى الله عزّ وجلّ، وأن يبادرَ إلى الاعتذار لمن أساء إليهم.. وإلا فإنه سيُحسَبُ عند الله عزّ وجلّ من الظالمين، الذين ظلموا أنفسهم وإخوانهم المؤمنين، والله سبحانه وتعالى لا يحب الظالمين.. وشروط التوبة الحق كما نعلم ثلاثة: تَرْكُ الذنب والندم على اقترافه، والعزيمة والعهد على عدم العودة إليه، ورد الحقوق إلى أصحابها.
* * *
من أهم المراجع :
(تفسير ابن كثير)، و(في ظلال القرآن) للشهيد سيد قطب، وكتاب (البيّنات في تفسير سورة الحجرات).
وسوم: العدد 837