استقامة الإيمان باستقامة القلب واستقامة هذا الأخير باستقامة اللسان
من بركات الاحتفال بمولد سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام أننا نستعرض سيرته العطرة ، ونعرض أنفسنا عليها لنقيس بعدنا أو قربنا من الاقتداء به .
ومن سنته صلى الله عليه وسلم التي يغفل عنها كثير من الناس طريقته في الكلام والصمت ، فقد روي أنه كان طويل الصمت ، كثير الذكر ، قليل الضحك ، وكان أصحابه ربما تناشدوا عنده الشعر أو شيئا من أمورهم ، وربما ابتسم صلى الله عليه وسلم .
فكم من أمته في زماننا من يقتدي به في طول صمته، وكثرة ذكره ،وقلة ضحكه مع أن رب العزة تعبدنا بالقول السديد فقال جل شأنه : (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما )) . ومعلوم أن السداد هو إصابة الهدف بدقة ، ومن ذلك قولهم تسديد السهم نحو الرمية . وسديد القول هو ما وافق الصواب وكان فيه خير ، ويشمل عند أهل العلم الأقوال الواجبة والصالحة والنافعة .
ومعلوم أن القول إما أن يكون بابا عظيما من أبواب الخير أو بابا خطيرا من أبواب الشر . ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المؤاخذة بما يلفظه اللسان أجاب بالقول : " وهل يكب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم "
وقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى أن استقامة الإيمان تحصل باستقامة القلب ، واستقامة هذا الأخير تحصل باستقامة اللسان فقال : " لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ، ولا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه " .
وسديد القول إنما يكون لجلب منفعة أو لدرء مفسدة ، لهذا قال الله عز وجل : (( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما )) .
وسديد القول يكون على قدر الحاجة ما دام الإنسان يحاسب على ما يقول يوم القيامة كما جاء في الذكر الحكيم : (( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد )) .
وليس من سديد القول اللغو، وهو ما لا فائدة فيه لقول الله تعالى : (( والذين هم عن اللغو معرضون )) أوالخوض ،وهو الإيغال في باطل الكلام ،وقد جاء في الذكر الحكيم رواية عن أصحاب الجحيم : (( وكنا نخوض مع الخائضين )).
وقمة القول السديد تلاوة كتاب الله عز وجل ، وحمده سبحانه والثناء عليه ، والصلاة والسلام على رسوله، واستعرض أحاديثه لقوله : " نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها "،ورفع الأذان وإقامة الصلاة ، والدعاء ، وكل ذلك من طيّب الكلام الذي قال فيه الله عز وجل : (( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه )) وقد جاء في التفسير أن الكلم الطيب يرفع العمل الصالح .
و من سديد القول التفقه في الدين و تعلم أوتعليم العلم والحكمة ، وكل كلام فيه خير وجلب منفعة أو درء مفسدة .
وما رفع الله عز وجل من قدر الكلم الطيب أو القول السديد إلا لأنه وسيلة لصلاح العمل ، وهو من شعب التقوى والإيمان ، وهو طاعة لله عز وجل به يتحقق الفوز العظيم ، وهو فوز الدارين ، ذلك أن من طاب كلامه حمده الناس وأحبوه في الدنيا ، ونال أعظم الجزاء في الآخرة .
والسعيد من طاب كلامه ، والشقي من خبث كلامه ، ولقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخطر ما يدخل النار فقال : " الأجوفان : الفم والفرج " كما قال عليه السلام : " رحم الله امرأ قال خيرا فغنم ، أو سكت فسلم ".
ولما كان اللسان هو أداة الكلام فقد جعل له الله عز وجل قفلين : واحد من عظم وآخر من لحم ليكفاه ، ورحمة بالإنسان جعل له لسانا واحدا مع أذنين ليكثر السمع ويقل الكلام . و مما قال الحكماء أن الإنسان يملك الكلام ما لم ينطق به ، فإذا نطق به صار مملوكا له . ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمّا ينجي أجاب السائل قائلا: " امسك عليك لسانك ، وليسعك بيتك ، وابك على خطيئتك " .
ومن أقواله صلى الله عليه وسلم : " إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالا يرفع بها الله درجات ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم " .
ومن أقواله أيضا عليه الصلاة والسلام : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " وفي هذا الحديث تقدمت إساءة اللسان على إساءة اليد .
ومما قاله أيضا عليه الصلاة والسلام : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت " .
ومما قاله أيضا صلى الله عليه وسلم : " ليس شيء من الجسد إلا يشكو إلى الله اللسان على حدّته " .
ومما قال الإمام علي كرّم الله وجهه : " قلب المنافق وراء لسانه ، ولسان المؤمن وراء قلبه " إشارة إلى إخفاء لسان المنافق ما في قلبه من شر، وكشف لسان المؤمن ما في قلبه من خير .
والكيس من الناس من أمسك لسانه، وعمل بنصيحة الشاعر القائل :
وبالرغم من أننا أمرنا أن نتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إسوة في كل أحواله بما في ذلك كلامه وصمته ، فإننا في هذا الزمان نخالف سنته، فنكثر الكلام وكثرته الكاثرة لغو وعبث وخوض ، وأخطره غيبة ونميمة ، وزور ، وبهتان ، وقذف ، وشتم ، وسخرية واستهزاء ، ويقل صمتنا ، و بذلك تكثر خطايانا مع أننا لو التزمنا الصمت لتنكبنا أكثرها .
وإننا نعيش في عصر تطور تكنولوجيا التواصل ، وقد فسحت للسان آفاقا لا حد لها ،ذلك أن الفيدويهات المرئية تنقل كلامه النقل المباشر ، كما تنقله التسجيلات المسموعة ، وما يقرأ الناس المكتوب مما يمليه ، وكل ذلك يشجع على كثرة الكلام وقلة الصمت في هذا الزمان .
ويستغل المفسدون عندنا وسائل التواصل لتسويق فسادهم بألسنة حداد سالقة يروجون للفواحش والمنكرات ، ويطالبون برفع التجريم عنها ، وينالون من أهل الصلاح كل نيل . ومن شاركهم فسوق ألسنتهم بنشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، فإنه يزر وزرهم الذي يكبه على وجهه في نار جهنم إلا أن يعجل بتوبة نصوح عسى الله أن يقبل توبته ويغسل حوبته .
اللهم إنا نستغفرك من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ومن موبقات أقوالنا ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وسوم: العدد 852