هل توبة الهرم والشيخوخة والعلة الميئوس منها كتوبة الغررة ؟
من رحمة الله عز وجل وهو أرحم الراحمين أنه تفضل جودا منه سبحانه على الإنسان بنعمة العفو والمغفرة ، ولم يسد جل شأنه باب التوبة في وجه أحد من خلقه ، واحتفظ لذاته المقدسة بتصريف هذه النعمة كما يريد ويشاء ، ولم يعط أحدا من خلقه حق صرفها ، ولا يحق لأحد أن يتكهن بمن ستشمله هذه النعمة أو بمن سيحرم منها ، و لو كان بمقدور الخلق توزيعها لأعطوها ومنعوها وفق أهوائهم كما يفعلون في كثير من أمور دنياهم ، ولله الحمد والمنة أن جعل ذلك بيده ولم يجعله بيد أحد من خلقه.
وموضوع التوبة والعفو والمغفرة يشغل الناس كثيرا ممن يؤمنون بالبعث والحساب والجزاء ، وأكثر ما يطلبه هؤلاء في حياتهم العفو والمغفرة من ربهم وهم يعلمون حجم خطاياهم ولا ينكرون منها شيئا أمام خالقهم الذي لا تخفى عليه خافية . والكل يطمع في عفو ربه ومغفرته على ما كان منه من خطايا لأن الله عز وجل لم يقنّط أحدا من رحمته التي وسعت كل شيء . ولا يوجد إنسان مهما كان وضعه في الدنيا حين تحضره الوفاة إلا وهو متمسك ببصيص من أمل طمعا في عفو ومغفرة ورحمة خالقه التي وسعت كل شيء .
ولقد ورد في الذكر الحكيم وفي الحديث الشريف موضوع التوبة والعفو والمغفرة نذكر من ذلك ما يلي مع الوقوف عنده وقفة تدبر :
ـ يقول الله تعالى : (( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما )) ، فهذا النص القرآني حسم في موضوع المغفرة بالنسبة لمن لقي الله عز وجل مشركا به ،لأن الشرك خطيئة عظمى ، بينما أبقى باب الأمل الواسع والعريض في الاستفادة من مغفرته بالنسبة لمن لم يقترف خطيئة الشرك ، ذلك أن كل إنسان مهما عظمت خطاياه تحدثه نفسه بالأمل في مغفرة خالقه لأنه سبحانه أمّله فيها ولم يقنطه منها ، وجعل ذلك من مشيئته ولله جل في علاه ما يشاء .
ـ ويقول الله تعالى : (( إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن والذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما )) ، فهذا النص القرآني حسم أيضا في موضوع التوبة والمغفرة ،فاشترط أن تكون التوبة قبل حضور الموت لأن بحضوره يستنفد الانسان فرصة اختباره في حياته . وفي هذا النص حديث عن مسيئين وعن كفار ، أما المسيئون فنوعان : النوع الأول تائبون من قريب ، والقرب المقصود هنا هو قبل حلول الأجل ونزول الموت بالإنسان ، ولما كان الإنسان لا يعلم متى يحين أجله، فإنه يتعين عليه أن تكون توبته كل وقت وحين على اعتبار أنه بعد كل وقت وحين قد يحضر الموت ، وهؤلاء يقبل الله توبتهم ، والنوع الثاني تائبون عند حضور الموت، وهؤلاء لا تقبل توبتهم كما لا تقبل توبة الكافرين والتي تكون أيضا عند حضور الموت كما هو الشأن بالنسبة لفرعون موسى الذي أعلن إيمانه وقد أدركه الغرق ، ولم يقبله منه الله عز وجل
ـ ويقول الله تعالى : (( والذين لا يدعون مع الله إله آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا )) ، ففي هذا النص القرآني ذكر لنماذج من الخطايا الخطيرة التي تستوجب العذاب المضاعف الذي يخلد فيه من يحل به وهو مهان ، وهذه الخطايا هي الشرك، وقتل النفس دون وجه حق ،والزنا . ومع شناعة هذه الخطايا لم يقنط الله عز وجل من يرتكبها من التوبة، ولكنه اشترط أن تحصل بإيمان بعد كفر أو شرك وبعمل صالح بعد إساءة .
ـ ويقول الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم )) ، ففي هذا النص القرآني وصف للتوبة بالنصوح ، والتي تتحقق حسب ما ذكره أهل العلم بأربعة شروط هي : إقلاع عن الذنب ، والندم عليه ، والعزم على عدم العودة إليه ، والتحلل من أصحاب الحقوق من الخلق بردها أو بطلب العفو منهم لأن من الحقوق ما يتعذر رده كالإساءة المعنوية.
وإذا كانت توبة الغرغرة ،وهي لحظة لفظ الأنفاس الأخيرة لا تقبل كما جاء في قوله تعالى ، فما حكم توبة الهرم والشيخوخة والعلة التي لا يرجى شفاؤها ولا ترجى حياة بعدها ؟ الجواب عن هذا السؤال عند الله عز وجل وحده ، ذلك أنه ربما طال العمر بالإنسان الهرم أو المريض وهو على توبته ،فلا يكون حينئذ مشمولا بحكم توبة المغرغر، ويؤيد ذلك حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الذي رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : " إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " والمغرغر يكون في حالة معاينة الموت ، وليس ذلك شأن الهرم ولا شأن اليائس من شفائه بسبب علة لا يرجى شفاؤها . والله تعالى لا يقنط أحدا من رحمته إذ يقول جل شأنه : (( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما )) ، فهذا النص القرآني أرجى لكل من لم يغرغر ممن شاخوا أو اعتلوا عللا لا يرجى منها شفاء ، وربما شملهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة " والشيخوخة والعلة التي لا يرجى شفاؤها بما يسببانه من معاناة لمن يحلان بهم هما من البلاء الذي يمحو الخطايا .
وبقي أن نقول لمن أذنبوا وتأخرت توبتهم إلى شيخوخة أو علة لا يرجى شفاؤها أنه يتعين عليهم أيضا أن تكون توبتهم توبة نصوحا فيها إقلاع، وندم ،وعدم عودة ،فضلا عن تحلل من حقوق الخلق بأداء أو باعتذار أو بهما معا . ومن هؤلاء من قال أقوالا أو فعل أفعالا أوألف كتبا كانت سببا في تضليل كثير من الناس خصوصا الشباب الأغرار ثم ندم على ذلك قاصدا التوبة مقلعا ،ونادما، وعازما على عدم عودة إلى ذلك ومتحللا منه ، ولكنه يغفل التحلل مما سببه لمن أضلهم ، وهو شرط من شروط التوبة النصوح ، وبكون ذلك باعتراف لهم بأنه قد ضللهم ، وأن ما قاله أو ما فعله أو ما كتبه كان باطلا وضلالا ، وأن يتبرأ منه براءة تامة لأنه إذا استمر العمل به لم تكتمل توبته النصوح بل عليه أن يدعو من أضلهم بقول أو فعل أو مكتوب إلى توبة كتوبته، وأن يتبرأ منهم إن لم يتوبوا كتوبته عسى أن تبرأ ذمته.
وفي هؤلاء عبرة لمن يعتبر حين يتراجعون عما قالوا أو فعلوا أو كتبوا وهم في أرذل العمر أو على فراش المرض الذي لا يرجى شفاؤه .
اللهم إنا نسألك توبة نصوحا قبل الغرغرة، وقبل الهرم أوالعلة التي لا يرجي شفاؤها إنك يا مولانا أرحم الراحمين ، واجعل رحمتك التي وسعت كل شيء تشملنا ولا تضيق بنا.
وسوم: العدد 866