توجيه القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة الإنسان إلى كيفية التفكير في الموت والتعامل معه والاستعداد لما بعده
حديث الجمعة :
يعرف الموت في اللسان العربي بأنه زوال الحياة عن كل كائن حي وفناؤه الذي به ينتهي وجوده ، وهو تعريف يؤكده قول الله تعالى : (( كل نفس ذائقة الموت )). وإذا كان الذوق حقيقة هو اختبار طعم المأكولات والمشروبات ، فإنه مجازا كما ورد في قوله تعالى عبارة مقاساة ومعاناة زوال الحياة ، كما يؤكده قوله تعالى : (( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام )) والفناء هو نهاية الحياة بالنسبة لكل المخلوقات .
ومعلوم أن الناس منذ وجدوا على سطح هذا الكوكب والموت يشغلهم ويحيّرهم ، وقد ذهبوا في فهم حقيقته فهوما مختلفة حسب ما يسيطر على عقولهم من معتقدات تنقسم إلى قسمين : صحيحة ، وفاسدة . ولقد تدارك الله عز وجل الناس بنعمة رسالاته التي أوكل بها رسله وأنبياءه الكرام صلواته وسلامه عليه أجمعين لإخراجهم من حيرتهم التي وضعهم فيها تفكيرهم في الموت .
ولقد أخذ تفكير الناس في الموت منحيين : المنحى الأول هو زوال للحياة بلا عودة إليها ، وهو اعتقاد من يدعون بالدهريين واعتقادهم هو قولهم : " أرحام تدفع وأرض تبلع ، وليس وراء ذلك شيء " ، وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك في قوله تعالى : (( وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيى وما يهلكنا إلا الدهر )) ، وهذا المنحى ينحو إلى جعل الحياة عبثا بلا غاية . أما المنحى الثاني فهو اعتقاد بعودة إلى الحياة بعد زوالها ، وهو اعتقاد الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ، وهذا المنحى يجعل للحياة غاية وقصدا .
ولقد بيّن القرآن الكريم الغاية من الحياة وزوالها في قوله تعالى : (( هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا )) . فعملية الخلق صفة من صفات الله عز وجل ،وهي إيجاد من عدم ، وتنطبق على كل مخلوق أوجده الله عز وجل. ومما خلق سبحانه الموت والحياة ،وهما ضدان يزول أحدهما بزوال الآخر. وقد أخضع الله تعالى الإنسان كغيره من المخلوقات إلى هذين الضدين بقصد لا عن عبث قد نفاه سبحانه وتعالى في قوله : (( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم غلينا لا ترجعون )) . والقصد من سريان الحياة والموت على الإنسان إنما هو اختبار حسن أو قبح عمله في حياته ليحاسب على ذلك بعد موته ، ويجازى عنه بعد بعثه من موته وعودته إلى حياة لا زوال لها كزوال حياته الأولى الخاصة بالاختبار . ولقد اكتفى قول الله تعالى بذكر العمل الحسن ودل ذلك بالضرورة على العمل القبيح لوجود قرينة الابتلاء الذي يقتضي التمييز بين شيئين يثبت وجود أحدهما بعدم وجود الآخر . ولا يخلو عمل الإنسان في هذه الحياة من أن يكون إما حسنا أو قبيحا . ولقد ذيل الله تعالى كشفه عن الغاية من خلق الموت والحياة وإجرائهما على الإنسان بصفتين من صفاته المثلى وذلك بقوله : (( وهو العزيز الغفور )) ، فجعل صفة العزة ، وهي قوة، وقدرة ،وقهر ،وغلبة لمواجهة أصحاب القبيح من الأعمال ، وجعل صفة المغفرة ، وهي رحمة، ورأفة ، وكرم، وجود جزاء لمن حسنت أعمالهم .
وبهذا التوجيه الرباني يتعين على الإنسان المؤمن بالله واليوم الآخر أن يتوجه تفكيره وشغله وهمه إلى الغاية من الموت والحياة لا إليهما في حد ذاتهما وقد جعلهما الله تعالى قدرا جاريا عليه لا مندوحة له عنه . وعليه أن يعتقد اعتقاد الجزم أن فترة حياته هي فترة حددها الله تعالى لاجتياز اختباره تماما كما تحدد فترات الاختبارات التي يجتازها في حياته الدراسية .
ومعلوم أن الإنسان كما يقلق من نهاية فترة الامتحانات البشرية ،ويود أن يمتد وقتها حتى ينجزها ويتدارك ما فاته من معلومات يكون قد نسيها ، فإنه كذلك يود أن يتأخر به العمر أطول مدة ممكنة ليتمكن من تدارك ما فاته من حسن الأعمال ، وليتخلص مما اقترفه من أقبحها في الامتحان الإلهي . وقد يستعجل المجد نهاية فترة الامتحان ليقينه بفوزه ، بينما يود المفرط لو امتدت إلى أمد بعيد لتفريطه ، ولا يفيده ذلك شيئا، ولا يجنبه الخسران ، وعن مثل هذا قال الله تعالى : (( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه عن العذاب أن يؤخر والله بصير بما يعملون ))
وأقبح غفلة يغفلها الإنسان هي أن ينصرف همه إلى الموت في حد ذاته وهو عبارة عن نهاية فترة اختباره استزادة في مدة حياته، لا ليستزيد من الأعمال الحسنة بل ليتمادى في اقتراف أقبحها ، وقد نال اليأس منه في النجاح شأنه في ذلك شأن من يمتحن في دراسته وليس في جعبته ما يجيب به عن أسئلة الامتحان ، فيقضي فترة الامتحان في لوم نفسه ومعاتبتها على ما فرط فيه من تحصيل ، وقد ينشغل بالخط على أوراق التسويد خطوطا وخربشات لا معنى لها سوى أنها دالة على يأسه من النجاح ، وهو أشد يأسا وأشد خوفا من انتهاء فترة الامتحان لأنه يكون بعدها موعده مع الخسران المحقق ، ولذلك يلتمس شيئا من العزاء في تأخر موعد نهاية الامتحان ، ويود لو طال أطول مدة ممكنة وما هو بمجديه شيئا أن يطول .
وإذا كنا نقارن الاختبار الذي يختبر به الله عز وجل الإنسان بالاختبارات التي يجتازها في امتحاناته ومبارياته ،فإن الفرق بينهما كما بيّنه الله تعالى في محكم التنزيل حيث حدد سلم تنقيط يختلف عن سلاليم التنقيط البشرية فقال سبحانه وتعالى : (( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون )) وهذا يعني أن المعامل بلغة أهل التربية والتعليم عشرة أضعاف في الحسنة ،بينما هو واحد في السيئة ، ولا يوجد سلم تنقيط شبيه بهذا السلم في امتحانات البشر ، وهو يدل على رحمة الله عز وجل الواسعة بالخلق. ومع ما في سلم تنقيط الله عز وجل من أمل في رحمة الله عز وجل فلا يجب أن يغتر الإنسان بحسناته أو أن يستخف بسيئاته ،لأنه رب سيئة تكون حالقة ، فتأتي على أرصدة الحسنات كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبيّن يزّل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب " فمع أن هذه السيئة في سلم تنقيط الله عز وجل معاملها واحد، فإنها مهلكة ، لهذا لا استخفاف بسيئة ولو كانت كلمة واحدة ، ولا اغترار بحسنة ولو كانت أضعافا مضاعفة .
ومن رحمة الله عز وجل أن النجاح قد يكون محققا عنده ما لم تنته فترة الامتحان ولو بمدة قصيرة ، وهو ما لا يوجد في امتحانات البشر التي لا يعوض ما فات من وقتها . وتتجلى هذه الرحمة في قبول التوبة قبل الغرغرة كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " ، لأن الغرغرة هي نهاية فترة الامتحان . ومع قبول التوبة وهي مشروطة بشرط أن كونها نصوحا، تتدخل عناية الله عز وجل، فتمحو القبيح ، وتضاعف الحسن برفع معامله . ولا يوجد في تقويم البشر اعتبارالاعتراف بالقبيح والإقلاع عنه أمرا حسنا ، و لا يفيد الممتحن في امتحانات البشر أن يعترف لمن يمتحنه بالتقصير ، ولا يحسب له ذلك إنجازا ، لكنه كذلك عند الله عز وجل ، بل ينسحب عليه قانون المضاعفة أيضا أو معامل الحسنة ، وتلك نعمة من نعم الله عز وجل تبعث الأمل في نفوس المقصرين الذين يتداركون تقصيرهم بالتوبة النصوح ، وقد مد لهم الله عز وجل حبل الأمل مدا فقال : (( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم )) ، بل ذهب إلى أبعد من ذلك فقال سبحانه وتعالى : (( إلا من تاب وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما )) . وإذا كان من المستحيل أن تبدل الاجابات الخاطئة في امتحانات البشر إجابات صحيحة ، فإن ذلك غير مستحيل على الله عز وجل الذي يبدل في امتحانه الأسوء حسنا .
وبناء على هذا لا أحد تضيع منه فرصة النجاح في امتحان الله عز وجل مهما بقي من فترة امتحانه، وما لم يغرغر إذا ما أتى التوبة النصوح على وجهها بإقلاع عن الذنب ،وندم عليه ،وعزم على عدم العودة إليه ، وهذا فيما بينه وبين خالقه ، والتحلل مما بينه وبين الخلق برد المظالم بما يحقق ذلك من قول أو فعل .
وكما نبّه القرآن الكريم إلى أن التفكير يجب ألا ينصرف إلى الموت في حد ذاته أوفي نوعه أو كيفية أو في طبيعته لأن الموت كما يقال يكون أبيض إذا كانت النهاية طبيعية ، ويكون أحمر إذا كان قتلا ، ويكون أسود إذا كان خنقا ، وتتعدد أسبابه وألوانه والنهاية واحدة ، نبه إلى ذلك الحديث النبوي الشريف حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك " والاغتنام انتهاز فرص حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمس وهي : شباب ، وصحة ، وغنى ، وفراغ ، وحياة ، وهذه الفرص تضيع من الإنسان بخمس مضيعة لها وهي : الهرم ، والمرض ، والفقر ، والشغل ، والموت، وهي تحد من طاقات الإنسان ومن أعماله. والحديث النبوي الشريف لا يدعو إلى التفكير في هذه الخمس الأخيرة المضيعة للفرص الخمس الأولى في حد ذاتها بل ينبه إلى التفكير في الاغتنام وكيفيته في كل فرصة من الفرص الخمس المتاحة . ومعلوم أنها قد تغتنم أو تضيع واحدة ومثنى و ثلاث و رباع و خماس ، ذلك أن الهرم لا يخلو غالبا من سقم ، فيضيق هامش الاغتنام ، كما لا يخلو الشباب غالبا من صحة ، فيتسع هامش الاغتنام .، ويتسع في الغنى بينما يضيق في الفقر ، ويتسع في الفراغ بينما يضيق في الشعل ، ويتسع في الحياة بينما يضيق بالموت .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو انشغال الناس بموضوع الموت بسبب الجائحة التي حلت بنا والتي نرجو الله عز وجل أن يعجل بفرج من عنده سبحانه وتعالى ،ويرفع عنا بلاءها . ومن المفروض أن يصحح المؤمنون نظرتهم إلى الموت كما بيّن ذلك كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلا يقصرون تفكيرهم وهمهم وشغلهم فيه وفي الفرار منه وهو يدركهم لا محالة كما قال الله تعالى : (( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ))، بل عليهم أن يجعلوا همهم أكبر من ذلك، وهو الانشغال بأمر الامتحان الإلهي وما بعده من حساب وجزاء ، وهذا يغنيهم عن التفكير في نهاية فترة الامتحان وكيفيتها لأنها قدر محتوم لا مفر لأحد منه .
وإذا كان الناس يحتاطون من الموت بسبب هذه الجائحة عن طريق الأخذ بأسباب الوقاية من حجر ، ونظافة ، وتكميم أنوف وأفواه .. وهو أمر مطلوب شرعا ، وذلك .بغرض النجاة منه إلى حين، فلا يجب أن ينسوا الأخذ بأسباب الاحتياط من الفشل في الامتحان الإلهي ، وعليهم أن يغتنموا ما ضاع من فرص كانت مواتية قبل حلول الجائحة .
وبعثا للأمل العريض في الجميع ،نذّكر بنعم الله تعالى وبشاراته التي بشرنا بها وهو أنه سبحانه يغفر الذنوب جميعا ، وأنه يبدل السيئات حسنات ، وما علينا إلى الرجوع والإنابة إليه بالتوبة النصوح ، والمبادرة بصالح الأعمال، فقد يكون إطعام المحاويج في هذا الظرف أو كسوتهم أو دواءهم أو مجرد مواساتهم أو مواساة خائف من هذا الوباء سببا في مضاعفة معامل الحسنات ، والنجاح في الامتحان الإلهي. ونختم بقول رسول الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين أفضل الصلاة وأزكى السلام : " لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق "
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات .
وسوم: العدد 872