أكرم الخلق عند الله عز وجل أتقاهم وأرضه يورثها من يشاء من عباده ولا اعتبار لأجناسهم أو ألوانهم أو أعراقهم أو ألسنتهم
لا زال الناس إلى غاية هذه الساعة في المعمور متشبثين باعتبارات واهية مثيرة للسخرية وهم يصنفون أنفسهم على أساس أجناسهم وألوانهم وأعراقهم وألسنتهم ، ويباهي بعضهم بعضا بها كما كان الحال في الماضي البعيد لما كانت البشرية في أول عهودها بالخروج من البداوة إلى الحضارة . ومع أنها اليوم قد دخلت عصر هيمنة التواصل الذكي ، وغزو الفضاء ، والتكنولوجيا المتطورة إلا أن ذهنية الميز العنصري الذي أساسه الجنس واللون والعرق واللسان لا زالت تسيطر عليها كما كانت في العهود البائدة .
ولقد ظلت رسالات الإسلام السماوية المتتالية تنبه البشرية إلى خطأ الانسياق مع ذهنية الميز العنصري ، وتذكر الناس بأصلهم الواحد الذي يعود إلى ذكر واحد وأنثى واحدة كما جاء في الرسالة الخاتمة في قوله تعالى : (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ))
وإنه من المؤكد أن هذا القول قد قيل من قبل في جميع الرسالات السابقة للرسالة الخاتمة مصدقا لقوله تعالى في هذه الأخيرة : (( ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك )).
ولمّا كان أصل البشرية كما أخبر بذلك الله تعالى ذكرا وأنثى ، فإنه لا اعتبار لما خاضت فيه البشرية قديما ولا زالت تخوض فيه إلى غاية هذا العصر من تمييز بين أفرادها على أسس واهية من جنس أو عرق أولون أو لسان ... مع أن هذه إنما هي مما يدل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى وقدرته على التفنن في الخلق بحيث أخرج من ذكر وأنثى ذرية مختلفة الألوان والألسنة مصداقا لقوله في الرسالة الخاتمة : (( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين )) . وكان من المفروض أن يضع خبر السماء هذا من أول ورود له في أول رسالة إلى آخرها حدا لاتخاذ الناس ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم وأعراقهم مبررات للتعامل فيما بينهم تعاملا عنصريا يجعل منهم أسيادا وعبيد أو أفاضل وأراذل .
وقد حسم الله تعالى هذا الأمر، فنفى أن يكون التمايز بين الناس على أساس خلقتهم أو جبلّتهم ،بل جعل المعتبر في ذلك تقواهم التي تتجلّى في امتثالهم لأوامره ، واجتنابهم لنواهيه، الشيء الذي يعني أن هذا المعتبر إنما يعود إلى أفعالهم لا إلى ألوانهم أو أعراقهم أو ألسنتهم . ولقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع هذا الأمر الذي حسم فيه الله تعالى فقال : " يا أيها الناس إن ربكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ،ولا لأحمر على أسود ، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى إن أكرمكم عند الله أتقاكم " ،وهذا الحديث يحصر التفاضل بين الناس في تقوى الله عز وجل وليس في أعراقهم أو ألوانهم أو فيما درجوا على اعتماده من أمور في التفاضل فيما بينهم .
ولقد ورد ت في كتاب الله عز وجل صور مقيتة للميز العنصري أو العرقي نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر أقدم ميز عنصري كان زمن نبي الله نوح عليه السلام حيث قال له قومه حين دعاهم إلى تقوى الله عز وجل : (( قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون )) وهذا يعني أن أصحاب هذا القول كانوا يميزون أنفسهم عمّن آمنوا بالله عز وجل بحيث جعلوهم أراذل بينما جعلوا أنفسهم أفاضل معتمدين على معايير واهية لا اعتبار لها عند الله عز وجل . ومن الصور المقيتة للميز العنصري الواردة أيضا في كتاب الله عز وجل قوله تعالى على لسان الطاغية فرعون : (( أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون )) ،وقد جعل نفسه إلها معبودا وجعل قوم موسى عليه السلام عبيدا له وهو الذي كان على يقين تام بأنه بشر مثلهم ، لا يختلف عنهم في شيء .
وهكذا كان رسل الله عز وجل صلواته وسلامه عليهم أجمعين يفندون كل الاعتبارات الواهية التي كان الكافرون من أقوامهم يعتمدونها للتمييز ميزا مقيتا بينهم وبين المؤمنين بالله تعالى ، وكان بعض تلك الاعتبارات أساسه اللون أو العرق أو السان أو ما في حكمهما مما لا اعتبار له عند الله عز وجل .
ولقد كان رسل وأنبياء الله عز وجل صلواته وسلامه عليهم أجمعين من ضحايا التمييز أيضا، الشيء الذي جعل أقوامهم الكافرين بما أوحي إليهم من ربهم يكذبونهم، ويقللون من شأنهم كما نقل ذلك الذكر الحكيم في قوله تعالى : (( وما يأتيهم من رسول إلا كانوا بهي ستهزءون )) ومعلوم أن الاستهزاء إنما كان ممن يستعلون على الرسل الكرام ، ويظنون أنفسهم أفضل منهم بناء على اعتبارات واهية عندهم يتخذون أساسا لتميزهم . وقد بلغ الأمر بكفار قريش أن قالوا كما جاء في كتاب الله عز وجل : (( وقالوا لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم )) ،وقد جاء في كتب التفسير أن الرجلين المقصودين هما الوليد بن المغيرة المخزومي ، وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي لأن قومهما كانوا يعتقدون فيهما عظمة زائفة تجعلهم أهلا لأن ينزل عليهما الوحي عوض نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم تمييزا لهما عليه .
ومما كان يعتمد كأساس للميز إلى جانب الأعراق والألوان الأموال أيضا ، وقد جاء في الذكر الحكيم قوله تعالى حكاية عن قوم داود عليه السلام : (( وقال لهم نبيّهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال )) . إن هؤلاء قد اعتمدوا المال كأساس لاستحقاق الملك دون طالوت .
واستمرت التشبث بذهنية الميز العنصري عبر التاريخ البشري الطويل بمبررات وذرائع مختلفة لكنها واهية تعود كلها إما إلى عرق أو جنس أو لون أو لسان أو مال أو جاه ...ولا زالت البشرية على هذه الحال إلى يومنا هذا بالرغم مما تتبجح به من رقي وتحضر وتطور علمي وتكنولوجي .
حديث هذه الجمعة الداعي إليه هو ما حدث ويحدث اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية من مظاهرات الدافع وراءها هو سلوك عنصري مقيت صادر من رجل شرطة أبيض قد أزهق روح مواطن أسود خنقا تحت ركبته أمام زملاءه وأمام أنظار المارة . وهذا السلوك العنصري لازال أكبر وأقوى وأغنى بلد في العالم يعاني منه منذ تأسيسه ،ولا زال فيه بعض مواطينه البيض يميّزون أنفسهم عن مواطينهم السود ، ومعيار التمييز عندهم هو لون البشرة ، وهذا أمر مؤسف للغاية في مثل هذا العصر الذي قطعت فيه البشرية أشواطا بعيدة في مجال العلم والمعرفة والتطور المادي والتكنولوجي . ولا غرابة أن يظل لون البشرة في هذا البلد يعتمد كأساس لتبرير الميل العنصري ما دام عنصر المال فيه هو ما يقرر استحقاق الحكم والسلطة بحيث يختار فيه الرؤساء بسبب أموالهم أو ثرواتهم كما هو الشأن بالنسبة للرئيس المليونير الحالي . وليس هذا البلد وحده من ينتخب فيه أصحاب الثروات الطائلة ، الذين تسود فيهم عقلية قوم داود عليه السلام الذين استغربوا أن يكون طالوت ملكا عليهم ولم يؤت سعة من المال .
وليس رؤساء أو زعماء البلدان وحدهم من يختارون بسبب ثرواتهم بل حتى من يمثلون الشعوب في البرلمانات يختارون لنفس السبب لأنهم يرون أن أموالهم تقتضي أن يكون لهم جاها وسلطانا ، وقد ينفقون منها لحيازة ذلك السلطان.
ومن صور الميز العنصري ايضا تعصب البعض ممن يحسبون على العلم والمعرفة والثقافة الحقوقية لأعراقهم وألسنتهم ، الشيء المثير للاستغراب بل وللسخرية أيضا إذ كيف يفاخر ويباهي هؤلاء بتطور هذا العصر وفي نفس الوقت يتعصبون للعرق واللسان ؟ وإنهم ليسخرون من عصر صاحب الرسالة الخاتمة عليه افضل الصلوات والسلام ، ويقولون بأنه عصر بائد قد ولّى وتجاوزه الزمن، وهو الذي ألغى الميز العنصري ، وخلّص البشرية من نيره ، ونقلها من ذل التخلف إلى عز التحرر.
إن البشرية اليوم وهي تعيش بشاعة الميز العنصري كما كانت في العصور المظلمة الغابرة مطالبة باعتماد تعاليم الرسالة الخاتمة المنزلة على الرسول الخاتم عليه الصلاة والسلام لتكون أخلاقها وقيمها في مستوى ما تفخر به من تطور علمي ومادي وتكنولوجي وإلا لا يمكنها أن تتميّز عن أجيال غابرة كانت أسيرة عقلية الميز العنصري ، وكان سببا في مآسيها وفي ويلات حروب كونية مدمرة .
اللهم إنا نبرأ إليك من التعصب لجنس أو عرق أو لون أو لسان ، ونعوذ بك من أن نرفع شأن ذلك فوق شأن ما تريده منا من تقوى . اللهم إنا نعوذ بك ممن يستعبدون البشر وأنت ربهم الأعلى وخالقهم يفعلون ذلك على أسس واهية لا اعتبار لها عندك. اللهم إنا تعوذ بك ممن يدّعون حق ملكية الأرض وأنت من يملّكها من يشاء من عباده كما قلت في محكم التنزيل : (( إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين )) .اللهم اجعلنا من المتقين ، ونعوذ بك أن نكون عنصريين وعرقيين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وسوم: العدد 881