وقفة تأمل في خطبة حجة الوداع
من المعلوم أنه لا سبيل للخلاص من الضلال في الدارين إلا بما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ،وهو التمسك بكتاب الله عز وجل وبسنته عليه الصلاة والسلام .
والتمسك بالشيء عبارة عن تعلق، وتشبث، والتصاق، وارتباط، واعتصام به ، وصيغة "تفعّل" تدل على التكلف حيث يكلف الإنسان نفسه التطبّع على أمر ما ليس من طبعه ليكون من أهله كقولهم مثلا تشجّع فلان إذا تلكف الشجاعة .
والتمسك بالشيء هو تكلف مسكه أو إحكامه . ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتمسك بكتاب الله عز وجل وبسنته تعني الائتمار بأوامرهما ،والانتهاء عن نواهيهما .
ولقد جاءت هذه الوصية في خطبة حجة الوداع حيث قال عليه الصلاة والسلام : " إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم ، فاحذروا إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيّه " .
والاعتصام كالتمسك ، فهو احتماء ، وصيغة "افتعال" تدل على المبالغة في الفعل ، والمبالغة في الشيء إنما تكون بتكلفه .
ولا شك أن خطبة حجة الوداع تستوجب التمسك بما جاء فيها باعتبارها جزءا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولقد كان من المفروض أن تتلى كل سنة في صعيد عرفة، وهي تغني عن خطب الخطباء وكفى بها خطبة .
ولقد جرت العادة أن نصح المودع ليس كنصح غيره ،لأنه قد لا يكون له لقاء مع من ينصحهم بعد الوداع ،لهذا لا يدخر مودع جهدا في النصح إن كان ناصحا . وإذا كان هذا شأن كل مودع ،فما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم المبعوث للعالمين وهو خاتم المرسلين الذي ختمت به الرسالات ، وأكمل به الدين ونصح نصح مودع يوم عرفة .
ومن أهم وصاياه عليه الصلاة والسلام في هذه الخطبة التي تستوجب وقفات طوال لسبر أغوارها تحذيره عليه الصلاة والسلام من عدو الإنسانية إبليس اللعين الذي يئس من أن يعبد في الأرض بعد الرسالة الخاتمة التي كمل بها دين الله عز وجل ليكون نبراسا للعالمين . ولقد نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن خطر إبليس اللعين على البشرية لم ينته بيأسه من أن يعبد بعدما ظل معبودا في الأرض لقرون طوال حيث أغرى أمما كثيرة باتخاذ آلهة يعبدونها من دون الله عز وجل ، وهم حين كانوا يفعلون ذلك إنما كان معبودهم الشيطان الذي أمرهم فأطاعوه . ولا تقل خطورة إبليس اللعين على الناس حين يعبدونه عن خطورته عليهم حين يطيعونه فما سوى ذلك مما يحاقرون من أعمالهم وأقوالهم ، ذلك أنه يهوّن لهم من شأنها، وهي عند الله عز وجل لا تقل إثما وجرما عن الإشراك به بل هي إشراك إبليس اللعين معه سبحانه وتعالى حيث يجعلون أمره ونهيه لهم كأمر ونهي خالقهم جل وعلا .
ولقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذي يحاقره الناس من أعمالهم وأقوالهم التي تسخط وتغضب خالقهم سبحانه وتعالى ،لأن وراء ذلك كيد الشيطان الذي يرضى منهم ذلك بعدما يئس من عبادتهم له .
ولا مفر من كيده إلا بالاعتصام والتمسك بكتاب الله عز وجل وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . والاعتصام والتمسك بهما إنما يكون بمداومة الاحتكاك بهما في كل الأحوال ما دام إبليس اللعين يترصد الناس في كل أحوالهم ليجعلهم ناكبين عن صراط الله المستقيم .
ولما كان كمال الدين بما جاء في الكتاب والسنة لتغطيتهما الشاملة والكاملة لكل أحوال الناس ، فإن التزام معاشرتهما واجب في كل تلك الأحوال ،لأنه لا يوجد حال من تلك الأحوال مهما كان لا يشمله حكمهما أمرا أو نهيا .
وكل مسلم يعرض له حال من تلك الأحوال، وهو لا يعرف حكم الله عز وجل أو حكم رسوله صلى الله عليه وسلم فيه ،عليه أن يحذر مما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،لأنه قد يحاقر حالا من أحواله ، ويكون مما يرضاه الشيطان الرجيم وهو مسخط لرب العالمين .
والمتمسك أو المعتصم بكتاب الله عز وجل وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ينجو من كيد الشيطان الرجيم. وإذا كان أسلوب القرآن الكريم ، وأسلوب السنة النبوية المشرفة في الدعوة إلى صراط الله المستقيم هو الوعد والوعيد ، فإن أسلوب الشيطان الرجيم هو الإغراء والتزيين ، وحيثما وجد وعيد القرآن أو وعيد السنة ، فإن الأمر يتعلق بإغراء شيطاني يتهدد الإنسان المسلم ويلزمه لذلك الحذر.
ولو أن الأمة الإسلامية تقف مع حلول يوم عرفة عند هذا التحذير النبوي من إرضاء الشيطان الرجيم بما يسخط رب العالمين فعلا أو قولا لكفاها ذلك ، ولكنها مع شديد الأسف تمر بهذا التحذير الخطير مرور الكرام ، ولا تلقي له بالا وهي ما هي عليه اليوم من سوء الأحوال بأفعالها وأقوالها .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو حلول يوم عرفة الذي له شأن عظيم عند الله عز وجل ، وهو يوم المرحمة الإلهية للواقفين بعرفة ولغير الواقفين من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . وما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم صيامه إلا لعظيم شأنه عند الله تبارك وتعالى .
ولما كان كل المسلمين الواقف منهم بعرفة وغير الواقف يرجون عفو الله عز وجل ومغفرته وقد أسرفوا على أنفسهم بكثرة المعاصي والآثام ، فالأجدر بهم أن يتخذوا من هذه المناسبة السنوية فرصة لحمل أنفسهم على الاعتصام بكتاب الله عز وجل وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلمـ فهما طوق النجاة من شر كيد خطير يكيده لهم الشيطان الرجيم لإخراجهم عن طاعة خالقهم سبحانه وتعالى ، وعن صراطه المستقيم .
وأنا أحرر حديث هذه الجمعة أطلعت على فيديو ـ إذا ما صح فعلا ـ قد صور من سوق من أسواقنا ، وشاعت فيها الفوضى العارمة حيث سطا الناس على أضاحي لا حق لهم فيها ولو أنهم كانوا متمسكين بكتاب الله عز وجل وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لما عبث بهم الشيطان، وزين لهم سرقة ما حرم القرآن والسنة .
والمؤسف أن الأضاحي التي غلّت سيضحى بها الشيء الذي يسيىء إلى شعيرة من أعظم الشعائر ، وقد صدق ظن إبليس على من أقدموا على هذا الفعل الشنيع الذي حاقر فاعلوه شناعته، وقد أرضوا بذلك شيطانا مريدا لعنه الله بعدما يئس من أن يعبد في الأرض .
وهذا الحدث ليس إلا واحدا من عشرات الأحداث التي تقع في غياب الاعتصام بكتاب الله عز وجل وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ذلك أننا نرى الناس يغتنمون فرص وقوع حوادث أو كوارث ، فيسطون على أمتعة المنكوبين يستحلونها وقد حرمها الله عز وجل ورسوله القائل في حجة الوداع : " لا يحل لامرىء مال لأخيه إلا عن طيب نفس منه ، ألا هل بلغت فاللهم اشهد"
والمؤسف أن الناس العاديين يحاكون أثناء وقوع هذه الحوادث المؤلمة اللصوص المحترفين ،ويصير الجميع لصوصا المحترف منهم ومن يقلده ،ويستبيحون ما لا يحق لهم مما حرّم الله عز وجل .
اللهم إنا نسألك لطفا من عندك ، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ، اللهم إنا نعوذ بك من ظلم أنفسنا الذي حذرتنا منه في أشهرك الحرم ، ومنها شهرك هذا الحرام الذي جعلته فرصة توبة ومغفرة وعتق منة النار. اللهم إنا نبرأ إليك من كل فعل يسخطك، ونعوذ بك منه .
اللهم استرعيوبنا ، واغفر ذنوبنا ، واقبل توبتنا ، واغسل حوبتنا ، وسدد ألسنتنا ،واسلل سخائم قلوبنا ، وأعنا ولا تعن علينا ، وانصرنا ولا تنصر علينا ، وامكر لنا ولا تمكر علينا ، واهدنا ويسر لنا الهدى ، وانصرنا على من بغى علينا ، واجعلنا لك شاكرين ولك ذاكرين، وبكتابك وسنة نبيك متمسكين ، وعلى صراطك المستقيم غير ناكبين ، ولعفوك ومغفرتك وجودك راجين يا أرحم الراحمين يا رب العالمين .
والحمد لله الذي تتم بحمده الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 888