ويوم يعضُّ الظالمُ على يديه
تقرأ قوله تعالى في سورة الفرقان( ويوم يعض الظالم على يديه)، فما هذا اليوم؟ ولماذا يعض؟ وماذا ظلم ومن ظلمه؟ ولماذا عض على يديه ولم يعض على يد واحدة أو لم يعض على عدّة أصابع ،أو أصبع واحد؟
أسئلة كثيرة تعرض نفسها عليك في شريط متتابع تعرضها عليك أداة تصوير دقيقة تصور الحدث مشهداً نفسياً وجسمياً ، حركةً وشعوراً،تتغلغل في أعماق النفس مجلّيةً موقفاً مؤلماً في يوم عصيب تقف المخلوقات فيه إنساً وجِنّاً ،عُراةً غُرلاً، في موقف مخيف يقطع الأنفاس وتضطرب فيه القلوب والجوارح ،ويشيب لهوله الولدان، وينحسر فيه الجميع عن جزع واضطراب لا ينجو منه أحد.
والظالم نوعان : ظالم لنفسه وظالم لغيره، وغالباً ما يجتمع النوعان معاً ،فمن يظلم الناس ويتعدى حقوقه إلى حقوق غيره تنكمش نفسُه على الأنانية وحب الذات والنرجسية التي ترى ما عداه لا حقوق له ولا كيان، فليفعل ما يشاء دون رادع.هذا الظالم الذي جمع الظلم أحدَهما أو كليهما عرف نهايته المؤلمة قبل أن تعرض عليه أعماله، فيأكله الندم،ولن يُفيده، وتجتاحُه الحسرة ، وتغشاه الكآبة . وليس له إلا أن يعبر عما يعيشه من حالة المرارة من مصير مرعب ينتظره بين لحظة وأخرى، ليس له أن يتخطّاه ، ، فقد سبق السيف العذل، والشهود حاضرون ،والقاضي عادل، ولن يتغير الحكم ،ولو دفع ملء اللأرض ذهباً، ولا يجرؤ شافع أن يشفع، فالخلائق كلهم مسؤولون، وكلهم مشغول بنفسه يسعى إلى خلاصها( يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم شأن يغنيه)
ولنتفحّص النادم قد امتقع لونُه وجحظت عيناه وارتجفت أعضاؤه وأخذ يعض يديه يدميهما ويكاد يقطعهما،أسفاً وحسرة على ما آل إليه ،وخوفاً واضطراباً من فجأة اللحظة التي تحمله إلى الحُطَمة ، أو تعلوه النار دون سابق إنذار..
يعود إلى الدنيا بذاكرته حيث عُرض عليه الإيمانُ فأبى ، وسُئل العملَ الصالح فعافه، وطولب بأداء الحقوق فتجبّر، أتاه الدعاة ينصحونه فسخر منهم ، وهددهم وتعالى عليهم فاعتقلهم وسجنهم ،وكمَّم أفواههم وقتل الكثير منهم ، وشرّد الباقين، ودمّر عليهم ،وأذاق الناس المرَّ والعلقم ، ولم يرحم أحداً.
تذكُرُ بعض الروايات أن عقبة بن أبي مُعيط كان يسكن في الحي الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا يوماً اصحابه وأهل الحيِّ إلى وليمة ، ومن بينهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فأبى رسول الله الدعوة،فهو لا يأكل طعامَ كافر ، ورغب عقبة أن يستجيب الجميع لدعوته فذكر كلمة الإيمان ،وشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، فلبى النبي صلى الله عليه وسلم دعوته.
لكنّ أبَيَّ بن خلف وهو صاحب عقبة وصديقه عاتبه : اصبأت وتركت دين آبائك وأجدادك، ؟ حرامٌ عليَّ لقاؤك إلا أن ترد على محمد دينه وتأتيه فتطأ قفاه وتبزق في وجهه، لا أرضى منك غير ذلك.
جاءه الشقيُّ فوجده ساجداً قرب الكعبة ففعل ذلك ،ورد الله عليه بزقته فحرقت وجه الكافر اللعين ، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لا القاك خارج مكة إلا قتلتُك .فأُسِرَ يوم بدر، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليَّاً رضي الله عنه ،فقطع عنقه.كما أن أبيّاً رماه النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد بسهم اصاب رقبته، فمات في الطريق عائداً إلى مكة.
يقول الظالم في موقف اليوم الأخير متحسراً على ما فعل مع الرسول ( يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً )لكن ذلك اليوم مضى ولن يعود " ليتَ وهل تنفع شيئاً ليتُ؟"
أو لمْ يكن الإيمان بالله ورسوله أولى؟
أو ليس العمل الصالح أجدى؟
أوليست صحبة الصالحين أنفع
( ولات حين مندم)
يقول الظالم والألم يأخذه كل مأخذ (ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً)فقد كان أبيٌّ وأمثالُه شياطين الإنس يضلون من يصاحبُهم ،وما ينبغي للعاقل أن يتخذهم مجالسين ولا صِحاباً .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامكَ إلا تقي)
واقرأ معي اعتراف الظالم بخطئه ، ولن ينفعه ذلك ( لقد أضلني عن الذكر إذ جاءني ( ضَيّعَ الفرصة التي جاءته، فلم يغتنمها، وصاحَبَ شيطان الإنس، فابعده عن الحق وأضلّه،( وكان الشيطان للإنسان خذولاً) خذولاً في صيغة المبالغة.
الشيطانُ يعلن في النار أن وعد الله حق تركه الضالون ، وأنّ وعده كذب وزور يمس الهوى فأخلفهم إذ تبعوه فخسروا.
فليكن إلى الله مسيرنا ، والعمل الصالح زادنا ،والشرع القويم ملاذنا ..
اقول: لجأت إليك يا رب العبادِ
وحبُك في الصدور وفي الفؤادِ
وذكرك قد جعلتُ خمير زادي
فهبني النور في سبُل الرشاد
وكن عوني على فعلِ السدادِ
وأكرمني إلهي في المعادِ...
وسوم: العدد 890