(( قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدّله ))
حديث الجمعة :
من المعلوم أن القرآن الكريم، وهو الرسالة التي ختم بها الله عز وجل رسالات الإسلام السابقة قد أحدث زلزالا عنيف بالنسبة للوثنيين ولمحرفي الرسالات السابقة على حد سواء ،لأنه سفّه ما كانوا عليه من ضلال وهم يحسبون أنهم يحسنون التدين ، لذلك واجهوه بالإنكار والجحود الشديدين ، ونعتوه بأقبح النعوت فجعلوه تارة كذبا ،وأخرى سحرا ،وثالثة شعرا، ورابعة أساطير تملى وتكتتب...
ولمّا يئسوا من إنكاره ،عمدوا إلى أساليب يائسة للنيل منه كما جاء وصف ذلك في قول الله تعالى : (( وإذا تتلى عليهم آياتنا بيّنات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدّله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إليّ إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم )) .
ومما جاء في كتب التفسير أن أصحاب هذا القول هم : عبد الله بن أمية ، والوليد بن المغيرة ،ومكرز بن حفص ، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس ،والعاص بن عامر ، وكانوا ينكرون الوحي ،ويقولون أن القرآن الكريم من وضع النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يكذبونه . وإمعانا في تكذيبه طلبوا منه تبديله أو تغييره وفيما طلبوه منه إنكارله كوحي يوحى، وكانوا يرغبون بذلك في ألا يتعرض لأصنامهم اللات والعزى ومناة بالتسفيه ولا يمنع عبادتها وحينئذ يؤمنون به وهم إنما يريدون أنيقيموا الحجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ينقض كلامه، ويكون ذلك عندهم دليلا على أنه من عنده وليس من عند الله عز وجل . ويحتمل أن يكونوا قد قصدوا بذلك السخرية منه أيضا ، لأنهم بإنكاره للبعث لا يمكن تصديقهم قرآنا يقول به . وقد جاء في تفسير التحرير والتنوير للمرحوم الطاهر بن عاشور في هذا السياق ما يلي : " المراد في قولهم بالتبديل أن يعمد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى القرآن فيغيّر الآيات المشتملة على عبارات ذم الشرك بمدحه ،وعبارات ذم أصنامهم بالثناء عليها ، وعبارات البعث والنشر بضدها ، وعبارات الوعيد لهم بعبارات بشارة " .
ولقد جاء الرد عليهم وحيا من الله عز وجل، بلّغه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم كما بلّغ غيره مما أوحي إليه، وهو أنه لا يملك عليه الصلاة والسلام أن يبدّل أو يغيّر شيئا من القرآن الكريم من تلقاء نفسه لأنه مجرد مبلغ لما يوحى إليه ، وأنه يخاف عذاب الآخرة إن عصا أمر ربه بتبديل ما ليس له حق التصرف فيه مما يوحى إليه ،وفيه ما فيه مما كرهه هؤلاء المطالبين بتبديله .
وليس أهل الوثنية وحدهم من طالبوا بتبديل القرآن الكريم بل شاركهم في ذلك طائفة من أهل الكتاب كما جاء في الذكر الحكيم في قوله تعالى : (( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون )) ،وقد جاء في بعض كتب التفسير أن أحد عشرا حبرا من أحبار اليهود هم من قالوا هذا القول، وقد أرادوا بذلك التشكيك في صدق رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بالإيمان بنبوته أول النهار والإعلان عن ذلك ثم التراجع عنه آخره بذريعة أنهم وجدوا فيما أوحي إليه كذبا، وبهذا يشككون من يصدقونه في صدقه حيث يقال ما دفع هؤلاء إلى التراجع عن تصديقه أول النهار إلى تراجعهم عن ذلك آخره إلا ما وجدوه في قوله من كذب ، وكان قصدهم كما بين الله عز وجل أن يرجع غيرهم عن تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويلتقي الوثنيون مع هؤلاء في تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يوحى إليه إلا أن الوثنيين طلبوا منه تبديله بشكل صريح ليقيموا عليه حجة الكذب ـ حاشاه ـ كما زعموا ، بينما طائفة من أهل الكتاب عبروا عن تكذيبه بطريقتهم الماكرة والمتمثلة في تصديق أول النهار بعقبه آخره تكذيب، لأن ما أوحي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فضح وثنية الوثنيين كما فضح تحريف المحرفين من أهل الكتاب ما أنزل عليهم مما صدقه القرآن وهيمن عليه لإكمال الدين بالنسبة للبشرية قاطبة .
ولقد كان أهل الكتاب يودون كالوثنيين لو صار المؤمنون مثلهم كفرا وجحودا بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء ذلك في قوله تعالى : (( ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء)).
ولقد استمر المكذبون بالقرآن الكريم على هذه الحال عبر العصور التالية لعصر النبوة كما سجلت ذلك كتب الأخبار والتاريخ ،كلهم يتمنون لو لم ينزل هذا القرآن الفاضح لما هم عليه من ضلال .
مناسبة حديث هذه الجمعة أن الدعوة إلى تبديل بعض آيات القرآن الكريم قد عادت من جديد في عصرنا هذا لدى البعض، وذلك بأساليب مختلفة منها المطالبة بتعطيل بعض نصوصه بذريعة أنها لا توافق ما جد في حياة المسلمين من قبيل آية الميراث (( للذكر مثل حظ الأنثيين )) وقد أريد أن يحل محلها ما يجعل حظهما من الإرث واحدا ، ومن قبيل حذف نصوص أخرى بذريعة أنها تدعو إلى العنف والإرهاب والكراهية والتحريض على كل ذلك ،وهي بضع آيات بعضها جاء في سياق الجهاد في سبيل الله ،وبعضها جاء في سياق الحديث عن بعض أهل الكتاب ممن كانوا يناصبون الإسلام العداء ويكيدون له كيدا بمكر وخبث .
ويتولى المطالبة بتعطيل نصوص القرآن الكريم أو تغييرها نخبة ممن يسمون أنفسهم علمانيين أو حداثيين ، وهم يرومون إقصاء الإسلام لتحل محله العلمانية من أجل الانتقال بالمجتمع من مجتمع يدين بدين الإسلام إلى مجتمع لاديني أو مدني على حد قولهم .
ولا تخلو كتاباتهم، وهي شبه يومية والتي تنشر على مواقع معلومة تتبنى الخط العلماني بشكل صريح أو بشكل ضمني من تعريض بالإسلام وأهله وانتقاد لتعاليمه التي تعد عندهم مجرد تراث ماضوي عفا عنه الزمن وتجاوزه، ولم يعد مسايرا لحياة هذا العصر التي تستوجب التشريعات الوضعية عوض الشرع الإلهي .
ومع أن رد الله عز وجل على الذين طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم تبديل القرآن الكريم أو الإتيان بغيره كان حاسما في قوله تعالى (( قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيب ربي عذاب يوم عظيم)) ، فإن فلول العلمانية في البلاد العربية التي يدين أهلها بدين الإسلام لا يدخرون جهدا في محاولة تعطيل القرآن الكريم جملة وتفصيلا بتعويض شرعه وبشرائع العلمانية أو تبديل بعض آياته، ومع ذلك يقل من يردّ عليهم من المسلمين بما أوحى به سبحانه وتعالى إلى رسوله حين أمر بتبديل كلامه بل نجد من يحاولون إرضاءهم بكلام يزيد من طمعهم في تعطيل كتاب الله عز وجل وما شرعه فيه .
ولقد انطلقت مؤخرا بعض أصوات محسوبين على الدعوة الإسلامية ـ يا حسرتاه ـ في بعض دول الخليج تحاكي قول القائلين بتعطيل بعض نصوص القرآن أو تأويلها خلاف لما أجمع عليه المفسرون قديمهم وحديثهم رغبة في تملق حكامهم المقبلين على التطبيع مع الكيان الصهيوني ، ولو استطاعوا أن يحذفوا بعض نصوص القرآن التي يرون أنها تحرض عليه على حد زعمهم لبادروا بذلك ، والدليل على ذلك تصريحاتهم المرغبة في التطبيع ، ولا شك أنها من إملاء الصهاينة ومن يواليهم من أجل خلق الأجواء المناسبة للتطبيع ومن أجل خلق الجو المناسب لتمرير صفقة القرن المشئومة التي يراد بها تهويد القدس ومصادرة حق الشعب الفلسطيني الصامد والبطل .
اللهم إنا نعوذ بك أن نقول مقولة من يقولون بتبديل كلامك تصريحا أو تلميحا . اللهم إنا نعوذ بك أن نقايض آخرتنا بدنيانا . اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا . اللهم رد بنا إلى صراطك المستقيم وإلى هديك القويم ، واجعل اللهم القرآن العظيم ربيع قلوبنا وجلاء همنا وغمنا وأحزاننا . اللهم إنا نعوذ بك من إيمان بالقول ينقضه الفعل . اللهم ثبت عبادك المؤمنين على دينك المستقيم ، ولا تجعل لمن عادهم عليهم سبيلا . اللهم بصّر الغافلين بما يكاد لكتاب الكريم ، وارزقهم اليقين بأنه الحق المبين الذي يعلو ولا يعلى عليه . اللهم نسألك أولا الهداية لمن أراد بكتابك كيدا، فإن لم يرجع عن غيه تائبا ، وكابر وعاند فعليك به بما شئت، فإنه لا يعجزك . اللهم من أسكت صوتا من الأصوات الداعية إلى هديك والناطقة بكلامك، فاجعله يا رب ممن لا يؤذن لهم فينطقون يوم العرض عليك والوقوف بين يديك .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 890