( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض )
من المعلوم أن الله عز وجل لمّا أرسل رسله صلواته وسلامه عليهم أجمعين برسالاته كل منهم إلى قومه ،جعل آخر المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مبعوثا للناس جميعا فيما بقي من عمر البشرية فوق سطح المعمور إلى أن تقوم الساعة . ولقد كان المطلوب من الناس فيما مضى من رسالات الإيمان بالله جل وعلا، وتخصيصه بالتوحيد والعبادة خلافا لما كان عليه كثير منهم من كفر أو شرك به . ولقد اختار الله تعالى اسم المؤمنين أو المسلمين لعباده الذين يؤمنون به ويسلمون له .كما أنه حدد لهم العلاقة التي يجب أن تربط فيما بينهم بموجب ما سمّاهم أوصفهم به من إيمان وإسلام حيث جاء في كتابه عز وجل قوله : (( إنما المؤمنون إخوة )) ، ومن المعلوم أن الأخوة على وجه الحقيقة تدل على صلة قرابة بين من يولدون من أبوين ، أوتدل على الصلة بين من تكون مرضعتهم واحدة ، كما أنها مجازا تدل على صلة التضامن والمودة بين مجموعة بشرية يجمعها جامع . وليست الأخوة هي الصفة الوحيدة الوارد ذكرها في كتاب الله عز وجل في سياق الحديث عن المؤمنين بل ذكر الله تعالى الأبوة والأمومة أيضا في نفس السياق، فقال سبحانه وتعالى متحدثا عن خليله إبراهيم عليه السلام : (( ملة أبيكم إبراهيم )) ، كما قال سبحانه وتعالى متحدثا عن زوجات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : (( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم )) . وإن أبوة إبراهيم الخليل عليه السلام ، وأمومة أزواج النبي رضي الله عنهن ليستا رحميتين ، وإن ترتب عن هذه الأمومة من الحكم ما يترتب عن الأمومة الرحمية .
وإن شئنا أن نقارن بين الأخوة في الإسلام والأخوة الرحمية ،جعلنا الإسلام بمثابة أبوين معنويين لأتباعه ، وجعلنا تعاليمه ألبانا يرضعونها منه ، فتكون بذلك أخوتهم كالإخوة من الرحم وكالإخوة من الرضاعة .
وكما أن للأخوة من الرحم أو الرضاعة ما يلزم الإخوة من واجبات تجاه بعضهم البعض ، فإن للأخوة في الدين أيضا ما يلزم أتباعه من واجبات تجاه بعضهم البعض . ومن تلك الواجبات وهي كثيرة قد ورد ذكرها في كتاب الله عز وزجل ، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، نذكر الولاء الذي جاء في قوله تعالى : (( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض )) ،والولاء لغة يكون إما قرابة أو نصرة ،واصطلاحا يكون صلة بين العبد وسيده بعد عتقه . والولاء المقصود في قول الله تعالى هو ولاء الإسلام ينصر أهله بعضهم بعضا على بصيرة وبقناعة وصدق وإخلاص احتراما وتقديرا لدينهم . وهو ولاء متين لا ينفصم، لأنه لا يرتبط بما يزول، فيزول بزواله كما هو الحال عادة في العلاقات التي تزول بزوال مصالح تكون بين المتشاركين فيها .
وما يربط بين المسلمين مصلحة لا زوال لها كما يذكر ذلك الله عز وجل بعد سرد بعض ما يشترك فيه الإخوة والأخوات المؤمنون والمؤمنات وهو قوله تعالى : (( يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم )) ،ويأتي بعد هذا ذكر المصلحة التي لا زوال لها، وهي قوله تعالى : (( وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم )) ،وهل يوجد أعظم من رضوان الله عز وجل في نعيم خالد لا زوال لهما ؟
ومما ميّز به الله عز وجل من يجمع بينهم ولاء الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهما أمران متلازمان يؤديان نفس الغرض، ذلك أن الواحد منهما يدل على الآخر ويسد مسده . ووجودهما يجمع بين أهل الإيمان، فيسود بينهم المعروف ، وينتفي المنكر ، وهذا أدعى إلى تقوية صلة الاجتماع، وتقوية الولاء بينهم .
ومما ميّزهم به سبحانه وتعالى أنهم يقيمون الصلاة التي هي صلة بينه وبينهم من جهة ،وبين بعضهم البعض من جهة أخرى لأنهم يجتمعون فيها ، ويؤدونها بشكل جماعي في حيز واحد معلوم ، وبنفس الطريقة الدالة على توحدهم وانسجامهم وتناغم مشاعرهم الداخلية ، وهي مما يزيد ولاءهم متانة لتكرارها اليومي.
وإذا كانت عادة المصالح بين الناس من تجارة وزراعة وعمل ودراسة ... تنتج عنها علاقات زمالة أو صداقة أو جوار ... وقد تتطور إلى أنواع أخرى من الصلات ، ولكنها قد تزول بزوالها ، فإن الصلاة الدائمة تكون الصلة الناتجة عنها دائمة أيضا لا تنفصم لها عروة . ومما يزيد الولاء متانة بين أهل الإيمان إتيانهم الزكاة وهي عودة من له مال ببعضه على من لا مال له ، وهذا أدعى إلى تقوية المحبة بين أغنيائهم وفقرائهم ،وتمتين لصلة الولاء بينهم .
ومما وصفهم به سبحانه وتعالى أيضا أنهم يطيعونه ويطيعون رسوله صلى الله عليه وسلم في كل أمر ونهي ، وهذا يزيدهم توحدا وانسجاما، ويقوي ولاءهم لأنهم يعيشون وتيرة واحدة من الطاعة.
وبناء على ما سبق ،فإن الولاء بين من جمع بينهم الله تعالى بعلاقة الأخوة في الدين ليس مجرد أقوال أو ادعاء كما هو الشأن في كثير من أنواع الصلات والعلاقات بين الناس خارج إطار الأخوة في الدين، بل هو ادعاء تترجمه الأفعال أمرا بالمعروف ،ونهيا عن المنكر، وقياما بالصلاة، وإتيانا للزكاة ،وطاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم . ومن عطل من هذه الأفعال، فقد نقض ولاءه للمؤمنين والمؤمنات.
وأقبح نقض لهذا الولاء الوقوع في حالة ثانية لا ثالث لها سبق أن ذكرها الله عز وجل قبل ذكر الولاء بين أهل الإيمان ، وهي العلاقة بين أهل النفاق ممن يبدون الإيمان ويضمرون الكفر والإلحاد والشرك في قوله تعالى : (( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم ))، فهؤلاء لا ولاء بينهم كولاء المؤمنين ،بل بعضهم من بعض نفاقا وعملا بما يمليه عليهم من أمر بالمنكر ،ونهي عن المعروف، وبخلا ،وفسوقا . وهذه البوائق ليس فيها ما يفضي إلى الولاء بما له من دلالة كما مر بنا .
والناس جميعا ليس أمامهم إلا خيارين خيار الإيمان، فيكون بينهم ولاء بالاجتماع على الخير أو خيار الكفر والنفاق فلا ولاء حينئذ بينهم إنما اجتماع على الشر.
مناسبة حديث هذه الجمعة هو ما تعرفه علاقة الولاء بين أهل الإيمان من فتور في هذا الزمان ، حتى بلغ بهم الأمر حد بغي بعضهم على بعض، واقتتالهم دون تطبيق أمر الله عز وجل بالإصلاح بينهم برد أصحاب البغي عن بغيهم . وهذه الحالة جعلت أهل النفاق والفسوق من الدعاة إلى المنكر والناهين عن المعروف والمنتصرين لأهل الكفر والإلحاد والشرك جهارا تحت ذريعة حرية الرأي والتعبير يشككون في ولاء أهل الإيمان حتى بلغ بهم الأمر إلى المجاهرة بنقضه لأنه مستحيل الحصول حسب زعمهم .
ولهذا يتعين على أهل الإيمان أن يعبروا بالأفعال كما حددها الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم لا بالأقوال عن الولاء فيما بينهم .
اللهم إنا نسألك موالاة أهل الإيمان نحب بحبك من يحبونك، ونعادي بعداوتك من يعادنوك ، ونسألك إخلاص القول مع إخلاص الفعل .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 906