( ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون )
قدّر الابتلاء أو البلوى على الإنسان منذ أول وهلة وجد فيها في الجنة قبل أن يغادرها بالنزول إلى الأرض ليحيى حياة غير التي كان يحياها في الجنة . وقد لازمه نفس الابتلاء في الأرض الذي قدّر عليه وهو في الجنة .
وعند التأمل يبدو أن الغاية من خلق الإنسان هي ابتلاؤه ، وهو ما يؤكده الخالق سبحانه وتعالى في قوله : (( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور )) . فبموجب هذا النص، شاءت إرادة الله عز وجل أن يخضع الإنسان ما بين حياته وموته إلى ابتلاء في سعيه فيها . ومن مقتضبات الابتلاء المحاسبة ثم الجزاء الذي لا ينفك عن أحد مصيرين أبديين وهما إما خلود في النعيم أو خلود في الجحيم .
وقد قضى الله تعالى أن يكون الابنلاء بأحد أمرين شر أوخير حيث يتطلب الأول صبرا بينما يتطلب الثاني شكرا، وكلاهما يكون طاعة لله سبحانه وتعالى .
ولقد كان ابتلاء آدم أبو البشرية وزوجه حواء عليهما السلام وهما في الجنة بشر وخير ، أما الخير فكان لا حد له، و يؤكد ذلك قول الله تعالى : (( فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنّكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى )) ،وهكذا جمع لهما الله عز وجل الخير كله شبعا ،وريّا ،و كساء ،وراحة إلا أنه سبحانه ابتلاهما في جنتهما بشر كان عبارة عن شجرة منعا من الأكل منها فقال سبحانه وتعالى : (( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين )) ،ولم يكن هذا الشر في حجم سعة الخير ،بل كان شجرة واحدة بين ما لا يحصيه إلا الله عز وجل من شجر الجنة . وكان مدار الابتلاء أن يطيع آدم وحواء عليهما السلام ربهما فيما أمر، وفيما نهى مع تحذير سابق لهما من عدو لهما كان هدفه إخراجهما من الجنة عن طريق إغرائهما بإتيان ما نهاهما عنه ربهما من الأكل المحرم من الشجرة الذي كان وسيلة ابتلائهما وهو شرا بالنسبة إليهما .
ومضت سنّة الله عز وجل في بني آدم بنفس الابتلاء وهم في الحياة الدنيا ابتلاء بخير لا يعد ولا يحصى أيضا ، وبشر محدود إذا ما قيس بالخير . ولقد كشف لهم الله تعالى في محكم التنزيل الغاية من خلقهم ووجودهم على سطح هذا الكوكب في هذه الحياة الدنيا وهي ابتلاؤهم بثنائية الشر والخير كما كان الحال مع أبويهم فقال سبحانه : (( ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون )) ،ففي هذه الآية بدأ جل وعلا بذكر الابتلاء بالشر قبل الابتلاء بالخير لما في الابتلاء بالشر من خطورة على بني آدم تماما كما كانت خطورته على أبويهما وهما في الجنة . ولقد وقف أهل العلم بكتاب الله عز وجل ولغته عند كلمة " فتنة "، فقالوا إنها سدت مسد المفعول المطلق ، وذلك توكيدا للابتلاء . ولقد دلت إشارته سبحانه إلى الرجوع إليه على المساءلة والمحاسبة المترتبتين عن الابتلاء .
وكما حذر الله عز وجل آدم وحواء من عدوهما إبليس اللعين حذر أيضا ذريتهما في كل ما أنزل إليهم من رسالات عبر التاريخ حتى انتهت تلك الرسالات بالرسالة الخاتمة إلى الناس جميعا ،والتي جاء فيها تحذيره سبحانه وتعالى لهم في قوله : (( يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة )).
وإذا كان الابتلاء بالشر بالنسبة لآدم وحواء عليهما السلام عبارة عن شجرة جعلها الله تعالى ضمن شجر الجنة ، فإن الابتلاء بالشر بالنسبة لبني آدم عبارة عن شجرة أيضا، لكنها شجرة معنوية لها جذع وفروع وأغصان وثمر ، أما جذعها، فعبارة عن شر جامع هو المعصية، وعنها تتفرع كل الشرور وتكون عبارة عن إتيان كل ما يوقع في المعصية من أقوال وأفعال ، ذلك أن الله عز نهى عن كل الأمور كلها المفضية إلى معصيته ، وهي ما يقابل فعل الأكل من الشجرة بالنسبة لآدم وحواء عليهما السلام وقد نهيا ذلك ، سماه الله تعالى ذلك معصية فقال : (( وعصى آدم ربه فغوى )) ،وكانت وراء معصيته غواية الشيطان له ولزوجه التي قال عنها سبحانه وتعالى : (( فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكون ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين )) ، إنه إغواء أقسم اللعين على أنه نصح، وهو كيد كاده لهما من خلال تزيين صفقة كاذبة خاسرة لهما لم يتبين لهما خسرانها إلا بعد الوقوع في المنهي عنه والمحذر منه .
ودأب إبليس اللعين عدو بني آدم على ممارسة نفس الإغواء الذي مارسه على أبويهم ،وهو يقسم لهم بنفس القسم الكاذب حيث يظهر لهم ما في صفقات المعاصي من خير مزعوم ، وما فيها إلا الشر المستطير ، وله في كل إغواء أسلوب وطريقة يعتمد فيهما على نقط ضعف بني آدم كل حسب ضعفه، ولكنهم جميعا يشتركون في الخضوع والاستسلام أمام إغراء اللذة سواء كانت حسية أم معنوية ، وهي وسيلة إبليس لإغوائهم .
ولا أحد من بني آدم يجهل تحذير الله عز وجل له من عدوه إبليس اللعين ساعة إغرائه وإغوائه ،ولكنه لا يستطيع مقاومة هذا الإغراء ،فيقع فيما وقع فيه أبواه آدم وحواء عليهما السلام بسبب النسيان ، ولا ينتبه إلى وقوعه في المحظور إلا بعد فوات الأوان ،وحصول الندم على ما فات ،ولات حين مندم .
حديث هذه الجمعة دعت إليه ضرورة تنبيه كثير من المسلمين إلى غفلتهم عن كيد عدوهم إبليس الذي أقسم على ألا يتراخى طرفة عين في إيقاعهم في المعاصي كما أخبر بذلك الله عز وجل في محكم التنزيل حيث قال على لسانه لعنه الله : (( قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين )) ، فلقد أقسم اللعين على إغواء العالمين جميعا مستثنيا منهم المخلصين من عباد الله عز وجل .
و معلوم أن شر غفلة يغفلها الإنسان على الإطلاق هو نسيان أو تناسي قسم هذا اللعين الذي حذر منه الله عز وجل تحذيرا شديدا . وإن عموم الناس ومنهم مسلمون تستهويهم صفقات إبليس اللعين الخاسرة ، فيقبلون عليها وقد أغراهم بربح وهمي وهي في حقيقة الأمر خسارة فادحة تورثهم ندما شديدا لا ينفعهم ، وقد وصف الله تعالى تلك الصفقة بالخاسرة فقال : (( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين)) . ومما يخدع الناس في الإقبال على مختلف الصفقات الشيطانية الخاسرة هو بهرجتها وتقديمها لهم بأشكال مغرية بالربح الوفير ، وقد تركب الشياطين بعضهم ويستخدمونهم كما أشار إلى ذلك الله عز وجل في قوله : (( وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون )) ،إن هذا الذي ذكره الله عز وجل هو استخدام شياطين الجن بعض بني آدم الذين ينخرطون معهم في إفساد غيرهم ، وهؤلاء أخطر على بني جلدتهم من شياطين الجن لأنه من السهل عليهم أن يكسبوا ثقتهم لكونهم من جنسهم ولا ارتياب أو شك في كيدهم مع أنه بدروهم يقعون ضحايا في حبائل قرنائهم من الجن .
وعلى المسلمين أن يعودوا في كل أحوالهم إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أجل الاحتياط من الصفقات الشيطانية التي يكون فيها إغواء إبليس اللعين هو الإكسير الذي كان الناس يتوهمون أنه يحول المعدن الخسيس إلى معدن نفيس . فما نهى عنه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم إنما هو شجرة المعصية بأغصانها وأوراقها وثمارها المختلفة الشرور، وعلى كل مسلم أن يتبين أمر تلك الشرور، فلا يصيب منها شيئا بل لا يقربها أصلا كما نصح بذلك رب العزة أبويه من قبل بقوله جل وعلا : (( ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين )) ،والاقتراب هو أول خطوة نحو اقتراف المعصية التي وصفها الله تعالى بالظلم .
اللهم إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم ومن كيده الخبيث ، ونعوذ بك من صفقاته الخاسرة ، ونعوذ بك أن تزل بنا أقدامنا فنزيغ عن صراطك المستقيم . اللهم إنا نعوذ بك من شياطين الإنس والجن ومن زخرف أقوالهم . اللهم لا تكلنا إليهم ولا إلى أنفسنا الأمارة بالسوء طرفة عين . اللهم ألطف بنا بألطافك الخفية إذا بلوتنا بخير أو بشر، واجعل بلوانا على قدر ما تطيق أنفسنا ،واجعلنا من الذين قلت فيهم وقولك الحق : (( إن الذين آمنوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون )) وبصرنا اللهم بكل عيب نغفل عنه آمين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 907